الاهوار في اقلام الغرب

حيدر شامان الصافي

 ظلت رؤى الرحالة والمستشرقين تنقب في المكان وتحرص على كشف أسراره وإظهار لب معدنه.

وظلت الأهوار بغرابتها وبساطة الحياة وتميزها تمثل جدلا لعالم تعرض إلى الكثير من مذابح البيئة والبشر إلا أن المكان مهما عدلت في هيئاته وغيرت يبقى يفضل الانتظار لعودة أخرى وكان الكتب التي سطرها الجانب الغرباء كفيلة بأن تصبح شموع أمل عجز عن إذكاء نار أحلامها أهل البيت لهذا بدت الأهوار بأقلام الرحالة والمستشرقين أكثر إشراقاً وحتى ثراءً في المعلومة والكشف والتقييم...

بدأت المس بيل (العميلة البريطانية) والسيدة التي بهرت أضواء المجتمع البغدادي ردحا من الزمن قبل أن تنتهي بحالها إلى الموت الرحيم ومن ضمن ما مارسته إدارتها للمتحف العراقي بعدما كانت تقتسم الملتقطات الثرية مع المكتشفين كما فعلته مع وولي في كشفه عن مقبرة أور المقدسة.

هذه المرأة كانت تمثل دليلا ومكان النصيحة لكل من يرغب بالكشف عن روح المجتمع العراقي ببيئاته المختلفة ومنها بيئة الأهوار.

كما أن خط سير العمليات العسكرية للجيش البريطاني وهو يغزو العراق ويحتله في الحرب الكونية الأولى كان يمر في هذه المناطق وشهدت ساحة العمليات العسكرية في مثلث البصرة ــ ناصرية ــ العمارة معارك ومناوشات كثيرة كان فيها لعرب الأهوار دور جهادي كبير ومنهم من ترك أيشان القصب والتحق مع المجاهد الكبير محمد سعيد الحبوبي ونال منى الشهادة في معركة يدفعون بأهالي الأهوار في مناطق القريبة من سوق الشيوخ وهي مدن الكرمة والطار والعكيكة والفهود وحتى بطائح الجبايش إلى المشاركة مع العلامة الحبوبي لصد التقدم الإنكليزي.

من هذه الوقائع التي ينبغي أن يفرد لها رؤى خاصة بدا اللقاء الأكثر سعة ومعايشة بين الذاكرة الأستشراقية أو العلمية أو الرحلات ومنطقة الأهوار بأهلها وطبيعتها وعاداتها الروحية والاجتماعية وكان معظم المؤلف عن حياة هؤلاء الناس المنتمين إلى الطبيعة بوعي فطري عجيب يتحدث عن طبائع البشر ونمط الحياة والتفكير الاجتماعي وطقوس وعادات سكان الأهوار ومنهم من ذهب إلى رؤى الاركولوجيا ومنهم من راح إلى أصول الديانة والتراث الروحي كما فعلت المستشرقة البريطانية (الليدي دواروا) في بحثها الجليل والمهم في التراث المندائي لطائفة الصابئة وهم من سكان الأهوار القدماء وكانت وهي تراقب حياة هؤلاء القوم تكتب مشاهدتها عن عموم حياة أهل الاهوار بشتى طوائفهم ومللهم ولها عن سكان الاهوار محاضرة في المعهد الملكي البريطاني تحدثت فيها عن طبيعة المكان وروح العادات والتقاليد وأشارت إلى الكثير من العادات وطقوس العيش والممارسات اليومية التي تتحدث عن نمط مميز وخصوصية جميلة من حياة هؤلاء الأقوام.

 وقبل ذلك كانت دواروا قد تحدثت في كتبها ومحاضراتها عن نمط الوحدانية الأزلي والمميز لعبادات التي تجعل الماء روحا لتعميد ذاتها والتقرب إلى الواحد العلي وكانت مياه الاهوار كما في رؤى دواروا الأستشراقية تمثل المكان الملائم للحظة المندائية عندما تذكر إن طقوس الاغتسال وممارسات التعميد كانت في أزلها الأول قائمة على مياه تلك الأمكنة والمصنوعة من الفيضان الموسمي للنهرين الخالدين دجلة والفرات.

