مصطلحات اجتماعية: البنية الوراثية

البنية الوراثية: Genotype

شبكة النبأ: يستعمل هذا الاصطلاح في توضيح طبيعة البنية العضوية التي تحدد معالمها العوامل الوراثية المتمركزة بالجينات (الهورمونات الوراثية الموجودة في الدم). وهناك اختلاف بين هذا الاصطلاح واصطلاح البنية البيئية (Phenotype) الذي يوضح الطبيعة العضوية كما تحددها العوامل الوراثية والبيئية في آن واحد.

الهندسة الوراثية وأثرها على الإنسان وطعامه(1)

التعريف :

1 -   الهندسة الوراثية مركب وصفي من كلمتين :

أ - الهندسة ، والمقصود بها التحكم في وضع المورثات (الجينات) ، وترتيب صيغها الكيميائية فكاً (قطع الجينات عن بعضها البعض)، ووصلا ( وصل المادة الوراثية المضيفة بالجينات المتبرع بها ) ، وذلك باستخدام الطرق العلمية .

ب - الوراثية ، والمقصود بها الجينات ، وهي الصيغ الكيميائية التي يتكون منها الكائن الحي .

2 -وترجـع جـذور الهندسة الوراثية إلى عام 1953 م عندما اكتشف العالمان : واطسون وكريك تركيب حمض DNA (الدنا) الكروموزومات (الصبغيات) حيث كان من المعروف أن خلية الإنسان تحتوي على 23 زوجا من الكروموزومات ، وكلها متشابهة ما عدا الزوج الجنسي ، فهو موجود على شكل كروموزوين أحدهما كبير X  ، والآخر قصير Y ، ويتكون كل كروموزوم من سلسلتين من حمض DNA (الدنا) تلتفان على بعضهما البعض بشكل حلزوني ، وكشف العالمان واطسون وكريك البنية الحقيقية لتركيبة الدنا ، والذي يقدر مجموعه في كل خلية بشرية على شكل شريط كاسيت طوله 2800 كم . والحامض النووي (الدنا) عبارة عن مجموعة من النيوكليوتيدات ، وتتكون كل نيوكليوتيدة من :

أ -       مجموعة فوسفات ، وسكر خماسي .

ب -       مجموعة قاعدة نيترووجينية ، وهي عبارة عن " الأدنين ، والسايتوزين ، والجوانين ، والثايمين ، بحيث أن الثايمين في إحدى السلسلتين يرتبط مع الأدنين في السلسلة الأخرى ، وأن السايتوزين يرتبط مع الجوانين .

وقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الأحماض النووية (الدنا) هي التي تحمل المعلومات الوراثية .

       ثم تلي ذلك معرفة الطريقة التي كتبت بها المعلومات الحيوية الوراثية على صورة شفرة كيميائية .  

       وفي عام 1974 م تمكن العالم ستانلي كوهين من استعمال طريقة الترقيع الجيني ، وهي ما تعرف بعملية التهجين الكروموزومي من ضفدع إلى بكتريا القولون . وفي العام نفسه جرت أول مناقشة علنية لتجارب إعادة تنظيم المادة الوراثية (الدنا) أو ما يعرف بالتقنية الهندسية للدنا ، وتبع ذلك إنشاء أول مؤسسة للاستفادة من تقنيات الهندسة الوراثية بالولايات المتحدة الأمريكية ، وهي ما تعرف بجينيك ، وكان العقد الزمني ما بين 1980 ـ 1990م عقداً حافلاً بتطبيقات كثيرة للهندسة الوراثية كإنتاج الأنسولين ، ونقل جينات من نبات إلى آخر .

3 - عندما بدأ التفكير في الهندسة الوراثية كان على أساس خدمة الإنسان من خلال التعديل الوراثي الذي يتم تحقيقه بإحدى طريقتين :

الطريقة الأولى : غير مباشرة ، وتكون بتغيير  وتعديل التركيب الوراثي في الكائنات ، وأمثلة ذلك كثيرة منها : التحور الجيني في النبات ، والاستزراع الجيني في الكائنات الدقيقة مثل البكتريا ، وهندسة الحيوانات وراثيا ، أو ما يعرف باستحداث سلالة من الحيوانات المعدلة وراثيا .

الطريقة الثانية : مباشرة ، وتكون بتغيير وتعديل التركيب الوراثي في الإنسان نفسه، وذلك لمحاولة تحسين الوضع الصحي للمرضى المصابين وراثيا ببعض الأمراض ، أو الدراسة المبكرة للأجنة من خلال الاستقصاء الوراثي المبكر للأجنة . وجميع هذه الدراسات تقع تحت مفهوم المعالجة بالجينات .

4 -الحق أن تطبيقات الهندسة الوراثية يكتنفها شيء من الغموض فيما يخص الأخطار المستقبلية سواء بالنسبة للإنسان أو غيره من الكائنات .

أ -  أما الأخطار التي تتعلق بتطبيقات الهندسة الوراثية في النبات والحيوان والأحياء الدقيقة فمنها : عدم وجود ضوابط في المجتمع العلمي تضمن عدم اللعب الوراثي لسلامة الحيوانات ، فبعض الحيوانات المحورة وراثيا تحمل جينة غريبة يمكن أن تعرض الصحة البشرية أو البيئية للخطر .

ب - وأما الأخطار التي تتعلق بتطبيقات الهندسة الوراثية في الإنسان فمنهـا : التـلاعب الوراثي في الخلايا الجرثومية ( الجذعية ) التي ستولد خلايا جنسية مستقبلا عند البلوغ ( حيوانات منوية وبييضات) ، مما يفضي إلى الخلط في الأنساب . ومن الأخطار أيضا : الضرر  المتوقع من المعاجلة الجينية ، فلا تزال تحت التجارب مما يجعل احتمالية الوفاة أو التشوهات بسبب الفيروسات التي تستخدم في النقل الجيني ، أو بسبب الفشل في تحديد موضوع الجينة على الشريط الصبغي (1) .

الرأي الفقهي الذي اختارته المنظمة وحيثياته :

انتهت الندوة الثانية عشرة سنة 1998 م بشأن الهندسة الوراثية إلى التفريق  بين الإنسان وغيره من الكائنات :

1 -   أما استخدام الهندسة الوراثية للإنسان : فيجوز لمنع المرض أو العلاج بضوابط مراعاة المصلحة ودرء المفسدة وعدم اختلاط الأنساب .

2 -   وأما استخدام الهندسة الوراثية في النبات والحيوان : فيجوز مطلقا مع مراعاة ثلاثة أمور :

الأمر الأول : التحذير من حدوث أمراض على المدى البعيد تضر بالإنسان أو البيئة .

الأمر الثاني : وجوبية إبانة المصدر النباتي أو الحيواني هل هو طبيعي أو معالج وراثيا؟، ونسبة المعالجة ؛ لتبصير المستهلكين بالحقيقة .

الأمر الثالث : النصح بشأن الغذاء الحيواني والنباتي بأخذ توصيات وقرارات منظمة الأغذية والأدوية الأمريكية ، ومنظمة الصحة العالمية ،ومنظمة الأغذية العالمية ، ودعت الندوة إلى إنشاء مؤسسات لحماية المستهلك وتوعيته .

فقد جاء في توصيات الندوة الثانية عشرة سنة 1998 م ما يلي :

" تدارست الندوة موضوع " الهندسة الوراثية " وما اكتنفها منذ ميلادها  في السبعينات من هذا القرن  من مخاوف مرتقبة إن دخلت حيز التنفيذ بلا ضوابط ؛ إذ هي سلاح ذو حدين قابل للاستعمال في الخير أو في الشر .

ورأت الندوة : جواز استعمالها في منع المرض أو علاجه أو تخفيف أذاه ، سواء بالجراحة الجينية التي تبدل جينا بجين ، أو تولج جينا في خلايا مريض ، وكذلك إيداع جين من كائن في كائن آخر للحصول على كميات كبيرة من إفراز هذا الجين لاستعماله دواءً لبعض الأمراض ، مع منع استخدام الهندسة الوراثية على الخلايا الجنسية ؛ لما فيه من محاذير شرعية . وتؤكد الندوة : ضرورة أن تتولى الدول توفير مثل هذه الخدمات لرعاياها المحتاجين لها من ذوي الدخول المتواضعة ؛ نظرا لارتفاع تكاليف إنتاجها .

       وترى الندوة : أنه لا يجوز استعمال الهندسة الوراثية في الأغراض الشريرة والعدوانية ، أو في تخطي الحاجز الجيني بين أجناس مختلفة من المخلوقات قصد تخليق كائنات مختلفة الخلقة بدافع التسلية أو حب الإسطلاع العلمي .

       كذلك ترى الندوة : أنه لا يجوز استخدام الهندسة الوراثية سياسة لتبديل البنية الجينية فيما يسمى بتحسين السلالة البشرية ، ولذا فإن أي محاولة للعبث الجيني بشخصية الإنسان ، أو التدخل في أهليته للمسؤولية الفردية أمر محظور شرعا .

       وتحذر الندوة من أن يكون التقدم العلمي مجالاً للاحتكار ، وأن يكون الحصول على الربح هو الهدف الأكبر ، مما يحول بين الفقراء وبين الإستفادة من هذه الإنجازات ، وتؤيد توجُّه الأمم المتحدة في هذا المجال إلى إنشاء مراكز للأبحاث للهندسة الوراثية في الدول النامية ، وتأهيل الأطر البشرية اللازمة ، وتوفير الإمكانات اللازمة لمثل هذه المراكز .

       ولا ترى الندوة حرجا شرعيا في استخدام الهندسة الوراثية في : حقل الزراعة ، وتربية الحيوان ، ولكن الندوة لا تهمل الأصوات التي حذرت مؤخرا من احتمالات حدوث أضرار على المدى البعيد تضر بالإنسان أو الحيوان أو النبات أو البيئة .

       وترى الندوة : أن على الشركات والمصانع المنتجة للمواد الغذائية ذات المصدر الحيواني أو النباتي : أن تبين للجمهور فيما يعرض للبيع ما هو محضّر بالهندسة الوراثية مما هو طبيعي مائة بالمائة ؛ ليتم استعمال المستهلكين لها عن بينة . كما توصي الندوة الدول باليقظة العلمية التامة في رصد تلك النتائج ، والأخذ بتوصيات وقرارات منظمة الأغذية والأدوية الأمريكية ، ومنظمة الصحة العالمية ، ومنظمة الأغذية العالمية في هذا الخصوص .

وتوصي الندوة بضرورة إنشاء مؤسسات لحماية المستهلك وتوعيته في الدول الإسلامية ". 

       وجـاء في نفس توصيات الندوة  الثانية عشرة ـ البنـد أولاً : مبادئ عامة ـ بشأن الهندسة الوراثية ـ ما يلي :

10 - ينبغي  أن تدخل الدول الإسلامية مضمار الهندسة الوراثية بإنشاء مراكز للأبحاث في هذا المجال تتطابق منطلقاتها مع الشريعة الإسلامية ، وتتكامل فيما بينها بقدر الإمكان ، وتأهيل الأطر البشرية للعمل في هذا المجال .

12 - ينبغي لعلماء الأمة الإسلامية نشر مؤلفات لتبسيط المعلومات العلمية عن : الوراثة والهندسة الوراثية لنشر الوعي ودعمه حول هذا الموضوع .

13 - ينبغي للدول الإسلامية إدخال الهندسة الوراثية ضمن برامج التعليم في مراحله المختلفة،مع زيادة الاهتمام بهذه المواضيع في الدراسات الجامعية والدراسات العليا.

 14 -  ينبغي للدول الإسلامية الاهتمام بزيادة الوعي بموضوع الوراثة والهندسة الوراثية عن طريق وسائل الإعلام المحلية ، مع بيان الحكم الشرعي في كل موضوع من هذه المواضيع .

15 - توصي الندوة تكليف المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بمتابعة التطورات العلمية لهذا الموضوع ، وعقد ندوات مشابهة لاتخاذ التوصيات اللازمة  إن جد جديد .

ملاحظاتنا على توصيات الندوة الثانية عشرة سنة 1998 ؛ بالكويت بشأن الهندسة الوراثية :

1 -   قطعت المنظمة الوعد في البند (15) من المبادئ العامة بأن تتابع التطورات العلمية للهندسة الوراثية وتعقد ندوات مشابهة مستقبلاً .

       أقول : وحتى الآن لم يتم الدعوة لذلك .

2 -   طالبت المنظمة في توصيتها رقم (12) من المبادئ العامة العلماء بنشر مؤلفات لتبسيط المعلومات العلمية عن الهندسة الوراثية .

       أقول : لم تترجم هذه التوصية إلى خطابات لكليات الطب وكليات الشريعة لتفعيلها 

       وأطالب تشجيعاً للمؤلفين في ذلك برصد جوائز ، أو تقديم شهادات تقدير .

3 -   أوصت الندوة بإنشاء مؤسسات لحماية المستهلك من أخطار المنتوجات المهندسة وراثيا ، وذلك في الدول الإسلامية .

وأتساءل عن التفعيل لذلك  .

الهوامش

* تناولت المنظمة هذا الموضوع ضمن موضوعات ندوتها الثانية عشرة بالكويت سنة 1998 م بعنوان : " الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني" .

 (1) بحث الكائنات وهندسة المورثات ، للدكتور صالح عبد العزيز كريم ـ أعمال الندوة الحادية عشرة ص 107 – 128 . 

شبكة الحياة(2)

مقدمة

في العام 1943 ألقى الفيزيائي النمساوي إرفِن شرودِنْغِر – أحد مؤسِّسي النظرية الكوانتية – ثلاث محاضرات في كلية ترينيتي في دَبْلِن بعنوان "ما هي الحياة؟" وقد غيَّرت هذه المحاضرات مسار علوم الحياة. في تلك المحاضرات، وفي الكتاب الذي أعقبها وحمل العنوان ذاته، طرح شرودنغر فرضيات واضحة ومتماسكة حول البنية الجزيئية للجينات، كان من شأنها أن استحثَّت علماء البيولوجيا للتفكير حول الجينات بطريقة مبتكرة؛ وبهذا الشكل فتح حقلاً علميَّا جديدًا هو البيولوجيا الجزيئية.

إبان العقود التالية، ولَّد هذا الحقل الجديد سلسلة من الاكتشافات الباهرة، تُوِّجت بحلِّ لغز الشيفرة الوراثية. لكن هذه التطورات المذهلة لم تُدْنِ علماء البيولوجيا من الإجابة على السؤال الذي سبق أن طرحه شرودنغر: ما هي الحياة؟ ولا كان بمقدورهم أيضًا أن يجيبوا عن التساؤلات الأخرى المرافقة التي طالما حيَّرت العلماء والفلاسفة مئات من السنين: كيف انبثقت البُنى المعقدة من مجموعة عشوائية من الجزيئات؟ ما هي العلاقة بين العقل والدماغ؟ ما هو الوعي؟

اكتشف علماء البيولوجيا الجزيئية لَبِنات البناء الأساسية للحياة، لكن هذا لم يساعدهم في فهم الأفعال التكاملية الحيوية للمتعضيَّات الحية. ومنذ خمس وعشرين سنة، كتب أحد العلماء القادة في البيولوجيا الجزيئية، سِدْني برينِّر، التعليقات التالية:

يمكنك أن تقول، بطريقة ما، أن البحث البيولوجي الجزيئي والجيني للأعوام الستين الأخيرة يمثِّل فاصلة طويلة... أما وقد اكتمل ذلك البرنامج فقد دخلنا في دائرة مغلقة بالعودة إلى المشكلات التي خلَّفناها وراءنا دون حل. كيف يمكن للمتعضِّية المصابة أن تعيد تجديد البنية نفسها التي كانت لها من قبل؟ كيف تشكِّل البويضة متعضِّية؟... أعتقد أنه في غضون الأعوام الخمسة والعشرين القادمة سوف نضطر إلى تعليم علماء البيولوجيا لغة أخرى... لا أعرف بالضبط ماذا تدعى، ولا أحد يعلم ذلك أيضًا... قد يكون من الخطأ الاعتقاد بأن المنطق بأكمله يتوضع على المستوى الجزيئي. ربما نحتاج إلى المضي إلى ما هو أبعد من آليات الساعة.

منذ أن طرح برينِّر تعليقاته انبثقتْ بالفعل لغةٌ جديدة لفهم تعقيد المنظومات الحيَّة – أي المتعضِّيات والمنظومات الاجتماعية والمنظومات الإيكولوجية. والمفردات أو المفاهيم الأساسية لهذه اللغة الجديدة لفهم المنظومات المعقدة هي: الشواش, الجواذب، الفراكتالات، البُنى المبدِّدة، الانتظام الذاتي، إلخ.

في أوائل الثمانينات، ابتكرتُ أطروحة تؤلِّف بين هذه الاكتشافات الجديدة، نوعًا من الإطار التصوري من أجل فهم علمي للحياة. لقد طوَّرتُ هذا التأليف وعدَّلته على مدى عشر سنوات، وناقشتُه مع عدد كبير من العلماء، وطبعتُه مؤخرًا في كتابي الجديد: شبكة الحياة.

يشكِّل التراث الفكري للتفكير المنظوماتي ونماذج المنظومات الحية التي نشأت خلال العقود المبكرة للقرن العشرين الجذورَ التاريخية والمفهومية للإطار العلمي الجديد الذي طرحتُه. والواقع أن تأليفي، بما يحتويه من نماذج ونظريات راهنة، يمكن النظر إليه كخطوط عريضة لنظرية جديدة في المنظومات الحية آخذة في الظهور تدريجيًّا. إن ما ينبثق الآن في مقدمة العلم هو نظرية علمية متماسكة توفِّر، للمرة الأولى، رؤية موحَّدة للعقل والمادة والحياة.

بما أن الفَصْل الديكارتي بين العقل والمادة قد هيمن على المجتمع الصناعي الحديث الذي ساده الأنموذج الإرشادي الميكانيكي طوال ثلاثمائة عام، فإن هذه الرؤية الجديدة التي تغلَّبت أخيرًا على الفَصْل الديكارتي لن تكون لها نتائج علمية وفلسفية بالغة الأهمية فحسب، بل أيضًا تزخر بمضامين عملية هائلة. إنها ستغير الطريقة التي نرتبط بها بعضنا مع بعض ومع بيئتنا الطبيعية الحية، والطريقة التي نتعامل بها مع شؤوننا الصحية، والطريقة التي نتصور بها مؤسَّساتنا العاملة، ومنظوماتنا التربوية، والكثير من معاهدنا ومؤسَّساتنا السياسية والاجتماعية.

وعلى وجه الخصوص، سوف تساعدنا هذه الرؤية الجديدة للحياة على بناء وتعزيز مجتمعات مستدامة – هذا التحدي العظيم لزماننا – لأنها سوف تساعدنا على فهم كيف أن المنظومات الإيكولوجية – المجتمعات الطبيعية للنباتات والحيوانات والمتعضِّيات المجهرية – نظَّمت ذاتها بطريقة تبلغ باستدامتها الإيكولوجية حدَّها الأقصى. ينبغي أن نتعلَّم الكثير من حكمة الطبيعة هذه؛ ولكي نقوم بهذا ينبغي أن نحصِّل ثقافة إيكولوجية. نحتاج أن نفهم المبادئ الأساسية للإيكولوجيا، لغة الطبيعة. إن الإطار الجديد الذي أقدِّمه في كتابي يبيِّن أن هذه المبادئ الإيكولوجية هي أيضًا المبادئ الأساسية للتنظيم في المنظومات الحية كافة. لذلك فإنني أعتقد أن "شبكة الحياة" تزودنا بأساس مكين للفكر والممارسة الإيكولوجيين.

انبثاق التفكير المنظوماتي

أود أن أبدأ هذه الخلاصة بإطلالة موجزة على تراث التفكير المنظوماتي. لقد انبثق التفكير المنظوماتي خلال عقد العشرينات، بشكل متزامن في ثلاثة ميادين مختلفة: البيولوجيا العضوية، وعلم نفس الغشتالت، والإيكولوجيا. استكشف العلماء في هذه الميادين الثلاثة جميعًا المنظومات الحية، أي الكلِّيات المتكاملة التي لا يمكن اختزال خصائصها إلى خصائص أجزائها الصغيرة. تشمل المنظوماتُ الحية المتعضِّياتِ المفردةَ وأجزاء المتعضِّيات ومجتمعات المتعضِّيات، من نحو المنظومات الاجتماعية والمنظومات الإيكولوجية. تمتدُّ المنظومات الحية على مدى واسع جدًا؛ لذا فإن التفكير المنظوماتي، بطبيعته، مقاربة بينمناهجية أو لنقل بشكل أفضل "عبرمناهجية".

منذ بداية البيولوجيا الحديثة، أدرك العلماء والفلاسفة أن شكل المتعضِّية الحية هو أكثر من هيئة، أو أكثر من توضيع سكوني للعناصر في كلٍّ ما. وقد عبَّر أوائل مفكِّري المنظومات عن هذا الإدراك بالعبارة الشهيرة: "الكلُّ أكثر من مجرد مجموعٍ لأجزائه."

لقد تصارع علماء النفس والبيولوجيا طوال عدة عقود والسؤالَ التالي: بأيِّ معنى بالضبط يكون الكلُّ أكثر من مجرِّد مجموعٍ لأجزائه؟ في ذلك الحين، كان ثمة سِجالٌ عنيف بين مدرستين في التفكير: المذهب الميكانيكي والمذهب الحيوي. يقول مفكِّرو المذهب الميكانيكي: "الكل ليس سوى مجموع أجزائه؛ وكلُّ الظواهر البيولوجية يمكن تفسيرها بواسطة قوانين الفيزياء والكيمياء." لم يوافق مفكِّرو المذهب الحيوي على هذه الدعوى وذهبوا إلى ضرورة إضافة كينونة غير مادية – قوة حيوية أو مجال – إلى قوانين الفيزياء والكيمياء لتفسير الظواهر البيولوجية.

