العمامة الثائرة

( قصة قصيرة)

رائد قاسم

جموع محتشدة... آهات وآلام وأحزان تشجي القلوب وتدمع العيون.. بكاء جماعي... حزن جماهيري.. دموع تكاد تتحول إلى سيول جارفة.. الحسينية كأنها ستنفجر من الزحام...  آلاف الناس يجتمعون في مساحة ضيقة وهم ما بين باكىء وتالي للقران ومستمع بشجن لسيرة الرجل الذي ضحى بحياته من اجل أن يحيي امة كاملة.. أخيرا جاء الخطيب اللامع... أقبلت العمامة التي تمثل ذات الحسين.. يقف له الجميع احتراما وتوقيرا، ولكنه يمسك بالميكروفون ويقف إلى جانب مستمعيه ويحجم عن ارتقاء المنبر.. ينظر للجموع المحتشدة..إلى العيون الحزينة... للأنفاس اللاهتة.. للنفوس المشحونة بعبق التضحية... للعقول التي سخرت جوارحها للإنصات إليه.. يخلع نظارته ثم يبدأ بالحديث.. أيها الناس. أيها الشعب..

يا من ضحى اجدادكم بالغالي والنفيس من اجل أن يبقى هذا المنبر...اليوم وبعد عشرات السنين تعلن السلطة علينا الحرب... إنهم يريدون أن يحظروا علينا ما تبقى من عزنا ومجدنا، لم يكفهم ما نهبوا من خيراتنا وثرواتنا وحرمونا من كل متع الدنيا، إنهم اليوم يريدون أن يدمروا البقية الباقية من تراثنا وهويتنا، فماذا انتم فاعلون؟... شعارات تتصدع لها الجدران وتسيح في الأرجاء.. كأن الأرض تتزلزل من تحت الأقدام.... أيها الشعب الحبيب أن الحسين يناديكم، انه ما يزال ملقى على رمضاء كربلاء، مضرجا بأبي وأمي بدمائه، عطشانا، جائعا، غريبا، كأني اسمع صراخ أطفاله ونسائه، كأني اسمع ندائه الذي يسبح في الفضاء منذ أكثر من ألف واربعمئة عام ليخترق مسامع كل الشعوب والأمم على وجه الأرض، انه ينادي ألا من ناصر ينصرنا.. تضج القاعة بنداء التلبية... أيها الأحبة كأني اسمع الحسين وهو يدعو قائلا الهي: امة جدي، شيعة أبي نجهم من من النار... بكاء رهيب.. تلبيات تخرج من الحناجر فتهتز لها الجدران..  يردد الجميع لبيك يا حسين.... أيها الأحباب ما تزال الفرصة  سانحة أمامكم لنصرة إمامكم، فبنو أمية ما برحوا يحكمون البرية بقبضة من حديد، ليبنوا عرشهم على دماء الأبرياء وأنات المستضعفين وأموال اليتامى والمعدمين، إن دم الحسين يجري في كل واحد منكم دون شك، إن الحسين هو كل شهيد ضحى بحياته من اجل الحق والفضيلة.... يخلع الشباب ثيابهم وتزغرد النساء ويكبر الشيوخ ويبكي الأطفال...نحن أنصارك يا شيخنا المناضل، سير بنا نحو الفداء والتضحية والعطاء وسنكون لك جيشا جرارا يزيل عرش الطغاة....

تخرج الجموع الغفيرة بسلاحها الأبيض وصدورها العارية لتواجه الجنود المدججين بالأسلحة، يسقط القتلى والجرحى وتتناثر الجثث في كل مكان، يختلط البارود بالدماء ليتبلور وعي جديد... تصدر السلطة الأحكام العرفية.. تخرج العمامة الثائرة من البلاد تاركة ورائها دماء وأشلاء ودمار.. أعاهدك يا شعبي بالانتقام لدماء شهدائكم.. أيها الشعب الوفي لسنا خارجين اشرين أو يطرين، إنما خرجنا من اجل حقك المسلوب وثروتك المنهوبة وعرضك المنتهك وكرامتك المسحوقة ودينك المقموع فاصبر على البلاء حتى يبزغ فجر النصر من صوب الغروب في يوم لا قريب لا محال..

