الهجرة

د. طلال الابراهيمي

 السعودية، بريطانيا، رومانيا، والسويد، هي محطات أتخذها كل من فائز وحيدر وبشار ومحمد على التوالي لتكون مقرا لهم بعيدا عن العراق.

كان هؤلاء أصدقاءا لي في أيام الدراسة في كلية الطب. كنا نروح ونجيء سوية، كنا نقضي معظم ساعات الدوام في الكلية سوية. قد تختلف أفكارنا وأتجاهاتنا عن بعضنا البعض، فهذا مرح وذاك كئيب، هذا ملتزم دينيا وذلك يأخذ أمور الحياة بطريقة أكثر سهولة، هذا فوضوي وذاك هاديء، وهكذا، ولكننا تمكنا أن نكون مجموعة لطيفة أستطعنا بها أن نتجاوز كل ما يداهمنا من عقبات خلال سنين الدراسة الست الصعبة، وكان أحدنا يهون الأمور على الآخر، نساعد بعضنا البعض، نقدم المشورة لمن يحتاجها منا، وتبقى لدينا فسحات من الوقت يستغلها بعضنا بالقاء الشعر على مسامعنا، وذاك يطرح الطرفة تلو الطرفة، وذاك يحكي لنا عما جرى له من حوادث غريبة، وبين الفينة والأخرى نتطرق الى أمور السياسة والدين وصعوبات الحياة.

كان التخرج من الكلية هو مفترق الطرق لنا جميعا، ومن هنا بدأت فكرة السفر والهجرة تداعب خيالاتنا، فما مر علينا من هموم ومشاكل داخل هذا البلد ليست بالقليلة، سنين الحرب والحصار والمعاناة كانت قد ألقت بآثارها علينا وعلى جميع العراقيين، وما حل بالبلد بعدها من حرب جديدة واحتلال بغيض قد زاد الطين بلة.

أول الذين سافروا هو فائز، هو ليس عراقيا أصلا، بل هو سوري الجنسية، كانت عائلته قد هاجرت سلفا من سوريا بعد أحداث مجزرة تدمر واستقروا في السعودية، كان والد فائز يحث أولاده على التوجه الى العراق لأكمال الدراسة الجامعية هناك، وتخرج على أثر ذلك خمسة من أولاده من كليات الطب العراقية ومنهم صديقي فائز. الذي ما أن أكمل سني الدراسة الست حتى بدأ التحضير للعودة الى أهله  في السعودية ليكمل مشوار الطب هناك.

أعترف أني قد تعلمت منه الكثير، تعلمت منه كيف أن أتصرف مع جل أموري بهدوء و روية، تعلمت منه أن أنظر الى أمور الحياة بمنظار التفكير بالقادم من الأيام وليس بمنظار اليوم الواحد فقط. هو شخص طيب حنون ملتزم دينيا كريم النفس ولا يبدر منه ما قد يثير الحنق أو الغضب للغير أبدا. كان يحب أن يقرأ الشعر ويطلع على كل ما هو جديد من روايات عبد الرحمن منيف. خسرته، لم أعد أسمع عنه شيئا، ومنذ أن حط رحله في السعودية، لم يأتني من أخباره شيء سوى رسالتين، الاولى جاءت عبر صديقنا حيدر عن طريق شقيق فائز الذي كان لا يزال يدرس هنا في بغداد وقتها في كلية الطب، عبر فيها فائز عن اشتياقه لنا ورغبته في أن يرانا من جديد، وبعث مع رسالته هذه هدايا بسيطة لي ولحيدر، أما الرسالة الثانية فقد جاءت عبر صديقنا بشار بعد ست سنوات من الأولى عبر البريد الالكتروني يخبرنا فيها أنه قد تزوج ورزق بولد وأنه يعمل حاليا طبيبا ممارسا في مكة. كان هذا قبل سنتين، ولا جديد منه بعد ذلك قط.