ولدت البيولوجيا العضوية، كطريق ثالث، من رحم هذه المناظرة. عارض علماء البيولوجيا العضوية كلاً من المذهب الحيوي والمذهب الميكانيكي. وقد وافقوا على أنه ينبغي إضافة شيء ما إلى قوانين الفيزياء والكيمياء لكي نفهم الحياة؛ لكن هذا الشيء، وفق نظرتهم، لم يكن كينونة جديدة، بل معرفةٌ لتنظيم المنظومة الحية، أو كما يقولون عادة: "علاقات التنظيم".

قام علماء البيولوجيا العضوية بصياغة الرؤية المنظوماتية للحياة لأول مرة. وقد تبنَّت الرأي القائل بأن خصائص المنظومة الحية هي خصائص الكلِّ التي لا يحوزها أيٌّ من أجزائه. تنبثق هذه الخصائص من التفاعلات والعلاقات بين الأجزاء؛ وتتخرب هذه الخصائص عندما يتم تشريح المنظومة، سواء ماديًّا أم نظريًّا، إلى عناصر معزولة. وعلى الرغم من أننا نستطيع أن نتبيَّن أجزاء مفردة في أية منظومة فإن هذه الأجزاء ليست معزولة، وطبيعة الكلِّ تكون دومًا مختلفة عن مجرَّد مجموع أجزائه. ولقد استغرق الأمر سنوات كثيرة كي يُصاغ هذا التبصُّر بوضوح؛ وقد طُوِّرَ الكثير من المفاهيم الأساسية إبان هذه الحقبة.

أثرى العلمُ الجديد – الإيكولوجيا – الذي انطلق في العشرينات انبثاق الطريقة المنظوماتية في التفكير بإدخال مفهوم هامٍّ جدًّا هو مفهوم الشبكة. فمنذ بداية الإيكولوجيا نُظِرَ إلى المجتمعات الإيكولوجية باعتبارها مؤلَّفة من متعضِّيات يترابط بعضُها مع بعض بأسلوب شبكي من خلال علاقات التغذية. في البداية، صاغ علماء الإيكولوجيا مفاهيم سلاسل ودورات الغذاء؛ وتوسَّعت هذه المفاهيم سريعًا إلى المفهوم المعاصر حول شبكة الغذاء.

"شبكة الحياة"، بالطبع، فكرةٌ قديمة استخدمها الشعراء والفلاسفة والصوفيون عبر العصور لكي ينقلوا إحساسهم بالتواشُج والتواكُل بين الظواهر كافة. وعندما برز مفهوم الشبكة أكثر فأكثر، بدأ مفكِّرو المنظومات باستخدام نماذج الشبكة على مستويات المنظومات كافة، ناظرين إلى المتعضِّيات كشبكات من الأعضاء والخلايا، تمامًا كما فُهِمَتْ المنظومات الإيكولوجية كشبكات من المتعضِّيات المفردة. لقد قاد هذا إلى التبصُّر الأساسي الذي يقول بأن الشبكة هي نموذج مشترك بين أشكال الحياة كافة: فحيثما تكون الحياة نجد الشبكات.

خصائص التفكير المنظوماتي

سألخص الآن بعض الخصائص الأساسية للتفكير المنظوماتي. المنظومات الحية كلِّيات متكاملة؛ لذا فإن التفكير المنظوماتي يستلزم نقلة في المنظور من الأجزاء إلى الكل. الكلُّ هو أكثر من مجرَّد مجموع أجزائه؛ وهذا الأكثر هو العلاقات. لذا فإن التفكير المنظوماتي هو تفكير بلغة العلاقات. تتطلب النقلة في المنظور من الأجزاء إلى الكل نقلةً في التركيز من الأشياء إلى العلاقات.

ليس من السهل علينا فهم العلاقات لأنه أمرٌ يعاكس المشروع العلمي التقليدي للثقافة الغربية. فلطالما أخبرنا العلمُ أن الأشياء تحتاج إلى القياس والوزن؛ لكن العلاقات لا تُقاس ولا توزَن، بل تحتاج لأن تُخطَّط [تُصوَّر]. لذا فثمة نقلة هنا أيضًا من القياس إلى التخطيط [الخطاطة].

عندما تخطَّط العلاقات نلاحظ أن تشكيلات محدَّدة تتكرَّر. ذلك ما ندعوه النموذج. النماذج تشكيلاتٌ من العلاقات تعاوِد الظهور مرَّة بعد مرَّة. إذن، تقود دراسة العلاقات إلى دراسة النماذج؛ لذلك يقتضي التفكير المنظوماتي نقلة في المنظور من المضامين إلى النماذج.

أكثر من ذلك، ليس تخطيط العلاقات ودراسة النماذج مقاربة كمية بل كيفية. وبالفعل، ففي الرياضيات الجديدة حول التعقيد يُستخدَم الآن "التحليل الكيفي" كمصطلح تقني جديد. لذلك يتضمَّن التفكير المنظوماتي نقلة من الكمية إلى الكيفية.

أخيرًا، تهتم دراسة العلاقات ليس فقط بالعلاقات التي بين مكوِّنات المنظومة فحسب، بل بالعلاقات بين المنظومة ككل والمنظومات الأوسع المحيطة بها. هذه العلاقات بين المنظومة وبيئتها هي ما نعنيه بمصطلح السياق. إن كلمة "سياق" تتضمن فكرة الشبكة، وهي ربما الأكثر ملاءمة لوَسْمِ التفكير المنظوماتي في مجمله. التفكير المنظوماتي "تفكير سياقي".

ثمة جديلة أخرى للتفكير المنظوماتي سأعود إليها لاحقًا: إنها التفكير بلغة السيرورات التي انبثقت لاحقًا نوعًا ما. لذلك، يعني التفكير المنظوماتي تفكيرًا سياقيًّا وسيروريًّا.

نظريات المنظومات الكلاسيكية

نشأت المفاهيم الأساسية للتفكير المنظوماتي خلال عقدي العشرينات والثلاثينات. ثم شهدت الأربعينات صياغة نظريات المنظومات الفعلية. ويعني هذا أن مفاهيم المنظومات تكاملت في أُطُر نظرية متماسكة تصف مبادئ التنظيم في المنظومات الحية. وهذه النظريات، التي أدعوها "نظريات المنظومات الكلاسيكية"، تشمل نظرية المنظومات العامة والسبرانية.

صيغت نظرية المنظومات العامة في الأربعينات على يد لودفِغ فون برتالانفي، عالم البيولوجيا النمساوي، الذي شرع في تبديل الأسس الميكانيكية للعلم وإحلال الرؤية الكلانية مكانها. اعتقد برتالانفي، كغيره من علماء البيولوجيا العضوية، أن الظواهر البيولوجية تتطلب طريقة جديدة في التفكير. وكان هدفه بناء "علم عام للكلانية" كفرع رياضيات شكلاني.

من وجهة نظري، كان الإسهام الأعظم لبرتالانفي هو مفهوم "المنظومة المفتوحة"، كتمييز أساسي بين الظواهر البيولوجية والفيزيائية. فقد تميَّزَ أن المنظومات الحية هي منظومات مفتوحة؛ وهذا يعني أنها تحتاج أن تُلقَّم بدفق مستمر من المادة والطاقة من بيئتها لكي تبقى على قيد الحياة.

تحافظ هذه المنظومات المفتوحة على نفسها في حالة من الاستقرار بعيدة عن التوازن، متَّسمة بالدفق والتغير المستمر. أبدع برتالانفي مصطلح "التوازن الجاري" لكي يصف حالة التوازن الديناميِّ هذه. وقد أقرَّ بأن مثل هذه المنظومات المفتوحة لا يمكن وصفُها بواسطة الترموديناميكا الكلاسية التي كانت آنذاك النظرية المتاحة حول المنظومات المعقَّدة؛ وقد أعلن أن ثمة حاجة إلى ترموديناميكا جديدة تبحث في المنظومات المفتوحة كي يتيسَّر وصفُ المنظومات الحية.

أسَّست هذه المفاهيم للتفكير المنظوماتي كحركة علمية رئيسية. وبالإضافة إلى ذلك فإن تشديده على التدفق وعلى التوازن الجاري قدَّم التفكير المنظوماتي كمظهر جديد وهام للفكر المنظوماتي. لم يكن باستطاعة برتالانفي أن يدوِّن الترموديناميكا الجديدة للمنظومات المفتوحة الذي كان يبحث عنه لأنه افتقر إلى الرياضيات المناسبة لهذا الغرض. وبعد ثلاثين عامًا، سدَّ إيليا بريغوجين هذا الثغرة مستخدِمًا رياضيات التعقيد التي صيغت في غضون ذلك.

صاغت السبرانية – وهي النظرية الأخرى حول المنظومات – مجموعةٌ بينمناهجية تضم عددًا من العلماء، بمن فيهم عالما الرياضيات نوربرت فينر وجون فون نويمان، وعالم الأعصاب وورن ماكالوخ، وعالما الاجتماع غريغوري بيتسون ومارغريت ميد.

وسرعان ما أصبحت السبرانية حركة فكرية قوية، تطورت بشكلٍ مستقلٍّ عن البيولوجيا العضوية ونظرية المنظومات العامة. كان التركيز الأساسي لدى علماء السبرانية مسددًا نحو نماذج التنظيم. وقد اهتموا، بالأخص، بنماذج الاتصال، خاصة في الدارات المغلقة والشبكات. وقد قادتْهم بحوثُهم إلى مفاهيم التغذية الراجعة والضبط الذاتي؛ وبعد ذلك إلى مفهوم الانتظام الذاتي.

يرتبط مفهوم التغذية الراجعة – أحد الإنجازات العظيمة للسبرانية – بشكل صميمي مع نموذج الشبكة. ففي شبكة ما، توجد حلقات ودارات مغلقة؛ وهذه الدارات قد تصبح دارات تغذية راجعة. إن دارة التغذية الراجعة ترتيبٌ دائري لعناصر مترابطة سببيًّا، يقوم فيها سببٌ ابتدائي بالانتقال على طول الدارة، بحيث إن كلَّّ عنصر يؤثر على الذي يليه، إلى أن "يغذِّي عكسيًّا" العنصرُ الأخير العنصرَ الأول في الدائرة.

تُعَدُّ ظاهرة التغذية الراجعة هامة إلى حدٍّ كبير لفهم المنظومات الحية؛ إذ بواسطة التغذية الراجعة تستطيع الشبكات الحية أن تضبط ذواتها وتنتظم. فمجتمع ما، على سبيل المثال، يمكن أن يضبط ذاته؛ إذ يستطيع أن يتعلَّم من أخطائه لأن الأخطاء سوف تنتقل، وتعود من بعدُ بواسطة دارات التغذية الراجعة. لذلك يستطيع المجتمع أن ينظِّم ذاته ويتعلَّم. وبسبب التغذية الراجعة نقول إن للمجتمع فطنته الخاصة وقدرته الخاصة على التعلُّم.

لذا فإن الشبكات والتغذية الراجعة والتنظيم الذاتي هي مفاهيم وثيقة الارتباط. والمنظومات الحية هي شبكات تمتلك خاصية الانتظام الذاتي.

الرياضيات الجديدة للتعقيد

آتي الآن إلى النقطة الأهم في عرضي التاريخي الموجز. هنالك حدٌّ فاصل في التفكير المنظوماتي بين نظريات المنظومات الكلاسية في الأربعينات ونظريات المنظومات الحية التي تطوَّرتْ منذ السبعينات حتى الآن. والمظهر الفارق لهذه النظريات الجديدة هو اللغة الرياضية الجديدة التي سمحت للعلماء، للمرة الأولى، بمعالجة التعقيد الهائل في المنظومات الحية رياضيًّا.

ينبغي أن نعلم أنه حتى أبسط المنظومات الحية، كخلية البكتريا مثلاً، هي شبكة عالية التعقيد تنطوي فعليًّا على آلاف التفاعلات الكيميائية ذات التواكُل المتبادل. وقد انبثقت جملة جديدة من المفاهيم والتقنيات للتعامل مع هذا التعقيد الهائل، وبدأت تشكِّل إطارًا رياضيًّا متماسكًا. إن نظرية الشواش والهندسة الفراكتالية هما فرعان مهمان من فروع رياضيات التعقيد الجديدة هذه.

والخاصية الجوهرية لهذه الرياضيات الجديدة تكمن في أنها رياضيات لاخطية. لقد تعوَّدْنا في العلم، حتى وقت متأخر، أن نتجنب المعادلات الخطية لأنها صعبة جدًّا على الحلِّ. مثلاً، إن الجريان الانسيابي للماء في نهر، حيث لا توجد دوَّامات، يوصف بواسطة معادلة خطية. ولكن عندما توجد صخرة في النهر يبدأ الماء بتشكيل دوامات ويصير مضطربًا. هناك دوامات وكافة أنواع الجَيَشان؛ فتوصف هذه الحركة المعقدة بواسطة معادلات لاخطية. تصبح حركة الماء معقدة إلى درجة تبدو معها شواشية تمامًا.

في عقد السبعينات امتلك العلماء، للمرة الأولى، حواسب قوية عالية السرعة ساعدتْهم في التصدِّي للمعادلات اللاخطية وحلِّها. وبعملهم هذا صمَّموا عددًا من التقنيات, نوعًا جديدًا من اللغة الرياضية، كشفتْ عن نماذج مثيرة جدًّا تستبطن ما يبدو سلوكًا عشوائيًّا للمنظومات اللاخطية، تستبطن النظام فيما يبدو شواشيًّا في الظاهر. وبالفعل فإن نظرية الشواش هي في الحقيقة نظرية عن النظام؛ لكنه نوع جديد من النظام لا يبدو للعين المجردة، بل يمكن كشفُه بواسطة هذه الرياضيات الجديدة.

عندما نقوم بحلِّ معادلة لاخطية بواسطة هذه التقنيات الجديدة لا تكون النتيجة صيغة حسابية بل شكلٌ بصري, نموذجٌ يرسمُه الحاسوب. لذلك فإن الرياضيات الجديدة هي رياضيات النماذج والعلاقات. إن ما يدعى "جواذب" أمثلة على هذه النماذج الرياضية؛ فهي تصوِّر ديناميَّات منظومة ما بواسطة أشكال بصرية مرئية.

في عقد السبعينات, ولَّد الاهتمام الكبير بالظواهر اللاخطية سلسلة كاملة من النظريات الجديدة والقوية التي تصف جوانب متنوعة من المنظومات الحية. وهذه النظريات، التي أناقشها بالتفصيل في كتابي، تؤلف عناصر تأليفي الخاص حول التصور الجديد للحياة.

تأليف جديد

لقد انتهيت إلى الاعتقاد بأن مفتاح نظريات شاملة للمنظومات الحية يكمن في الجمع بين مقاربتين حول فهمنا للطبيعة، طالما تنافستا عبر تاريخنا العلمي: الأولى دراسة النموذج (العلاقات, النظام, الكيف)؛ والأخرى دراسة البنية (المكوِّنات, المادة, الكم).

أصبح مفهوم "نموذج التنظيم" الموضوعَ المركزي للتفكير المنظوماتي. لقد عرَّف مفكِّرو المنظومات الأوائل بالنموذجَ على أنه تشكيل من العلاقات؛ وأقرَّ علماء الإيكولوجيا الشبكة باعتبارها النموذج العام للحياة؛ وقد تعرَّف السبرانيون إلى التغذية الراجعة بوصفها نموذجًا دائريًّا للروابط السببية. والرياضيات الجديدة للتعقيد ما هي إلا رياضيات النماذج البصرية.

لذلك، يبدو فهم النموذج ذا أهمية حاسمة من أجل فهم علمي للحياة. لكن ذلك ليس كافيًا. نحتاج أيضًا إلى فهم بنية المنظومة. ولكي أبين كيف تتكامل المقاربات حول البنية والنموذج سوف أعرِّف بهاتين المقاربتين بدقة أكثر.

إن نموذج التنظيم لأية منظومة، حية أو غير حية، هو تشكيل من العلاقات بين مكوِّنات المنظومة يحدِّد الخصائص الأساسية للمنظومة. بكلمات أخرى، ينبغي أن توجد علاقات محددة في شيء ما لكي يستطاع تمييزُه: مثلاً، كرسي أو دراجة أو شجرة. إن هذا التشكل من العلاقات الذي يمنح المنظومة خصائصها الأساسية هو ما أعني به نموذجَ تنظيمها.

سأعطي مثالاً على منظومة غير حية وهي الدراجة، لأن تطبيق الأمر على المنظومات غير الحية أيسر. إذا أخذتُ أجزاء الدراجة كلَّها – السرج، المقود، الإطار، العجلتين، الدواستين، إلخ – ووضعتُها مكوَّمة أمامك هنا سوف تقول حالاً: هذه ليست دراجة بل أجزاء الدراجة. فكيف أحوِّلها إلى دراجة؟ بوضعها بعضها مع بعض وفق ترتيب معين! هذا النظام، هذا التشكيل من العلاقات بين الأجزاء، هو ما أدعوه نموذج التنظيم.

من أجل وصف نموذج تنظيم الدراجة أستطيع أن أستعمل لغة العلاقات المجردة. ولا حاجة لي إلى إعلامك فيما إذا كان الإطار مصنوعًا من الحديد الثقيل أو الألمنيوم الخفيف، وما هو نوع المطاط الداخل في تصنيع العجلتين، إلخ. بعبارة أخرى، فإن المواد الفيزيائية ليست جزءًا من توصيف نموذج التنظيم؛ إذ هي جزء من توصيف البنية، التي أعرِّف بها بوصفها التجسيد المادي لنموذج تنظيم المنظومة.

وبينما يستلزم توصيف نموذج التنظيم تخطيطًا مجردًا للعلاقات فإن توصيف البنية يقتضي توصيف المكوِّنات المادية الفعلية للمنظومة – أشكالها، تركيبها الكيميائي، إلخ.

طيب، هذا سهل جدًا في حالة الدراجة. يمكننا أن نصوِّر نموذج تنظيمها ونرسم مخططًا له؛ يمكننا أن نحصل على المواد الفعلية ونبني الدراجة وفق مخططنا التصميمي؛ وبعدها ستقف الدراجة أمامنا فحسب، لكنها لن تستطيع أن تفعل شيئًا يُذكَر من تلقاء ذاتها.

أما في المنظومة الحية فتكون الحالة مختلفة تمامًا: إذ تتضمن كلُّ منظومة حية آلاف السيرورات الكيميائية المترابطة؛ ويكون ثمة دفق لا يتوقف من المادة. هناك نشوء ونمو وتطور. ومنذ بدايات البيولوجيا، كان فهم البنية الحية غير منفصل عن فهم السيرورات الاستقلابية وسيرورات النمو.

تقترح هذه الخاصية المثيرة في المنظومات الحية أن تكون السيرورة هي المعيار الثالث من أجل وصف شامل للحياة. إن سيرورة الحياة هي الفعالية المتضمنة في التجسيد المستمر لنموذج تنظيم المنظومة. وبذلك يكون معيار السيرورة هو الرابط بين النموذج والبنية.

يكمِّل معيار السيرورة الإطار المفهومي لتأليفي. والمعايير الثلاثة متواكلة تمامًا. يمكن إدراك نموذج التنظيم فقط عندما يتجسَّد في بنية مادية؛ وهذا التجسيد هو سيرورة مستمرة في المنظومات الحية. يمكن أن نقول إن المعايير الثلاثة – النموذج والبنية والسيرورة – ثلاثة منظورات مختلفة، لكنها غير منفصلة، للنظر إلى ظاهرة الحياة. إنها تشكل الأبعاد المفهومية الثلاثة لتأليفي.

ما يعنيه هذا هو أنه لكي نعرِّف بمنظومة حية، أو بكلمات أخرى، لكي نجيب عن سؤال شرودنغر "ما هي الحياة؟"، ينبغي في الواقع أن نجيب عن ثلاثة أسئلة: ما هي بنية المنظومة الحية؟ ما هو نموذج تنظيمها؟ ما هي سيرورة حياتها؟ وسأقوم الآن بالإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة.

البنى المبدِّدة (بنية المنظومة الحية)

وصف إيليا بريغوجين بالتفصيل بنية المنظومة الحية وذلك في نظريته حول البنى المبدِّدة. ومثله كمثل لودفِغ فون برتالانفي، نظر بريغوجين إلى المنظومات الحية كمنظومات مفتوحة قادرة على حفظ سيروراتها الحياتية ضمن شروط من عدم التوازن. تتميز المتعضِّية الحية بدفق مستمر وتغيُّر في الاستقلاب الذي يتضمن آلاف التفاعلات الكيميائية. ويحدث التوازن الكيميائي والحراري عندما تخمد هذه السيرورات. بكلمات أخرى، فإن المتعضِّية المتوازنة متعضِّية ميتة. تحافظ المتعضِّيات على ذواتها باستمرار في حالة بعيدة عن التوازن؛ وهذه هي حالة الحياة. وعلى الرغم من أن هذه الحالة مختلفة جدًّا عن التوازن إلا أنها مستقرة: إذ يُحافَظ على البنية الإجمالية نفسها على الرغم من الدفق المستمر والتغير في المكوِّنات.

دعا بريغوجين المنظومات المفتوحة التي تصفها هذه المنظومة بـ"البنى المبدِّدة" لكي يشدِّد على التفاعل الوثيق بين البنية، من جهة، والتدفق والتغير (أو التبدُّد)، من جهة ثانية.

ووفقًا لنظرية بريغوجين، لا تحافظ البنى المبدِّدة على ذواتها في حالة مستقرة بعيدًا عن التوازن فحسب، بل يمكنها حتى أن تتطور: فعندما يزداد دفق المادة والطاقة عبرها، قد تجتاز هذه المنظوماتُ نقاطَ اللااستقرار وتحوِّل ذاتها إلى بنى جديدة ذات تعقيد أكبر. وهذه الظاهرة – ظاهرة الانبثاق التلقائي للنظام – تُعرَف أيضًا بـالانتظام الذاتي. إنها أساس النشوء والتعلُّم والتطور.