****

..  دماء تسيل... ارض تهتز.. مدافع تضرب الآمنين وتدمر كل شي.. آلاف الثائرين يخرجون في التظاهرات فينهال عليهم الرصاص من كل حدب وصوب ليسقطوا قتلى وجرح... جثث ملقاة على الارض بلا حراك.. بحيرات الدم في كل مكان.. هدوء رهيب يخيم على الارجاء. يفتح القتلى عيونهم ويتوجهون اليه.. ماذا تريدون أيها الموتى ؟ لقد قتلنا استجابة لك فخذ بثأرنا ممن قتلنا، ذاك عهد بيننا وبينك حتى النصر.. يستيقظ من نومه والعرق قد بلل ثيابه...

- هل عاد إليك الكابوس مرة أخرى يا سيدي؟

- انه كابوس مهول.

- هل رايتهم مجددا؟

- نعم.

- ويريدون منك الانتقام أليس كذلك؟

- إن هذا ما قالوه لي.

- إننا اليوم نكمل عامنا العشرين ولا نصر في الأفق.

- نحتاج إلى سنوات أخرى، إننا نواجه حكومة مستبدة وعلينا الانتظار، لا تتوقع إن تحقق نصرا ما بين ليلة وضحاها.

يرن جرس المنزل...

- سماحته موجود؟

- نعم تفضل.

- أغثنا يا سيدي.

- ما الذي حدث؟

- لقد توفي شاب آخر في التدريبات.

- ( ببرود ) فليرحمه الله، ادفنوه وتكتموا على أمره، ولا تخبروا أهله بأنه مات في التدريب.

- أمرك يا سيدي.

- هناك أمر آخر.

- ما هو؟

- بعض الشبان بدئوا يتضجرون من الأعمال الموكلة إليهم، إنهم يشعرون بان وجودهم هنا مضيعة للوقت.

- ماذا تقول؟ أنهم هنا في نضال وكفاح ضد الاستبداد والقهر الذي يكابدونه في بلادهم.

- نعم يا سيدي ولكنهم بشر في نهاية الأمر، أنهم شبان ممتلئين حيوية ونشاطا، أنهم يتطلعون للمال والزوجة ليكونوا أعضاء أشداء ومتمرسين.

- ما هذا الكلام ؟ هل نحن في منظمة خيرية؟ إن ميزانيتنا لا تحتمل هذا الهراء التي ذكرته ؟ قل لهم يصبروا حتى يأذن الله بنصره.

***

سنواته تمر بثقل.. يتراجع عدد الأعضاء.. يعود الكثير منهم إلى الوطن السليب لبدء حياة جديدة وتعويض ما هدر من العمر... يشعر بأنه بدأ يتآكل وان وجوده في المنفى لا طائل ورائه.. تلوح له بارقة أمل وطوق نجاة..

- ما الذي تقوله ؟ هل جننت ؟

- يا أصدقائي لم يعد وجودنا هنا ذا جدوى، لقد تراخت قبضة النظام وغدا ميالا للمهادنة... فكروا بمصيركم ومستقبل أبنائكم وعائلاتكم، هل تريدون أن تقضوا بقية حياتكم في المنفى بينما يتمتع الآخرون بالمال الوفير والسيارات الفارهة والمساكن الفاخرة؟ الم تشتاقوا إلى أهاليكم وأصدقائكم ؟ الم تحنوا إلى الأزقة والحواري التي ترعرعتم فيها ؟ ألا يدغدغكم الشوق إلى بلادكم ؟

...ينكس الجميع  رؤؤسهم..

- لقد قررت العودة وعلينا أن نستعد لذلك بعد أيام قلائل...

يعود إلى الديار... ينظر إليها من الأعلى..

- إنها كما كانت لم تتغير، طرقات متهرئة ومباني عتيقة، أظنها لم تحظى بأي نصيب من الإنماء خلال العشرين عام التي قضيتها في المنفى.

... يستقبله آلالاف في المطار..