وصل حيدر الى لندن سنة 1999، كانت هذه أمنيته التي يحدثني عنها منذ أن كنا في فترة الدراسة الجامعية، كان حينها يتوق لأن يحصل على طريقة يتواصل بها مع عمه الطبيب المقيم هناك في لندن لأكثر من عشرين سنة مضين، كان يكثر من مراسلاته ومكالماته الهاتفية مع عمه هذا بعد التخرج، وقد ساهم العم من جانبه في تقديم الدعم المادي اللازم لكي يصل حيدر الى لندن، ومنذ تلك الفترة الى حد وقت قريب لم يستطع حيدر أن يحصل على عمل مناسب أو دراسة عليا، فهو لم يستطع الحصول على وثيقة تخرجه من الكلية بالاضافة الى عقبات أخرى تقف في طريقه قد يعرفها المغترب أكثر مني. منذ أن ذهب هناك وأنا لم أعرف الا النزر البسيط من أخباره، الى أن جاءني يوما أحد الأصدقاء ليخبرني أن حيدرا هنا في بغداد في زيارة لعائلته، كان هذا عام 2003 بعد الاحتلال. أتفقنا أنا وصديقي هذا أن نذهب سوية لزيارة حيدر في بيته.

طرقنا الباب، وخرج حيدر بنفسه........، كانت ملامحه قد تغيرت، فلم يعد هناك ذلك (الكرش) الكبير الذي يتقدمه دائما ويحد من حركته، نحل قليلا وغير من نمط لحيته وتصفيفة شعره، تقدم ليصافحني ويقبلني ويعانقني، أتذكر أن عناقه لي قد طال بعض الوقت، فهو لم يكن عناقا لجسد طلال، لا.......، لقد كان عناقا لذكريات جميلة مضين، عناقا للحظات حلوة عاشها معي ومع أصدقاءه، عناقا لأمور كثيرة قد أفتقدها هناك في مدينة الضباب، ضمني اليه ليضم بذلك أياما جميلة من عمره، هو يعرف أنها لن تعود.

 أدخلنا بيته وبدأ يحدثنا عما عاناه هناك من مصاعب وعما لاقاه من عقبات، لكن في نفس الوقت يخبرنا بامكانية الحصول على مبتغاه وان طال الوقت به. بعد ثلاث ساعات من الحديث ودعناه على أمل أن نلتقي به مرة ثانية في يوم آخر، لكن لم تحن الفرصة لنا، سافر مسرعا تاركا هدية بسيطة لي للذكرى وتاركا في بيته أبا وأما مسنين. بدأنا نتواصل منذ ذلك الوقت مع بعضنا عبر الميسنجر من فترة لأخرى، هو يحكي لي عن مصاعب الحصول على عمل هناك، وأنا أحكي له عن مصاعب الحياة هنا !!!!.

وفي أواخر السنة الماضية علمت أنه قد حصل  أخيرا على درجة الماجستير في احدى فروع الطب الاساسية، ومنذ ذلك الحين أخبر والديه بأنه لن يعود الى العراق مجددا.

قابلت بشار بعد الحرب والاحتلال بسنة تقريبا، كان قد أنهى فترة التدرج الطبي الخاصة به، لم تتغير طباعه أبدا، فهو لا زال ذلك الشاب المتردد والمتخوف من الاقدام على خطوات سريعة ايجابية تخص امور مستقبله ، ولا يزال يحتفظ بحس الفكاهة والمرح بنفس الوقت. كان على وشك أن يبدأ عمله كطبيب تخدير، ولكن منذ تلك المقابلة وأنا لم أعد أسمع عنه من جديد. قبل سنتين فقط رأيت طلبا لأضافته على قائمة الميسنجر خاصتي، وبعد اللقاء والسلام عرفت أنه حصل على ايميلي من خلال صديقنا حيدر. أين انت يا بشار الآن ؟، سألته، كانت اجابته غير متوقعة بالنسبة لي، أخبرني أنه في رومانيا وبدأ بدراسة الاختصاص في أحد فروع الطب هناك. لم أكن أتوقع أنه سيتخذ هكذا خطوات، سفر، أقامة ودراسة، كل ذلك بعيدا عن الاهل والاصدقاء، لكنه فعلها أخيرا. أخذنا بعدها نتحاور بين فترة وأخرى عبر الميسنجر، ولكن توقفنا فجأة بعد أن غضب علي لأني قد أتهمت أحد أعضاء مجلس النواب بأنه يأوي المجرمين والارهابيين في بيته ويقدم لهم الدعم والمساعدة في بعض الاحيان، أعتبرني متحزبا لجهة على حساب جهة أخرى، ظللت أشرح له مرارا بأنه لا يستطيع أن يعرف خفايا الامور وهو هناك مثلما يعرفها من هو بداخل البلد. بقي هو غاضبا وبقيت أنا متأسفا لشكوكه تلك، ومن هنا اختلفنا، ومن هنا افترقنا.