الصنع الذاتي

سأتحوَّل الآن إلى المنظور الثاني حول طبيعة الحياة – منظور النموذج. إن نموذج التنظيم في منظومة حية هو شبكة العلاقات التي تكون وظيفةُ كلِّ مكوِّنٍ فيها هي تحويل واستبدال المكوِّنات الأخرى في الشبكة. وقد سمَّى هومبرتو ماتورانا وفرانسسكو فاريلا هذا النموذج بـ"الصنع الذاتي". فالشبكة "تصنع ذاتها" باستمرار؛ إنها تُنتَج بواسطة مكوِّناتها وتقوم بدورها بإنتاج مكوِّناتها.

الإدراك - سيرورة الحياة

أتحول الآن إلى البعد الثالث في الإطار المفهومي لتأليفي – أي المظهر السيروري. إن فهم سيرورة الحياة ربما يكون الجانب الأكثر ثورية في النظرية المنبثقة حول المنظومات الحية، بما أنها تستلزم مفهومًا جديدًا للعقل أو الإدراك. اقترح هذا المفهوم غريغوري بيتسون وقام بتوسيعه ماتورانا وفاريلا، وهو يُعرَف الآن بنظرية سانتياغو في الإدراك.

إن التبصُّر المركزي في نظرية سانتياغو هو المطابقة بين الإدراك، أي سيرورة المعرفة، وبين سيرورة الحياة. الإدراك، وفقًا لماتورانا، هو فعالية متضمنة في التنظيم الذاتي والاستمرار الذاتي للشبكات الحية. بكلمات أخرى، الإدراك هو السيرورة الحقيقية للحياة. لقد كتب ماتورانا: "المنظومات الحية هي منظومات إدراكية؛ والحياة كسيرورة هي سيرورة إدراك."

من الواضح أننا نتعامل هنا مع توسيع جذري لمفهوم الإدراك، وضمنيًّا، لمفهوم العقل. في هذه النظرة الجديدة يشتمل الإدراك على السيرورة الإجمالية للحياة، بما فيها الإدراك الحسي والعاطفة، والسلوك – ولا يتطلب بالضرورة دماغًا ومنظومة عصبية. في الميدان البشري، يتضمن الإدراكُ اللغةَ والفكرَ التصوري والوعي الذاتي وسائر صفات الوعي البشري.

أعتقد أن نظرية سانتياغو في الإدراك هي أول نظرية علمية تتغلب على الفصل الديكارتي بين العقل والمادة؛ وبذلك تنطوي على المضامين الأبعد مدى. لن يبدو المادة والعقل بعد الآن وكأنهما ينتميان إلى مقولتين منفصلتين، بل ينبغي النظر إليهما كمظهرين متكاملين يمثلان ظاهرة الحياة: المظهر السيروري والمظهر البنيوي. ففي مستويات الحياة كافة، بدءًا من أبسط خلية، يترابط بإحكام كلٌّ من العقل والمادة، السيرورة والبنية. العقل محايث للمادة الحية كما هي سيرورة الانتظام الذاتي. للمرة الأولى، صارت لدينا نظرية علمية توحِّد العقل والمادة والحياة.

  • في العام 1997 ألقى فريتيوف كابرا هذه المحاضرة بمناسبة الذكرى المئوية لولادة العالم النمساوي إروِن شرودنغر. يلخص كابرا في هذه المحاضرة تأليفه حول المنظومات الحية الذي نشره قبل عام من ذلك في كتابه شبكة الحياة The Web of Life.

علم الوراثة الإنجابي والإرشاد الوراثي من المنظرين العلمي والأخلاقي(3)

مشروع الجينوم البشري

لقد وصلت علوم الوراثة والأبحاث الخاصة بها إلى أبعاد غير مسبوقة في العقد الأخير. وكشف مشروع الجينوم البشري عن أن البنية الوراثية في الإنسان تتكون من ثلاثين ألفاً إلى أربعين ألفاً من الجينات. وأصبح الان في الإمكان توضيح الخلفية الوراثية لعديد من الأمراض والحالات . وعلى قدر ما هو معروف الآن في هذا المجال نستطيع أن نقول انه ليس في الإمكان رصد كل الجينات المسببة للأمراض الوراثية، ولكن أصبح في الإمكان تشخيص المزيد من الأمراض التي يسببها جين واحد؛ وذلك عن طريق استخدام تقنية سلسلة ردود الفعل لحافز البلمرة، أو أي تقنيات جزيئية وراثية أخرى. ومع التسليم بارتفاع تكاليف الفحص والعلاج لا ينبغي أن يكون ذلك عائقا عن الدفع بالأسرة المعنية نحو إجراء التشخيص قبل الولادة اذا كان المرض المقصود على درجة كبيرة من الخطورة.

(106)

وهناك مجموعة متنوعة من الاعتبارات لها أهمية خاصة عند التعامل مع هذه الاختراقات الوراثية الجديدة، منها الاعتبارات الأخلاقية والدينية والاعتبارات القانونية والنفسية - الاجتماعية والاقتصادية. كما أن هناك الاعتبارات الطبية والعلمية. إن ما أدى إليه مشروع الجينوم البشري من اكتشافات يتسع نطاقها يوما بعد يوم تبين ارتفاع أعداد الحالات المرضية أو الغير المرضية التي يمكن فحصها وإلقاء مزيد من الضوء على طبيعتها. وهذا يؤدي بالبشرية إلى مواجهة تحديات معقدة أخلاقية - دينية ونفسية اجتماعية.

وقد تساعد نظرة كلية شاملة لكيفية الاستفادة من مشروع الجينوم البشري في رسم الخطوط العريضة لهذه التحديات:

1ـ اكتشاف حالات مرضية حادة تؤثر على الجنين أو الطفل حديث الولادة وتشمل الأمثلة الثلاسيمية والأنيميا ذات الخلية المنجلية والتليف الحوصلي والهيموفيليا.. الخ، ولكنها لا تقتصر على هذه الحالات.

2- التشخيص قبل ظهور الأعراض: وهي الحالات المرضية التي قد تظهر لاحقا في حياة الإنسان ومنها الاكتئاب والفصام في الشخصية (الشيزوفرينيا) وأورام خبيثة معينة والأمراض ذاتية المناعة وأمراض القلب ومرض الزهايمر ومرض هانتجتن… الخ، وكثير من تفاصيل هذه الأمراض متغيرة وقد تؤثر بشكل كبير على تحديد طريق التعامل معها ونعرض هنا مثالا معروفا لهذا التغير.

يطلق مصطلح (اختراق) على قدرة جين معين على إحداث مرض ما. وعلى سبيل المثال فان سرطان الغدة الدرقية النخاعي له قدرة فائقة على الاختراق الى حد ان طفلا حديث الولادة ولديه هذا الجين تحديدا لابد وان يصاب بهذا

(107)

 النوع القاتل من السرطانات إن آجلا أو عاجلا في أثناء حياته. وتوصي كثير من السلطات الطبية حاليا باتخاذ إجراء وقائي يقضي باستئصال الغدة الدرقية في السنوات الأولى من الطفولة أو خلال سنوات المراهقة. ولا تطبق هذه الخاصية على بعض الأنواع الاخرى من السرطان مثل سرطان الثدي، حيث أن الجين المسبب له محدود القدرة على الاختراق. والتوصية الحالية لذلك مختلفة تماما. ومن مسالب الفحص لاكتشاف الأمراض التي يتأخر ظهورها أنها تمثل عبئا على الاستقرار يسبب له مرضا خطيرا في مستقبل حياته، وقد يؤدي ذلك إلى إحداث تغيرات في شخصية الفرد أو جنوح في حالته النفسية.

ومن جهة أخرى قد تكون بعض الأمراض الخطيرة المستقبلية قابلة للوقاية منها أو لتحسين أوضاعها أو التخفيف من آثارها وذلك بإتباع أسلوب معين للحياة عندما يحين وقت ظهور المرض أو بتغيير البيئة التي يعيش فيها الشخص أو بتطبيق وسائل خاصة للوقاية، ومن أمثلة هذه الأمراض السكري والتصلب التعصّدي وبعض أنواع السرطان.

3- الخصائص الجسمانية أو العقلية: كالطول أو لون البشرة أو العينين والذكاء.

مع هذه التطبيقات لعلوم الوراثة التي أصبحت في حيز الإمكان قد تتعرض الإنسانية لخطر الوقوع في قضية (تحسين النسل) إذ تتمكن طبقات معينة قادرة ماليا على استخدام هذه الاختراقات العلمية عالية التكاليف لاكتساب أوضاع جسمانية وعقلية متميزة حتى قبل ولادة الطفل. وقد يؤدي ذلك إلى اتساع هوة الفروق الاجتماعية بين الطبقات والأمم، حيث تضيف الطبقات المتميزة ثمرات العلم إلى ما اكتسبته قبل ذلك من ثروات ومزايا اجتماعية. وهناك إدراك عالمي لأهمية ترتيب الأولويات في هذه الجهود لطبقات الشعب

(108)

 العريضة، ولا ينبغي أبدا التضحية باحتياجات هذه الطبقات العريضة من اجل احتياجات طبقة محدودة.

صحيح أن تكاليف الفحص والتشخيص وضبط الامراض الوراثية عالية جدا، ولكن الواجب عمله هو تحديد أمراض وراثية معينة واسعة الانتشار والتركيز على تشخيصها وضبطها لفائدة المجتمع العريض وإعطاء ذلك أولوية قصوى.

تشخيص الأمراض الوراثية قبل حقن البويضة المخصبة في الرحم:

هذه التقنية لتشخيص الأمراض الوراثية عن طريق اختبار خلية أو خليتين من بويضة مخصبة عند مرحلة انقسامها إلى 6 و 8 خلايا (مرحلة البلاستومير). ويسمح هذا الإجراء بتجنب نقل الأجنة المصابة بأمراض وراثية معينة إلى داخل الرحم. وتتفوق هذه التقنية على التشخيص التقليدي قبل الولادة، الذي يتم عن طريق فحص عينات من سائل السلي أو الخمل المشيمي. كما تتميز هذه التقنية بتجنب قرار بإنهاء الحمل وهو قرار مكروه أخلاقيا.

وترصد تقنية التشخيص قبل الحقن أوجه الخلل في مولدات الخلايا الوراثية وفي الخلايا المندلية (التي يحددها قانون مندل الوراثي)، ولكنها تعجز

عن تشخيص التشوهات في تشكيل الجنين. وتنفرد هذه التقنية بتطبيقات أخرى منها:

1ـ التحديد المسبق لنمط مولدات المضادات من كريات الدم البيضاء يوفر تقنية وقائية تساعد على تجنب زرع أجنة مصابة بأمراض وراثية خطيرة. وقد تم حديثا استخدام هذه التقنية في علاج احد أخوات وليد منتظر يعاني من مرض خلقي أو مكتسب في نخاع العظام، ويتم علاج مثل هذه الحالات بنقل دم النخاع الشوكي من جنين غير مصاب بهذا المرض تضاهي مولدات المضادات

(109)

 عنده مثيلاتها عند أخيه أو أخته المصابة ويكون هذا الدم هو المصدر المطلوب للخلايا الجذعية المعالجة. وقد أصبح التشخيص قبل الحقن اختيارا معترفا به في عيادات أطباء الإنجاب. وقد أدى استخدام هذه التقنية إلى ولادة ما يربو على ألف من الأطفال الأصحاء في جميع أنحاء العالم.

2- التعرف على جنس الجنين وانتقائه:

نتمكن بهذه التقنية من الاقتصار على حقن الرحم بالأجنة الأنثوية في حالة الأزواج الذين يعانون من أمراض مرتبطة بجنس الجنين . وبإمكان هذه التقنية التعرف على الأجنة الذكورية الغير مصابة وكذلك الأجنة الأنثوية التي لا تحمل جينات المرض قبل الحقن في رحم الأم ويسهل على الزوجين عن طريق هذه التقنية اختيار جنس الجنين ولكن النتائج الأخلاقية المترتبة على ذلك لابد أن توضع موضع الاعتبار.

3- ومن الاستخدامات المستقبلية المحتملة لهذه التقنية علاج الجينات؛ حيث يمكن زرع جين صحيح مكان المريض إلا أن الأبحاث في هذا المجال مازالت في مراحلها الأولى.

رأي الشريعة الإسلامية في تطبيقات هذه التقنية

أولاً: اختيار جنس الجنين:

خضعت هذه القضية لمناقشات مستفيضة في ندوات علمية جمعت بين علماء الطب وعلماء الفقه الإسلامي، ويمكن تلخيص ما أجمعت عليه الآراء

فيما يلي:

لا يحرم التعرف في المختبر على جنس البويضة المخصبة (الجنين المضغي). وفيما يتعلق باختيار جنس الجنين فقد تضاربت الآراء . كان هناك

(110)

 إجماع من رجال الفقه على تحريم هذا الانتقاء إذا شاع استخدامه في المجتمع؛ لما قد يحدثه من خلل في التوازن بين الجنسين، ولكن بعض الفقهاء أباحوه في حالات فردية للوفاء باحتياجات خاصة ومحددة. وكان من رأي بعض الفقهاء أن كل حالة يجب أن تدرس على حدة في مجالس ملتزمة تضم علماء الطب والفتوى. وهناك إجماع على إباحة الانتقاء عملا بقاعدة الضرورات تبيح المحظورات وذلك إذا كان رأي الأطباء يجزم بان الجنين من جنس معين سوف يصاب بمرض وراثي خطير.

التشخيص قبل الحقن في الرحم والإرشاد الوراثي والانتقائية في الحمل

احتلت هذه القضايا مكانا بارزا في الندوات والمناقشات والإصدارات في العالم الإسلامي، شارك في هذا كله المتخصصون في الفقه الإسلامي والعلوم الطبية.

وكان آخرها سلسلة من الندوات في المستشفى الإسلامي بعمان في الأردن عقدتها الجمعية الإسلامية للدراسات الطبية. وفي هذه السلسلة تم الأخذ في الاعتبار بالأحكام الفقهية التي أصدرها علماء الفقه الآخرون في العالم الاسلامي، وفيما يلي بيان بضوابط الشريعة التي تمت المصادقة عليها:

السماح بـإجراء الاختبارات على الخلايا المنوية والبويضات بهدف تشخيص الأمراض الوراثية. وتنبغي مراعاة المعايير الأخلاقية الإسلامية عن طريق لجان أخلاقية تضم في عضويتها خبراء الطب وعلماء الفقه الإسلامي. وتتضمن هذه المعايير تحريم استخدام أساليب التلقيح المرفوضة، فالحصول على بويضات لمثل هذه الأبحاث يجب أن يتم لغرض مقبول أخلاقيا كأن تكون عينة البحث لها تاريخ معروف على المستوى الشخصي أو الأسري من المشاكل المتعلقة بالجنين (مثل الإجهاض المتكرر أو التشوهات الجينية أو أمراض وراثية معينة..

(111)

الخ) وينبغي على الفريق الطبي أن يضع مخاطر المشاكل الجينية وعدد مرات تواترها في كفة ومخاطر الإجراء نفسه في الكفة الاخرى قبل أن يقرر إجراء التشخيص قبل الولادة.

ثانياً: التلقيح الأنبوبي في المختبر (IVF)

أـ لا تعتبر البويضات الملقحة في المختبر أجنة بشرية إلا إذا أعيد زرعها في رحم الأم.

ب - يباح التجريب على هذه البويضات بهدف رصد الأمراض الوراثية في حدود الضوابط الشرعية المذكورة آنفا. وينطبق ذلك على الفائض من عمليات التلقيح الأنبوبي في المختبر.

ج - يباح للفريق الطبي عدم إعادة البويضة الملقحة إلى رحم الأم إذا تأكد من إصابتها بأمراض وراثية معينة.

د - يباح حقن البويضة الملقحة بجينات محدودة بهدف استبدالها بجينات مريضة لمنع الإصابة بمرض وراثي معين بشرط عدم تغيير الجينات الاخرى السليمة لانتقاء خصائص وراثية معينة كالطول ولون البشرة… الخ.

هـ - يباح اختبار البويضات الملقحة في المختبر بهدف التعرف على جنس الجنين. فإذا ثبت أن جنس الجنين يجعله أكثر استعدادا للإصابة بمرض وراثي معين يمكن للفريق الطبي أن يقرر عدم إعادة البويضة الملقحة إلى رحم الأم. هذا وقد اجمعت الآراء على تحريم اختيار جنس لأغراض أخرى.

الأمراض الوراثية وإنهاء الحمل

من القضايا التي استحوذت على اهتمام العديد من الندوات والإصدارات ما يأتي:

(112)

الأمراض الوراثية، والفحص قبل الزواج لرصد حاملي هذه الأمراض، والإرشاد الخاص بالمقبلين على الزواج، وحالات إنهاء الحمل. يجب الاهتمام بإرشاد المقبلين على الزواج وقضايا توعية الجماهير والبدائل الإنجابية في البلاد التي تنتشر فيها أمراض تضاؤل الصبغيات الجسدية مثل أمراض الهيموجلوبين والثلاسيمية والأمراض الأنزيمية وغيرها من أمراض الأيض الوراثية، خاصة في البلاد التي يسود فيها الزواج بين الأقارب. وتجدر الإشارة إلى ماتقوم المملكة العربية السعودية بتطبيقه منذ يناير 2004:

يتقدم المقبلون على الزواج للفحص بغرض رصد حاملي الأمراض الوراثية، وفي حالة ثبوت حملها للجين الذي يسبب احد أمراض تضاؤل الصبغيات الجسدية توفر لهما كل وسائل الإرشاد الوراثي، مع شرح كل الحقائق ذات الصلة والمخاطر المرتقبة والبدائل المتاحة. وإذا أصر الطرفان على المضي قدما في إتمام زواجهما فالقرار قرارهما، ولكن يعرض المرشد الوراثي البدائل الإنجابية ويناقشها معهما وتشمل هذه البدائل ما يلي:

1ـ التشخيص قبل حقن البويضة المخصبة في المختبر بمراكز التلقيح الاصطناعي.

2- التشخيص قبل الولادة: إجراء اختبارات محددة على الأم مع اختبارات خاصة على خلايا الجنين في العينات التي يتم سحبها من الخمل المشيمي أو سائل السّلي أو عينات من دم الجنين للتعرف على أي مشاكل وراثية وتأكيد التشخيص. ويمكن في حالة خطورة الحالة أن يناقش موضوع إنهاء الحمل مع الطرفين (وفق المعايير الشرعية).

الخصوصية وسرية المعلومات وقضايا حقوق الإنسان

تترتب على الكشف عن المعلومات المستقاة من البنية الوراثية للفرد أو

(113)

 التشخيص قبل الولادة أو قبل الحقن في الرحم نتائج بالغة الأهمية أخلاقية وأدبية، إذ يميل المجتمع إلى إتخاذ موقف سلبي من هؤلاء الذين تتنبأ لهم هذه المجتمعات بأمراض مستقبلية وتصبح هذه التنبؤات وصمة في حياتهم، وتقع كثير من الجهات كأصحاب الأعمال وشركات التأمين والإدارات الحكومية والمدارس في براثن هذه الوصمة ويمارسون التمييز ضد من تعرف عنهم مثل هذه التنبؤات . ومن السهل أن نتخيل كيف يمكن أن تسلك مؤسسة تجارية حيال شخص تقول التنبؤات الوراثية انه سوف يصاب بمرض خطير عند بلوغه سن الأربعين، هل سترغب أية مؤسسة للتأمين الصحي في التعامل مع مثل هذا الشخص؟

ومن ناحية أخرى، قد يسيء الأشخاص إستخدام المعلومات الوراثية التي تخصهم في إختيار أوقات معينة وتحديد قيمة معينة للتأمين الصحي عليهم. وقد يختار الذين لا يتوقعون الإصابة بمرض خطير ألا يهتموا أساسا بالسعي للحصول على بوليصة تأمين صحي. وعلى ذلك يمكن تخيل إنهيار صناعة التأمين. فمن الضروري بل والحتمي إذن العمل على الحفاظ على سرية هذه المعلومات الوراثية. ويجب على الحكومات والمؤسسات المعنية أن تتبنى لوائح تفصيلية وتشريعات صارمة لحماية حقوق الأفراد والعائلات في سرية المعلومات الخاصة بهم. وينبغي الإهتمام البالغ بالحصول على الموافقات الضرورية من الأشخاص الذين يهمهم الأمر قبل التفكير في الكشف عن المعلومات الوراثية الخاصة بهم.

وفي التراث الإسلامي، هناك ضمانات لسرية المعلومات، وهناك مواقف إستثنائية تدعو إلى إمكانية الكشف عن المعلومات ولكن تحكم هذه المواقف قواعد شرعية تتعلق بإختيار أخف الضررين لمنع الأذى. ويجب كذلك الحفاظ

(114)

 على حق الأفراد في إبلاغهم أو عدم إبلاغهم بموقفهم الطبي.

والخلاصة: أن نتائج الإختبارات الوراثية يجب إحترام سريتها، ولا يجب الكشف عنها إلا بموافقة صاحب الشأن أو عندما تبيح ذلك القواعد الشرعية.

ملاحظات ختامية

تعتبر علوم الوراثة في مجال الإنجاب من الإنجازات الحديثة نسبيا للطب الحيوي، وهي تبشر بإمكانات لا حدود لها في العناية بصحة البشر قد تؤدي إلى شفاء كثير من المعضلات الصحية، التي بليت بها الإنسانية، أو التخفيف من آثارها. وينبغي الإهتمام بما يترتب على تطبيقات هذه العلوم من نتائج أخلاقية - دينية، وإجتماعية وإقتصادية وعلمية والعمل على معالجة أسباب المخاوف الناشئة عنها. وتقع مسؤولية العمل على توعية الجماهير بمبادئ الوراثة الإنجابية وبالعلوم الوراثية بصفة عامة على واضعي السياسات الصحية وأعضاء المهن الطبية. وتمثل الندوات المشتركة بين المتخصصين في الطب والفقه حجر الزاوية في التصدي للقضايا المتعلقة بهذا الموضوع؛ بهدف التوصل إلى نتائج تضمن الإذعان للمقتضيات الأخلاقية والدينية دون وضع أية عراقيل أمام التقدم العلمي.