رؤى المستشرقة البريطانية مثلت في معظمها بحث عن أصول دين ولكنها استفادت كثيرا من المكان وعادات أهله بشتى أطيافهم رغم إن مجمل سني عيشها في مناطق الأهوار كانت في القرى والمدن المندائية الذين كانوا يعيشون في تعايش مسالم واخوي مع إخوانهم المسلمين وان اغلبهم كان في انتسابه القبلي ينتسب إلى قبيلة عربية.

من ضمن الذين قرأوا المكان وعاشوه اللورد (كالفن ماكسويل) الذي عاش سنينا في اهوار العمارة والناصرية. لكن كتابه عن الأهوار هو (قصبة في مهب الريح) وهو نتاج فترة معايشة في خمسينيات القرن الماضي في قرى ومدن الأهوار وفيه موصوفات رائعة لمجمل الحياة ببسيطتها وتغيراتها وبفصول متعددة تتحدث عن مجمل طبائع الحياة الأهوارية كالصيد والزواج والطهور والعادات الاجتماعية والروحية والأسطورية.

كانت رؤية ماكسويل في كتابه تتمثل في البحث عن شكل الحياة بعمقها وكان يراقب ويسجل بإتقان رؤى إستشراقية أخرى ظهرت في سيرة إبداعية أخرى للمكان كشفت قوة الوصف وانشداد إلى تفاصيل الحياة أبدعها رحالة أخر عاش بين هؤلاء القوم واغلبها في اهوار العمارة ليسجل نمطا حياتيا راعا وتصورا كونيا وروحيا عن ذاكرة ومعتقد هؤلاء البشر الذين يقتنعون بصيغ العيش رغم صعوبتها حيث كان ويلفر ويثسكر صاحب كتاب (المعدان) والذي عاش بيتهم لسبع سنوات بدءا من عام 1951 ليظهر بكتاب موسوعي عن نمط حياة وطقوس هذه الشريحة المهمة من سكنة الاهوار حيث كانت مشاعره الأولى في المعايشة والكتابة غامضة كقوله : (كان المعدان حين زرتهم أول مرة‚ متوجسين من العالم الخارجي) وثانية يقول في هذا الأتجاه : (كان كل شيء بدائيا وغير مريح‚ لكني مع ذلك كنت أشعر بالسعادة)..

وكتاب المعدان هو أول فهم أستشراقي لشعب يعتقد انه سليل أولئك الذين صنعوا مجد سومر وعظمتها ومنهم من قام بالتشكيك باصولهم الحضارية والرافدينية وقال إنهم بقايا من استقدمهم الحجاج والي الكوفة من الهند مع قطعان جواميسهم ليغير من طوبغرافية وديموغرافي المكان الثائر والمعاند والمتمثل في الثورة العلوية الشيعية ضد جبروته وتسلطه.

غير أن كتاب المعدان بروحه المستشرقة ووعي القصد فيه خلص إلا أن طبائع (عرب الاهوار) هي نمط مسالم من الهدئة الإنسانية وإنهم يفكرون بوعي المكان وطبائعهم تمثل طقساً حياتيا متوارثاً فيه من قيم المجتمع الأصيل الشيء الكثير :

ظل ويثفرد يؤرشف حياة الناس هناك. كتب برح قلمه وبحيادية وترقب. أستشرق باطن ما يملكون وأقام آصرة الزمن لوحدانية هؤلاء وأعاد لهم روح وعي الاهتمام المفقود لديهم بسبب نأيهم عن المتغير بفعل أحقاد الحقب المظلمة منذ سيوف المغول وحتى دخول مود بغداد وكان الكاتب يضع فصولا من مراحل حياة وهو يدون طقوس الضيافة التي يتلقها من أسرهم الكريمة ووجهائهم ولو أن الوجاهة تقل في الاهتمام لن المعدان يشتركون بطبائع طبقية تكاد تكون واحدة من حيث السكن والملبس والمعيشة ورغم هذا كتب ويثسكر بإخلاص وإيمان وهو يستشرق يوميات القرية الأهوارية ويصف طقوس صباحاتها ولحظات صيد الأسماك والخنازير ورعي قطعان الجواميس.