ليس محمد كباقي الاصدقاء اعلاه، فهو يختلف عنهم بأنه الوحيد الذي تعرفت عليه من قبل أيام الدراسة الجامعية وبالتحديد في فترة الدراسة المتوسطة. لازلنا على أتصال رغم كونه الآن في السويد منذ سنة تقريبا، هو انسان هاديء الطباع، رقيق، شاعر، يحب مطالعة كتب الشعر والأدب والفلسفة ويهوى قراءة الروايات الروسية. متزوج ولديه ثلاث بنات صغيرات، ودع البلد سنة 2004 متجها الى الأردن، فهو لم يستطع تحمل مشاهد العنف والقتل والظلم، أتذكر أنه كان متحسرا لما يجري في هذا البلد من دمار، أتذكر هذا عندما جاء ليخبرني بقرب رحيله، قرب هجرته، قرب فراقه. عمل في الأردن كطبيب خافر مؤقتا لحين تمكنه من الحصول على على طريقة للوصول الى السويد. ووجد ضالته بعد سنة تقريبا، أتصل بي من ستوكهولم في أول شهر له هناك. أعرفه وفيا صدوقا طيبا، أعرف أنه لن ينساني أو يتناساني. تبادلنا الحديث قبل أيام عبر الميسنجر، أخبرني باحساسه بنوع من الكآبة كونه لا يرى سوى الثلج هناك، وأخبرني أنه بدأ يفتقد لبعض المعاني الانسانية التي كان يعيشها هنا، هو لم يعد يكتب الشعر، لم يعد يطالع الأدب، وقد بدأ بدراسة اللغة السويدية ليستطيع من بعدها التقديم على الأختبارات التي تؤهله للعمل كطبيب هناك. أزور عائلته هنا في بغداد وأتصل بهم بين فترة وأخرى، وأتصل به هو هاتفيا أو عبر الميسنجر بين الفترة والأخرى ايضا. نحمد الله أن هناك قنوات نستطيع من خلالها التواصل مع الأحباء والأصدقاء، والا، فالوحدة ستكون قاتلة جدا.

بعيدا عن الأصدقاء هؤلاء، فأننا نعرف جميعا بأن مئات الآلاف من العراقيين قد تدفقوا الى خارج البلد سواء قبل أو بعد الاحتلال، ولكل واحد منهم قصة قد تستحق النقل وتستحق التوقف عندها للتفكر والاعتبار. أتذكر أن أحد أصدقاءي واسمه قيصر كان قد سافر سنة 1998 الى خارج البلد، واستقر به الحال في روسيا، عمل هناك بعيدا عن مجال الطب، وكان يتصل بأهله في الحلة بين فترة وأخرى ليطمئن عليهم، وفي سنة 2002 لاحت له الفرصة لأن يطلب من والده التوجه الى الأردن لملاقاته هناك، كان قد أحضر لعائلته الكثير من الهدايا ومقدار لا بأس به من المال الذي قد يعينهم في زمن الحصار، لكن الوالد فوجيء قبل سفره باتصال من وزارة الخارجية العراقية تطلب منه المجيء لأستلام جثة ولده الشاب، فقد تلقى ضربات قاتلة على رأسه في الفندق الذي أقام فيه في الأردن وسرق مهاجموه كل ما كان معه من مال، ولاذوا بالفرار تاركين وراءهم جثة لشاب عراقي كان يتوق لرؤية والده والتعرف على أخبار عائلته.