أنظمة غذائية حسب الحاجة(4)

نتعرض على امتداد أعمارنا إلى مزيج معقد من الـمُـرَكّبات الغذائية، حيث تؤدي العمليات الكيميائية الحيوية المعقدة إلى استخلاص الطاقة وعناصر مفيدة أخرى من الأغذية التي نتناولها حتى تتمكن أجسادنا من النمو وأداء الوظائف الحيوية المختلفة. ولقد بات العديد من الـمُـرَكّبات التي كانت تعتبر غير ذات أهمية في الماضي، تنال الاعتراف الآن باعتبارها ذات تأثير واضح على صحتنا. على سبيل المثال، قد تساعد الليكوبينات الناتجة عن طهي صلصة الطماطم على منع الإصابة بسرطان البروستاتا.

والحقيقة أن الجميع يعرفون أن الطعام قد يكون ذا تأثير إيجابي أو سلبي على الصحة. وقد لا يستطيع الطعام أن يؤدي إلى شفاء أي مرض بعينه، لكن الأنظمة الغذائية الغنية بالفواكه والخضراوات، والحبوب والزيوت المستخلصة من النبات توفر الحماية من العديد من أنواع السرطانات، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والأمراض الأخرى المرتبطة بالتقدم في العمر. ولكن هناك مشكلة مشتركة تواجه العلماء ومستهلكي الطعام على السواء، ألا وهي أن الفوائد الناجمة عن الأغذية ليست متماثلة لدى الجميع.

لذا يتعين علينا أن نفهم كيف يتفاعل ما نتناوله من أغذيه مع أجسادنا ـ أو على وجه الدقة، مع جيناتنا الوراثية ـ بحيث يؤثر على صحتنا. وهذا يسمى بعلم المورثات الغذائية. وتتلخص الغاية بعيدة الأمد من علم المورثات الغذائية في تحديد كيفية استجابة جسم الإنسان بالكامل للغذاء باستخدام ما يسمى بـِ "بيولوجيا الأنظمة".

كل خلية في جسمك (باستثناء خلايا الدم الحمراء الناضجة) ـ هناك حوالي 50 تريليون خلية في جسم الإنسان البالغ ـ تحتوي على نسخة من حمضك النووي (DNA)، وهي تلتف بإحكام بحيث تؤلف 46 حزمة منفصلة تدعى الكروموسومات. ويتم تخزين هذه الكروموسومات في قلب الخلية (نواتها)، وهناك 22 زوجاً متماثلاً منها، يرجع واحد من كل زوج منها إلى والدك والآخر إلى والدتك، علاوة على كروموسوم (س) من والدتك،

أو كروموسوم (س) أو (ص) من والدك؛ وإذا اجتمع الكروموسومين (س) و(س) فإن هذا يجعل منك أنثى، وإذا ما اجتمع الكورموسومين (س) و(ص) كنت ذكراً.

يُـخَـزِن الحمض النووي المعلومات الحيوية الخاصة بالنمو، وإصلاح، وإحلال، وتصحيح عمل الخلايا في أجسامنا. وهو يحتوي على خيطين ـ يتكونان من الفوسفات والسكر ـ وعلى طول كلٍ من هذين الخيطين تلتصق أربعة مُـرَكّبات فريدة (تشكل قواعد الحمض النووي). وهناك حوالي ثلاثة مليارات قاعدة، ويشكل التتابع الذي تظهر به هذه القواعد كودنا الوراثي أو الجينوم البشري.

وداخل الكود الوراثي توجد من 30 ألف إلى 40 ألف منطقة عالية التنظيم تسمى الجينات أو المورثات. والجين هو الوحدة الأساسية للوراثة، وما لم تكن توأماً متماثلاً فإن تركيبة الجينات التي ورثتها من والديك هي تركيبة فريدة لا مثيل لها. والجينات التي يحتوي عليها جسمك تحدد بنيتك الوراثية. والنتاج الحاصل عن هذا، كلون العين على سبيل المثال، هو الذي يشكل هيئتك الفيزيائية.

نستطيع استخدام البنية الوراثية في تحديد الجينات التي تمتلكها، لكننا لا نستطيع أن نستعين بها دوماً في تحديد هيئتك الفيزيائية. إن توريث بعض الخواص، مثل لون العين، مسألة بسيطة. لكن غالبية الهيئات الفيزيائية نتاج لتفاعلات معقدة متعددة الجينات، وتشارك في تحديدها البيئة، والخيارات التي نستقر عليها لأسلوب حياتنا. وهذا يتضمن خطر التعرض لمجموعة من الأمراض المرتبطة بالعمر.

ترمز الجينات إلى البروتينات، أو الشغالة التي تعمل داخل جسم كلٍ منا، وهي ليست مصنوعة من الحمض النووي على نحو مباشر، لأنها لا تتحدث نفس اللغة. ويعمل الشريط النووي الوراثي (RNA) كمترجم في عملية تسمى "النسخ" (أو قراءة الجينات). وتؤدي عملية الترجمة من الشريط الوراثي إلى تكوين بروتينات ثلاثية الأبعاد مؤلفة من تركيبات مختلفة من الأحماض الأمينية الـ 22 الأساسية ـ وهي أساسية فقط لأن أجسامنا غير قادرة على تصنيعها، ومن هنا فلابد من الحصول عليها من خلال أنظمتنا الغذائية. وتعمل البروتينات الناتجة وكمياتها وخصائصها مجتمعة على تشكيل البروتيوزات أو إنزيمات تحليل البروتينات، وتعمل أنشطة هذه الإنزيمات، بمصاحبة أو استجابة لإشارات صادرة من داخل الجسم أو من خارجه، على تشكيل وتنظيم تمثيلنا الغذائي.

لقد بلغ علم المورثات الغذائية حداً من التعقيد لم يعد بوسع باحثي التغذية معه أن يعملوا بمفردهم. وباتت مشاركة أصحاب الخبرات في مجموعة متنوعة من المجالات المختلفة ـ علم الأحياء الجزيئي والخلوي، والرياضيات والإحصاء، والتغذية والأنظمة الغذائية، وكيمياء الأغذية، والعلوم الاجتماعية ـ أمراً جوهرياً لازماً لتحقيق التقدم في هذا المجال.

حتى وقتنا الحاضر، اتحدت 22 مجموعة رائدة لإنشاء المنظمة الأوروبية لعلوم المورثات الغذائية، والتي تتولى المفوضية الأوروبية تمويلها. وتوفر هذه المنظمة لأفضل الباحثين وعلماء من منظمات وهيئات تتنافس عادة من أجل الحصول على التمويل اللازم، أول فرصة حقيقية للعمل معاً. وعلى الرغم من المصاعب الناجمة عن الرطانة المهنية، والبنية التنظيمية، والمسافات المتفاوتة بين التخصصات المختلفة، إلا أن الفوائد الناجمة عن التكامل بين المؤسسات العاملة في حقل علم المورثات الغذائية ومجالات خبراتها المختلفة تؤدي إلى معادلة تلك المصاعب والتغلب عليها لتضمن بذلك الاستغلال التعاوني الأمثل للمعرفة وتطبيقاتها في مجال أبحاث التغذية.

إن علم المورثات الغذائية لا يمثل كنـزاً مقدساً بالنسبة للمهتمين بالتغذية، لكنه أيضاً لا ينبغي أن يكون حكراً على قلة من الأثرياء الذين يستطيعون تحمل تكاليف المنتجات الغذائية الجديدة حين تصبح متاحة. لقد أدى تحديد بنية الحمض النووي وتتابع سلسلة الجينوم البشري إلى ثورة في عالم الأحياء والطب. كما قادنا إلى خلق تخصصات جديدة وزاد من عمق فهمنا للأمراض. لكن مثل هذه المعارف نادراً ما تسمح لنا بالسيطرة على النتائج ـ أو الوقاية بدلاً من العلاج. والحقيقة أننا وقد دخلنا إلى القرن الواحد والعشرين ما زلنا عاجزين عن إيجاد وصف للصحة غير الخلو من المرض.

ولكن مع تقنيات اليوم الحديثة نستطيع تعريف الصحة فيما يتصل بأشكال التعبير الجيني، وإنتاج البروتين، واستجابة عمليات التمثيل الغذائي. كما أن تطبيق علم مورثات التغذية على علوم التغذية من شأنه أن يسمح لنا بأن نفهم، بل وربما الأهم من ذلك، أن نستغل استجاباتنا الفردية للأغذية المتاحة بهدف تحقيق النفع لصحة أجسامنا.

قد يعني هذا لبعض الناس المزيد من الاختبارات الوراثية المكلفة والأنظمة الغذائية المصممة حسب الحاجة، لكنه في نظر أغلب الناس يعني نصيحة واقعية مستندة إلى هيئات فيزيائية مرئية يمكن إقامة الدليل عليها ـ كالميل إلى اكتساب الوزن على سبيل المثال، أو الحساسية لأنماط معينة من الأطعمة. وفي المقام الأول فإن علم مورثات التغذية يحمل لنا وعداً بتوفير حياة مستقلة تتسم بالصحة، وهي غاية غالية يتمنى كل منا أن يدركها حين يتقدم به العمر.

دكتور سيان آستلي عالم بحثي بمعهد بحوث الطعام، بمستعمرة متنـزه نورويتش البحثي في نورويتش بالمملكة المتحدة.

الاسلام وتزاوج الأقارب والأباعد(5)

 لكي نعرف كيف تتم الوراثة نوضح ان في كل خلية من خلايا الجسم عدد ثابت من أجسام صغيرة تسمى كروموسومات، تحمل بدورها أجزاء دقيقة، وبترتيب خاص، تسمى العوامل الوراثية، هذه العوامل الوراثية هي المسؤولة عن الصفات التي تظهر في الانسان وفي أجياله القادمة.

وهنا يتساءل القارئ عن علاقة ذلك بالناحية الوراثية فأقول له ان هذه الكروموسومات ما هي إلا الجسر الذي تنتقل عليه صفات النوع من جيل إلى جيل. وعلى هذه الكروموسومات عوامل وراثية تنتج الصفات الوراثية، سواء كانت جسمانية أو عقلية. والعامل الوراثي عبارة عن كمية خاصة من كروماتين الكروموسوم له موضع خاص ثابت على الكروموسوم. ولكل صفة عاملان مصدر أحدهما الأم والثاني مصدره الأب، يجتمعان ويصبحان زوجاً في الطفل وهذان العاملان الوراثيان يشغلان نقاطاً متقابلة على كل زوج من أزواج الكروموسومات. عامل على كروموسومة جاءت إليه من أمه، وعامل مقابل له على كروموسومة جاءت إليه من أبيه.

وقد يكون تأثير العامل الوراثي أو (الجين) خافياً أو مستتراً وكامناً، فيطلق عليه في هذه الحال بالعامل الوراثي الكامن أو السجين أو المتنحي، وعلى الصفة التي ينتجها بالصفة الكامنة أو المتنحية أو السجينة. وإذا وجد العامل المسيطر (السائد) تظهر الصفة السائدة المسيطرة، وتختفي الصفة المتنحية أو الكامنة أو السجينة فنجد في الانسان مثلاً لون العين البنية صفة سائدة مسيطرة، تسود وتسيطر على صفة اللون الأزرق في العين.

فإذا تزوج أب يحمل عاملين يعطيان اللون الأزرق في العين بأم تحمل عاملين يعطيان اللون البني في العين (وهو اللون المسيطر السائد) فإن البويضة عند الأم تحتوي على نصف عدد الكروموسومات وعلى عامل يعطي اللون البني في العين. أما الحيوان المنوي للأب فإنه يحوي على نصف الكروموسومات وعلى عامل يعطي لون العين الأزرق.

وعند اندماج الحيوان المنوي بالبويضة يتكون الزيجوت حاملاً عاملين وراثيين الأول جاءت به البويضة، وهو عامل اللون البني، والثاني جاء به الحيوان المنوي وهو عامل اللون الأزرق وما دام عامل اللون البني في العين هو المسيطر فإن صفة اللون الأزرق تكمن ولا تظهر في أبناء هذين الأبوين الذين نرى أعينهم جميعاً بنية اللون. وهي وإن كانت بنية اللون في الظاهر إلا أنها تحوي عامل اللون الأزرق في حالة كامنة أو سجينة، لا أثر لوجوده في وجود عامل اللون البني المسيطر.

وسنحلل هذا المثل لنوضح كيف تنتقل العوامل الوراثية التي هي مصدر انتقال الصفات من جيل إلى جيل.

1 ـ ينشأ عن اندماج حيوان منوي يحمل عامل اللون البني ببويضة الأنثى التي تحمل عامل اللون البني ابن يحمل عاملين وراثيين للون البني، وتكون عينيه بنية اللون.

2 ـ ينشأ عن اندماج حيوان منوي يحمل عامل اللون ـ البني ببويضة تحمل عامل اللون الأزرق انسان بني العين أي يحمل عامل اللون البني السائد أو المسيطر وعامل اللون الأزرق الكامن أو المتنحى أو السجين .. وتكون عينيه بنية اللون.

3 ـ ينشأ عن اندماج حيوان منوي يحمل عامل اللون الأزرق ببويضة تحمل عامل اللون البني انسان يحمل عامل اللون البني السائد أو المسيطر ويحمل أيضاً عامل اللون الأزرق المتنحي أو السجين.

4 ـ ينشأ عن اندماج حيوان منوي يحمل عامل اللون الأزرق ببويضة تحمل عامل اللون الأزرق انسان يحمل عاملين للون الأزرق وتكون العين عندئذ زرقاء اللون لأن الفرد الناتج لا يحمل عامل صفة اللون البنمي المسيطر السائد الذي يخفي تحته صفة اللون الأزرق. وبذلك ظهرت الصفة الكامنة أو السجينة.

وهي صفة اللون الأزرق للعين لوجود العامل الوراثي المتنحي أو السجين لعدم وجود العامل الوراثي المسيطر.

من هذا يتضح كيف تختفي بعض الصفات وكيف تعود للظهور إذا غاب هذا العامل المسيطر وذلك لعدم وجود عامل اللون البني المسيطر أو السائد.

لهذا يجب عند الزواج عدم الاكتفاء بالصفات الظاهرية، إذ يختفي تحتها الصفات السيئة أو الرديئة. ولهذا يجب أن نتوخى عراقة الأصل وحسن المنبت وخلو الأسرتين من العيوب الجسدية والأمراض النفسية والوراثية.

وقد توجد هذه العيوب في أحد الأجداد الراحلين، ومتى غابت العوامل الوراثية الجيدة المسيطرة وصفاتها الوراثية الجيدة الناشئة عنها ظهرت الصفات المضادة السيئة في الأحفاد.

وبعد هذه المقدمات العلمية نتحدث عن زواج الأقارب كزواج أولاد العم والخال الذي يتركز لمدة طويلة في أسرة واحدة، فتتركز تبعاً لذلك بعض الصفات الوراثية السيئة، ولكن عند ترك هذه العادة والالتجاء إلى زواج الأباعد تدخل من هذه الأسرة الجديدة عوامل وراثية جديدة من النوع السائد المسيطر، فيخفى هذه الصفات السيئة وتنشأ الصفات الجيدة المقابلة.

وعموماً يمكن أن نقول زواج الأقارب يزيد الصفة الغالبة في الأسرة ويؤكدها ويبرزها، خصوصاً إذا كانت من الصفات السيئة على عكس زواج الأباعد فهو يقلل من العيوب الجسمية والمرضية.

يتهدد زواج الأقارب بانجاب أطفال مصابين، لأن بعض الأمراض الوراثية تكون كامنة وسجينة، بفعل عواملها الوراثية من جيل إلى آخر.

وتنتقل عن طريق الآباء والأبناء دون أن تظهر أعراض المرض على الشخص الذي يحملها، إلا إذا صادف ان الأبوين كانا على علم بوجود هذه الصفة عند الأجداد.

ما يقوله العلم والطب الحديث الآن:

أوصى نبينا الكريم، إذ أوصى بتزاوج الأباعد، فقال: ((اغتربوا ولا تضووا)) أي تزاوجوا الأبعاد في الأنساب بين حين وآخر حتى لا تضعفوا. ليس هذا فحسب بل نصحنا باختيار مَن حسنت جدودها وفروعها، فقال: ((تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس)) أي ان الصفات الجيدة أو السيئة قد تكون كامنة أو مختفية أو سجينة في الآباء ولكن كانت موجودة في الأجداد، وقد تعود وتظهر في الأحفاد، وهذا هو أساس علم الوراثة.

أما مَن حرم الله زواجهم فجاءوا في الآية الكريمة: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم يتكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ان الله كان غفوراً رحيماً).

كتب الدكتور آرثر لوسي أستاذ علم الحياة للطفيليات بمدرسة الطب بالقاهرة سنة 1914: انه إذا لوحظت بويضة وحيوان منوي تحت الميكروسكوب في وسط ملائم فإنه يرى انهما يتجاذبان أي أن الحيوان المنوي المتحرك يتجه نحو البويضة الساكنة ويطلق على هذه الظاهرة اسم التجاذب الجنسي. والعجيب ان هذه المظاهرة ليست عامة إذ أن الخلايا الجنسية المأخوذة من ذكر وأنثى تجمعهما قرابة شديدة (كأن يكون أخ وأخته) تكون لديهما هذه الظاهرة ضعيفة جداً أو منعدمة ولا يتحدان بالمرة مهما كانت الظروف. وقد لوحظت هذه الظاهرة تحت الميكروسكوب في كثير من الكائنات الميكروسكوبية الحيوانية وهي تتفق تمام مع ما نراه في الحيوانات الراقية الأليفة.

وقد لاحظ الفلاحون مربو المواشي والمدربون في حدائق الحيوانات ان نسل الحيوان الواحد لو ترك يتكاثر بين بعضه لكان النسل ضعيفاً قليل العدد.

ويؤدي التناسل بين أولاد جد واجد بالتناسل المقفل. والمعروف انه لو ترك يحدث ويتكرر لقاد في النهاية إلى انحطاط الأفراد عقلياً وجسمياً. وهناك أسر ملكية وأخرى أرستقراطية درجت على تزاوج الأقارب من داخل الأسر المالكة الحاكمة كما حدث مع آل هابسبرج وآل بوربون وسواهما في أوروبا وما زواج ملك اليونان قسطنطين بأميرة دنمركية ببعيد، وكذلك زواج الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا بالأمير البرت في القرن الماضي، وهو من نفس العائلة المالكة.

ولكن إذا كانت العوامل الوراثية في أسرة ما كلها ممتازة ... وليس فيها ما يورث الصفات السيئة والأمراض، كانت في شبه مأمن من عيوب تزاوج الأقارب ... ولكن هذه الحال من الناحية العملية قليلة .. وقليلة جداً.

والدكتور كارل جورج أستاذ الوراثة في الجامعة الأمريكية يتفق معنا في هذا الرأي، إذ يقول: ((إن زواج الأقارب في ذاته ليس عاملاً على إضعاف النسل أو تشويهه بالأمراض والعاهات في كل الأحوال، فإذا لم تكن السلالة نفسها ضعيفة، فلا يمنع أن تظل نقية قوية)).

ولكنه يستدرك، فيقول: ((إلا أن الحالات التي تظل فيها هذه الأسر صحيحة نادرة في التاريخ، ولا يمكن اعتبارها مقياساً، لا بل فهي الشواذ. ويؤكد ألف مرة بأن زواج الأقارب مضر من حيث انه يؤدي إلى تلاقي الخصائص الفاسدة في الأقرباء)).

ولكي أبرز أثر زواج الأباعد أمامنا العالم الأمريكي الجديد خصوصاً الولايات المتحدة حيث نجد سلسلة من شعوب مختلفة، استوطنت أميركا. وهذا الاختلاف والتباين بين الشعوب التي نزحت إلى أميركا قد أدى إلى تحسين النسل من الناحية الجسمانية والعقلية. وقد أبرزت مسابقات الجمال والألعاب الرياضية مزايا هذه العروق الجديدة التي نشأت عن الشعوب المختلفة التي نزحت إلى العالم الجديد ـ أميركا.

نظرية التطور(6)

بوابة علم الأحياء ·

في علم الأحياء ، النشوء أو التطور هي عملية أدت لظهور جماعات المتعضيات organisms الحية ، بشكل عام يؤدي التطور لظهور ميزات trait جديدة و متجددة من جيل لأخر ، تؤدي في النهاية إلى تغيير و تحسين كافة مواصفات النوع قيد التطور مما يؤدي إلى نشوء نوع جديد من الكائنات الحية . مصطلح نشوء عضوي organic evolution أو النشوء البيولوجي يستخدم غالبا لتفريق هذا المصطلح عن استعمالات اخرى .

بدأ تطور نظرية النشوء الحديثة بإدخال مصطلح الاصطفاء الطبيعي natural selection في مقالة مشتركة لتشارلز داروين و ألفريد روسل والاس . من ثم حققت النظرية شعبية و اسعة بعد الاقبال على قراءة كتاب داروين أصل الأنواع .

كانت فرضية داروين و والاس الأساسية ان التطور يحدث وفق ميزة قابلة للتوريث heritable trait تؤدي إلى زيادة فرصة بعض الأفراد الحاملين لهذه الميزة trait بالتكاثر أكثر من الأفراد الذين لا يحملونها . هذه الفرضية كانت جديدة تماما و مخالفة لمعظم أسس النظريات التطورية القديمة خصوصا النظرية المطورة من قبل جان بابيست لامارك.

حسب نظرية داروين و والاس : يحدث التطور نتيجة تغير في ميزات قابلة للتوريث ضمن مجموعة حيوية population على امتداد أجيال متعاقبة ، كما يحدده التغيرات في التكرارات الأليلية للجينات . و مع الوقت ، يمكن ان تنتج هذه العملية ما نسميه انتواعا ، أي تطور نوع جديد من الأحياء بدءا من نوع موجود أساسا. بالنسبة لهذه النظرية فإن جميع المتعضيات الموجودة ترتبط ببعضها البعض من خلال سلف مشترك common descent ، كنتيجة لتراكمات التغيرات التطورية عبر ملايين السنين .

