يرجع أصل كلمة الدولة المدنية، من الناحية التأريخية، في اصطلاحها
الغربي، الى أنها مفهوما فلسفيا- سياسيا مناقضا للدولة الدينية
(الثيوقراطية)، والتي يتأرجح مفهومها (نظريا) بين حكم رجال الدين
وتحكيم الدين نفسه في السياسة بغض النظر عن طبيعة من يحكم به، ويتمثل
مفهومها عمليا بتنحية الدين عن السياسية مطلقا، باعتبار الدين هو
مجموعة قوانين إلهية مميزة للدولة الدينية.
كما نجد أن لمفهوم الدولة المدنية والمجتمع المدني والعقد
الاجتماعي بعدا فلسفيا خاضع للتطور تدريجيا منذ ما قبل القرن الثامن
عشر في فلسفة أرسطو وفي المدارس الفلسفية، وأصبح موضوعا جدليا في علم
الاجتماع تبنته حركات الإصلاح في الغرب على مدى قرنين من الزمن خصوصا
بعد الثورة الفرنسية.، فكانت الدولة المدنية بمبدأها الرافض لتدخل
الدين في السياسة دولة علمانية، تشكل إطارا للانعتاق من ديكتاتورية
الكنيسة وفي الوقت نفسه تشكل قالبا سياسيا قابلا لاستيعاب أي نظرية
سياسية تواقة للتغيير من أجل التنمية والحرية.
وإذا رجعنا إلى التاريخ الحديث، نجد أن الجدل احتدم في مصر – مثلا -
ولا يزال إلى اليوم حول مفهوم الدولة المدنية ومضمونها قبل أكثر من خمس
عشرة سنة، وكان على رأس دعاتها رموز التطرف الليبرالي والعلماني (فرج
فودة وفؤاد زكريا وغيرهم)، يقابلهم في الجهة الأخرى علماء الأزهر
والتيار الإسلامي في مصر، وهو ما يعني أن مفهومها يتجاوز براءة
اصطلاحها الذي يتبادر إلى الذهن في أول وهلة، وأنها تمثل عبر التاريخ
سواء في الشرق أو الغرب عند دعاتها، إطارا سياسيا للعلمانية قابلا
لتوظيف أي اتجاه فلسفي إيديولوجي في الحياة بشرط تنحية الدين عن الامور
والشؤون السياسية.
ان المشهد الجدلي حول مفهوم الدولة المدنية وقضاياها، والذي يثار
مؤخرا لا يمكن فهمه إلا إذا وضع في إطاره التاريخي والإستراتيجي
والواقعي الصحيح، وفي الإطارين يكتسي لونا آخر تبدو فيه صورة المشهد
جلية واضحة للعيان. فموضوع الدولة المدنية ما هو إلا مثال، وفي جدليته
يفرض سؤال نفسه : ما الذي يدفع أصحاب الطرح الليبرالي للتذبذب في
الإعلان عن برامجهم بوضوح في العراق على وجه خاص وبلغة فصيحة محررة
يساعدهم في ذلك بعضا من السلطويين الذين يحسبون على التيار الاسلامي ؟
لماذا يجعلون للمفاهيم الغربية تعريفات جديدة ذات محتوى مغاير لأصلها،
حتى إن كتابا عمدوا إلى نفي قطعي للتاريخ، فاعتبروا ان الدولة المدنية
هي التي تحكمها الشريعة الإسلامية، وأن لا أحد في القديم والحديث في
العالم قال بأن الدولة المدنية نقيض للدولة الدينية، متجاوزين السياق
التاريخي والفلسفي والتعريف الغربي والليبرالي العربي لها ! والجواب أن
التيار الإسلامي بكل أطيافه غير الرسمية، يعكس في الجملة الأغلبية
المطلقة في العراق (بكل ما تعنيه كلمة المطلقة من معنى)، وهذه حقيقة
يسلم بها أصحاب الطرح الليبرالي، بل ويعتبرونها حجر عثرة في طريق
مشاريعهم. لكن الحركات والاحزاب الحاكمة في العراق الان تحاول ان تفصّل
الدولة المدنية على قياساتها. وعليه لا يمكن اطلاق المفردات جزافا على
وضع الدولة في العراق فهي غير دينية من باب ان الذين يحكمون بأسم
التيار الاسلامي، ولكنهم :
1. لا يطبقون روح مفاهيم وتعاليم الدين الاسلامي في تصرفاتهم
وسياساتهم، والتي منها توجهاتهم في المحاصصة الفئوية والحزبية والفساد
المالي والاداري الذي نهش جسد الدولة في عهدهم.
2. تحولوا الى اسماء تحمل صفة التدين، بعد ان تركوا مشاريعهم التي
كانوا ينادون بها، ايام مقارعتهم للنظام السابق، في التوعية والتثقيف
والتي تحولت الان الى صفقات سياسية وحزبية هدفها الكسب والاثراء.
