في الأيام الماضية وحين كنت أمارس جولة العشق الصباحية والمسائية
لرام الله، وحين كنت أقف بجوار كل ياسمينة وصنوبرة عتيقة، وحين كنت
أتفقد الشجيرات التي زرعتها البلدية في الأنحاء لأطمئن عليها أثناء
تجوالي، وأحاول أن أُقَوم ما أراه قد أنحنى منها، بفعل المطر والرياح
الغربية، وأحفظ مواقعها لأبلغ البلدية لتهتم بها، كنت أشعر بالأشجار
تبكي، وبالياسمينات التي "تتعربش" على الحيطان تسكب الدمع، حتى
ياسمينتي الغالية الواقعة مقابل المقاطعة، والتي نشأت بيني وبينها قصة
عشق خاصة منذ عدت إلى رام الله، شعرتها تبكي، وعذرا من الأعزاء إميل
وحنان عشراوي، على إصراري أن تلك الياسمينة لي أنا وهي تتعربش جدران
بيتهم الجميل، وهم من يعتنون بها ويدللونها، شعرت بها تبكي وهي ترقب ما
يجري، فهذه الياسمينة التي كانت تصر في فترة حصار الرئيس الشهيد، أن
تزود المحاصرين بشذاها، فتغَير من رائحة البارود والقذائف قليلاً وتشد
من أسر المحاصرين، لا تستطيع أن توصل شذاها للذين يحترقون في غزة.
كيف يمكن للإنسان أن يتجاوز الألم ويكتب؟ هذا هو السؤال الذي كان
يجول في داخلي طوال الأيام الماضية، فقد كنت أحترق مع غزة، أحترق مع كل
قذيفة ورصاصة، أحترق مع من يحترقوا، مع الأطفال والشباب والنساء
والرجال، فالجسد واحد مهما لعبت السياسة والمصالح من خلق تفرقة وتمزيق،
وكما قلتها سابقاً: الدم حين يسيل في غزة يصل رام الله، والدم الذي
يسيل في رام الله والضفة يسكب نفسه في غزة.
جريمة ومجزرة ومحرقة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، يدفع شعبنا
ثمنها من دمه، وفي الوقت الذي يقف فيه الأحرار من العرب والعالم وقفة
شعبية كبيرة بجانب شعبنا، وفي الوقت الذي يتساقط فيه أبناء شعبنا
بالعشرات، والدماء تسيل في الشوارع، وأرواح الشهداء تحلق في سماء
الوطن، وأنات الجرحى تتعالى، نجد الساسة الأشاوس يتراشقون بالاتهامات،
ونجد أن الصراع الداخلي هو ما سيطر على حياتنا، في الوقت الذي كان فيه
طيران العدو يسيطر على الأجواء، ودم الشهداء ما زال يروي الأرض حتى
اليوم صباحاً، وبدلا من أن يوحدنا الدم المراق والأطفال الذين سقطوا
بغير ذنب، وجدنا الساسة يمارسون كل قرف يمكن أن يتخيله ولا يتخيله
إنسان، ووجدنا الفصائلية تطغى من جديد، فلا سامح الله ولا دماء الشهداء
ولا الزيتون كل من يجد في سيل الدم المراق وسيلة لتحقيق أهدافه الخاصة،
وإن كنت أخشى على غزة قبل الآن، فقد أصبحت أخشى الآن على وطن بأكمله ،
فقد بدأت أشتم رائحة عفنة منذ قبل الهجوم القذر على غزة، وتصاعدت هذه
الرائحة في اليومين الأخيرين، مما ينذر بتكريس تقسيم الوطن فعلياً،
وتكريس جهتين متصارعتين يفاوضهما العدو، فنعود لقصة القرد وقطعة الجبنة
والهرتين، فالقرد قضم قطعة الجبن قطعة قطعة، في ظل صراع الهرتين على
قسمتها.
ليلة الأمس فارقني النوم وأنا من اعتاد النوم المبكر، لم أشعر
بالوقت وهو يمر، حتى نبهني صوت شعرته قادم من داخلي، ليقول لي: الساعة
قد تجاوزت الواحدة وأنت لم تنم بعد، ومع ذلك تأخرت وأنا أتقلب في سريري
قبل أن أنام، فلا بد أن أصحو مبكراً، فما زلت كعهدي أنتظر الشمس كل
صباح لأعانقها، وأتمتع بصوت هديل الحمام على نافذتي، فجالت روحي مع
روحي، في رحلة ذكريات واستذكار، فجلت بيروت وصيدا، وتنقلت من العرمون
حتى مرج عيون، وادي الزرقاء في تونس والقصبة في الجزائر، جلت بغداد
وشوارعها، عمان التي أهوى، تمشيت على الدانوب في بلغراد مترنما مع
موزارت بسيمفونيته "الدانوب الأزرق"، صعدت قاصيون وحضنتك هناك يا أملي،
غمرتنا الروح الإنسانية وحلقت أرواحنا، فلا أجمل من روح الإنسان الحقة،
ولا أجمل من الإنسانية، فمتى يمكن للبشر أن يصلوا لمرحلة الأنسنة
الحقة، فتسموا الأرواح عن المصالح، وتجول الروح في حرش صنوبر وجمال.