التطور أيضا مصدر للتنوع الحيوي على كوكب الأرض ، بما فيها الأنواع المنقرضة المسجلة ضمن السجل الأحفوري أو المستحاثي. [1][2] الآلية الأساسية التي ينتج بها التغير التطوري هي ما تدعوه النظرية : الاصطفاء الطبيعي natural selection (الذي يتضمن البيئي و الجنسي و القرابة مع الانسياق الجيني ), هاتين العمليتين او الآليتين تقومان بتأثيرهما على التنوع الجيني المتشكل عن طريق الطفرات ، و التأشيب الجيني genetic recombination و انسياب الجينات gene flow . لذا يعتبر الاصطفاء الطبيعي عملية يتم بها بقاء و نجاة الأفراد ذوي الميزات الأفضل (للحياة) و بالتالي التكاثر . إذا كانت هذه الميزات قابلة للتوريث فإنها ستنتقل إلى الأجيال اللاحقة ، مما ينتج ان الميزات الأكثر نفعا و صلاحية للبقاء تصبح أكثر شيوعا في الأجيال اللاحقة . [3][1][4] فبإعطاء وقت كاف ، يمكن أن تنتج هذه العملية العفوية تلاؤمات متنوعة نحو تغيرات الشروط البيئية [5]

الفهم الحديث للتطور يعتمد على نظرية الاصطفاء الطبيعي ، التي وضعت أسسها أساسا في ورقة مفصلية عام 1858 من قبل تشارلز داروين و ألفرد روسل والاس و نشرت ضمن كتاب داروين الشهير أصل الأنواع. في الثلاثينات من القرن العشرين ، ترافق الاصطفاء الطبيعي الدارويني مع نظرية الوراثة الماندلية لتشكل ما يدعى الاصطناع التطوري الحديث ، و عرفت أيضا بالداروينية-الجديدة Neo-Darwinism . الاصطناع الحديث modern synthesis يصف التطور كتغير في تكرار و توافر الأليلات ضمن مجموعة حيوية population من جيل إلى الجيل الذي يليه . [5] هذه النظرية سرعان ما أصبحت المبدأ المركزي المنظم للبيولوجيا الحديثة ، نسبة لقدرتها التفسيرية و التنبؤية العالية ، تربط حاليا بشكل مباشر مع دراسة أصل مقاومة المضادات الحيوية في الجراثيم ، eusociality في الحشرات ، و التنوع في النظام البيئي ecosystem للأرض . مع أن هناك إجماع علمي لدعم صلاحية و صحة نظرية التطور ، لتطبيقاتها و قدرتها التفسيرية و التنبؤية لأصول الجناس و النواع الحية ، فإن هذه النظرية تبقى في قلب جدالات دينية و اجتماعية بل و علمية حول مفاهيمها و مدى صحتها بسبب صدامها مع بعض الرؤى حول نظرية الخلق في بعض الديانات.

 تاريخ الفكر التطوري

تعود فكرة التطور البيولوجي إلى عهود قديمة فبعض الفلاسفة الإغريق كانوا يؤمنون بهذه الفكرة مثل أناكسيماندر و أبيقور إضافة لبعض قلاسفة الهند مثل باتانجالي. لكن النظريات العلمية للتطور لم تظهر بشكلها الحالي إلا في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر على يد جان-بابيست لامارك و تشارلز داروين .

تطافر الأنواع transmutation of species (التحول بالطفرات) كان أمرا مقبولا من قبل العديد من العلماء قبل 1859 ، لكن عمل داروين عن أصل الأنواع عن طريق الاصطفاء الطبيعي أمن أول طرح مقنع و كامل لهذه الفرضية [6] للآلية التي يحدث بها التغير التطوري من نوع لآخر : ألا وهي الاصطفاء الطبيعي . بعد الكثير من العمل على نظريته قام داروين بنشر عمله عن التطور بعد تسلمه رسالة من ألفردروسل والاس بكشف له والاس فيها عن اكتشافه الشخصي حول موضوع الاصطفاء الطبيعي .لهذا يتسب لوالاس دورا مشاركا في التأسيس لهذه النظرية . [7] نشر كتاب داروين أثار قدرا كبيرا من الجدل العلمي و الاجتماعي . فبرغم من أن حدوث تطور بيولوجي من نوع ما أصبح مقبولا من قبل عدد كبير من العلماء ، فإن أفكار داروين خاصة حول حدوث تطور تدريجي من خلال الاصطفاء الطبيعي تمت مهاجمتها و نقدها بقوة . إضافة لذلك كان داروين قادرا أن يبين الاختلاف بين النواع مفسرا إياه بالاصطفاء الطبيعي ثم التلاؤم ، إلا انه كان عاجزا عن تفسير كيفية نشوء الاختلاف أو كيف يتم تعديل النواع عبر الأجيال ، كان لا بد من انتظار نشوء علم الوراثة على يد ماندل . [8] 

عمل غريغور مندل على وراثة الصفات في نبات البازلاء أدى لاحقا لنشوء علم الوراثة.استطاع غريغور ماندل بالعمل على وراثة النبات من كشف حقيقة انتقال ميزات معينة certain traits في حبات البازلاء ، هذا الانتقال يحدث بأشكال متنوعة وكانت قابلة للتوريث بنسب واضحة قابلة للتنبؤ . [9] أعيد إحياء عمل ماتدل في عام 1901 ، و فسر بداية على أنه دعم "للقفزة" المعاكسة للداروينية ، أو ما يدعى بمدرسة القفز التطوري saltationist و معاكسة لفكرة التدرجية . [10]

 إثبات التطور 

يقول العلماء أن التطور قد خلف وراءه العديد من السجلات التي تروي تاريخ الأنواع المختلفة و زمن نشوءها . الأحافير بمجموعها مع التشريح المقارن للنباتات و الحيوانات الموجودة حاليا ، تشكل سجلا تشريحيا و مورفولوجيا . و بالمقارنة التشريحية و الشكلية بين الأنواع الحالية و الأنواع المنقرضة يمكن لعلماء المستحاثات ان يقوموا بمعرفة الارتباطات و الأصول المشتركة بين هذه الأنواع . تقوم بعض السمستحاثات المهمة بإثبات الصلة بين أنواع منقرضة و انواع موجودة حاليا عن طريق ما يدعى أنواع "انتقالية" ، مثال هذه الأنواع الانتقالية أرخايوبتركس الذي أثبت العلاقة بين الديناصورات و الطيور . [11] and the recently-discovered Tiktaalik, which clarifies the development from fish to animals with four limbs.[12]

لاحقا سمح تطور علم الوراثة الجزيئي و خصوصا إمكانية سلسلة الدنا ، للبيولوجيين بدراسة سجل التطور عن طريق البنى الوراثية للمتعضيات الحالية و المنقرضة ، مما وسع بشكل كبير و عدل من إمكانية إيجاد الصلات و القرابات بين الأنواع و احيانا كان يؤدي لتعديلات جذرية في التصنيف الحيوي للأحياء . غن طريق التشابه و الاختلاف بين تسلسلات الدنا للمتعضيات الحية يقوم البيولوجيون حاليا بإيجاد و تعديل العلاقات و صلات القرابة بين الأنواع الحية قديمها و جديدها . فعن طريق الدراسات الوراثية تبين أن 95% من الصيغة الوراثية (الجينية) متشابهة بين الإنسان و الشمبانزي . [13][14]

تم جمع إثباتات أخرى من بعض البنى التشريحية الموجودة في بعض الكائنات الحية كما عند الباندا أو شكل الأقدام عند السحالي أو انعدام العيون عند الأسماك الكهفية ، مما قدم إثباتات لإمكانية التنامي التطوري . تقدم دراسات أخرى إثباتات عن طريق تمثيل صلات تطورية تتضمن التوزع الجغرافي للأنواع . مثلا : أحاديات الفتحة Monotreme ، مثل platypus و معظم الجرابيات marsupials مثل الكنغر و الكوالا وجدوا فقط في أستراليا وضحوا أن سلفهم المشترك مع الثدييات المشيمية placental mammals عاش قبل غمر الجسر الأرضي القديم بين أستراليا و آسيا .

جميع هذه الإثباتات من علم الإحاثة ، التشريح ، علم الوراثة ، و الجغرافيا ، إضافة لمعلومات أخرى حول تاريخ الأرض قام العلماء بربطها سوية ضمن إطار تقدم نظرية التطرو من خلاله و تجعلها نظرية علمية متماسكة. فمثلا علم المناخ الإحاثي paleoclimatology يشير إلى العصر الجليدي الدوري الذي كان فيه مناخ الأرض أكثر برودة ، مما أدى لنشوء و انتشار أنواع حية قادرة على تحمل البرد القارس أهم هذه الأنواع الماموث woolly mammoth.

 الإثباتات المورفولوجية 

ما تعتبر المستحاثات إثباتات حرجة لتقييم عمق الصلات بين الأنواع . بما أن استحاثة متعضية يعتبر أمرا نادر الحدوث ، يحدث غالبا بوجود أجزاء صلبة مثل الأسنان و العظام ، لذلك فإن المستحاثات غالبا ما تعتبر بأنها تقدم معلومات ضئيلة أو متوسطة الأهمية حول علاقات القرابة بين الأنواع . مع هذا فيمكن حدوث استحاثة لبعض النواع بدون أجزاء صلبة (أسنان ، عظام) في بعض الظروف : rapid burial, بيئات منخفضة الأكسجين, او تأثير ميكروبيولوجي . [15] تؤمن السجلات الأحفورية أنماطا متعددة من البيانات المهمة لدراسة التطور . اولا يحوي السجل الأحفوري الأمثلة المعروفة المبكرة للحياة ، إضافة لحدوث أولى حالات القرابة الفردية بين الأنواع . فمثلا حسب السجل الأحفوري ظهر أول حيوانات معقدة في عصر الكمبري المبكر ، أي حوالي 520 مليون سنة مضت. ثانيا سجلات الأنواع المنفردة تعطي معلومات بخصوص الأنماط و الأشكال التي مر بها النوع و سرعة التغير و التطور في هذا النوع .، مظهرة مثلا فيما إذا تطور هذا النوع إلى نوع جديد مختلف (في عملية ندعوها الانتواع speciation ) تدريجيا و بشكل متزايد ، أو خلال قترات زمنية قصيرة نسبيا ضمن الزمن الجيولوجي . ثالثا يعتبر السجل الأحفوري وثيقة للأنماط الكبيرة الانتشار و الأحداث المهمة في تاريخ الحياة ، و العديد من هذه المستحاثات قد أثرت بشكل فعلي في تصورنا للتاريخ التطوري لعلاقات القربى . مثلا الانقراض الكبير نتج في عدة أزمنة مؤديا لفقدان مجموعات كاملة من الأنواع ، مثل الديناصورات غير الطيارة non-avian dinosaurs ، في حين أنها لا تؤثر على مجموعات أخرى من الأنواع . مؤخرا استطاع علماء البيولوجيا الجزيئية أن يستعملوا الزمن منذ تقارب الأنساب lineages المختلفة ليقوموا يمعايرة سرعة أو معدل التراكم التطافري، حساب أزمنة تطور جينومات الأنساب المختلفة .

علم الوراثة العرقي كعلم يدرس أصل النواع و أسلافها ، قدم و كشف أن البنى ذات التنظيم الداخلي المتشابه يمكن أن تقوم بوظائف متقاربة . أقدام الفقاريات تعتبر مثالا شائعا لهذه البنى المتشابهة .

 أسلاف الكائنات الحية 

وفقا لنظرية التطور، تعتبر التشابهات الشكلية في عائلة Hominidae أحد الدلة على وجود سلف مشترك لجميع الأحياء.في علم الأحياء ، تعتبر نظرية السلف المشترك العام universal common descent نظرية تفترض أن جميع الأحياء الموجودة على سطح الأرض تنحدر من سلف مشترك وحيد عام أو لنقل حوض جيني أصلي وحيد . تستند نظرية السلف المشترك إلى وجود سمات مشتركة بين كافة المتعضيات الحية . في أيام داروين كانت الاثباتات على التشارك بالسمات يستند فقط إلى الملاحظات المرئية للتشابهات الشكلية ، مثل حقيقة أن جميع الطيور حتى التي لا تطير تملك أجنحة . أما اليوم فهناك إثباتات أقوى تقوم على أساس علم الوراثة تؤكد وجود السلف المشترك. مثلا ، كل خلية حية تستخدم نفس الحمض النووي كمادة وراثية (دنا و رنا ) ، و تستخدم نفس الحموض الأمينية كوحدات بناء للبروتينات . إضافة لذلك فإن جميع الأحياء تستخدم نفس الشفرة الوراثية (باختلافات ضئيلة و نادرة ) لترجمة الحموض النووية إلى تسلسل الحموض الأمينية الذي تشكل البروتينات في النهاية . هذه التماثل العام لهذه السمات المشتركة في خلايا جميع الكائنات الحية يطرح بقوة فرضية السلف الواحد للأحياء.

المعلومات حول التطور المبكر للحياة يتضمن مدخلات من حقول معرفية كالجيولوجيا و علوم الكواكب planetary science . هذه العلوم توفر معلومات حول تاريخ الأرض المبكر و التغيرات التي أنتجت الحياة بالرغم من العديد من لامعلومات قد دمرتها الأحداث الجيولوجية عبر الزمن .

 تاريخ الحياة

 الخط الزمني للتطور

التطور الكيميائي (أو ما يدعى بالتخلق اللاحيوي ) من تفاعلات كيميائية ذاتية التحفيز self-catalytic chemical reactions إلى ظهور الحياة (انظر أصل الحياة ) لا يمثل جزءا من نظرية التطور الحيوية ، من غير الواضح حتى الآن اللحظة التي تشكلت فيها الظروف المناسبة لهذه المجموعة المعقدة من التفاعلات إن حدثت لتشكل لنا الظاهرة الفريدة و الغريبة و التي تدعى الحياة. 

لم يعرف الكثير بعد عن التطورات المبكرة في الحياة. لكن من الواضح بشكل غير قابل للشك أن جميع الكائنات الحية تتشارك بسمات مشتركة بشكل واضح ، بما في ذلك البنية الخلوية و نفس الشفرة الوراثية . معظم العلماء يفسرون هذا التشابه على أنه تشارك لجميع الأحياء بسلف وحيد مشترك، تطور عنه العمليات الخلوية الأساسية جميعها ، مع هذا لا يوجد إجماع علمي على وجود علاقة بين المملالك الثلاث : الجراثيم القديمة Archaea و البكتريا، وحقيقيات النوى) كما ليس هناك إجماع حول أصل الحياة. محاولات إلقاء الضوء على التاريخ المبكر للحياة يركز بشكل عام على سلوك الجزيئات الضخمة macromolecule بخاصة الرنا وسلوك الأنظمة المعقدة.

نشوء التركيب الضوئي الأكسجيني (قبل حوالي 3 بلايين عام مضى) والنشوء التالي لغلاف جوي غير مرجع غني بالأكسجين يمكن تعقبه من خلال تشكل مناجم الحديد المجمع banded iron، ولاحقا الأسرة الحمراء من أكسيد الحديد. تعتبر عملية التركيب الضوئي شرطا أساسيا لتطور تنفس خلوي هوائي، الذي يعتقد أنه تشكل قبل بليونين من السنين.

الهندسة الوراثية... هل يتم استنساخ البشر؟(7)

 تتشارك في الهندسة الوراثية (Genetic Engineering) علوم ثلاثة أساسية هي علم الوراثة والخلية والأجنة. وهي فعلاً تكنولوجيا تطويع الجينات وتقوم على فكرة التحكم في الجهاز الوراثي للإنسان وبذلك بدأ العلماء سامحهم الله التحكم في أهم خصوصيات الإنسان وهو لوحه المحفوظ أو شفرته الوراثية.

وقد كانت البداية الحقيقية للهندسة الوراثية في عام 1953م، حيث تم اكتشاف يعد من أعظم الإنجازات البيولوجية والطبية في القرن العشرين، وقد قام بهذا الاكتشاف العالمان الأمريكيان جيمس واطسون وفرانسيس كربك، ونالا عليه جائزة نوبل للطب والفسيولوجيا عام 1962م والكشف هو الحمض الريبي النووي منقوص الأوكسجين (DNA) ثم كشف أنزيمات التحديد أو التقييد اللازمة لقص ذلك الحمض في مواقع محدودة وهكذا بدأ مصطلح الهندسة الوراثية لتشكل هذه الهندسة ثورة من أخطر الثورات العلمية وهي ثورة صناعية حقيقية لا تعتمد على الحديد والصلب وإنما ترتكز على مادة الحياة وهي الجينات. وتتالت الاكتشافات العلمية في هذا المجال ـ مجال الهندسة الوراثية ـ الواحدة بعد الأخرى حتى جاءت الطامة الكبرى ويقصد بها قنبلة العصر حادثة الاستنساخ. فما هو الاستنساخ وكيف يتم؟

الاستنساخ

يقصد به الحصول على نسخة أو أكثر طبق الأصل من الأصل نفسه وهذا يتم بمعالجة خلية جسمية من كائن معين كي تنقسم وتتطور إلى نسخة مماثلة لنفس الكائن الحي الذي أخذت منه.

ولنأخذ النعجة (دوللي) كمثال.. فقد تم استنساخها وفقاً للخطوات التالية:ـ

ـ أخذت خلية جسمية حية من ضرع (ثدي) الحيوان المراد استنساخه (النعجة الأولى) وتم فصل نواة هذه الخلية.

تم تقريب نواة الخلية المأخوذة من النعجة الأولى من البويضة المفرغة من نواتها المأخوذة من النعجة الثانية، وتم إدخال نواة الخلية في البويضة لتكون نواة جديدة لهذه الخلية تأتمر بأمرها بدلاً من نواتها التي فصلت عنها سابقاً فتصبح هذه بويضة مخصبة.

يتم تسليط ذبذبات كهربائية على البويضة المخصبة لتبدأ فيها عمليات كيميائية حيوية تخرجها من بياتها وتوقظها من سباتها لتبدأ انقساماً متوالياً إلى خليتين ثم إلى أربع ثم إلى ثمان وهكذا يتكون ما يعرف بالعلقة.

يتم شتل العلقة هذه في رحم حيوان حاضن أو حامل (نعجة) وبعد إتمام فترة الحمل تلد النعجة نسخة طبق الأصل من الحيوان المراد استنساخه وهو الذي أخذت منه الخلية، وهذا هو الاستنساخ.

وللعلم عزيزي القاريء فإن فكرة الاستنساخ هذه ليست جديدة فهناك حيوانات أولية كثيرة تستنسخ نفسها بأمر الله مثل البكتريا والخميرة وكلاهما يتكاثر لا جنسياً أو تزواجياً وهكذا تتكاثر الأميبا والإسفنج الأولى بالانشطار والثانية بالتبرعم.

والنبات كذلك يستنسخ نفسه بأمر الله، فبعض النباتات الورقية تتكاثر لا جنسياً أو لا تزواجياً مكونة نباتات جديدة عن طريق نمو بعض أجزاء النباتات من الجذور أو الساق أو الأوراق. فمن علم كل هؤلاء هذا وفطرهم عليه؟ قال تعالى: >> سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق << (فصلت آية 53).

الهندسة الوراثية

ماذا قدمت للإنسانية؟

أولاً: في مجال الطب: أسهمت الهندسة الوراثية بإسهامات كثيرة لخدمة صحة الإنسان من أهمها:ـ

1 ـ محاولة استنساخ الأعضاء الحية لغرض استخدامها في عملية نقل وزراعة الأعضاء كالكبد والقلب والكلية وغيرها وهذا من أهم وأفضل ما يمكن تقديمه لخدمة صحة الإنسان والنتائج الأولية في هذا المجال جداً واعدة ومشجعة.

2 ـ إنتاج العديد من الأدوية والعقاقير ومن أشهر ما تم في هذا المجال ما يلي:ـ

تصنيع هرمون الأنسولين البشري نفسه بواسطة البكتيريا وهو يستخدم حالياً لعلاج المصابين بالسكري.

تصنيع الهرمون المحفز على تكوين البويضات في مبيض المرأة هرمون (FSH) واستخدام هذا الهرمون في تنشيط مبايض لزيادة فرص الحمل لديهن وهذه هي إحدى مساهمات الهندسة الوراثية لمعالجة حالات العقم لدى السيدات.

تصنيع إنزيم يورو كاينيز (Uro Kinase) الذي يستخدم لإذابة الجلطات التي تصيب الإنسان في شرايينه أو دماغه أو رئتيه ويتم هذا بعزل المورثة المسؤولة عن إنتاج الإنزيم في جسم الإنسان وحقنها في المادة الوراثية لجسم حيوان كالماعز أو الأبقار لتفرز هذا الإنزيم في ألبانها.

3 ـ إنتاج حليب يحتوي على بروتينات حليب الأم البشرية يستخدم لإرضاع الأطفال الخدج.

4 ـ منع الأمراض الوراثية من الظهور إما بمحاربة أسبابها أو التدخل في الوقت المناسب لعدم حدوثها، فقد اكتشف خبراء الهندسة الوراثية أكثر من خمسة آلاف مرض وراثي وتم تحديد أكثر من 1500 مورثة من المورثات المسئولة عن بعض هذه الأمراض وتم محاربة هذه الأمراض الوراثية باستئصال المورثات المسئولة عن هذه الأمراض من البنية الوراثية للجنين أثناء المراحل المبكرة لتشكيله أو بإدخال مورثة سليمة بدلاً من أخرى ممرضة.

5 ـ مكافحة الشيخوخة فقد تمكن علماء الهندسة الوراثية فعلاً من رفع متوسط عمر بعض الحشرات إلى ضعف عمرها الافتراضي عن طريق مقاومة تآكل الكروموسومات نتيجة التقدم في العمر للكائن الحي، مما يعني بعد مشيئة الله إمكانية رفع متوسط عمر الإنسان.

