وإن هذه القيم بحاجة إلى سياق اجتماعي، يتوجه
صوب بناء هذه القيم وإرساء دعائمها لبنة لبنة، وخطوة خطوة. وذلك لأنه
من المستحيل أن تتحقق هذه القيم في الفضاء الاجتماعي والإنساني دفعة
واحدة، وإنما تنجز بالتدرج والتراكم
إن التعبير الإسلامي الشامل، الذي يحتضن مفردات التسامح وتجلياته
الخاصة والعامة، الثقافية والاجتماعية والسياسية، هو تعبير ومبدأ العدل
والعدالة.. قال تعالى (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم
وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا
أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه
المصير). إذ هو(العدل) يستوعب كل مفردات التشريع الإسلامي، والعدالة هي
أم القيم وتجلياتها جميعا. وفي هذا السياق أيضا تأتي مفردات (العفو -
الإحسان - دفع السيئة بالحسنة - الإعراض عن الجاهلين). إذ يقول تبارك
وتعالى (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما
رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار).
ويقول عز من قائل (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا
خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً). وغيرها من الآيات التي تحث المؤمنين
على تجسيد هذه القيم في حياتهم وأحوالهم المختلفة.
وإن هذه القيم بحاجة إلى سياق اجتماعي، يتوجه صوب بناء هذه القيم
وإرساء دعائمها لبنة لبنة، وخطوة خطوة. وذلك لأنه من المستحيل أن تتحقق
هذه القيم في الفضاء الاجتماعي والإنساني دفعة واحدة، وإنما تنجز
بالتدرج والتراكم. لذلك ينبغي أن نقوم بدعم وإسناد كل خطوة في هذا
الطريق الطويل والشاق. وإننا من الضروري ألا نستعجل النتائج. قال تعالى
(سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا
يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي
يتخذوه سبيلاً ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين). ونحن
مأمورون دائما بإتباع الأحسن. إذ قال تعالى (الذين يستمعون القول
فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب).
فحينما تتطور الظروف وتتبدل الأحوال وتزداد وتيرة المتغيرات، فعلينا
استنادا على هدي القرآن الحكيم ونور العقل وبصيرة الإيمان من اتباع
الأحسن في القول والفعل. وهذا النهج يؤسس لنا منهجا واضحا في طبيعة
التعامل مع مستجدات الحياة وتطوراتها على الصعيدين النظري والعملي. إذ
أننا مطالبون من الاستفادة من كل هذه المنجزات والمكاسب على قاعدة
(فليأخذوا أحسنه) و"إن ما نعيه من مقصد الشريعة في إثارة العقل،
ومخاطبة العقلاء، وفي رفع حجب الشهوات، عن العقل، وفي تنمية الإرادة ضد
من يصادروا العقل. إن مراد الشرع من كل ذلك - حسبما نعيه - هو العمل
بما يقتضيه العقل والعلم، وبما يكشفان من حقائق الحياة وواقعياتها، فإن
كانت الحقائق ثابتة عملنا وفقها، وإذا كانت متغيرة عملنا وفقها".
والحرية الحقيقية للإنسان تبدأ حينما يثق الإنسان بذاته وعقله
وقدراتهما. وذلك لأن التطلع إلى الحرية بدون الثقة بالذات والعقل، تحول
هذا التطلع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين بدون هدى وبصيرة. لذلك فما
لم يكتشف الإنسان ذاته ويفجر طاقاته المكنونة، لن يستطيع من اجتراح
تجربته في الحرية وبناء واقعه العام على قاعدة الديمقراطية والشراكة
بكل مستوياتها.
والعدالة هي الناموس العام والإطار الأكبر الذي يحتوي ويتضمن كل
الفضائل والضرورات الدينية والدنيوية. والحرية لا تنمو في واقع إنساني
بعيد عن مقتضيات ومتطلبات العدالة. إذ أن الظلم وهو نقيض العدالة،
حينما يسود في أي واقع اجتماعي، فإنه يزيد من إفساد الحياة العامة،
ويحول دون المساواة والحرية وكل الفضائل الإنسانية. فالظلم هو البوابة
الكبرى لكل الشرور والرذائل، كما أن العدالة هي بوابة كل الحسنات
والفضائل. ولذلك جاء في الحديث الشريف أن (العدل رأس الإيمان، وجماع
الإحسان، وأعلى مراتب الإيمان).
ولو تأملنا قليلا في مضامين الحرية الإنسانية، نجدها حقائق جوهرية
في مفهوم العدل والعدالة. فلا مساواة مع ظلم. لذلك فإن طريق المساواة
هو أن يعدل الإنسان مع نفسه ومع غيره. كما أنه لا حقوق محترمة ومصانة
للإنسان، إذا كان الظلم هو السائد، لأنه هو بوابة انتهاك الحقوق.
من هنا فإن طريق صيانة الحقوق، هو إحراز العدالة بكل مستوياتها
وجوانبها.
وهكذا نجد أن كل تجليات مفهوم الحرية، ترجع في جذورها العميقة
والإنسانية إلى قيمة العدالة. فهي طريقنا إلى كل الفضائل. ولا حرية
خاصة أو عامة بدون عدالة في حقول الحياة المختلفة.
والعدالة كمفهوم في هذا السياق، هي أوسع وأعمق من القوانين
والإجراءات الديمقراطية. إذ هي تتعلق بالممارسات والمواقف كما تتعلق
بالبواعث والدوافع. فهي الدعامة الأساسية لأي نظام ديمقراطي حقيقي.