ترى ما هو حال المهاجر العراقي وهو يعيش بعيدا عن أهله ومحبيه ؟، ما هو حال المهاجر العراقي وهو يعيش بعيدا عن الأمكنة التي ترك فيها ذكريات صباه وشبابه ؟، كيف تكون الحياة هناك مع بيئة غير البيئة ومع طباع غير الطباع ؟، وأعود الى من هم بداخل البلد لأتسائل، الى متى سيصمدون أمام كل هذه المعاناة ؟، متى سيجدون طريقا نحو حرية حقيقية وحياة هادئة آمنة وكريمة ؟.

 بظني أن ألكثير من العراقيين في الداخل تساورهم الرغبة والتفكير بالسفر الى عالم آخر، وكثير من العراقيين في الخارج يتوقون للعودة الى بلدهم شرط توفر الاستقرار، قليل من هؤلاء واولئك من يعيش حياة هادئة مطمئنة، وبين جميع العراقيين هناك القليل القليل من وجد ضالته بحق فعلا.

أحيانا، تنتابني فكرة الهجرة الى خارج البلد، فأنا أفكر براحة البال وهذا حقي، أفكر في عدم التخوف من امكانية التعرض لقتل أو اختطاف أو تفجير وهذا حقي، أفكر بعدم الانشغال بسوء الخدمات والتي تؤرقنا هنا منذ عشرات السنين وهذا حقي، أفكر بالمشاركة في مؤتمرات طبية وعلمية ذات مستوى راق تعود علي بالفائدة وهذا حقي، أفكر في اكمال دراسات عليا معترف بها دوليا وهذا حقي، أفكر في تحسين وضعي المعيشي وهذا حقي أيضا، وغير هذه الأمور الكثير الكثير. ولكن.............، ماذا هو الحال بعيدا عن العراق ؟، ماذا عن أبي وأمي وأخوتي ؟، هل أضيف لهم هما جديدا بفراقي لهم اضافة لما بهم من هموم ومرارة ؟، ماذا عن مرضاي الذين توكلوا على الله ووضعوا ثقتهم بطبيبهم البسيط هذا لكي يداوي همومهم قبل مرضهم، لكي يمسح عنهم لمحة حزن ولمحة أذى ؟، هل أخذلهم وأضيف لهم خدشا جديدا ؟، أعرف أن هناك كثير من الأطباء العراقيين المجاهدين الذين لا يزالون يبذلون أقصى ما بوسعهم لتضميد جراح أخوانهم وبني جلدتهم، ولكن لما لا أكون أنا منهم وضمنهم لا بل في مقدمتهم ؟، والأجر على قدر المشقة. طيب خلت أني تجاوزت كل ذلك، ماذا عساي أن أفعل وأنا أبتعد عن أضرحة الائمة الأطهار ؟، كيف لي أن أكون بعيدا عن الكاظمية والنجف وكربلاء وسامراء ؟، هل هناك بقعة من الأرض تعوضني عنهم ببديل ؟. ما بين ما يشدني الى خارج البلد وبين ما يثبت أقدامي في داخله، أبقى في موقف الحيرة من كيفية الموازنة بين الفكرتين، أهاجر أم لا ؟، تتصاعد وتيرة العنف تارة لتنبأني بخطر الاستمرار بالتواجد هنا، ولكن، وجبة غذاء مع العائلة، ودعاء مريض لي بالحفظ والبقاء، ونظرة الى أحدى تلك القباب الذهبية تقول لي..... تريث.

أتوق لمعرفة أخبارك يا فائز، وأتمنى أن لا تبعدنا المسافات والظروف عن التواصل معكما يا حيدر ويا محمد، وأعتذر لك يا بشار رغم أني لم أكن مخطئا، واذ أستذكرك هنا يا قيصر، وأستذكر قلبك الطيب ونفسك الكريمة، لا يسعني الا أن أقول.... رحمة الله عليك.

بلادي وان جارت علي عزيزة

وأهلي... وأن ضنوا علي كرام

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 31 آذار/2008 - 23/ربيع الاول/1429