العبودية فلسفة الاخلاص

الدكتور وليد سعيد البياتي

 العبودية لغة واصطلاحا:

     احتل لفظ العبودية اسما وصفة وفاعلا ومفعولا، مساحة واسعة في القرآن الكريم، حملت عددا كبيرا من المعاني والدلالات اللغوية والفكرية، وان كان معنى الخضوع والاخلاص لله عزوجل الاشهر في نظر اللغويين و في عرف المناطقة و رأي الفلاسفة، ولما كانت مراتب العبودية يحددها الكتاب وتفسرها السنة النبوية المطهرة وماجاء عن لسان الائمة عليهم السلام، فان اصحاب اللغة اتبعوا مسارات الائمة في التفسبر اللغوي والاصطلاحي ليقدموا لنا تعريفا بلفظ العبودية ومشتقاتها، ودوائر استعمالاتها، فهذا الامام جعفر الصادق عليه السلام يقول: " إن الله تبارك وتعالى أتخذ ابراهيم عبدا قبل ان يتخذه نبيا وأن الله اتخذه نبيا قبل ان يتخذه رسولا .." ثم جاء المناطقة والفلاسفة ليضعوا تجلياتهم في فهم العبودية اعتمادا على المفاهيم العقلية كنتاج لما جاء في الكتاب والسنة في تحديد علاقة الانسان بالخالق تعالى شأنه.

     يقول الفيروزبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب في قاموس المحيط: " العبد الانسان حرا كان او رقيقا (مملوكا)، ويقول أيضا: " العبودية بمعنى الطاعة " قاموس المحيط ، 1 /322 – 323.

     وفي تاج العروس يعرف الزبيدي، السيد محمد مرتضى الحسيني العبودية فيقول: " العبد الانسان حرا كان او رقيقا ". وفيه عن ابن حزم: " العبد يطلق على الذكر والانثى " . ويذكر عن سيبويه ومجموعة من الاعلام أن: " العبودة والعبودية بمعنى الذل والخضوع، وبمعنى الرضى بما يفعل الرب ( الله) " . تاج العروس، 8 / 327 – 340.

     أما الطريحي، فخر الدين، فيقول في باب عبد في مجمع البحرين: " العبادة هي الخضوع والتذلل، ولذلك لاتحسن الا لله هو مولى اعظم النعم فهو حقيق بغاية الشكر " . وهو يقول في تفسير قوله تعالى شانه : " نحن له عابدون " أي  بمعنى (خاضعون اذلاء). والطريحي يقسم حقيقة العبودية الى ثلاثة معان:

اولا: أن لا يرى العبد انه يملك شيئا لان الملك لله.

ثانيا: أن يعمل العبد ويفوض بعد ذلك تدبير الامر لله.

ثالثا: ان لاتكون في عبادته رياء او مباهات.

مجمع البحرين، 3 / 92 – 96.

     وفي كتاب (العين) يقول الفراهيدي الخليل بن احمد الازدي: " العبد الانسان حرا او رقيقا هو عبد الله ويجمع على عباد وعبدين، والعبد المملوك، ويجمع على عبيد واعبد، والعبادة تاتي بمعنى التذلل " . كتاب العين، 4 / 162 – 163.

رؤى الفلاسفة والمناطقة:

     يفسر الفلاسفة العبودية وفقا لمنطلقات معرفية، باعتبارها جدلا صاعدا من الانسان الى الله، وهي بالتالي تؤدي الى تنامي المعرفة بالله تناميا مطردا وصولا الى المعرفية الكلية، فكلما كان الانسان اكثر عبودية لله كلما كان اكثر معرفة بالله كما هو حال الانبياء والرسل والائمة والاولياء وكبار العارفين صلوات الله وسلامه ورضوانه الله عليهم. والموقف الفلسفي من العبودية هو موقف عقلي، يقول الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله في العقل: " العقل رسول باطن والرسول عقل ظاهر" . فهو ادراك عقلي تؤصله العقيدة الالهية، باعتبار ان: " كل ما يحكم به الشرع يحكم به العقل " كما جاء في احاديث اهل البيت عليهم السلام. وفي موضع آخر يقول الامام علي امير المؤمنين عليه السلام: " العقول ائمة الافكار"  تبيانا لقيمة العقل وحجيته.

