خطابا التسامح والتطرف

قضية فلم فيلدرز نموذجا

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

 امتلكت البشرية خطابها في التعايش السلمي البنّاء عبر مسيرة وجودها.. ولكنّ تلك المسيرة لم تخلُ من حالات تقاطعت مع قيم هذا الخطاب عندما كانت تظهر لغة التشدّد والتطرّف. والأصل في الحياة الإنسانية أن تأخذ بكل ما يدعِّم العلائق الإيجابية ويمنحها فرص الهدوء والاستقرار.. وهذا ما أكدت عليه الديانات والشرائع والقوانين، إذ نقرأ في النص المقدس"وخلقناكم قبائل و شعوبا لتعارفوا".. وفي مجال لغة التفاعل والتخاطب جاءت الآية الكريمة لتقول: "وجادلهم بالتي هي أحسن"..

وها نحن نجابه اليوم عواصف التشدّد والتطرف تحيط بمسيرة العلاقات بين شعوبنا.. حيث تمارس العناصر القليلة والمجموعات  الصغيرة الضيقة أفعالها؛ مستغلة قوانين الحريات العامة وإتاحة الفرص واسعة للتعبير لكي تدلي بخطابات تقع بين التشنج وعدم فهم الآخر وبين التحريض على الكراهية والعنصرية والدعوة لوقف الحوارات الوليدة للـّقاء والتفاعل الإيجابيين بين الثقافات البشرية المتعددة المتنوعة...

وقد طفا على السطح في الآونة الأخيرة خطاب في عدد من الدول الأوروبية قدّم معالجاته التعبيرية الجمالية والفكرية في أشكال من الرسوم والكتابات التي لا يمكن إلا أنْ تُحسب في إطار التطرف من جهة والعنصرية والحض على خطاب العداء والتناقضات السلبية بين الثقافات.. ويُتوقَّع ظهور فلم سينمائي آخر يتعرض من منظور شخصي لمقدسات دينية إسلامية!

ولقد كانت ردود الفعل على هذا الخطاب بين الحكمة والمنطق العقلي الهادئ في الردّ وفي معالجة الواقعة بموضوعية تلغي تأثيراتها السلبية من جهة تجنّب البشرية أزمات سلوك فردي أو سياسة مجموعة متطرفة ضيقة، وبين ردود انفعالية لا تعبر سوى عن الغضب والوقوع في فخّ تعبيرات التشدد والتطرف لذاك الشخص أو لتلك المجموعة حيث الهدف هو جرّ الأطراف لاصطدام بأعلى شحنات التوتر..

وفي وقت ما زلنا لم نعالج بعدُ آثار مشكلة الرسوم الكاريكاتورية التي نُشِرت في الدنمارك يجري الاستعداد لعرض فلم في هولندا، يتعرض للقضية ذاتها بخطاب يصب الزيت في نار خطابات الانفعال والتشدد وقطع طريق الحوار الإيجابي بين الثقافات وداخل المجتمعات البشرية القائمة على التنوع والتعددية وعلى رفض العنصرية ولغة الكراهية...

لقد اعتاد المجتمع الأوروبي ومنه الهولندي على كفالة حرية التعبير واحترام الآخر والتعايش السلمي البنَّاء، وتلك هي القاعدة. إلا أن ذلك لم يمنع من حالات فردية لظهور قيم العنصرية والفاشية بما يدفع بالكراهية للظهور ومن ثمَّ لحصول الانفعالات والاصطدامات...

ومن أجل الانتهاء من هذه المشكلة ينبغي لجميع الأطراف أن تتحمل مسؤولياتها في التصدي لخطاب الكراهية العنصري فكلما تفاعلت المجموعات المتعددة المختلفة في جذورها الثقافية إيجابيا ضاقت مساحة الحجج والذرائع للعناصر التي ترفض هذا التعاطي الحضاري المتمدن بين تلك المجموعات...