أعود لجمال الذكرى والطفولة، أعود لرام الله قبل أن نغادرها إثر
هزيمة حزيران، فتعود إلى الذاكرة صورة مخيم الجلزون، الذي كان يقطن به
خال لوالدتي، وكنت أحب زيارته، فالخال كان طيب جدا، وفي المخيم أشعر
بالحرية والانطلاق، ومع ابن خال والدتي الذي يقاربني بالعمر، وإن كان
يتفوق عليّ "بالشيطنة" كنا نقضي الوقت سوياً، وحين أعود لبيت أهلي
كانوا يحتاجون الكثير من الجهد لإعادة سلوكي إلى ما كان عليه.
جاء حزيران والحرب والهزيمة، كانت نذر الحرب وسحبها تطغى على
الأحداث، وكانت "الجعجعة" العربية تنطلق في الأجواء، هذه "الجعجعة"
التي دفعت جدتي رحمها الله وكانت في زيارة لنا، لأن تبدأ بالحديث صبيحة
الحرب عن ماذا ستفعل حين تعود لبلدتها "السافرية" المحتلة منذ النكبة،
وتبدأ بتقديم اقتراحات لوالدتي عن أنسب المناطق لبناء بيت لنا
والاستقرار في الوطن الذي ظنت أنه سيتحرر، ولم يدر في الخلد أن باقي
الوطن وأجزاء من دول شقيقة ستطير أيضا، وأننا سنعاني للعثور على بيت
يضمنا في عمان مع والدي، بدلاً من أن نعود للوطن الذي أغتصب ومازال
مغتصباً.
وفي صبيحة المعركة غادرنا الوالد حين سمعنا عن بدء المعارك
بالمذياع، لبس لباسه العسكري واتجه لموقعه في بيت لحم، وبقينا نحن
لوحدنا مع الوالدة، ولن أتحدث كثيراً عن تلك الأيام، فقد سبق أن تحدثت
عنها في نص سابق في ذكرى حزيران من العام الماضي، بنص بعنوان: "صباحكم
أجمل/ ذاكرة حزيران"، وفي نص آخر بعنوان"حديث الذكريات.. متى نحتسي
القهوة في روابي عمان"، ولكن ما أحب أن أشير إليه هو أني وبعد أن عدنا
للبيت من البراري والكهوف بعد توقف الحرب، وكنت ما زلت في عامي الثاني
عشر وثلاثة شهور لا غير، ذهبت سيراً على الأقدام إلى بيت حنينا في
ضواحي القدس رغم منع التجوال، فمن كان سيأبه بطفل يخالف قرار منع
التجوال، لأفتش عن والدي الذي كان مصيره مجهولا إن كان عند أقرباء لنا
هناك، ومن هناك وصلت إلى القدس التي لم أرى في شوارعها إلا جنود
الاحتلال والمتدينين اليهود أصحاب الجدائل واللباس الأسود، جلت القدس
برفقة أحد أقراني من أقربائنا البعيدين وكأني أودعها فلم ألتقيها
بعدها، وما زلت أحلم أن أصلي في أقصاها وأن أزور قيامتها وأجول في
شوارعها العتيقة.
صباح آخر في رام الله، أخرج من صومعتي مبكرا كالعادة، أسير في
شارع المستشفى، أصل لدوار الشباب ومن هناك مروراً من أمام مؤسسة قطان،
أمر من أمام مقبرة الماسيون، أترحم على من دفنوا هناك، وأواصل السير
إلى طريق رافات حتى أصل إلى الفندقين الراقيين هناك، فأتذكر صديقي
الكاتب والباحث أحمد القاسم القاطن هناك، فأبتسم وأقول لو كنت احمل رقم
هاتفه لهاتفته ليفيق من نومه إن كان ما زال نائماً لنحتسي قهوة الصباح
معاً، وأعود ذات الطريق لصومعتي، لأحتسي القهوة مع روح طيفي ومع أملي،
ممنياً روحي بلقاء قريب، أستمع لفيروز تشدوا لنا:
"بقولوا صغير بلدي بالغضب مسور بلدي، الكرامة غضب والمحبة غضب،
والغضب الأحلى بلدي، ويقولوا قللا ونكون قللا، بلدنا خير وجمال،
ويقولوا وشو هم يقولوا شويت صخر وتلال، يا صخرة الفجر وقصر الندي، يا
طفل متوج على ألدني.. يا بلدي، ياصغير.. بالحق كبير وما بيعتري.. يا
بلدي".صباحكم أجمل. |