الإمَامُ الرِضَا(عليه السلام) قَبَسٌ مِنْ نُورِ النُبُوَّة

 محمّد جواد سنبه

 هناك ملامح تختصّ بكلّ شخصية من شخصيات المعصومين (عليهم السلام)، تبعاً للدور الرسالي الذي يؤديه المعصوم، حسب متطلبات الظروف التاريخيّة والمرحليّة، التي يعاصرها المعصوم، لمعالجة إفرازات الواقع الاجتماعي الذي عاش فيه، بما يشمل من تصورات، فكرية ومعتقدية وثقافية وتوجهات سياسية لذلك الواقع.

 لقد واجه الامام الرضا (عليه السلام) مرحلة تاريخية انتعشت فيها الدولة العباسية، وبلغت الفتوحات ذروة اتساعها، حتى صارت دولة عظمى كما يصطلح عليه في مصطلحات عصرنا اليوم. فازداد الرخاء وانتعش الاقتصاد ونمت الصناعات، وكان جرّاء هذا التقدم، أن وفدت من الاقطار المفتوحة أفكار وعقائد وفلسفات وثقافات وآداب تختص بها تلك الشعوب، مما أدى إلى تشجيع الدولة لعمل النساخين والوراقين والمترجمين من اللغات اليونانية والرومية والفارسية والعبرية والسريانية الى العربية. فازدهرت الحركة الثقافية ونشطت المناظرات الفكرية، إضافة لذلك فقد أسسس المأمون العباسي (بيت الحكمة) في زمنه، فكان الامام الرضا (عليه السلام) حصن المسلمين المنيع الذي يلوذون به عندما تستعصي عليهم مسألة عقائدية أو فكرية أو فقهية أو تاريخية، فكان عليه السلام لساناً يزيل عن الأمة كل لبس أو احتباس فكري.

أما خلقه النبوي الرفيع فقد كان كخلق آبائه واجداده، فيذكر عن مكارم أخلاقه ( عليه السلام )، إبراهيم بن العباس(وهو أكبر بني العباس سناً في ذلك الوقت):

 (ما رأيت ولا سمعت بِأَحدٍ أفضل من أبي الحسن الرضا ( عليه السلام )، ما جفا أحداً قَطّ، ولا قطع على أحد كلامه، ولا رَدَّ أحداً عن حاجة، وما مَدَّ رجليه بين جليسه، ولا اتَّكَأَ قبله، ولا شَتَمَ مَوَالِيه وَمَمَالِيكَه، ولا قَهْقَهَ في ضِحكَةٍ). وكان (عليه السلام) بسيطاً في تصرفاته، وكان يُجلس على مائدته مماليكه وموالِيه، وكان (عليه السلام) قليل النوم بالليل، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى آخرها، كثير المعروف والصدقة، وأكثر ذلك في الليالي المظلمة.

وروي عنه (عليه السلام): أن فقيراً قال له: أعطني على قدر مروّتك. فأجابه الإمام(عليه السلام): لا يسعني ذلك. والتفت الفقير إلى خطأ كلامه، فقال ثانياً: اعطني على قدر مروّتي. وهنا قابله الإمام(عليه السلام) ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً له: اذن نعم. ثم قال: يا غلام! أعطه مائتي دينار.

وعندما قرر المأمون العباسي ان يوكل إليه أمر ولاية عهد الخلافة تمنّع عن ذلك حتى أوكلت اليه جبراً، ومن معالي أخلاقه أنه لما تقلد ولاية العهد والتي هي أرقي منصب في الدولة الإسلامية، لم يأمر أحداً من مواليه وخدمه في الكثير من شؤونه، وإنما كان يقوم بذاته في خدمة نفسه.

يقول الرواة: إنه احتاج إلى الحمام مرّة، فكره أن يأمر أحداً بتهيئته له، ومضى إلى حمام العامة في سوق البلد، ولم يكن صاحب الحمام يظن أن ولي العهد يأتي إلى حمام السوق، لأنّ حمامات الملوك في قصورهم. ولما دخل الإمام (عليه السلام) الحمام كان فيه جندي يستحم، فدفع الجندي الإمام (عليه السلام) عن موضعه، وأمر ذلك الجندي الامام (عليه السلام) أن يصب الماء على رأسه، ففعل الإمام ( عليه السلام ) ذلك، وفي تلك الاثناء، دخل الحمام رجل كان يعرف الإمام (عليه السلام)، فصاح بالجندي: هَلَكْتَ، أتستخدم ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟، فَذُعِر الجندي، ووقع على الإمام (عليه السلام) يقبل أقدامه، ويقول له متضرعاً: يا بن رسول الله، هلا عصيتني إذ أمرتك ؟ فتبسَّم الإمام (عليه السلام) في وجهه وقال له برفق ولطف: ( إنها لَمَثُوبة وما أردت أن أعصيك فيما أُثَابُ عليه).

وسئل مرة في مناظرة عن فضل أهل البيت (عليهم السلام)، فقال: (أعطى الله محمّداً وآل محمّد من ذلك فضلاً لم يبلغ أحدٌ كنهَ وصفهِ لمن عقله، وذلك أنَّ الله لم يسلّم على أحد إلاّ على الأنبياء (صلوات الله عليهم)، فقال تبارك وتعالى: (سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ )، وقال: (سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، وقال: (سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) ولم يقل: سلامٌ على آل نوح، ولم يقل: سلامٌ على آل إبراهيم، ولا قال: سلامٌ على آل موسى وهارون ; وقال عزَّ وجلَّ: (سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) يعني آل محمّد ).

إن الدراسة التاريخية لرموزنا الاسلامية، تعطينا سيلا ثراً من المعرفة، للتدبر في اخلاقهم ومعاملاتهم مع الآخرين، ونستشف من ذلك بوضوح، مدى عمق احترام الانسان في نفوس أولئك الصفوة المباركة، ومقدار التسامح الذي يفيض من نفوسهم الكريمة، هذا ليس سبيلاً للتفاخر الحضاري، وإنّما هي دروس عملية حياتية، تعلمنا قيم الحبّ والاحترام المتبادل والتسامح مع الآخرين، كي يضمن الناس حرمة دمائهم واموالهم واعراضهم في ظل هذه الاخلاق النبوية الفاضلة.

* كاتب وباحث عراقي

mjsunbah@googlemail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 8 آذار/2008 - 29/صفر/1429