إنَّ الحوار والتفاعل يجري بين الشعوب والدول ذات الأنظمة المختلفة على أساس من المساواة وعدم التدخل وعلاقات تبادل المصالح والتعايش السلمي.. وهو يجري داخل إطار الدولة بين المجتمعات الأصلية وبين الجاليات والجماعات التي استقرت عبر ظواهر الهجرة والاستقرار لشتى الأسباب والدواعي..

وصحيح أن مسيرة الحوار بين الشرق والغرب وبين الإسلام والمسيحية واليهودية وغيرها من الديانات ما زالت تكتنفها مظاهر التشنج والتقطع والتوقفات في ضوء صراع (مصالح) وأطماع لجهات لا تمتلك دبلوماسية المنطق القويم، إلا أنه من الصحيح بشكل أكبر أن نرصد ظهور تلك التقاطعات والتناقضات داخل المجتمعات المعاصرة وتحديدا هنا الأوروبية الحديثة...

فمن المعروف أنَّ أوروبا استقبلت [بخاصة في العقود الأخيرة] حجما كبيرا من المهاجرين الأفارقة والآسيويين ومنهم العرب والمسلمين الأمر الذي أدى لوجود جاليات ليست صغيرة اندمجت بعد ولادة أكثر من جيل لتشكل مجتمعا أوروبيا جديدا يقوم على التعددية والتنوع في المنابع الثقافية...

ولم تكن حالة التفاعل والاندماج سهلة أو خالية من التعقيدات والمشكلات بخاصة مع وجود قوى الرفض الناشئة عن تجدد حالات استقبال مهاجرين جدد خارج قدرات تلك البلدان أو تلك التي لم تستسغ قبول التعددية الثقافية...

إنَّ المطلوب لتطمين أجواء التفاعل والاندماج بطريقة هادئة صحية وصحيحة يتحمل مسؤوليته طرفا التفاعل من المجتمعات الأصلية والجاليات ومن هنا تنشأ حالات التكافل الإيجابي التي تضمن تجنيب جميع الأطراف نتائج التجاوزات أو الخروقات وعدم احترام الآخر أو تحقيره والاستهانة به ما تنجم عنه صراعات لا يمكن تقدير نتائجها ومدياتها في المستويات المنظورة والبعيدة..

 ولنأخذ مثالا على الأمر ما يجري اليوم في هولندا بشأن فلم السيد خيرت فيلدرز المثير للجدل [قبل أن يُعرَض] والسيد فيلدرز ذاته يعتمد باستمرار على التصريحات النارية المثيرة والحادة وعلى استخدام لغة متشددة متطرفة في خطابه..

لقد ذهب السيد فيلدرز بعيدا في نهجه بما ينطوي على تعرّض لمقدسات لدى المسلمين وهو ما أثار ويثير تعقيدات وردود فعل من بعضهم قد لا تكون هادئة  وبمثل تطرفه في التناول قد لا نفجأ بمتطرفين من الجهة الأخرى وهو ما ينجم عنه تفاعلات سلبية خطيرة يمكنها أن توقع ضحايا أبرياء لا علاقة لهم بتصرف فيلدرز والآخرين...

إنَّ لغة فيلدرز تطعن حالة التعايش السلمي في المجتمع الهولندي وتقطع الطريق على الحوار الهادئ بين مجموعات هذا المجتمع المنتمية إلى ثقافات مختلفة الجذور والسمات لأنَّ أداء فيلدرز يتجاوز الحقوق التي توفرها حرية التعبير التي لا تتضمن بأيّ حال من الأحوال القبول بالاستهانة بالآخر أو إزدرائه وتحقيره عبر خطاب العنصرية الشوفيني وفاشية آلياته في التعامل مع ذاك الآخر...