     وفي ضوء هذه المقالات يقول صدر المتالهين الفيلسوف (ملا صدرا الشيرازي) العبادة هي (كمال الاخلاص لله) في اشارة الى التكامل المعرفي بالخالق تعالى شأنه، تكاملا يخرج الانسان من مباديء الادراك الاولي الى كمال الادراك المعرفي بالذات الالهية. في جانب آخر يفسر كل من الفلاسفة نصير الدين الطوسي والكندي وابن سينا والفارابي العبادة باعتبارها (كمال المعرفة) وكمال المعرفة بالله هو السبيل الى كمال الاخلاص للحق سبحانه، ولما كان التكامل المعرفي حالة تتجاوز المحدود الى المطلق فاني اقول: " أن مطلق العبادة يساوي مطلق الاخلاص " والاطلاق هنا هو اطلاق معرفي تحدده مستويات ومراتب العبادة، فالعبادة اليقينية تمثل اخلاصا يقينيا كما في قول امير المؤمنين عليه السلام مخاطبا ربه الجليل: " ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكني رأيتك اهلا للعبادة فعبدتك " . فعبادة الامام علي عليه السلام هنا عبادة معرفية اي انها نتاج للمعرفة الكلية والمطلقة بالذات الالهية، وهي ارقى مراتب العبادة كما هي ارقى مراتب العبودية باعتبارها عبادة تلي في المرتبة عبادة الانبياء وباعتبارها تمثل مطلق الاخلاص الناتج عن مطلق المعرفة الادراكية.

عبودية الانبياء والرسل عليهم السلام:

     يطرح القرأن الكريم فكرة العبودية كقيمة عليا ترسم علاقة العباد به تعالى شأنه فنراه يخاطب اعاظم انبيائه ورسلة بلفظ العبودية تمييزا لهم، وتعظيما لخضوعهم وعبادتهم، باعتبارهم منارات هدى لعباده على الارض، فنراه عزوجل في سورة (ص)  لا يخاطب نبيه ورسوله داود عليه السلام بلفظ النبوه والرسالة ولا بلفظ الملك باعتبار ان داود عليه السلام كان كان نبيا مرسلا وملكا بل انه اشهر انبياء و ملوك بني اسرائيل قاطبة بل بلفظ العبودية فيقول تعالى شانه:

" أصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الايد أنه أواب " سورة ص / 17.

و في موضع آخر من نفس السورة يصف نبيه سليمان بالعبودية، وسليمان من هو في النبوة والملك والقوة والمنعة، لكن الحق يذكره عبدا من عبيده تكريما لطاعته فينعم عليه في قوله: " ووهبنا لداود سليمان نعم العبد انه أواب " سورة ص /30.

كما انه تعالى يذكر نبيه الصابر ايوب بلفظ العبودية تكريما لصبره وإعلاء لطاعته فمع ما لأيوب من الشأن إلا انه كان عبدا لله فيقول الحق: " وأذكر عبدنا ايوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " ص/ 41.

وفي موقع أخر من هذه السورة الشريفة يخاطب الحق انبيائه ورسله ابراهيم واسحاق ويعقوب بخطاب العبودية، وهم كلهم يحتلون مراتب عليا في النبوة والرسالة ولاسيما ابراهيم على نبينا وعليهم افضل الصلاة واتم التسليم، فيقول: "  واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب اولي الايدي والابصار " . سورة ص/44.

فالايدي هنا بمعنى الفعل والكرم والزكاة والايادي البيضاء، وتاتي ايضا بمعنى القوة، اما الابصار فلاتعني البصر والنظر بل بمعنى البصيرة أي اليقين، والمعرفة بالله كما ذكرها اصحاب التفاسير.

وقد ذكر الله تعالى نبييه نوحا ولوطا بالعبودية منزها لهما عن افعال زوجتيهما في قوله: " كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما " التحريم /10.

كما يذكر نبيه ورسوله عيسى عليه السلام بالعبودية كما جاء في الكتاب عن لسان عيسى في قوله: " أني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " مريم / 30.

والله عزوجل يصف خاتم الانبياء والمرسلين بالعبودية في الكثير من مواقع القرآن الكريم فيقول:

"  وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتو بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله ان كنتم صادقين " البقرة ؟23.

وأيضا في قوله تعالى شأنه:  " أن كنتم آمنتم بالله وما انزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير ". الانفال / 41.

