الثالوث المقدس في العراق ولاهوت السيطرة

عبد الجبار الموسوي

 ما ان يتحالف الدين مع السلطة والثروة، ليؤسس (المثلث المقدس)، حتى يبدأ عهد (لاهوت السيطرة) حيث الملوك الذين يمسكون السلطة بيد وباليد الاخرى المال والثروة تراهم يركبون حصان التدين ويرتدون رداء المتدينين ويجمعون حولهم اصحاب الفتاوى، ويتظاهرون بتطبيق الشعائر الدينية والمذهبية التي ترمز وتشير بتمسكهم الحرفي بالتعاليم، وعند ذلك يكتمل المثلث المقدس وترتفع الستارة لتكشف عن (لاهوت السيطرة).

في لاهوت السيطرة، الملوك والرؤساء الذين يديرون شؤون الناس، ادارة ابدية لا حياد عنها لأن كل سلطة (رتبها الله) ومن يقاوم السلطان كأنما يعاند ما قدّر الله ورتبه في باطن غيبه، وبهذه النظرية المقدسة حكم الملوك والرؤساء على اختلاف اديانهم ومذاهبهم ومشاربهم وقومياتهم، نظرية واحدة مع اختلاف الاسماء والمسميات، اما نتيجتها فواحدة وشكلها واحد : رؤساء ومن يعارضهم فهو كافر/ ملحد / ارهابي مرتبط بقوى خارجية اقليمية او دولية / علماني / طائفي /عنصري / فوضوي.

اما المحكومون، لهم حرية الكلام في احسن الظروف، حرية العبادة ومن الافضل ان يكونوا اتقياء، وعليهم طاعة امراءهم، ولتكن الادانة ان حدثت بالكلام، اما الفعل وممارسة المعارضة فهو اعلان حرب على المقدسات (وليس على الملوك) لان الملوك يحمون المقدسات مقدسون ايضا. 

لقد مارس الامويون (لاهوت السيطرة) وهم لا يتظاهرون بالتدين الطقسي , لكن العباسيين مارسوا (لاهوت السيطرة) وهو يتظاهرون بأشد الطقوس الدينية والمذهبية، بل انهم حولوا مذاهب معارضة في خدمتهم بعد ان صفّوا القادة المعارضين واستعاضوا عنهم بقادة موالين. مارس العثمانيون من جهة والصفويون من جهة اخرى (لاهوت السيطرة) وهم متحالفون مع المذاهب، وقمعوا الحريات والحقوق القومية والمذهبية للشعوب التي قبلت بهم (في البداية) واعطتهم راية خلفاء المسلمين وحاربوا بعضهم البعض بأسم (لاهوت السلطة) ايضا، فهؤلاء كانو يعتقدون بأنهم (ظل الله في الارض)، وهؤلاء يعتقدون ان (الراد عليهم كالراد على رسول الله (ص)).

 في (لاهوت السيطرة الحالي في العراق)، حيث اصبحت دوائر التماس بين القوميات والمذاهب جبهات حرب تقليدية، ويكون اسوء فساد وخيانة لقادة البلاد ورجالات السياسة هو خيانتهم للمصلحة الجماعية وهذا النوع من الفساد ليس مجرد انحراف عرضي استثنائي ولكنه انحراف جوهري يصيب كل طبقة سياسية تعمل لخدمة مصالحها بدلا من المصالح السياسية والاجتماعية لمن انابهم.

لقد جعل (لاهوت السيطرة) من العراق ارضا تكتوي بلهيب جهنم الاحتلال والحقد الديني والطائفي والقومي والقبلي والمناطقي وذلك من خلال مثلث التحالف الملغّز والمثير مع (الغريب) الذي اصبح حليفا استراتيجيا  لا انفكاك عنه، و التحالفِ مع (الاخ الجار) بالاضافة الى التآمر على حقائق التأريخ وسرقة كل تراث الثورة والمعارضة والزاوية الثالثة بالمثلث هي السيطرة على موارد المال في البلاد. حتى اصبح الوزير في لاهوت السيطرة لا يأتمن على مال وزارته وعقودها الاقتصادية الا على اخيه او ابنه او اقاربه، بل انه يرفض بشدة ان يشرك في الاعمال الخاصة لوزارته  الكفوء والامين لكي لا يفضحه في يوم ما  حتى اصبح العراق كالبقرة المربوطة تثير الوحوش من حولها.

بأسم المقدسات علّم هؤلاء وهؤلاء اتباعهم الكراهية مثلما يعلّم الكبار اللغة والمشي للصغار. وسولوا لانفسهم نظرية التحالف مع الشيطان ضد من هو اسوء منه مثلما قال ونستون تشرشل في معرض تعليقه على مغزى تحالفه مع ستالين ضد هتلر.