ثانياً: في مجال الصيدلة: أسهمت الهندسة الوراثية في تصنيع الكثير من اللقاحات والأمصال المضادة للأمراض الفيروسية، وتصنيع هرمون النمو البشري، وهرمون المخ البشري (السوماتوستاتين) الذي يستخدم في علاج مرض عملقة الأطراف، والأنترفـيرون الـذي يستخـدم لـوقف نمو الفيروسات كفيروسات الكبد الوبائية، والكثير من هذه الأدوية متوفر الآن في الصيدليات وفي متناول الجميع.

ثالثا: في مجال الزراعة: فقد تمكن علماء الهندسة الوراثية من تحسين السلالات النباتية كماً وكيفاً فقد استطاعوا إنتاج نباتات مقاومة للأمراض الفيروسية أو الفطرية أو الإصابة بالآفات الحشرية، وأخرى مقاومة للملوحة أو الجفاف أو الرطوبة العالية، وثانية تستطيع تثبيت النيتروجين الجوي مستغنية بذلك عن التسميد.

رابعاً: في مجال الصناعة: أنتج علماء الهندسة الوراثية منتجات لا حصر لها مثل البلاستيك والمطاط والمبيدات الحشرية والمذيبات العضوية ومنظمات النمو والمنظفات البيولوجية والأسمدة وغيرها.

سلبيات الهندسة الوراثية

1 ـ اختلاط الأنساب نتيجة الإخصاب الصناعي: فمثلاً أطفال الأنابيب والأم المستعارة وكذلك بنوك المنويات من أشخاص غير معروفين وتستخدم في تخصيب بويضات النساء وهذا يعد سفاحاً من الناحية الشرعية والأخلاقية، فالذرية لا يعرف الأب الحقيقي لها وهنا قد يتزوج الأخ بأخته أو الأب بابنته ودون أن يدري وهكذا تختلط الأنساب وتنتهك الحرمات وهذا فيه فساد عظيم من وجهة شرعية وبيولوجية كذلك.

2 ـ اختلاط الأجناس: يحاول العلماء باستخدام الهندسة الوراثية طبعاً خلط الأجناس بعضها ببعض الإنسان بالحيوان، والحيوان بالحيوان، والإنسان بالنبات وهذا شئ فظيع وضد الفطرة. ومن الأمثلة على هذا خلط البرنامج الوراثي للعنزة بالبرنامج الوراثي للخروف فنتج حيوان يجمع بين صفات الإثنين وهو (العنزوف) اسم مشتق من عنزة وخروف، ومن صور الخلط أيضاً محاولة خلط البرنامج الوراثي للإنسان بالبرنامج الوراثي للنبات لإنتاج "الإنسان الكلورفيلي" أو الإنسان الأخضر.

ماذا عن المستقبل

من المؤكد أن استنساخ النعاج أو القردة ليس نهاية المطاف ولا مبلغ العلم، فالعلماء يعكفون على إنتاج حيوان يحمل مورثات آدمية يطلق عليه اسم (Manimal) وهي كلمة مشتقة من اسم إنسان وحيوان بالإنجليزية Man Animal Manimal ويمكن تسميتة بالعربية (انسوان) انسان + حيوان = انسوان، هذا بالنسبة للمستقبل القريب، أما المستقبل البعيد فقد يأتي معه بكل غريب وعجيب فهناك البطاقة الوراثية التي من المحتمل أن تحل في نهاية القرن الحادي والعشرين محل البطاقة الشخصية. وهي بطاقة مسجل عليها اللوح المحفوظ للإنسان الذي يحمل شفرته أو طاقمه الوراثي فما هي يا ترى تبعاتها والأشياء المترتبة على وجود هذه البطاقة؟ إليك بعض الأمثلة.

إذا تقدمت لوظيفة يا سيدي العزيز مثلاً فسوف يطلب منك إحضار البطاقة الوراثية. وإذا تبين أنك تحمل جيناً قد يقعدك عن العمل مبكراً فلن تحصل على الوظيفة إياها لأنك غير لائق طبياً "والفضل" هنا طبعاً للهندسة الوراثية.

وإذا كنت لا تزال أعزباً أو أنك متزوج لكن تحب الخير وتقدمت لخطبة أي فتاة فإن والدها لن يسألك عن عملك أو راتبك ولا حتى عن أصلك وفصلك أو عن حسبك ونسبك بقدر ما يســألك: أين بطاقتك الوراثية؟ وعندما يطالعها الأب قد يرى فيها جيناً يسبب العقم أو أمراض وراثية معينة تصيب أحفاده المنتظرين بالأمراض أو العاهات عندها يرفض الأب تمـاماً أن يعطيك ابنته مهما قدمت له من المغريات وهذا بعض ما سوف يترتب على البطاقة الوراثية لا عزبة ولا عروسة وما خفي أعظم.

خـاتمـة:

بعد النجاح المذهل الذي حققه العلماء في مجال الهندسة الوراثية وهو استنساخ حيوان بالغ ـ بلا جنين ـ فإن السؤال الذي يشغل بال العالم الآن هو هل بالإمكان استنساخ الإنسان؟

بعض المراجع تتوقع أن يتم هذا بحلول عام 2004م وإن كانت بعض المجلات العلمية قد نشرت خبراً عن عملية استنساخ بشري أجراها عالم إيطالي في سرية تامة وتكتم شديد في مختبره الخاص لسيدة إنجليزية قبل ثلاث سنوات تقريباً.

كما نشرت إحدى الصحف البريطانية عن عالمة بلجيكية قولها أنها استنسخت طفلاً من 4 سنوات من غير قصد.

وتقول عالمة في علم الخلية: إن حدث ونجح زملائي العلماء في استنساخ الإنسان فإنه لن يكون هناك حاجة لوجود الرجل وحقيقة يجب أن يعلم الجميع أنه بالإمكان استنساخ الإنسان من غير أن يدري ـ من مجرد نقطة دم تؤخذ من دمه خلسة أو خلية من جسمه عند زيارته لمستشفى للعلاج أو إجراء فحوصات طبية مثلاً. والاستنساخ في حالة تطبيقه على الإنسان يحمل في طياته خطراً كبيراً على البشرية كاحتمالات تفشي الأمراض كأمراض القلب والسكري والأمراض النفسية كفصام الشخصية وغيرها إذا كان الأشخاص المستنسخون ممن هم مصابون بهذه الأمراض.

لهذا أجمع الخبراء من علماء ومشرعين ورجال دين على ضرورة سن قوانين تحرم تطبيق تقنية الاستنساخ على البشر لأن هذا عمل لا أخلاقي وغير إنساني. أما في مجال استنساخ الحيوان فهذا محبذ لما له من فوائد طبية وغذائية كبيرة ولكن بضوابط أيضاً.

وختاماً عزيزي القارئ من المؤكد أن استنساخ البشر لا محالة قادم وهكذا ففي غضون السنوات القليلة القادمة يصبح بالإمكان إنتاج نسخاً للعباقرة والمبدعين الأحياء، أما الأموات فربما يمكن استنساخهم بعد مشيئة الله من العظام النخرة في مقابرهم، حيث يرقدون وإذا كان هذا ممكناً للعلماء البشر فهل بعد هذا يستكثر على الله سبحانه بعث من في القبور وهو الذي أوجد الخلق بداية قال تعالى: >> وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم << .

والاستنساخ عزيزي القاريء هو تخليق (Synthetic) لا خلق (Creation) والفـرق بينهما عظيم، فالخلق إيجاد من عدم وهذا لا يقدر عليه إلا الله، بينـما التخليق مجرد توليف من موجود وهذا هو ما يتم في عملية الاستنساخ. هذا وإلى اللقاء في مقالات قادمة إن شاء الله.=> 

بكتيريا قرحة المعدة تؤرخ لهجرات الشعوب(8)

أكدت دراسة جديدة فى علم الأحياء ، أجراها فريق من العلماء الدوليين أن التغيرات الوراثية في البكتيريا المستوطنة في المعدة يمكن أن تعطينا تصورات حول التغييرات التي عاشها الإنسان من خلال هجراته المختلفة إلى مختلف المناطق فى العالم . ومن المعروف أن البكتيريا المعدية، وخصوصا أنواع "الهيليكوبكتر بايلوري"، تغيرت تركيبتها الجينية كثيرا وخصوصا بالترابط مع تغير البيئة. و كان هذا السؤال قد طرح من قبل على العلماء، و استطاع فريق البحث الدولى أن يجيب على هذا السؤال من خلال الدراسات الجينية المعمقة على التغييرات الوراثية المتعددة التي تركت آثارها على البكتيريا المعدية المسببة للقرحة.

ويرى العلماء أن نتائج هذه الدراسة ستعزز النجاح المتحقق حتى الآن في الوقاية وعلاج الحالات الناجمة عن الإصابة ببكتيريا هيليكوبكتر بايلوري، فالأنواع المختلفة جينيا من البكتيريا تبدي مقاومة مختلفة للمضادات الحيوية ، كما أن إعادة رسم خريطتها الوراثية الأصلية قد يفيد العلماء في البحث عن مضاد حيوي موحد لمكافحتها.

ويقول فريق دولي من علماء قسم البكتيريولوجي في معهد ماكس بلانك الألماني الشهير، أنه عثر على تغييرات وراثية في تركيبة "هيليكوبكتر بايلوري" تشي بالهجرات السابقة التي نفذتها مختلف الشعوب، وتعكس تغير عادات معيشة وثقافات هذه الشعوب. وذكر الباحث الكندي مارك اختمان رئيس فريق العمل، أن العلماء توصلوا إلى هذه النتائج بعد دراسة على البنية الوراثية وسلاسل النيوكليوتيد في 370 نوعا من أنواع هيليكوبكتر بايلوري، لدى 27 مجموعة مختلفة من المجاميع البشرية.

وأضاف الباحث أنه نشأت سبع مجاميع مختلفة من البكتيريا عاشت في معدة مختلف المجاميع البشرية "المضيفين Hosts" طوال آلاف السنين. وتمكن العلماء باستخدام طريقة رياضية معينة من إعادة بناء الخريطة الوراثية لمجاميع البكتيريا السابقة التي نشأت عنها المجاميع "الحديثة".

واتضح من ذلك أن مجاميع البكتيريا الحديثة تحدرت من أفريقيا ومنطقة المتوسط ووسط وشرق آسيا. وتوصل العلماء من خلال مقارنة التغيرات التي طرأت على خريطة "هيليكوبكتر بايلوري" الوراثية إلى رسم خريطة هجرة البكتيريا، وهي داخل معدة الإنسان، عبر مناطق الكرة الأرضية.

 

ويقول اختمان أن مجموعة البكتيريا في أوروبا كانت النتيجة الحتمية لاندماج المجاميع البشرية التي انتقلت بشكل منفصل عن بعضها من الشرق ووسط آسيا واستقرت في القارة الأوروبية.

ونجح العلماء في حالة "الهنود الحمر" أن يفصلوا بكتيريا "هيليكوبكتر بايلوري" نشأت في شرق آسيا، و يبدو أن المجاميع البشرية هناك نقلتها معها في هجرتها إلى أميركا قبل نحو 12 ألف سنة.

وليس هذا كل شيء، لأن دراسة التغيرات الجينية على "هيليكوباكتر بايلوري" كشف لعلماء معهد ماكس بلانك بعض التغيرات الديموغرافية التي لم ينجح العلم حتى الآن سوى بإثباتها عن طريق اللغة والتغيرات الجينية على الإنسان. وكمثل فقد أثبتت البكتيريا الآن صحة التكهنات حول هجرة شعوب البانتو الأفريقية من موطنها الأصلي في وسط القارة إلى جنوب أفريقيا. كما نجح علماء الميكروبيولوجيا على أساس التغييرات الوراثية البكتيرية في الكشف عن الهجرات الحديثة نسبيا والتي تمت على أساس هجرة الأوروبيين إلى أفريقيا وغيرها بفعل الحركة الاستعمارية وحركة الهجرة القسرية من أفريقيا إلى أوروبا بفعل تجارة الرق المقيتة.

واعتمد العلماء في أبحاثهم على عينات مجهرية من أنسجة بشرية تم تكثير بكتيريا "هيليكوبكتر" فيها بطريقة الاستنبات المختبري. ويعتبر العلماء هذا النوع من البكتيريا ملائما جدا لدراسة هجرات الشعوب السابقة لأنها تصيب الناس بشكل عائلي وبشكل مجاميع بشرية، ولأن تنويعاتها الجينية تتفوق 50 مرة على تنويعات الجينات البشرية.

ويبلغ طول هيليكوبكتر بايلوري حوالي ثلاثة أجزاء من ألف جزء من الملليميتر وتستقر عميقا في بطانة المعدة. ويقدر علماء البكتيريا أنها تصيب معدات أكثر من نصف سكان الأرض وتطلق من مكامنها في المعدة غاز الامونياك. وتنتقل البكتيريا في البلدان ذات المستوى المنخفض صحيا عبر الفم والخروج ، إلا أن انتشارها في البلدان الصناعية المتقدمة ليس بالقليل. وتقدر وزارة الصحة الألمانية أن هيليكوبكتر بايلوري تستقر في معدات 35% من الألمان. ويمكن لهذه البكتيريا، في حالة إهمال علاجها بواسطة المضادات الحيوية، أن تؤدي إلى إصابة الإنسان بالقرحة المعدية وأن تزيد مخاطر تحول هذه القرحة إلى سرطان خبيث.

المرجع الشامل في علم الوراثة(9)

 بنية المادة الوراثية

ماهيّة الحمض النووي - بنية السلسلة عديدة النكليوتيد:

في البداية، لا بدَّ من التنويه إلى ان الحمض النووي نوعان، الأول هو الـ RNA (Ribonucleic Acid) أي الحمض النووي الريبي، والثاني هو الـDNA (Deoxyribonucleic Acid) أي الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين، وبنية الحمضين متماثلة تماماً عدا بعض الاختلافات التي سأتحدث عنها لاحقاً، لذا فحينما أقول "الحمض النووي" فأنا أقصد النوعيين والمعلومة التي تُذكر خاصة بالنوعين على حدٍّ سواء..

إن حجر الأساس في الحمض النووي هو النكليوتيد Nucleotide، وسبب اختلاف الحمضين النوويين عن بعضهما هو اختلاف حجر الأساس أي النكليوتيد بين النوعين، ولكن بشكل عام يتكون النكليوتيد من: جزيء سكّر ريبوز Ribose، مجموعة فوسفات Phosphate وأساس آزوتي Nitrogenous Base.

 

بنية النكليوتيد

أ‌. سكّر الريبوز: نمطان، أحدهما عادي، والآخر منقوص الأكسجين..

الريبوز

والجدير بالذكر أن الريبوز هو مفتاح اختلاف الـRNA عن الـDNA لأن:

• الـRNA يحوي على الريبوز العادي.

• الـ DNA يحوي على الريبوز منقوص الأكسجين لذا سميَّ بالحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين.

نمطا الريبوز (العادي، ومنقوص الأكسجين)

في الـRNA إذاً، السكّر يملك OH على ذرة الكربون الثانية وبالتالي يكون السكّر عادي، أي النكليوتيد عادي، أي الحمض النووي الريبي عادي، أي RNA.

أما في الـDNA فالسكّر يملك فقط H على ذرة الكربون الثانية، وبالتالي سيكون السكّر منقوص الأكسجين أي النكليوتيد منقوص الأكسجين أي الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين، أي DNA.

ب‌. مجموعة الفوسفات: قلنا مجموعة ولم نقل جزيء لأننا لا نستطيع الجزم بالفوسفات الموجود، فقد يكون النكليوتيد أحاديّ الفوسفات Monophosphate أي بذرة فوسفور واحدة مع أربع ذرات أكسجين وCH2، وقد يكون ثنائيّ الفوسفات Diphosphate أي بذرَّتي فوسفور مع سبع ذرات أكسجين وCH2، وقد يكون ثلاثيَّ الفوسفاتTriphosphate أيضاً.

ت‌. الأساس الآزوتي: في كلّ نكليوتيد أساس آزوتي واحد ينتمي للبيورينات أو البيريميدينات.

البيورين الواحد Purine هو أساس آزوتي بتسع مواقع (أربعة فوسفور وخمسة كربون) منتظمة في حلقتين وهو إما غوانين Guanine أو أدينين Adenine.

البيورينات

و البيريميدين الواحد Pyrimidine هو أساس آزوتي بستّ مواقع (اثنان فوسفور وأربعة كربون) منتظمة في حلقة واحدة، وهو إما أن يكون سيتوزين Cytosine أو ثايمين Thymine أو يوراسيل Uracil.

البيريميدينات

و الجدير بالذكر هنا أنه بالإضافة إلى الفرق في السكّر بين الـRNA والـDNA فهناك أيضاً فارق في الأسس الآزوتية الموجودة في نكليوتيدات كلّ منهما.

وحيث أن الغوانين والسيتوزين والأدينين مشتركان بين نكليوتيدات الـDNA والـRNA، فالثايمين موجود فقط في نكليوتيدات الـDNA واليوراسيل موجود فقط في نكوليتيدات الـRNA.

ما الفرق بين الثايمين واليوراسيل وكلاهما بيريميدينان؟

هو فرقٌ وحيد... ففي الموقع الخامس (كربون) في الثايمين توجد زمرة ميثيل CH3، أما في الموقع ذاته من اليوراسيل فلا يوجد سوى ذرة هيدروجين فقط.

ارتباط مكونات النكليوتيد ببعضها لتشكل نكليوتيد!

لا بدَّ في البداية من الإشارة إلى بنية هامة هي "النكليوزيد Nucleoside" وهو مكون أساس آزوتي (بيورين أو بيريميدين) مرتبط بالموقع (1)َ لسكّر الريبوز - أي لا يوجد فيه فوسفات.

بنية النكليوتيد

و بالتالي بانضمام مجموعة فوسفات إلى النكليوزيد يتحول تلقائياً إلى نكليوتيد.

إن الهدف من ربط مكونات النكليوتيد ببعضها هو أولاً تشكيل نكليوتيد، وثانياً خلق بنية بطرفين أحدهما (3)َ من الريبوز والآخر (5)َ لذات سكر الريبوز.

الربط يتم وفق النقاط التالية:

- لسكر الريبوز خمس مواقع (من الـ(1)َ إلى الـ(5)َ).

- الفوسفات يرتبط بالموقع (3)َ لسكر ريبوز أول وبالموقع (5)َ لسكر ريبوز ثان رابطاً بينهما.

- الأساس الآزوتي البيورين له (5) مواقع لذا يرتبط بالموقع (1)َ من الريبوز من خلال الموقع (1) له.

- الأساس الآزوتي البيريميدين له (9) مواقع لذا يرتبط أيضاً بالموقع (1)َ من الريبوز ولكن من خلال الموقع (9) له.

وبما أن الفوسفات ربط بين سكرين متجاورين تتضح لنا بنية السلسلة عديدة النكليوتيدات وهي عبارة عن شريط من جزيئات سكر-فوسفات المتناوبة بدءاً من الموقع (5)َ الخالي لأول ريبوز حتى الموقع (3)َ الخالي لآخر سكر ريبوز.

أي أن اتجاه سلسلة عديد النكليوتيد هو (5)َ-->(3)َ أي من أول ريبوز على اليسار إلى آخر ريبوز على اليمين.

رسم توضيحي لأماكن ارتباط مكونات السلسلة عديدة النكليوتيدات ببعضها

يمكننا اختصار اسم الأساس الآزوتي بأول حرف من اسمه، حيث:

الغوانين = G / السيتوزين = C / الأدنين = A / الثايمين = T / اليوراسيل = U

الخلاصة:

النكليوزيد مكوّن من أساس آزوتي مرتبط بالريبوز فقط.

الحمض النووي (RNA وDNA) مكوّن من سلسلة من النكليوتيدات.

النكليوتيد مكون من سكر ريبوز ومجموعة فوسفات وأساس آزوتي.

النكليوتيد (بتعبير آخر) مكوّن من نكليوزيد مرتبط بمجموعة فوسفات (أحادية أو ثنائية أو ثلاثية الفوسفات) متوضّعة على الكربون (3)َ (أو) (5)َ للريبوز.

الفرق بين الـDNA والـRNA هو الموجود على الكربون (2)َ في الريبوز حيث في الـRNA يوجد OH على الكربون (2)َ في الريبوز (فهو عادي) وفي الـDNA يوجد H فقط على الكربون (2)َ في الريبوز (فهو منقوص الأكسجين).

إن تسلسل جزيئات سكر الريبوز تكون من خلال مجموعة فوسفات بين السكّر والسكّر الذي يليه، ترتبط هذه المجموعة بالكربون (3)َ لأحد السكّرين وبالكربون (5)َ للسكر الآخر.

لسلسلة عديد النكليوتيد نهايتان حرتان، الأولى في الموقع (5)َ للسكر الأول، والثانية في الموقع للسكر الأخير، لذا فاتجاه سلسلة عديد النكليوتيد هو (5)َ-->(3)َ.

الـDNA يحوي T,A,C,G فقط. والـRNA يحوي U,A,C,G فقط (أي U بدل الـT).

الـDNA هو شريط مضاعف – نموذج واطسون وكريك:

إن ما قلته في البداية حول تكوين شريط الـDNA من عمود فقري من السكر منقوص الأكسجين والفوسفات وأسس آزوتية جانبية مرتبط بجزيئات السكر كان وصفاً لبنية الشريط المفرد للـDNA أي وصفاً للسلسلة واحدة عديدة النكليوتيد.

سلسلة عديدة نكليوتيد

لكن بتقابل شريطي DNA مفردين وارتباط أسسهما الآزوتية ينتج لدينا جزيء الـDNA الحيوي مضاعف الشريط!

من الخلية... إلى الحمض النووي

إن معرفة أن الـDNA يحتوي على أسس آزوتية بأعداد مختلفة بين الكائنات الحيّة قاد إلى المفهوم التالي:

"إن متوالية الأسس الآزوتية هي التي تمثل المعلومات الوراثية التي يحملها الـDNA."

في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، تعددت المحاولات لتفسير كيفية حمل الحمض النووي للمعلومات التي تحوَّل إلى سلسلة من الحموض الأمينية المشكلة للبروتين !