إنَّ عناصر المجتمع الهولندي الأوسع والأثبت هي تلك التي تتجه نحو التفاعل الإيجابي والحوار الرصين ولمنطق العلاقات التكاملية البناءة والإقرار بالتعددية والتنوع الثقافيين في المجتمع؛ ومن هنا فقد وجدنا جميع مستويات المجتمع قد تحركت لمعالجة الأمر عبر:

1. فالحكومة بشخص السيد رئيس الوزراء يان بيتر بالكنندة قد نشط سياسيا وإعلاميا للتعبير عن موقف يؤكد رفض الاستهانة بالمجموعات الدينية ومعتقداتها  كافة مشسرا إلى الموقف الثابت بشأن احترام الجميع وضمان حرياتهم. وقد شارك وزراء عدة منهم وزراء العدل والداخلية والخارجية في الموقف ناصحين فلدرز لعدم عرض الفلم وللتفكير مليا  بعواقب الأمر...

2. وسجلت النخبة السياسية والزعامات والشخصيات المعروفة موقفها عبر بيان أسموه "التشخيص والبناء".. وفيه تزعم القائد النقابي المعروف دوكلة تيربسترا  حركة تقف بالضد من مواقف فيلدرز المتطرفة وتدعو للتسامح والتعايش والحوار الموضوعي الهادئ مشيرين إلى أنَّ:" هولندا تكاد تختنق بحشرها في حلقة ضيقة من اللاتسامح واللامبالاة" وقال حوالي 58 من الموقعين في بيانهم"من حسن الحظ أننا نعيش في بلد يُسمح فيه للجميع أن يقولوا ما يشاؤون. لكن هذه الحرية يجب أن لا يُساء استخدامها للإساءة للآخرين فهذا لن يؤدي إلى الحل بل إلى جعلها أسوأ وهو سير في طريق مسدود"..

3. كما تحركت جماعات المجتمع المدني لرفع أكثر من دعوى ضد السيد فلدرز كما في الدعوى المرفوعة من المحامي خيرارد سبونغ ومعه عشرات من الطلبة..

4. وشعبيا وتحديدا من قبل الجاليات تابعنا عدد من الأنشطة والمواقف. فقد مثلت تصريحات النائب السابق عن حركة الخضر اليسارية السيد محمد ربّاع موقفا مهما عندما دعا إلى الهدوء والتحلي بالحكمة والموضوعية في الرد السلمي والقانوني لأبناء الجالية المغربية الهولندية (حوالي 200 منظمة وحمعية).. والعمل على مقاضاة فيلدرز قانونيا والتعبير عن المواقف بعيدا عن التشنج والانفعال...

  إنَّ التعامل مع المشكلة التي يثيرها شخص فرد لا ينبغي أن يجري توسيعها لتأخذ طابع التضخيم المرضي الذي لا يؤدي لحل أو إجابة ورد صائب على طروحات السيد فيلدرز.. إذ أن أيّ رد متشنج منفعل يعني تثبيتا لطروحات فيلدرز وفلمه فيما سيعني الرد المتأني المتدبر انعكاسا للوجه الحقيقي للمسلمين في دينهم المعتدل حيث "الدين الوسط" و"لا غلو في الدين"...

ومثلما لا نجد التشنج والانفعال دفاعا سليما أو صحيحا عن صواب معتقد وحقه في الاحترام لا نجد كذلك أنَّ التطرف بالمعطى العام لوجوده يمكن أن ينتهي بالردود المتطرفة.. وبدل انتهائه أو حل ما ينجم عنه ستزداد النيران بالردود المتطرفة اشتعالا وتتعمق الجراح البشرية وتتعقد أكثر...

و لا يوجد أي سبب يدعو للرد الشديد لا في تلك الأفعال التي تدخل في مجال الشغب والتخريب والتدمير ولا في العقوبات والردود الجماعية المبالغ فيها مثلما هو حال التهديد بمعاقبة هولندا حكومة وشعبا إذ أن هولندا ليست فيلدرز وقد تأكد بوضوح الفرق بين موقفي الحكومة ووزرائها وأحزابها وموقف فيلدرز وتبين بوضوح موقف النخب والزعامات السياسية والاجتماعية للهولنديين وكذلك المواقف الشعبية الواسعة التي لم تقبل ولا تسمح بالتجاوز على الآخر أيا كان... فكيف ولماذا يؤذ طرف بجريرة آخر؟ بل كيف يمكن أن نسمح لجهة أن تعاقب شعبا بجريرة متطرفين فيه؟