 ومن خلال ثقافة الحقد والكراهية جعل هؤلاء القادة من اتباعهم اصحاب قلوب مجنونة وعقول فارغة الا من ثقافة الامر والتنفيذ. وسلوكياته الانتهازية وكأن التأريخ يعيد نفسه، فمثلما  اصبحت جمهورية اوليفر كرمويل من الطغيان والفساد الاداري والمالي والوحشية ما جعل الناس يترحمون على الملك الذي طالبوا بأعدامه واعدموه، فكيف يمكن لقيادة مثل هؤلاء ان تنشيء امة من الرجال؟ كيف يمكن لقادة يتعطشون للدماء والقتل والاغتيال السري والعلني ويحتقرون حياة الاخرين، ان يحكموا بلدا موحدا، انها مجازر جديدة وفساد قديم :  التسلط والانتهازية فهؤلاء لم يجلسوا ويفكروا ويقولو لبعضهم فزنا الان بنصرنا فماذا نفعل ؟ نحن ابناء هذه الامة العراقية الان فكيف نتعامل ؟. لم يفكروا بذلك عند احتلال العراق وسقوط النظام الديكتاتوري.  لم يفكروا وقد اخذوا السلطة بأسم مجلس الحكم , ولم يفكروا وقد اعطتهم المرجعية ردائها المقدس المبارك واوصتهم بوصايا لم ينفذوا حتى واحدة منها، لم يفكروا الان وقد انحسرت العمليات الارهابية. الا ان عملياتهم السرية ضد هذا الطرف او ذاك والتي هي جاهزة مجهزة ما ان يحتاجوا اليها حتى ينفذوها. ولم يفكروا بتغيير حال الناس المحرومين الذين لابد ان يعطي الواحد منهم رشاوى في كل دائرة ووزارة وهيئة ومديرية , واذا كان نصف الامة تكره حاكما، والنصف الاخر يستعديه فما الفائدة ؟.

 لقد سحر الملك هؤلاء فأنساهم ما كانوا فيه مَن هم ؟ وماذا كانوا ؟ واذا كان بعض الرجال يتمتعون بالعظمة الا ان العظمة لا يمكن انتحالها. فألى متى تحكم وجوه الجشع والغدر. الجشع بالملك والمال والسلطة والغدر بالشعب المظلوم المضطهد.

ان هؤلاء من اتباع (لاهوت السيطرة) الذين يقولون مقالة العصور الوسطى في اوربا والتي امتلئت حقدا ضد الطرف الاخر :  (اذا كان الرب معنا فمن يستطيع ان يكون ضدنا)، يتصورون انهم اعطوا سيف الرب لينتقموا ممن كان عليه الدائرة فأذا كان هناك من هو قائد حرب (الحمد لله كلهم قادة حروب) فمن هو الضمير؟. لان الامة تحتاج الى مقاتل وتحتاج الى ضمير. وقديما قال بعض الملوك وهم يجيبون على سؤال :  هل هناك خير من الانتصار ؟ فاجاب بعضهم (فقط) بقاء الملك خير من الانتصار.

 لسنا بحاجة الى استمرار التجربة الخادعة مع القيادات التي استهوتها فكرة (الذات المتكاملة)، وعاشت في هوس هذا البحر الواسع من دون ان تسمح (للاخرين) ان يتشاركوا معها في (تكاملية ذاتها). في ساحل بحر ذواتها المتكاملة لم تنسى ان تأمر ببناء صرح صنميتها من رمال الساحل الرطبة الهشة.

في عهد لاهوت السيطرة هذا، سارق السر يقطع يد سارق العلن، واسوء المتّجرين الفاسدين واعتى اللصوص يتذرعون بالطقوس الشعائرية المتشددة بينما يقوم (وكلائهم) و (ازلامهم) بعمليات سرية واسعة لكي تتراكم الثروة والسلطة ولا تخرج من ايديهم... الا يعرف هؤلاء ان الخطيئة المميتة هي تكرار خطايا (الغير) وهي لا تزال طازجة.

وبعد مرارات تجارب الامس حيث لم يستطع هؤلاء الحكام من ان يتحدوا وهم يعيشون في المنافي وكان بعضهم ياكل لحم البعض الاخر، وبعد مآسي تجارب اليوم، لسنا بحاجة الى (القائد الضرورة) و (القائد المقدس) و (الوراثة الاختيارية)، ولسنا بحاجة الى الفكر والثقافة التي تؤسس كيانات متقولبة بشخصانية، وهذا الامر ينطبق على الاسلاميين مثلما على العلمانيين.

العراق والعراقيون بحاجة الى رجال ونساء يقودون حركة الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية ويحملون ما يسميه المفكر العربي الراحل (ادوارد سعيد) (مجموعة من التيارات المتدفقة). وهذه التيارات يمكن تمثيلها بأفكار الانسان المتجددة في الحياة العادية، حيث ان هذه الافكار (تنساب طوال ساعات اليقظة)، وهي في افضل حالاتها لا تحتاج الى التكيف او التوائم او الانسجام، وقد تكون هذه التيارات في غير مكانها الصحيح، الا انها على الاقل في حالة حركة دائمة، وفي وقتها بالضبط. وعلى هيئة خليط غريب متحرّك، ليس بالضرورة الى الامام ولكنها احيانا ما تتحرك ضد بعضها بعضا او قد تكون متزامنة ومتناسقة..

اذاً، نحن بحاجة الى زمن الجماهير. الجماهير التي تفرض التغيير. نحن ندعو للثورة على احتكار السلطة مثلما كنا ندعوا للثورة على الظلم والكبت والاضطهاد الذي مارسه نظام صدام خلال اربعة عقود وها نحن في هذه الاربع سنوات الاخيرة نعيش الظلم والوهم. وقد صدق الرئيس الاميركي  توماس جيفرسون عندما كتب قبل حوالي قرنين :  (الكتلة البشرية لم تولد وعلى ظهورها اسرجة، ولا القلّة الموهوبة والمنتعلة بحذاء الركوب والممسكة بالمهماز جاهزة لركوبها).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 2 آذار/2008 - 23/صفر/1429