- إنها هي ذات الوجوه التي غادرتها قبل عقدين  من الزمن ولكنها اليوم أكثر بؤسا وتعاسة.

...  يمسك بالميكرفون مجددا... أيها الأحبة ! لقد ناضلنا كثيرا خلال أكثر من عشرين عاما مضت وهاهي بعض مطالبنا قد تحققت وقد وعنا بالمزيد فانتظروا.

- يقاطعه احد البائسين : ولكنك قلت يا سيدي بأنكم لن تعودا حتى تتحقق مطالبكم باجمعها ؟.

- يا صغيري! ما الفرق بين أن نكون هنا أو نظل هناك؟! سنتابع انجازها حتى تفي السلطة بكامل التزاماتها. أفهمت؟!

- يقاطعه أخر : ولكنكم دائما ما كنت تقولون بان نهجكم هو نهج الحسين ؟

- يا صغيري! الحسن اخو الحسين وكلاهما ينهلان من منبع واحد !

... أيها الشعب الوفي، لقد ضحيت كثيرا- بالأموال والأنفس - من اجل حقوقك المشروعة وها أنت اليوم تحصد، فهل كنا سنتحدث بكل صراحة ووضوح كمثل اجتماعنا هذا قبل عشرين سنة خلت؟ بالطبع كلا، إن هذا انجاز كبير! هل كنتم  لتقرؤوا اسم مدينتك في نشرة الأخبار الجوية قبل عشرين عاما! إن هذا لانجاز آخر يضاف إلى قائمة انجازاتكم ! إن نهجنا اليوم هو نهج الحسن وعلي بن الحسين وبقية المناضلين على طول وعرض تاريخ الإسلام والعروبة، نهج السلم والتواصل والكلم الطيبة، فهلموا بنا نمضي معنا نحو تحقيق أهدافنا المشروعة...

***

يرى نفسه بين القبور... يخرج الشهداء بملابسهم الرثة مضرجين بدمائهم.. ينظروا إليه بعيون حمراء تسيل منها الدماء... يحيطون به من كل جانب... دعوني... اتركوني.. ماذا تريدون مني؟... يجيبونه بصوت واحد : نريد حياتنا التي فقدناها... تدوي إجابتهم في رأسه.. اسكتوا، سينفجر راسي.. ابتعدوا عني... يستيقظ من نومه فزعا.. إنهم هم مرة أخرى، ولكنهم الآن يطالبوني بحياتهم التي فقدوها، يا الهي ماذا افعل ؟

- سيدي بعض شباب الحركة يريدون مقابلتكم.

- قل لهم إني مشغول، فليراجعوني بعد عشرة أيام.

... يسمع صراخهم وسبابهم الذي يتوارى شيئا وشيئا ليحل الهدوء مرة أخرى...

- ماذا يريدون مني بالضبط؟ الم يقولوا لك شيئا؟

- بلى يا سيدي ! أنهم يريدون منك شيئا من المال ليقيم كل واحد منهم مشروع ما يعينه على صعوبات الحياة.

- مال ! ومن قال لهم بان عندي مال؟

- ولكن ماذا يفعلون والى أين يلتجئون يا سيدي ؟

- لم نكن جمعية خيرية، وعندما عدنا كنا قد صفينا كل شي، على كل واحد منهم أن يتدبر أمره بنفسه، لقد انتهى كل شي ولم نعد تلك العصبة التي تنظم أمرها ويساعد بعضها بعضا..

- ولكنهم عملوا معك سنوات طويلة يا سيدي.

- لقد انتهى كل شي، وما فات قد انتهى ولن يعود أبدا.

- لقد قال لي احدهم إن البعض من زملائهم تقدموا بطلب أراضي ووظائف وقد استجابت الحكومة لهم، بينما هم لم يحصلوا على أي شي، سواء منكم أو من الدولة أو من الشعب الذي ناضلوا من اجله.!

- لم أعدهم بشي، ولم تعدهم الحكومة إلا بالعفو وقد وفت بوعدها، وان كان لديهم حق فليأخذوه من الناس الذين عملوا من اجلهم طوال سنوات هجرتهم !