وكان رسول الله صلوات الله عليه وآله يقول عن نفسه: " أنا عبد الله ونبيه " . وكان امير المؤمنين علي عليه السلام يقول: " أنا عبد الله واخو رسوله " فالرسول الكريم صلوات الله عليه وآله يقر بعبوديته خضوعا للخالق تعالى شانه، واهل بيته عليهم السلام كانوا يتشرفون بعبوديتهم لله باعتبارها اعلى مراتب الطاعة وكمال الاخلاص للحق سبحانه. وذلك لايقتصر على امير المؤمنين فقط، بل كل الائمة والاولياء يقرون بعبوديتهم اقرارا معرفيا عقلانيا قبل ان يكون اقرارا تشريعيا، فيقول الامام السجاد في بعض ادعية صحيفته مناجيا ربه ( الهي عبيدك بفنائك فقيرك بفنائك) وهو يستعمل لفظ (عبيدك) الذي يستعمل للتصغير تاكيدا باقراره بقيمة العبودية للحق سبحانه.

وحدة العبودية والاخلاص:

 ذكرنا العلاقة بين العبودية والاخلاص  باعتبار ان الاخلاص هو كمال العبودية لله كما انه كمال الطاعة، فيصبح للاخلاص حدودا وللطاعة حدودا وللعبودية حدودا يعرف يها عباد الله واوليائه من غيرهم، كما اننا نجد ذلك التوحد بين الاخلاص والعبودية، وهو توحد معرفي يحكمه الادراك العقلي لكل منهما، والله عزوجل يذكر الاخلاص في مواقع عدة كما في قوله:

 " وما تجزون إلاماكنتم تعملون، إلا عباد الله المخلصين، اؤلئك لهم رزق معلوم " الصافات / 39-41.

 وايضا قوله تعالى شأنه: " فانظر كيف كان عاقبة المنذرين، إلا عباد الله المخلصين " الصافات /73 – 74.

ويصف الله عزوجل اتباع نبيه (إلياس) من المخلصين في قوله: " فكذبوه فانهم لمحضرون، إلا عباد الله المخلصين " الصافات / 128.

ويقول في تنزيه ذاته وذكر المخلصين له: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " الصافات / 159 - 160.

     وجدت في نصوص قديمة لاحد الفلاسفة قولا يذكر فيه ان العبد لا يدرك كمال العبودية ألا بأخلاص نفسه لله باعتبار ان العبودية هي التحول من النقص الى الكمال. فكمال الملكات يتاتى من كمال الخضوع للحق استشعارا من الانسان بتصاغره امام عظمة الخالق، وبضعفة قبال قوة الله، وبذله قبال من له العزة جميعا. ويقول الملا صدرا: " اذا عرفت نفسك فقد عرفت الرب وهذا هو الغاية في معرفته، لايمكن لك فوق هذه معرفة "  واليه الاشارة الى ما قاله الامام علي عليه السلام: "  أن العقل لاقامة رسم العبودية لا لادراك الربوبية " ، اذا لايمكن ادراك حقائق الربوبية لكن العبد في معرفته لنفسه يدرك تصاغرها امام الذات الالهية، فغير المعصوم يبقى سائحا في بحثة عن مدارك الكمال، ومن هنا فان الانسان كلما ارتقى في الاخلاص كلما اقترب من تجليات الكمال، وانى للانسان ان يكون كاملا والكمال للحق سبحانه. ولكنه كمال في حدود المخلوقات. وهنا لابد من ذكر الامام الحسين عليه السلام فقد تجلت اعلى مراتب العبودية في شهادته، باعتبار ان نهضته لم تكن إلا لاحقاق الحق والعودة بالمجتمع الاسلامي وبالوعي الجمعي الى مسارات الفكر الرسالي بعد ان انحرفوا عنها، فكانت شهادته عليه السلام تعبيرا عن مطلق الادراك المعرفي بالله وهو مطلق انساني ( اي اقصى ما يمكن للانسان من تحقيق ادراك وعيا معرفيا بالله تعالى شأنه ) وتبقى الانسانية تسعى سعيا حثيثا في محاولاتها لادراك المعرفة، لكن دروب هذه المعرفة تبقى مرهونة بمعرفة الانسان بذاته معرفة يقنية لتتكامل لديه مفاهيم العبودية والاخلاص.

* المملكة المتحدة – لندن

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 5 آذار/2008 - 26/صفر/1429