وفي عام 1953 حدَّد العالمان واطسون (J. D. Watson) وكريك (H. F. C. Crick) (الحائزان على جائزة نوبل) موديل الـDNA كـ"شريط مضاعف" حيث:

• كثافة الـDNA (DNA Density) -المدروسة- وضّحت أن الـDNA هو شريط مضاعف مكوّن من شريطين مفردين كل منهما عبارة عن سلسلة عديد نكليوتيد مقابلة للأخرى ومعاكسة لها.

• الأشعة السينية X-Ray بانعراجها خلال إمرارها على جزيء DNA وضّحت بملاقاة مسقطها أن الـDNA هو عبارة عن حلزون منظّم.

مسقط أشعة X-Ray بعد إمرارها داخل الـDNA

هذا الحلزون (وكأي حلزون) يتشكّل من خلال فتل شريط الـDNA (المضاعف) على ذاته، والتنظيم يكون من خلال إجراء لفة كل مسافة معيّنة.

وفي شريط الـDNA تحديداً، فإنه يقوم بلفّة كل 34 A أنغستروم (3,4 نانومتر) من طوله، ليشكّل بفتله المنتظم أسطوانة (ليس بالمعنى الحرفي) قطرها 20 A أنغستروم (2 نانومتر).

وبما أن البعد بين النكليوتيد والذي يليه في ذات الشريط المفرد هو 3,4 أنغستروم فإن شريط الـDNA المضاعف يقوم بلفة كل عشرة نكليوتيدات متتالية أي كل 10 أسس آزوتية.

• إن القطر الثابت للأسطوانة التي يشكلها شريط الـDNA المضاعف بفتله على نفسه (وهو 20 A أنغستروم) ليس نتيجة لعمل عشوائي، وإنما نتيجة لتوضع الأسس الآزوتية في الشريطين المفردين وفق قانون وهو:

"أن كل بيورين في السلسلة الأولى لا بدَّ وأن يقابله بيريميدين في السلسلة الثانية والعكس بالعكس"

لذا، يكون قطر الأسطوانة هو عبارة عن ثلاث حلقات (حلقتان من البيورين وحلقة من البيريميدين) بالإضافة إلى مسافة الرابطة.

ولنفرض توضع بيريميدين مقابل بيريميدين آخر، فإن ذلك سيعطي مسافة قدرها حلقتان فقط (مسافة قصيرة) ،وبفرض توضع بيورين مقابل بيورين ستنتج مسافة قدرها أربع حلقات (طويلة جداً).

إذاً فتقابل الأسس سيكون من خلال قوانين ثابتة وصارمة لتعطي قطراً ثابتاً لاسطوانة الـDNA.

• بالإضافة لقانون تقابل البيريميدين مع البيورين فهناك قانون آخر هو "قاعدة الاستكمالية Complementary Rule" التي تفرض تقابل الأدنين مع الثايمين، وتقابل السيتوزين مع الغوانين.

ارتباطات الأسس الآزوتية ببعضها

• بغض النظر عن كميّة (عدد) كل أساس آزوتي ما في شريط DNA ما، فإن نسبة وجود الأساس الآزوتي G في شريط مضاعف ما هي ذاتها نسبة وجود الأساس الآزوتي C في ذات الشريط المضاعف (بناءً على قاعدة الاستكمالية)، وكذلك بالنسبة للـA والـT.

لذا فإن DNA كائن حيّ معيّن يميّز بالنسبة G+C فيه والتي تتراوح بين 26% إلى 74% للكائنات الحيّة المختلفة.

اقترح واطسون وكريك أن السلسلتين عديدتي النكليوتيد ليستا منفصلتان عن بعضهما وإنما ترتبطان ببضعهما بواسطة روابط هيدروجينية متشكلة بين الأسس الآزوتية المتقابلة.

حيث أن الغوانين لا يستطيع إلا أن يقابل السيتوزين يشكّل معه رابطة هيدروجينية ثلاثية، والأدنين لا يستطيع إلا أن يقابل الثايمين فيشكل معه رابطة هيدروجينية ثنائية.

هذا التقابل والارتباط بين الأسس الآزوتية يسمى بازدواج الأسس Base Pairing والذي يتم حكماً تحت سيطرة قاعدة الاستكمالية Complementary Rule.

و أتمَّ العالمان اقتراحهما بأن السلسلتان المشكلتان لشريط الـDNA المضاعف تسيران باتجاهين متعاكسين، أي السلسلة الأولى بالاتجاه (5)َ-->(3)َ والأخرى بالاتجاه (3)َ-->(5)َ.

كهربائية جزيء الـDNA:

في شريط الـDNA المضاعف، يكون العمود الفقري (الفوسفات والسكر) متجهاً نحو الخارج ومشحوناً بشحنة سالبة Negative Charge متوضعة على جزيئات الفوسفات.

في المحلول In Vitro يكون المحلول الحاوي للـDNA معتدلاً بسبب وجود شوارد موجبة ضمن المحلول كالـNA+ مثلاً، أي تعدل الشحنة السالبة للـDNA.

والسؤال هنا:هل الـDNA في جسم الكائن الحي "سالب الشحنة" لعدم وجود شوارد موجبة كالتي توجد في المحلول؟

الـDNA (بمجمله) في الكائن الحي معتدل الشحنة، وذلك لوجود بروتينات موجبة الشحنة تعدّل من سلبية الـDNA.

إلى الداخل، تتوجه الأسس الآزوتية في شريط الـDNA المضاعف لتلتقي وترتبط ببعضها بالروابط الهيدروجينية آنفة الذكر.

تشبيه.. توضيح!

يمكن أن نعتبر شريط الـDNA المضاعف (قبل التحلزن) عبارة عن سلّم، لذا تكون كل سلسلة عديدة النكليوتيد إحدى عمودي السلم.. أي عمودا السلم (في السلم) يكافئان السلسلتان عديدتا النكليوتيد (في شريط الـDNA المضاعف).

وأيضاً يمكن اعتبار الأسس الآزوتية المتقابلة المرتبطة ببعضها في شريط الـDNA المضاعف كدرجات السلم!

و عند التحلزن، يدور السلم حول نفسه دورة كل 10 درجات، وكذلك شريط الـDNA المضاعف يدور حول نفسه لفة كل 10 أسس آزوتية.

لماذا 10 أسس بالتحديد؟

إن كل زوج أساس آزوتي في الشريط المضاعف ملتف بمقدار 36 ْ حول محور الأسطوانة، لذا فإن زوج الأساس الآزوتي الثاني يلتف بمقدار 36 ْ درجة بدءاً من النقطة التي أنهى فيها الزوج السابق دورانه فيعطي 36 ْ دوران إضافية فيصبح الدوران مقدراً بـ72 ْ درجة.

أي أن التفاف عشر أزواج أسس آزوتية متتالية سيؤدي إلى التفاف الشريط المضاعف بمقدار 360 ْ /أي لفّة كاملة!/.

الأثلام:

نوعان، الثلم الصغير يمتد على طول 12 أنغستروم من طول الشريط المضاعف، والثلم الكبيرة على طول 22 أنغستروم أي أن كل لفة تمسح 10 أسس آزوتية تشكل ثلمان صغيران وثلمان كبيران (لأن هناك جانبان).

الخلاصة:

لشريط الـDNA المضاعف عدة انماط، النمط الشائع هو النمط B المكون من سلسلتين ملتفتين على بعضهما بشكل متعاكس.

في شريط الـDNA المضاعف تكون الأسس الآزوتية في كل شريط مفرد متجهة نحو الداخل ليتقابل الأساس في الشريط المفرد مع أساس من الشريط المقابل، ويرتبط الأساسان ببعضهما بروابط هيدروجينية بحيث يرتبط الـA مع الـT، ويرتبط الـC مع الـG .

قطر الأسطوانة التي يشكلها شريط الـDNA المضاعف بتحلزنه هوA 20ْ أنغستروم.

تحلزن الـDNA يكون من خلال لفة كل 34 A أنغستروم ماسحاً بذلك 10 أسس في اللفة الواحدة.

بالتفاف الشريط المضاعف (تحلزنه) يصبح للأسطوانة في كل لفة ثلمان في كل جانب، أحدهما صغير Minor Groove والآخر كبير Major Groove. 

العلم والإتيقا: رهانات السوق(10)

 إذا كانت التكنولوجيا الحيوية إحدى المظاهر الحاسمة للتقدم التقني الذي يشهده عصرنا، فإن ثمة سؤالا ينفتح على أفق فلسفي لا يقل أهمية وقيمة عن السؤال الأخلاقي، وهو ذلك المتعلق بنمط العقلانية الموازية للتقدم التقني الذي تفتتحه الثورة البيوتقنية في أفق الألفية الثالثة؟ هذا السؤال يرتبط في وجه منه –لنقل الأساسي- بصيرورة الكائن المعاصر من حيث هي صيرورة ترتسم في عالم يعيش تحت التأثير المباشر والعميق لقوة جبارة تدعى التقنية.

 شهدت العلوم المعاصرة تطورات مذهلة في المنتصف الأخير للقرن العشرين 20. وقد تسارعت وتيرتها أكثر مع اقتراب نهاية القرن المذكور، مستفيدة في ذلك من السباق المحموم بين اقتصاديات الدول المتقدمة التي راهنت في تقدمها وطموحها إلى تحقيق أعلى معدلات النمو الاقتصادي والرخاء الاجتماعي على التحكم بأنظمة البحث العلمي بدرجات عاليا وربطها بمتطلبات الإنتاج الاقتصادي، بل وإخضاعها في النهاية لمنطق السوق الخالص كما تشهد على ذلك اتجاهات البحث في نطاق ما أصبح يعرف بالبيو-تكنولوجيات.

وإذا كان من الطبيعي أن تطرح مثل هذه التطورات مشاكلها الفلسفية والنظرية على صعيد الموقف الأنطولوجي للكائن، كما هو الشأن في كل المنعطفات الإبستمولوجية التي عرفها تاريخ العلم منذ الثورة الكوبيرنيكية، فإن الثورة التي أطلقتها علوم الهندسة الوراثية والبيولوجيا الجزيئية Biologie moléculaire على إثر الاكتشافات العظيمة في مجال الاستنساخ clonage والتي يظهر أنها تكرست كإنجاز حاسم وعلى نحو لا يقبل التراجع فيما يخص أهدافه البعيدة مع الإعلان عن إنجاز الخريطة الشاملة للجينات البشرية (الجينوم) تطرح بالإضافة لذلك، مشاكل أخلاقية على قدر كبير من الحساسية والخطورة، بالنظر إلى طبيعة مجال تطبيقاتها وما يثيره من شكوك حول مدى قدرة العلماء على التحكم بنتائجها وأغراضها الإنسانية المعلنة، فيما كثير من الأصوات تدق ناقوس الخطر بشأن تدخل أطراف مستفيدة من هذه الثورة لتحريف إنجازاتها واستغلالها لأغراض لا إنسانية أو على الأقل ستنطوي على تهديد لحميمية الكائن البشري وكرامته وخصوصيته.

ثلاث ثورات علمية ستطبع القرن الحالي ببصمات قوية: الأولى ثورة الكم التي كانت قد أطلقت في القرن العشرين موجة من الاكتشاف العلمي ارتكز على وصف المادة في تعددها الظاهري اللامتناهي قلبت المفاهيم القديمة الموروثة من العصر اليوناني رأسا على عقب. ومن المرجح أن تساهم هذه الثورة المتواصلة بشكل حاسم في فتح آفاق جديدة أمام العلماء والبشرية ستمكن من التحكم في المادة وتصميم أشكال جديدة للحياة. ثانيها الثورة الإلكترونية التي مكنت من فهم أنظمة الذكاء ودراسة أنواعه المتعددة والموزعة في كل أنحاء المحيط الكوني. ويفترض أن تقود هذه الثورة في القرن الواحد والعشرين إلى التحكم بأنواع متقدمة من الذكاء. ثالثها الثورة البيوجزئية التي تعد المستفيد الأكبر من الثورتين السالفتين، مما سيسمح لها بتفسير الحياة بالاعتماد على مؤشرات عالية الدقة مثل الشفرة الوراثية للحياة، التي أصبحت ممكنة بفضل تكنولوجيا البيولوجيا الجزئية. وهكذا فإن حل شفرة الجينوم البشري سيمكن العلماء من "دليل تشغيل" للكائن البشري، وبالتالي القدرة على التحكم في الحياة بشكل يستجيب لرغبة البشر؟!

لقد خلخلت هذه الثورات الكثير من اليقينيات وأفسحت في المجال لظهور تنبؤات جديدة أثارت حماسا كبيرا وسط العلماء، وفي الوقت نفسه مخاوف مشروعة فيما يعود لانعكاسات تطبيقاتها التقنية ذات الصلة بالإنسان والطبيعة. ويجدر التذكير هنا أن هذه المخاوف لم تعد مقتصرة على الرأي العام، بل نجدها أيضا لدى العلماء أنفسهم، خصوصا الذين يعملون في مجالات الحي le vivant كالبيولوجيا والطب. ولعل استحضار مصطلح البيوإيتيقا bioéthique الذي كان قد أطلقه عالم بيولوجي أمريكي قبل أكثر من ربع قرن، كاف للتدليل على تنبه العلماء للمشكلات الأخلاقية التي يطرحها التقدم العلمي، خاصة تلك المرتبطة بالعالم الحي. إن عمر هذا المصطلح يفصح عن حقيقة أن السؤال الإيتيقي الذي يلازم إنجازات العلوم وتطبيقاتها ويقلق العلماء والفلاسفة لا يخص فقط علوم الهندسة الوراثية وإنجازاتها في نطاق الاستنساخ وقدراتها على فك الشيفرة الكيميائية التي ستمكن من "خلق الإنسان"، وتحليل الخريطة الوراثية للكائن الحين (يقدم مشروع الجينوم البشري مثالا لتلاقح الثورات الثلاثة التي تمهد لقرن علمي جديد فاصل في تاريخ البشرية)، وإنما هو يتجاوزها ليشمل جل العلوم الأخرى التي تتعدى أبحاثها نطاق المختبرات والصياغات الرياضية، مثل الفيزياء الجديدة والكيمياء وغيرها. ويكفي الإشارة في هذا السياق أن المشكل الأخلاقي كان قد بلغ ذروته مع إقدام مجموعة من الفيزيائيين العاملين في مشروع "منهاتن" على إنتاج القنبلة الذرية وتفجيرها لأول مرة بالمدينتين اليابانيتين (هيروشيما وناكازاكي)، حيث خلق هذا الفعل الشنيع أزمة ضمير ألقت بظلالها على جيل كامل من العلماء على حد تعبير ميشال سير. وقد سارع بعض العلماء على إثر ذلك إلى التخلي عن تخصصهم العلمي ليتجهوا نحو مجالات بحث أخرى كان يعتقد حينها أن تطبيقاتها سيكون لها نفع كبير للإنسانية مثل البيوكيمياء وتطبيقاتها في الميدان الطبي. غير أنه سرعان ما تبين لهؤلاء أن هذه العلوم بدورها تطرح مشكلاتها الأخلاقية التي لا تقل حساسية وخطورة عن ما طرحته التطبيقات الفيزيائية. وهكذا يظهر اليوم أن كل العلوم تطرح أسئلتها الأخلاقية الخاصة بها: الكيمياء ومشاكل البيئة والبيوكيمياء وتحويل الجينات، بل وحتى الثورات الإلكترونية، التي يبدو مجالها محايدا، تطرح مخاطرها المتمثلة في تهديد الحريات المدنية والخصوصية من خلال التنصت والرقابة، وتعميق الفوارق بين الناس (الذين يملكون المعلومات والذين لا يملكونها)، "وإحالة عشرات الملايين من الناس إلى طوابير الخبز، مما يؤدي إلى زيادة الفوارق على هذه الأرض". وتعميق الفوارق بين الأمم، بين تلك التي تستثمر استراتيجيا في العلم والتكنولوجيا، وبين أمم لا تملك من العلم والتكنولوجيا شيئا وتكتفي باستهلاك ما تملك من ثروات ومواد طبيعية قابلة للنفاذ .

1 – قرن البيو-تقنيات أو القدر الميتافيزيقي للعلم:

لقد كان القرن المنصرم بحق قرن الفيزياء النووية والمعلوميات. وإذا كان القرن الحالي يواصل تطوير مكتسبات سلفه العشرين بشكل مدهش ربما لم يكن ليخطر على بال أولئك الذين وضعوا أسس الثورة الفيزيائية والمعلوماتية، فإنه في اتجاهه الأساس يكرس نفسه كقرن للهندسة الوراثية والبيولوجيا الجزيئية أو بالأحرى قرن البيو-تقنيات كما يسميه جيرمي ريفكين. فقد اعتبر هذا الأخير التكنولوجيات الحيوية بمثابة الثورة الصناعية الثانية التي يشهدها التاريخ الإنساني، حيث تتقاطع في مركب واحد قوى ثلاث ميادين أساسية: علمية، تكنولوجية واقتصادية. وهو المركب الناتج عن التقاء الثورة الجينية والثورة الإلكترونية الذي يهيئ البشر لولوج عصر البيو-تقنيات، إنه الالتقاء الذي يجسد ذلك الزواج الذي تحدث عنه هيدغر بين العلم والتقنية باعتباره القدر الميتافيزيقي للعلم. فالعلوم البيولوجية التي عرفت تطورا حاسما مع سطوع نجم الهندسة الوراثية وتقدم التقنيات المخبرية لم تعد مجرد علوم نظرية محضة بعد أن ولجت التطبيقات التقنية والصناعية مثل الطب والصناعة الصيدلية والفلاحة الاصطناعية وغيرها من المجالات التي استفادت من تقنيات التحكم في البنية الوراثية، والتي أصبحت قابلة للتعميم داخل الزراعات النباتية والبكتيرية بعد النجاح الباهر الذي حققته في الزراعة الحيوانية خاصة مع التجربة الشهيرة لنعجة "دولي".

لقد سمح التعاون الجاري بين مختلف العلوم البيولوجية والتكنولوجية الحيوية بتغيير علوم الحياة بشكل عميق إلى حد يسود فيه الاعتقاد بين العلماء أن ذلك سيؤدي حتما إلى تغيير الحياة نفسها، علاوة إلى ما سيترتب عن ذلك من ثورة اقتصادية واجتماعية وثقافية ذات أبعاد كونية يصعب تصور شكلها أو التنبؤ بعواقبها على المدى البعيد.

لا شك أن هذه الثورة العلمية الجديدة قد تأتي بفوائد عظيمة على مستوى تطوير وسائل وطرق علاج الأمراض المزمنة، وتوفير تنوع غذائي يسد حاجيات البشر، بل وحتى الكشف عن أسرار الوجود. لكن مع ذلك ثمة شكوك تحوم حول هذه الثورة ومنها ما يساور العلماء أنفسهم حول المخاطر التي قد تنجم عن استغلال نتائجها لتهديد البيئة، وهو ما يتحسسه اليوم كل الناس. على أن الأخطر من هذا التهديد هو تحكم رجال الصناعة في مستقبل الإنسانية من خلال تحويل المخزون الوراثي للبشر إلى مجرد ملكية صناعية على خلفية قوانين السوق. وقد عبر مؤلف كتاب (قرن البيو-تقنيات) عن هذا التخوف بقوله أن الإنسان يوجد اليوم على مرمى "تكوين جديد" يتميز بميلاد طبقة اصطناعية موضوعة لأجل تعويض الآليات الأصلية للتطور. فتقنيات التحويل الوراثي تمكن الإنسان اليوم من إعادة قولبة الحياة فوق الأرض، وهي نفسها التي تسمح بتحويل المساحات المزروعة إلى مساحات مغطاة بالنباتات المعدلة وراثيا. هذا علاوة إلى أن هذه التقنيات ستصبح قابلة للاستخدام في الأغراض العسكرية. ولعل ذلك يعيد إلى الأذهان المآسي التي تسبب فيها استخدام العلوم لأغراض مناقضة للأخلاق الإنسانية. فبعد القنبلة الذرية، ستمكن هذه التقنيات من التحكم أكثر في الطبيعة والسيطرة على قوتها. ولما كانت أخطار القنبلة الذرية واضحة فمن لا يصدق أن التقنيات الجديدة لا تحمل ذات المخاطر كما يقول ريفكين؟

توجد العلوم البيولوجية اليوم في موقف إبستمولوجي جدير بالاهتمام، فيما الحاجة إلى الفلسفة تزداد أكثر من أجل التدخل لفك رموز هذا الموقف بكل ما يلزم من الفعالية ليس فقط لصياغة موقف إيتيقي نظري أصبح ضروريا في ظل الوضعية الملتبسة التي تحيط بتقدم العلوم واتجاهات تطورها الراهنة، بل وكذلك لدعم موقف سياسي مضاد يعبئ الإنسانية في مواجهة المخاطر المفترضة من جراء الاستغلال الإيديولوجي والاقتصادي للاكتشافات العلمية الجديدة. وتبرز أيضا ضرورة تدخل الفلسفة في الكشف عن الرهانات التي تحيط بمجمل التطورات التي تشهدها العلوم البيولوجية وقد صارت رهينة للصناعات البيوتقنية. إن ملحاحية انخراط الفلسفة في هذا السياق تتمثل في كون العلوم البيولوجية وقد صارت رهينة للصناعات البيوتقنية. إن ملحاحية انخراط الفلسفة في هذا السياق تتمثل في كون العلوم البيولوجية على وجه الخصوص لم تعد مجرد علوم بحث برهانات المعرفة، وإنما صارت قوة تقنية تهيئ لصناعات مستقبلية ذات أهداف اقتصادية صرفة، خاصة بعد أن امتدت الأبحاث البيولوجية خارج المختبرات لتعانق تقنيات تحويلية ذات يد طولى على الأسواق مستفيدة في ذلك من دعم مالي قوي للشركات المتعددة الجنسية التي تسعى إلى اكتساح أسواق جديدة وترويج منتوجات تجارية جديدة تتعدى حدود الصناعات الصيدلية والطبية لتشمل منتوجات الفلاحة والصناعة الغذائية والحربية وغيرها، مما يثير مخاوف مشروعة حول ما قد ينجم عن ذلك من انحرافات أخلاقية وسياسية وإيكولوجية يرى الكثير من المتتبعين أنها واردة بنسبة كبيرة الاحتمال إذا كان الأمر يتعلق هنا بالذات بمغامرة السوق؟

إن الموقف الفلسفي الذي تبلوره الإيتيقا في هذا المضمار إذ يضع العلوم البيولوجية أمام سؤال الأخلاق دون مواربة، فإنه لا يغفل عن تقاطع هذا السؤال مع السياق التاريخي الذي تجري فيه الثورة العلمية المعاصرة في مختلف الميادين، والمتميز عموما بالتحكم الاقتصادي والسياسي في الأبحاث العلمية، وهو ما يظهر جليا في حقل البيو-تقنيات.

