يعد الحديث عن الاحزاب والتحزب نوعا من الترف في النظم الدكتاتورية
التي تصادر حريات الناس وتخنق انفاسهم، ولكن في الدول الديمقراطية
(ديمقراطية حقيقية)، تصبح الاحزاب ضرورة وانعدامها يهدد بانهيار النظام
بأكمله، بل لايمكن التطرق الى مفردات الحرية، والرقابة، والوعي
السياسي.. مع اختفاء الاحزاب وعدم تشكلها، وذلك لانها جزء لايتجزء من
المؤسسات الدستورية القائمة، وبلونها يتلون النظام السياسي والنظام
الانتخابي بل والعمل السياسي.
وقد اشار الى ذلك كبار الكتاب المهتمون بالنظم السياسية كموريس
دوفرجيه في كتابه (الموسسات السياسية والقانون الدستوري)، وتنبع
اهميتها اي - الاحزاب - من الدور المناط بها والهدف من ظهورها في
الدول الحديثة، اذ كما يعرف المختصون ان الحزب السياسي قد ظهر في اطار
العمل الانتخابي كأداة تنظم العمل السياسي وتيسر امر وصول المرشحين الى
السلطة في اطار تنافس سياسي مفتوح ينتصر فيه الاكثر تنظيما وتأثيرا في
الرأي العام، والانجح في استيعاب حاجات الناس ومشاكلهم وطموحاتهم
وآمالهم ليصبها في اطار ايديولوجي مقبول، وبرنامج انتخابي ناجح -قبل ان
تسرق فكرة الحزب من قبل دعاة الحزب الواحد من الشيوعيين والقوميين
المتطرفين وغيرهم- فيكون الهدف الاساس للحزب السياسي هو وصول مرشحيه
للسلطة والبقاء فيها لاطول فترة ممكنة، وحسب القانون.
لكن الحزب الحقيقي وهو يصبو للوصول الى السلطة لايغفل الالتفات الى
الشعب، فيحبوه بالرعاية والتثقيف وتطوير وعيه السياسي ومعالجة مشاكله
وتقديمه الى الامام، فهذا جزء من واجب اي حزب، فالحزب هو احدى مؤسسات
المجتمع المدني، تلك المؤسسات التي تشغل الفراغ بين القمة (السلطة)
والقاعدة (الشعب)، فيلقى على هذه المؤسسات دورين:
الاول تجاه القمة التي يجب التأكد من حسن اختيار افرادها ومراقبتهم
ومحاسبتهم اذا اخطأوا، وعزلهم في حال الاصرار على الخطأ من خلال
استخدام كافة الوسائل المشروعة، اما الدور الاخر فهو تجاه القاعدة
المتنوعة المشارب والطبقات والثقافات والاعمار والفئات، والتي تحتاج
الى من يوجهها وينظمها ويثقفها ويوعيها ويطالب بحقوقها، وينقل كل ذلك
الى القمة لتعكسها بشكل قرارات تتناسب وحاجات الشعب، هذا هو واجب
مؤسسات المجتمع المدني عموما، واخطر هذه المؤسسات هي الاحزاب السياسية
لأنها هي المؤسسات المختصة بالعمل السياسي، والاكثر التصاقا بالشعب
وقربا من السلطة، وكلما قامت الاحزاب بواجبها المطلوب منها، وبدورها
الذي تؤديه، كلما ضبطت تصرفات السلطة وشذبت توجهاتها، وصقلت مواهبها،
ومنعت انحرافها، وضمنت مؤآزرة الشعب لها وتأييده لبرامجها.
اما اذا اخفقت في ذلك، فانها تكون اداة هدم للنظام السياسي بشكل
يقود الى تفرعنه وتفرده، وربما تشرذمه وضعفه، اضافة الى تشوه الوعي
السياسي للشعب وارتباكه وغرقه في الفوضى، والجري وراء الافكار المنحرفة
والثقافة المضللة، وسقوطه في النهاية صريعا بيد دكتاتور مخادع او اجنبي
غازي طامع، وتجربة الاحزاب في عالمنا العربي والاسلامي السيئة بعد
الاستقلال في النصف الاول من القرن العشرين اكبر دليل على ذلك، والدور
الخطيرالملقى على عاتق هذه المؤسسات الحزبية يجعل الاستهانة بها
اوالتقليل من شأنها نوعا من الحماقة السياسية .
وبالانتقال الى التجربة الحزبية الموجودة حاليا في العراق التي
انبثقت بعد 9 / 4 / 2003، نجد انها تعاني كثيرا من الاخفاق والفشل
وخيبة الامل، كيف ؟.