ألا يبرر هذا الموقف الوضع مقلوبا عندما يعاقبون شعوبنا بسبب متطرفين بيننا؟

إنَّ المشكل الحقيقي ليس في فلم متطرف لشخصية فرد ونوازعه أو أهدافه بل في المبالغة ووالردود المتشنجة المتطرفة الأوسع حجما حدّ التضخم وفي منح هذا الفرد فرصا أوسع لتشويه المعتقد الديني والمؤمنين به وفي توفير الفرص سانحة لتحقيق الاصطدام الذي يرومه بكل ما سيجره ذلك من ضحايا أبرياء نتيجة التفاعلات السلبية الخطيرة للردود المتشنجة..

وينبغي ألا نستهين اليوم بما للتصريحات النارية لبعض الشخصيات العامة من ممثلي المسلمين داخل هولندا وخارجها من مثل "كلنا فداء المقدس" و "إلا الرسول(ص).." وعبارات تحريضية منفعلة شبيهة وأخطر من ذلك تصريحات شخصيات بدرجة مفتي أحد البلدان الإسلامية [تصريحات مفتي سوريا في بروكسل] فهي تؤجج الأمور لا في تلك البلدان حسب [بكل ما تجره من تفاعلات قد تؤدي لاعتداءات على ضيوف آمنين لا علاقة لهم بفيلدرز وقيمه وتصرفات] بل وتنعكس على مواطني هولندا من الجاليات ممن تحرضه تلك التصريحات على الدخول في سلوك أنشطة وردود غير محمودة العواقب..

إن الأصل في علائق الشعوب والمجموعات الدينية يكمن في التعاضد والتعاون والتعايش السلمي وكل ما يشذ عن ذلك تعالجه البشرية بالحكمة وبما لا يعرض تلك العلاقات للهزات أو التخريب أو حتى الفتور.. فلا يمكن لما يشذ عن القاعدة الأصل أن يلغي الصواب في العلاقات أو يعطل الحكمة في إدارتها الأمور...

وحسناَ َ فعلت إدارة مهرجان القاهرة السينمائي بقبول فيلم هولندي للمشاركة بعد أن قرأت الوضع على وفق حقيقته لا على وفق منطق السيد فيلدرز والمتطرفين من جهته ومن الجهات الأخرى لأشكال التعبير العنصري الشوفيني الفاشي...

وللحكمة والموعظة أن نقول: إنَّ التطرف لا يُكافح بالتطرف.. وإنَّ العلائق البشرية عمادها التفاعل الإيجابي والتعايش السلمي واحترام الحريات التي تشتمل على احترام الآخر وترفض إزدراءه وتحقيره... وإنَّ الحلَّ في قضية المتطرفين في أية دولة يكمن في مساءلتهم قضائيا وإخضاعهم لسلطة القانون لوقف تداعيات أنشطتهم السلبية المستهجنة الخطيرة..

* هذه دعوة لكي نتصدى سويا للتطرف ولمنع أية تداعيات سلبية في العلاقات الودية البناءة بيننا جميعا، وهي دعوة تتوجه إلى جمعيات جالياتنا ومنظماتها الموجودة ولسفارات بلداننا في هولندا وأوروبا لكي تكون خير سفير لأعمق العلاقات الإيجابية البناءة ولكي لا تنتظر الأحداث وتقف متفرجة عليها.. مثلما هي دعوة لممثلي شعوبنا وبلداننا لكي لا يصبوا الزيت على نار الكراهية التي يريد أفراد محدودي الأفق والتفكير أن يشعلونها كما في مثال فيلدرز...

* أكاديمي ومحلّل سياسي - ناشط في حقوق الإنسان

tayseer54@hotmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 6 آذار/2008 - 27/صفر/1429