والنظام الذي يفتقد العدالة، لا يمكن أن يكون ديمقراطيا حتى لو تجلبب
بكل شعارات الديمقراطية. فالعدالة هي جوهر الأنظمة الديمقراطية، وهي
جسر توسيع رقعة الحرية في مجالات الحياة المختلفة. وعلى هذا فإن الحرية
هي ذلك الحيز الذي يستطيع فيه الإنسان التصرف في أموره وقضاياه دون أن
يصل إلى ظلم نفسه أو الآخرين. بمعنى أن حدود هذا الحيز الذي يستطيع
الإنسان التصرف في فضائه هو العدالة.
فالحرية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة. وبهذا تتضح
العلاقة العميقة في الرؤية الإسلامية بين مفهومي الحرية والعدالة. فلا
عدالة حقيقية بدون حرية إنسانية، كما أنه لا حرية بدون عدالة في كل
المستويات.
فالحرية لا تعني التفلت من القيم والضوابط الأخلاقية والإنسانية،
كما أن العدالة لا تعني قسر الناس على رأي واحد وقناعة محددة. لذلك
فإننا ينبغي أن ننظر إلى مفهوم الحرية بعيدا من لغة الحذر والتوجس
والتسلسل المنطقي الذي قد يوصل إلى مساواة معنى الحرية إلى التشريع
للانحراف والرذيلة، ونعمل على توضيح العلاقة الجوهرية التي تربط معنى
الحرية مع مفهوم العدالة. وبالتالي فإن الحرية عامل محرك باتجاه إنجاز
مفهوم العدالة في الواقع الخارجي. كما أن العدالة الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع المجتمعي.
وعلى هذا فإننا لا بد أن "نميز بين الحرية كحق اجتماعي والحرية
كخطوة وجودية. كحق، لا تشمل الحرية خيار ما هو محرم، ولكن كحالة وعي
وجودي فهي تشمل جميع الاحتمالات، كما سبق وبينا. ففي المفهوم الوجودي
يستطيع الفرد أن يقرر ما يشاء وهو عالم بتبعات قراره، ولا يحتاج إلى
إجازة من أحد، بينما طالب الحق مقيد بما هو مجاز، ومن ذلك شرعية
المطالبة بما هو محرم، ولكن ليس باختيار المحرم.
وأخيرا، لا بد أن نتذكر أن ما هو جائز يظل أمرا خاضعا لتفاسير
مختلفة، باختلاف الأفراد والجماعات.
المفهوم الاجتماعي للحرية يتعلق بخيارات متاحة في حيز مباح،
كالتعبير الخاص والعام عن الآراء والأفكار، والعمل السياسي بمختلف
أوجهه، وحرية العبادة والمعتقد، والبيع والشراء والتعاقد وغيرها، وهي
في مجملها حقوق محددة المعالم ومكتسبة، وما هو مكتسب بفعل اجتماعي يفقد
بقرار اجتماعي. إن نقد الحكومة والقانون في النظام الديمقراطي حق قائم،
ولكن مخالفة القانون أو التمرد عليه غير مباح، المباح هو العمل على
تغيير الحكومة والقانون بالطرق المشروعة".
فأجواء الحرية وممارستها تحسن من قدرات المواطنين، كما أن العدالة
ومتطلباتها توجه هذه القدرات باتجاه القضايا والموضوعات ذات الأولوية.
فكلما تتوسع مساحة تأثير العدالة في المجتمع، فإنه يفضي إلى تكريس قيم
الحرية ومفرداتها المتعددة في الأمة والمجتمع والوطن. فالحفاظ على
الحرية يقتضي ممارسة العدالة في مختلف المستويات. كما أن ممارسة الحرية
تكون في فضاء الالتزام والتقيد بمتطلبات العدالة. لذلك لا يجوز أثناء
ممارسة الحرية الإضرار بالغير. فلا يجوز من الناحية الشرعية والفقهية
مثلا أن المالك لأرض في حي سكني، أن يبني عليها مصنعا يلوث البيئة
والهواء ويؤدي إلى الإضرار بالجيران. فممارسة الحرية في الملكية، ينبغي
أن يكون في إطار العدالة. وأية ممارسة تتجاوز هذا الإطار أو تضر به،
فإنها تصبح ممارسة غير شرعية. فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية، لا
يستطيع إنجاز عدالته. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعاً اجتماعياً
بعيداً عن العدالة وتسوده حالة الظلم واللامساواة، فإنه لن يستطيع أن
يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام.
ولكن لا يمكن أن يتم الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعات ومكتسباتهم
الحضارية بدون العدالة. فهي حصن الحقوق، وهي بوابة الأمن الشامل.
وبدونها تشيع الفوضى، وتزدهر الفتن والاضطرابات، وتزداد أسباب الاحتقان
والانفجار في المجتمع. فالعدالة بمفرداتها (القسط والبر والإحسان) هي
التي توفر الأمن والاستقرار في حياة الأفراد والجماعات. فلا فلاح إلا
بالعدل، فهو سبيلنا الوحيد لإنجاز الاستقرار والأمن والتقدم. وإن
الخروج من سجن التخلف والتأخر إلى رحاب التقدم والحرية والتطور بحاجة
إلى العدالة..
وإن جوهر التقدم الإنساني والتطور البشري، هو الحرية، حرية الاختيار
والتعبير، ونفي الإكراه بكل صوره وأشكاله، وغياب الحتميات التي تحول
دون ممارسة الإرادة الإنسانية. |