3. ابتعدوا عن تطبيق مباديء الشورى والتشاور مع شركائهم واخوانهم
في التيار الاسلامي وخارج التيار الاسلامي في عملية للاستئثار بمكاسب
ومغانم السلطة تخالف كافة التعاليم بما فيها ما يريدون التوفيق به من
مصطلحات قبيل الديمقراطية والدولة المدنية.
ومع هذا الوضع، يجد الليبرالي نفسه في فرصة يكتفي معها بالتلميح بدل
التصريح، وبتطويع المشاريع ومصطلحاتها للدين مهما كانت في أصلها مخالفة
له وهو ما يعني أن وصف الليبراليين في العراق بالتيار مثلا هو من قبيل
المجاز لا الحقيقة، والمصطلح الأفصح عن حقيقة الوجود الليبرالي الحالي
هو النخبة) لا التيار لانهم لا يملكون شيئا في الشارع بل إطارا نخبويا
يفتقر إلى قاعدة جماهيرية تمثله على المستوى الشعبي. كما أنه مشلول
نسبيا (عن الحركة) إلا على المستوى الإعلامي بشكل محدود والأكاديمي
بشكل واسع!. لكن القراءة التاريخية لحركات التغيير والإصلاح والثورة،
تفيد أن النخبوية كإطار للوجود لا يعني دائما الانحصار، فالموقع يلعب
دورا كبيرا في خلق أبعاد جديدة للتغيير حتى لو كانت نخبوية، ما يعني أن
مدى تغلغل النخب الليبرالية مستقبلا في مراكز صنع القرار، هو ما قد
يعطي للمعادلة صيغة أخرى على مستوى الحكم والشارع مستقبلا.
والمتتبع لوضع التيار الليبرالي في العراق، يجد أن التخبط أصبح سمة
لهذا النهج إلى حد يمكن وصفه بالظاهرة، يبحث عن أي شيء يجعله مستمسكا
بشعرة فقهية في أي مذهب لإضفاء الشرعية الدينية على أجندته في مجتمع
اصبح لا يصغي لمن يعرف بتمرده على الدين. والحقيقة أن الانحصار الذي
تعيشه نخب الليبراليين له علاقة أيضا بالخوف من التجارب السابقة التي
دمرت العراق بأسم العلمانية، فمن الناحية النظرية لا يسمح المجتمع
اليوم بمختلف أشكاله بمخالفة الثوابت الدينية. وان تخبط الليبراليين
هذا سواء في التعريف بالذات (الليبرالية) أو المضمون (الليبرالي )،
يماثله تخبط واضح في توظيف مصطلحات المشاريع السياسية الغربية (مصطلحات
العولمة) في المنطقة وإصباغها أحيانا بصبغة شرعية، على خلاف ما نشأت
عليه، كالتخبط في مفهوم الدولة المدنية الذي نحن بصدده، وإبقائها
أحيانا أخرى على غموضها وعمومها لتأخذ مجالا جدليا في العقول يرسو على
تعريفها مع الزمن، وهذا بالضبط ما يثير حفيظة التيار الإسلامي في وجوب
التوضيح والتفسير. اذن، الدولة المدنية كمصطلح يعكس معنى التحضر
والتطور.والدولة المدنية نقيضها فى الواقع الدولة العسكرية القائمة
اليوم في العراق )، لكن الدولة المدنية يمكن أن تكون دولة علمانية أو
دولة دينية وهذا هو الفارق، بمعنى أنها دولة مدنية ذات مرجعية علمانية
أو دولة مدنية ذات مرجعية دينية، وهذا هو مسار الحوار والجدل. فالدولة
العراقية الحالية يصعب أن نطلق عليها دولة علمانية، بل هى تبدو علمانية
بالجزء اليسير ولكن جذورها اسلامية، بعيدا عن تجربة السلطة والحكم.
وان تحول الدولة فى العراق إلى دولة مدنية اصبح شبه مستحيل في
المدى المنظور على الاقل، بسبب ممارسات السلطة في عسكرة الفرد والمجتمع
الجارية على قدم وساق. إذن المطلوب هو ضبط المصطلحات، الدولة المدنية
هى التى يحكمها مدنيون منتخبون من الأمة بحرية كاملة وتُسائلهم الأمة
وتحاسبهم ويجب ان تؤشر مقاييسه على الجميع حاكمين بأسم الاسلام ام
غيرهم. لكن السؤال ما هي مرجعية الدولة فى تشريعها وأدائها؟، وإلى أي
قيم ومباديء تنتمي؟ وعليه:
لا اصلاح دون دولة مدنية ترتكز دعائمها على : الدستور - البرلمان -
التعددية السياسية والمواطنة، وهذاهو محك الصراع الحقيقي للدولة
المدنية في العراق الجديد.
* الناطق الرسمي بأسم منظمة العمل الاسلامي |