لقد كان إلمام الكتاب بحياة أهل الأهوار كبيرا وكان هذا مدعاة سعادة لما كان الكاتب يتمناه في نهاية المطاف وهو يتآلف معه بمودته الكبيرة ووصفه الشيق لطبائعهم الجميلة والأصيلة :

لقد كان الرحالة ومستشرقي المكان ينظرون إلى طباع البشر بدقة عالية كما فعل الميجر هيجكوك في كتابه الحاج ريكان وهو يدرك إن في طبائع هؤلاء الناس ماهو مرتبط بذهن تاريخ المنطقة وخصوصيتها : لقد كانوا يصنعون عالمهم برغبة ما ورثوه مما كان والذي كان مجبولا على الفطرة والنبل والبساطة. لهذا فهم كانوا مثار إعجاب ضيوفهم الجانب في كل حين وكانوا يدركون حتى العمق الخرافي للرمز والشواهد وكانوا يذهبون إلى تصديق ما يعتقده الإنسان العادي كما يحدث في تدوينات المستشرقون والرحالة للجانب الخرافي من ذهنية عرب الأهوار كما في أسرار هور حفيظ وما تتناقله الحكاية من عجائب الجن والنيران المجهولة حتى انك تستطيع تشبيهه بمثلث برمودا فكل شيء يغيب فيه حتى اعتى الرجال.

((ثيسكر سبق هيردال في التعرف على المعدان‚ بل أنه يختلف عن الجميع بصفته مواطنا كونيا عثر في المعدان على أهله, أبطال روايته التي سيكتبها فيما بعد ليتأكد من أنه كان حيا يوما ما‚ لقد انفتح أمامه باب الجنة حين انزلقت قدماه على أول مشحوف (زورق) جاب به الأهوار‚ والتي صارت له فيما بعد الوطن الذي يضم بين ثنيات عاطفته حقيقة الكون, حين أصبح ثيسكر طبيبا طوال الفترة التي قضاها هناك وهو الذي لم يدرس الطب فانه كان يستجيب لنداء قدره و جزء من إرادة أدرك أنه لا يقوى على عصيانها, إرادة وضعت بين يديه الشفاء لآلاف المبعوثين من الألم‚ كان ذلك الألم طريقه إلى المخيلة الجمعية التي صنعت منه وعدا.

انضم ثيسكر إلى قائمة الرسل في ذاكرة المعدان, فصارت الحكايات التي توارثتها أجيالهم لا تخلو من ذكر له.

وهو الذي لم يكن يحلم إلا في الذهاب إلى تلك التلال البعيدة التي يظن المعدان أنها المكان الذي خبأت فيه الجن كنوز القارات الغاطسة, حين محيت الاهوار بتجفيفها في تسعينيات القرن الماضي ذهب شعب كامل إلى العدم‚ ومعه اختفت الغرانيق واللقالق ودجاج الماء وطيور الوقواق والزرازير والبجع وكلاب الماء والخنازير والإوز والبط‚ كان شعبا ساهرا على أبجدية الطبيعة‚ ولذلك كتب ثيسكر في (المعدان) ما لا نعرفه عن الحياة المحتملة)).. الإنكليزي (غافن يونغ) له حصة في هذه المعايشات اللذيذة مع الهور وعالمه وأهله وكان قد جاب قبل رحلة الأهوار سفر صحراوي في الجزيرة العربية لكن عمله الجديد التي كانت بإدارة بريطانية قادته ليعيش هذا العالم ويحبه أيما حب ليخرج بحصيلة كبيرة عن هذا العالم وجذوره في كتابه (العودة إلى الأهوار) والصادر مترجما عن دار المدى والكتاب يتحدث عن حصيلة مدهشة من سني المعايشة والزيارات المتكررة التي قام بها الكاتب ليتحدث بلغة أدبية رائعة عن المكان وطبيعته منذ عهود سومر الأولى وحتى موت صديقه الوفي والشخصية الدينة المبجلة في اهوار العمارة وقصاباتها السيد (سروط) زمن طويل جابت فيه ذاكرة يونغ أعماق هذا العالم ورسمت كل تصورات ما كان وسيكون ومنها قلقه على المكان جراء وقائع حرب السنوات الثمان بين العراق وإيران وكان أوارها في عودة أخيرة له للمكان الذي تحدث عنه في محاضرة ببلده ((إن الصدفة وحدها من قادته إلى عالم الحلم الخضر، عالم القصب والطيور وانيات الحسنة))....

* رئيس ابحاث اقدم

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 20 شباط/2008 - 12/صفر/1429