***

يدخل مسجده.. يقوم له المصلون احتراما وتبجيلا.. يشعر بثقل في رأسه.. تتغير الملامح في لحظات.. يا الهي، ماذا أرى؟ إنهم هؤلاء القتلى مجددا، إنهم هم بثيابهم المصبوغة بالدماء، بهيئتهم الرثة، بذقونهم المرسلة، بفروة رؤؤسهم المغبرة، بوجوههم المشوهة... ماذا تريدون بحق الله؟... يعودون للتفوه بنفس تلك العبارة: نريد حياتنا التي فقدناها... يلمح وجوها كثيرة... لقد ضاع مستقبلي منذ أن اتبعت خطبك النارية ومقالاتك العصماء واليوم تخليت عن كافة شعاراتك وعدت لتتمرغ بالنعيم أما أنا فأعيش في البؤس والشقاء.. يلمح شخص آخر... لم اكسب شيئا منك ومن نضالك المزعوم! بينما كنت وصحبك في أحضان نسائكم كنا نحن نعاني الحرمان، وأنت اليوم في فللك وقصورك ونحن ليس لدينا أي شي من حطام هذه الدنيا.. على أكتافنا أصبحتم قادة وسادة... من أموالنا تكونتم وعجنتم فأين حقنا من  كل هذا... يئن من الألم.. يتصبب منه العرق بغزارة..

- ما به يا دكتور؟

- انه مصاب بانهيار عصبي، يحتاج إلى الراحة.

يفيق من غيبوبته بعد عدة أيام..

- الحمد لله على سلامتك يا سيدي.

- كيف لي بالسلامة وهؤلاء يعودني ليلا ونهارا.

- أما زالوا يطاردونك ؟

- نعم ولا اعرف ماذا افعل؟

- أعط الشبان الذين يطالبونك شيئا من المال.

-   لقد صرفناها كلها ولم نعد نمتلك منها شيء.

- سيدي، هل كانت هذه الأموال لكم ؟

- كلا إنها أموال الشعب.

- إذن لماذا لم تسلمها للآخرين وتعد انتم وصحبك بممتلكاتكم وأمتعتكم الشخصية ؟

- لم يكن بمقدورنا ذلك، كانت الشروط أن ننهي كل أنشطتنا.

- ودماء الشهداء التي سالت من اجل المبادئ التي ناديت بها؟

-....

- وماذا عن مئات الشبان الذي ضحوا بأعمارهم من اجلها ؟

-.......

- وماذا عن الملايين التي جاد بها شعبك الطيب ؟

-............

- وماذا عن دماء الحسين ودمائه التي قلت للجماهير إنها تناديهم وتناشدهم ؟

-...........

وماذا عن الحسن، اهو حقيقة يا سيدي؟

..يطرق برأسه إلى الأرض

- إن الحسن ابن علي لو تمكن من القتال لقاتل، إننا نتخذ من الدين مطية ليس إلا، فتارة نقول يا حسين وتارة نقول يا حسن ! إن الدين على مر تاريخه كان تحت سلطة المعممين ورجال الدين الذين سخروه وفقا لمصالحهم، أما الجماهير فهم الأتباع الذين ليس لهم صوت أو كلمة.

- إذن أنت تعترف يذلك يا سيدي؟

- إن هذا هو الواقع المرير الذي يحكمنا جميعا.

... يعود إلى منفاه داخل الوطن، يسمعهم يترنمون مرة أخرى.. لقد كانت غربتك وطن ووطنك غربة، كنت حرا وغدوت عبدا.. يضع يده على رأسه.. يحاول تجنب سماعهم.... لقد مات الحسن مسموما، لأنه قال لا للطاغوت ولو كان خاضعا له لما قتله...... فجأة تصمت الأصوات... أين انتم لما خرستم؟  يخرج إلى فناء منزله، يرى الشهداء عارجين للسماء وكأنهم يقولون له سيأتي يوما يخرج من يثأر لدمائنا وحينها سنعود لننشد أهازيج النصر ونشدوا باسم الحسين في انحاء الوجود.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 18 شباط/2008 - 10/صفر/1429