يبدو ان كثيرا من الاحزاب التي دخلت العراق او تشكلت بعد التاريخ
اعلاه لم تكن مستعدة للقيام بدورها وكانت في فكرها وعملها السياسي ذات
بعد واحد، واقصد بالبعد الواحد هو انها لم تكن تنظر الا بعين واحدة
متجهة الى السلطة، فكانت منهمكة فكرا وعملا بالسعي للوصول اليها
والاستئثار بها بأي ثمن وأي طريقة، والمشكلة في الاحزاب ذات البعد
الواحد انها لاتعدو ان تكون عبارة عن جماعات تآمرية تحيك الدسائس
والمؤامرات لمنع منافسيها من مزاحمتها على كراسي الحكم، وقد تنخرط في
سبيل ذلك في ممارسة اعمال عنيفة لاتليق بحزب سياسي، وشواهد التاريخ
كثيرة على احزاب من هذا القبيل افسدت الحياة السياسية واغرقت بلدانها
بانقلابات وثورات جلبت الدمار والعار لها واغرقتها في اتون جحيم الحروب
والفقر والفوضى، وتاريخ العراق القريب اكبر شاهد يجسد ذلك، وعندما نقول
ان الحزب ذو بعد واحد، فانه يكون حزبا ذا عينا واحدة فهو يشخص ببصره
نحو القمة، اي السلطة، وينسى القاعدة، اي الشعب، فتراه متجاهلا للشعب،
لايؤثر فيه ولايتبنى طموحاته وآماله والآمه، ويوما بعد يوم تزداد الهوة
بين الشعب والحزب، فبعد تطلع الشعب للنهوض بفضل دور الحزب وتأثيره في
السلطة،يتحول الحزب واعضائه محلا لنكات وتندر الشعب، ثم نفوره، وشيئا
فشيئا يتحول النفور الى غضب يقود الى مالاتحمد عقباه.
وهذا مانلاحظه – الان – في التجربة الحزبية العراقية، فقد انشغلت
بعض الاحزاب بلعبة الكراسي وتوزيعها، والسلطة ومقدار السيطرة عليها،
ونست الشعب ولن تذكره الا وقت الانتخابات عندما تحتاج اصواته، فتملئ
الدنيا بالشعارات والوعود، والشوارع والجدران باللافتات التي تحمل
اسماء لمئات وربما الآف الشخصيات والاحزاب التي لم يسمع بها الشعب
سابقا، ولم يعرف لها دورا مؤثرا في حياته اليومية، ثم تغيب ويأفل نجمها
لسنوات الى موعد الانتخابات القادمة لتعاود الظهور مرة اخرى، وقد يتصور
البعض ان هذا الكلام مبالغ فيه، لكن لو سألت اي عراقي عن الاحزاب
الموجودة في بلده لما استطاع ان يعد لك منها اكثر من عدد اصابع اليد
الواحدة،والتي لولا وجود بعض اعضائها في مراكز القرار الحساسة لما
عرفها ابدا، وما هذا الا لان الهوة واسعة بين الاحزاب العراقية وبين
جماهيرها، وما انعدام دورها في الارتفاع بمستوى الوعي السياسي لهذه
الجماهير، وتركها اسيرة الفوضى والغرق في مشاكلها واستقطابها من قبل
جهات لايعرف انتمائها وطموحها وو.. الا مؤشر على هذه الحقيقة.
لذا لابد ان تصحو احزابنا من غفلة انشغالها بالسلطة، فلا تترك
نفسها اسيرة البعد الواحد الذي رافقها ولازال منذ خمس سنوات، فالشعب
العراقي لم يعد يحتمل تجارب فاشلة جديدة، كما انه لايحتمل دكتاتورا
جديدا، وتحول الاحزاب العراقية الى ادوات هدم يعجل بهذا المصير، ويهيئ
الارض الخصبة له، ولتجنب ذلك كله يجب ان تغير سلوكها، فتجعل خدمة الشعب
هدفها،كما تهدف الى الوصول الى السلطة، فتمارس دورها الحقيقي كأحزاب
سياسية محترفة، تحسن العمل السياسي، وتملئ فعلا ذلك الفراغ الموجود بين
القمة والقاعدة، في الوقت الذي تقلص تدريجيا الفجوة بينها وبين
جماهيرها، ففي نجاحها هذا نجاح للنظام السياسي بكامله، وترسيخ لاسسه
الليبرالية، وتقدم به نحو التكامل بشكل سيغرس القيم الديمقراطية فيه،
فتنعكس بصورة سلوك حضاري سيعزز المواطنة العراقية الجديدة، والهوية
العراقية الجامعة.
* مركز الفرات للتنمية والدراسات الستراتيجية
http://fcdrs.com |