2 – منطق العلم ومنطق السوق:

في سنة 1907 كان Hugo Devries وهو بيولوجي شهير وأحد الذين أعاد اكتشاف ما يعرف بقوانين مانديل Mendel، قد أدرك أنه بالنسبة لعلم تطبيقي كالهندسة الوراثية الزراعية يهيمن الاقتصادي على ما هو علمي Le scientifique بل ويحدد ما هو "صحيح علميا". ولعل ما نشهده اليوم من هيمنة مطلقة على حقل الهندسة الوراثية والعلوم البيولوجية من قبل المركب الجينو-صناعي Le complexe genetico-industriel وتوجيهه للبحث في هذين المجالين بمنطق الربح والسوق على حساب المعايير الأخلاقية والإنسانية، لغير خير دليل على ما ذهب إليه De vries. H . فالمركب المذكور بسيطرته على التقدم التقني يسعى إلى الرفع من قيمة أرباح الشركات المستثمرة على حسبا المصالح الحيوية للمجتمعات الإنسانية، كما أنه يعمل على تحويل القضايا السياسية إلى قضايا تقنو-علمية بالشكل الذي يمكنه من التحكم فيها أكثر.

إن إحدى المجالات الهامة التي يجري فيها إعمال سيطرة المركب المشار إليه أعلاه تتمثل اليوم فيما أصبح يعرف بالفلاحة الاصطناعية التي غدت حقل اختبار حقيقي للتقنيات التي تمكن من الحصول على أنواع من العضويات الحية يتم تعديلها أو تغيير شفرتها الوراثية بحيث تصبح ذات إنتاجية عالية وقدرات فائقة على المقاومة والتكيف مع ظروف إنتاجها. وقد أثار استعمال هذه التقنيات مواقف متناقضة بين أنصار يتشكلون من منتجي المواد والمنتجات الفلاحية، وهم يزعمون أن أشكال التحكم الوراثي التي يجري تطويرها في أحضان البيو-تكنولوجيات ستمتع بعض العضويات بخصائص وراثية جديدة من شأنها أن تسهم في محاربة المجاعة في العالم، ومناهضين يرون أن ذلك لا يخلو من مخاطر عدة، أهمها اختفاء التنوع البيولوجي الناجم عن نمط الفلاحة الصناعية التي تمنح الأسبقية لعدد محدد من الأنواع العضوية ذات مردودية عالية. والحال أن الشركات المهيمنة لا يهمها توفير الأمن الغذائي للعالم بقدر مصالحها الخاصة، وهي لذلك لا تتوانى في ممارسة كل أشكال الضغط على التحركات التي تستهدف وضع قواني حماية الأمن البيولوجي مثل تقنين "بعثرة" المنتوجات المعدلة وراثيا OGM في المحيط الإيكولوجي وقوانين حماية المستهلك والبيئة من المخاطر المترتبة عن تسويق هذه المنتوجات.

إن السباق المحموم بين الشركات المتخصصة في "الصناعة الفلاحية" يكشف حقيقة أن الأمر لا يتعلق لديها بتوفير الأمن الغذائي للبشرية بقدر ما أن ذلك يخدم بالدرجة الأولى سعيها إلى تنحية الفلاحة الأحادية وتقوية موقعها على مستوى الأسواق العالمية من خلال السيطرة والتحكم بالأبحاث التكنولوجية والاختراعات. ويكفي استحضار مثلا شركة "مونساطز" في هذا البابا لتنفيذ خرافة الأمن الغذائي. فقد قامت هذه الأخيرة باختراع "سوجا" معدلة وراثيا تتمتع في الآن نفسه بمقاومة مبيد الحشائش تصنعه نفس الشركة، مما يعني أن زراعة هذه السوجا يستوجب استعمال ذات المبيد الذي تصنعه الشركة المسوقة لها. وهو ما يفيد عمليا إحكام القبضة على رقاب الفلاحين وتحويلهم إلى عبيد جدد للأسواق. وفي السياق نفسه يكشف التنافس الشرس حول امتلاك براءات الاختراع الوضع الاحتكاري للشركات المتعددة الجنسية، فيما يبقى الفلاحون مرغمين على استعمال البذور التي يتوقف إنتاجها على براءة الاختراع (ومن هنا يصبح مفهوما سعى الولايات المتحدة لجعل حقوق الملكية الفكرية إحدى النقاط الأساسية في مفاوضات التجارة العالمية المتعددة الأطراف التي كسبت في النهاية رهانها غداة مداولات الأروغواي). فالحقوق الفكرية تطال اليوم العضويات الموجودة في المحيط الطبيعي، مما يعني حرمان الفلاحين ودول العالم الأخرى من استغلال ما يعتبر ملكا مشاعا بين الإنسانية جمعاء. على أن الخطر الأكبر يظل هو محاولات تملك التنوع البيولوجي والعبث بالإرث المشترك للبشر.

إن منطق السوق الذي يتحكم في معالجة مسألة الأمن الغذائي للإنسانية يوهم أن مشكلة المجاعة ذات طابع تقني يمكن حلها بواسطة الهندسة الوراثية. والحقيقية أنها قضية ترتبط في النهاية بما يسميه إدغار بيزاني بـ"السيادة الغذائية المرتبطة بدورها بتقوية السياسة الاقتصادية المستقلة للدول السائرة في طريق النمو وحماية حقوقها إزاء الغزو الاقتصادي والتخريب الإيكولجي والاجتماعي الذي تمارسه الدول الغنية.

3 – المسؤولية الأخلاقية للعلماء: البيوإتيقا

إذا كانت المخاطر التي يطرحها تحكم الشركات المتعددة الجنسية فيما أضحى يعرف بالذهب الأخضر للقرن الواحد والعشرين (الجينات) تتجاوز إرادة العلماء، فإن ما تنبه له البيوإتيقا في هذا الإطار يتعلق بالدرجة الأولى بالمسؤولية الأخلاقية للعلماء تجاه أبحاثهم واكتشافاتهم في الوقت الذي صارت فيه تحت وصاية المؤسسات الصناعية. بل إن هذا التحذير يذهب أحيانا إلى رفض أشكال التحكم الجيني التي يطورها العلماء بمختبراتهم والمنطوية على مخاطر محتملة مثل نشر الأمراض بواسطة فيروسات معدية، وتهديد الإنسان في غيريته واختلافه، كإنتاج أعضاء بشرية موجهة لأغراض تجارية. وعن هذه الأخيرة تؤكد هيلين كاردين أن الطلب في هذا المضمار قوي بلا شك، وأن التقنية على ما يظهر لا تجد بدا من الاستجابة له إلى أبعد الحدود.

مما يبعث على قلق حقيقي اتجاه تسويق المنتوج العلمي واستخدامه لأغراض تتناقض والمبادئ المؤسسة لخصوصية الكائن الإنساني.

ما هي طبيعة المشاكل الأخلاقية التي يواجهها العلماء أثناء نشاطهم؟

تقول كلودين جوينين أنها تتمثل في مستويين: 1) مستوى البحث العلمي، 2) مستوى تطبيق الاكتشافات العلمية المترتبة عن البحث. وتعتقد أن هذه المشاكل ربما تحتد وتتعقد أكثر على المستوى الثاني، سيما وأنه مجال منفتح على المستقبل وغير متوقعة آفاقه البعيدة فكثير من المشاكل تنحدر من تطبيق قوانين Huriet والبيوإتيقا على أبحاث الهندسة الوراثية. على أنه في بعض الحالات يدعو العلماء إلى توخي نوع من الحذر الفكري تجاه تضخم وتعملق المشكل الأخلاقي، إذ أن "كثيرا من الأخلاق تقتل الأخلاق" كما تقول كلودين، زيادة إلى أن بعض القوانين الشرعية المنظمة للبيوإتيقا تستنزف الكثير من الوقت على صعيد البحث. وإذا كانت قوانين Huriet ضرورية في زمنها لتأطير البروتوكولات العلاجية فإن تمديدها لتشمل الأبحاث في نطاق الهندسة الوراثية تطرح الكثير من التعقيدات، خصوصا في الاختبارات الوراثية على المرضى لدى الشركات وشركات مشكلا سياسيا خطيرا للغاية. ويعتقد أنه بالنظر للإيقاع الذي تسير به الأمور فإن الاختبارات ستنتهي لأن تصبح في متناول غايات جماعية طالما أن الطلب واقعي تماما. فالأفراد أنفسهم سيطالبون بمعرفة مستقبلهم الجيني. ويضيف هذا الباحث أن السؤال المطروح حول مستقبل الاختبارات يتمفصل مع العلاقة الأبدية للعرض والطلب. فلما يتعلق الأمر بحالة عائلة مثلا مهددة باحتمال كبير للإصابة بسرطان الثدي، فإن الخوف يكون واردا لدى الأفراد عموما.والحالة هاته فإن واجب الطبيب أن يعمل في اتجاه الملاحظة الجينية لأنه في جميع الأحوال المعرفة أفضل من الخوف.

وعلى خلاف كلودين .ج يرى جون بيير شنجو "أن القوانين الأخلاقية في الميدان الطبي لا تعرقل تطور البحث، بل التأطير القانوني للبحث أمر لا بد منه، خاصة بالمجالات التي تهم البحث في الوقت الراهن، حيث تطرح مسألة كرامة الفرد. ومن ثم فإن دور اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاق بفرنسا مثلا، يتمثل بالأساس في معالجة كثير من النقط المتصلة بحماية كرامة الأفراد ومنع الانحراف الذي يتهدد البحوث الطبية في ميدان التجارب على السكان واختبار فعالية الأدوية. ويشير الباحث في هذا السياق إلى أن محكمة نورنبيرغ 1946 بإدراكها لجرائم الأطباء النازيين، شكلت المحطة التأسيسية للتفكير البيوإتيقي. وعليه فإن من واجب اللجنة المذكورة أن تتصدى للقضايا الأخلاقية المترتبة عن تطور الأبحاث سواء تعلق الأمر بالفرد أو الإنسانية جمعاء.

إن البيوإتيقا أضحت اليوم مرجعية عمومية لمواجهة التحديات التي تطرحها الثورات العلمية الجديدة في عدد من المجالات، وخصوصا ما يتصل بقدرات بعضها على تغيير أنماط الحياة في الكون وتعديل الكائنات الحية وتهديد التنوع البيولوجي مثل الهندسة الوراثية التي تزعم القدرة على تغيير الجينوم البشري وبالتالي الجنس البشري نفسه. والحال أن هذه التحديات تتجاوز العلماء أنفسهم في كثير من الأحيان، وهو ما يدعو إلى خلق تحالفات واسعة تضم قوى متعددة ومتضامنة للتصدي لها على المسرح العمومي. ولعل مبادرة جيرمي ريفكن في هذا الصدد لجديرة بالانتباه. فقد قاد هذا الأخير تحالفا احتجاجيا دوليا ضد تسجيل براءة الاختراع تسيطر عليه شركات لا رادع أخلاقي لها مثل شركة (ميرماد جبيتيك) التي سجلت براءة اختراع "جين" يكبح ورم سرطان الثدي BRCA وقامت بتسويق اختبارات جينية مسموحة تجاريا، وهو ما رأى فيه هذا التحالف تهديد واضح لخصوصية النساء، سيما إذا وصلت المعلومات إلى شركات التأمين، هذا فضلا عن كون ذلك يعد احتكارا وتجاوزا لمنطق التنافس العلمي مما يمكن القطاع الخاص من جني أرباح طائلة من بحث ممول من قبل الدولة.

على أن المشكلة تظل قائمة ضمن مسؤولية العلماء في معالجة الآثار الأخلاقية المترتبة عن أبحاثهم في مجال الهندسة الوراثية على وجه الخصوص.

يذكر م.كاكو أن علماء البيولوجيا الجزيئية استفادوا من أخطاء علماء الطاقة النووية الذين أغفلوا التجاوزات بسماحهم القيام بتجارب إشعاعية سرية على مواطنين أبرياء 20 ألف دون علمهم منذ الأربعينات، وذلك بأن طالبوا بتخصيص 3% من ميزانية مشروع الجينوم لمعالجة التأثيرات الأخلاقية والقانونية والاجتماعية، والتي تظل على كل حال نسبة ضئيلة للغاية. على أن مسؤولية هؤلاء تبقى قائمة لمواجهة التجاوزات المحتملة للثورة الجينية، مما يحتم ضرورة المساهمة في خلق نقاش "واعي بين مواطنين مثقفين لاتخاذ قرارات ناضجة بشأن تكنولوجيا من القوة بما يسوغ أن نحلم بأنها ستتحكم في الحياة نفسها". وطالما أنه من المستحيل احتواء التكنولوجيا الحيوية، فليس بالإمكان، يقول "كاكز"، سوى مناقشة واختيار التكنولوجيا المختلفة إما عبر قانون حكومي أو عن طريق الضغط الاجتماعي والسياسي". ويعتقد هذا العالم أيضا أن أفضل وسيلة للتصدي للمشاكل الأخلاقية والقانونية والاجتماعية الناجمة عن علم الجينات تتمثل في "ذكر مخاطر وإمكانيات البحث الجيني علنا أمام الجمهور وإصدار قوانين تحدد بشكل ديمقراطي اتجاه التكنولوجيا نحو تخفيف المرض والألم". بل إن عالمنا لا يرى مانعا من التحريم النهائي لبعض نواحي البحث الجيني التي لا يمكن التحكم فيها واحتواء مخاطرها.

وإجمالا يقترح "كاكو" أن ترتكز مسؤولية العلماء على المساهمة الجدية في ترسيخ مبادئ بيوإتيقية تضمن ما يلي: 1) العدالة للجميع، 2) عدم التمييز الجيني، 3) حق الخصوصية بمنع إذاعة الأسرار، 4) الرعاية الصحية وإتاحة الخدمات للجميع، 5) الحاجة إلى التعليم ورفع وعي الجماهير.

إن هذه المبادئ هي عموما ما يسمح بالتعاطي مع الأخلاق كمسألة تقع في صلب جدلية العلاقة بين العلم واستعمال المعرفة من قبل المجتمعات الإنسانية بما يضمن حقوق الأفراد وكرامتهم وخصوصياتهم.

4 – عقلانية القرن 21 أو نحو إنسانوية جديدة:

إذا كانت التكنولوجيا الحيوية إحدى المظاهر الحاسمة للتقدم التقني الذي يشهده عصرنا، فإن ثمة سؤالا ينفتح على أفق فلسفي لا يقل أهمية وقيمة عن السؤال الأخلاقي، وهو ذلك المتعلق بنمط العقلانية الموازية للتقدم التقني الذي تفتتحه الثورة البيوتقنية في أفق الألفية الثالثة؟ هذا السؤال يرتبط في وجه منه –لنقل الأساسي- بصيرورة الكائن المعاصر من حيث هي صيرورة ترتسم في عالم يعيش تحت التأثير المباشر والعميق لقوة جبارة تدعى التقنية. لقد أطلقت الثورات العلمية في مجالات الحي جدلا واسعا بشأن المسألة الإنسانوية Humanisme استقطبت، علاوة إلى انشغالات العلماء والفلاسفة، قطاعات واسعة من الرأي العام بالنظر إلى خطورة ما تنبئ به من تحولات ستمس لا محالة مواطن حساسة من كينونة الإنسان. وقد تمحور هذا الجدل حول سؤال كبير من طبيعة أنتروبولوجية جذرية يلحق بالسؤال الإيكولوجي للقرن العشرين حول مصير الكوكب وهو: ماذا سنفعل بنوعنا الإنساني؟

من الأطروحات التي برزت في أحضان هذا الجدل مثيرة نقاشا صاخبا بين أعداء النزعة الإنسانية وأنصارها نجد أطروحة ما بعد الإنسانية Post-humanité. وحسب ما ذكر أحد الكتاب فإن شخصيتين حظيتا باهتمام خاص في سياق هذا الجدل بالنظر إلى حساسية موقعهما الإيديولوجي. الأول محسوب على اليمين المحافظ، كان قد ذاع صيته عقب نشر مقاله حول نهاية التاريخ سنة 1989 وهو فرنسيس فوكوياما، والذي أصبح اليوم غنيا عن التعريف. أما الآخر فهو ينتمي لليسار الراديكالي الألماني برز على إثر خوضه لسجال عنيف مع هابرماس ومدرسة فرانكفوت ونشره لمحاضرة ألقاها في ملتقى دراسي حول مارتن هيدغر وليفيناس بعد توسيعها بالفرنسية تحت عنوان مستفز Règles pour le parc humain ويتعلق الأمر بـ Peter stoterdijk.

بالنسبة للأول، فقد وضع أطروحة جديدة يزعم فيها أن الوقائع التي شهدها التاريخ بعد 1989 أثبتت صحة أطروحته الأولى حول نهاية التاريخ. ذلك أن الثورة البيوتكنولوجية هي في طريقها إلى خلق شروط تاريخ ما بعد-إنساني، ويستند فوكوياما في زعمه إلى التأثير القوي للثورتين التوأم: ثورة تكنولوجيا الإعلام وثورة البيوتكنولوجيا على تطور العالم. ويعتقد أنه إذا كانت الثورة الأولى ملحوظة فإن الثانية هي المرشحة لإحداث انقلابات حقيقية في سيرورة العالم، ذلك أنه بعد جيلين من الآن ستمنحنا البيوتقنية أدوات ستمكننا من إنجاز ما لم ينجح في تحقيقه أخصائي الهندسة الاجتماعية، وهو ما يعني أنه في تلك اللحظة سنحسم نهائيا مع التاريخ الإنساني ومن ثم نلج تاريخا جديدا ما وراء الإنساني. وللبرهنة على أطروحته يسوق فوكوياما بعض الأمثلة من المعالجة الكيميائية للانفعالات للدفاع عن عالم جديد سيكون فيه أشباه إنسان في خدمة الإنسان الأعلى. ويعلق فيفيري على هذه الأطروحة قائلا: إن النزعة المضادة للإنسانوية النظرية والعملية التي تنطوي عليها ليبرالية فوكوياما نخفي في الواقع نزعة مضادة لليبرالية الثقافية والسياسية التي تبرر الليبرالية الاقتصادية التي تعمل الآن على إغراق العالم والبشر في فوضى وضع لا-إنساني.

أما فيلسوفنا اليساري الراديكالي فقد وضع أطروحة أثارت صخبا كبيرا بسبب ما تعمده من شحن لفظي جارح قريب من القاموس اليميني المتطرف الذائع الصيت في ألمانيا مثل منتزه إنساني، التدجين، الترويض وغيرها. ولتجنب ردود الفعل المحتملة لا يتردد Stoterdijk في العودة إلى أفلاطون ليجد في تراث هذا الأخير ما يعين على تأسيس خطاب "الجماعة الحيوانية" بشرعية فلسفية سيكون من الصعب بمكان انتزاعها من داخل المتن المعاصر يقول: "منذ البوليتكوس وبوليتيا، وجدت خطابات تتحدث عن الجماعة كما لو كان الأمر يتعلق بمنتزه حيواني parezoologique(…). ومن ثم يمكن لمقابلة الناس في المنتزهات –وفي المدن- أن تبدو كمهمة زو-سياسية une tâche zoopolitique. ليضيف قائلا "أن الحديقة الأفلاطونية يهمها أن تتعلم ما إذا كان الاختلاف بين السكان والقيادة هو فقط في الدرجة أم في النوع" وهذا الكلام لا يخفي انزلاقا صاحبه إلى قاموس يميني عنصري منحط.

ويرى باتريك .ف "أن الرد على هذا الخطاب ينبغي أن يعزز بالكشف عن مواطن الهشاشة في الإنسانوية الحديثة، والمتمثلة أساسا في: الهشاشة الإيكولوجية التي ترتبت عن الإنسان الديكارتي سيدا ومالكا للطبيعة دون أن نحدد مسؤوليته إزاء محيطه الطبيعي، ثم الهشاشة الأنتربولوجية التي تمثلت في إعادة تأسيس الرابطة الاجتماعية على نزعة فردانية عقلانية كرست المقارنة الرأسمالية للشرط الإنساني. ومن ثم يرى الباحث أنه في مواجهة التحدي الإيكولوجي والتنمية المستديمة والتحدي الأنتربولوجي ينبغي أن نفكر في تأسيس إنسانوية جديدة قادرة على حل المعادلات الصعبة والتوترات الدينامية التي تشغل حيز العلاقات بين الفرد والجماعة، العقل النقدي والبحث عن المعنى، تحويل الطبيعة واحترام الفضاء الحيوي، التقدم التقني العلمي وتجنب آثاره التدميرية المحتملة. ولأجل مقاومة إغراءات النزعة ما بعد-الإنسانية يلزم أخذ التحول المعلوماتي والثورة في مجال الحي بعين الاعتبار، طالما أن طريقة إقامتها داخل أجسادنا الخاصة يتهددها التحول وأن ما هو حميمي فينا أصبح موضوع رهان في صناعة الكائن الإنساني الحي.. إنه بالأحرى ينبغي الذهاب أبعد من ذلك في تأمل هذه الجدلية التي تعمل في بنية الرأسمالية المتجددة التي كتب عنها "شارو" يقول: "التكنولوجيا والإيديولوجيا أسس رأسمالية القرن الحادي والعشرين. تجعل التكنولوجيا المعرفة والمهارات المصادر الوحيدة للتفوق الاستراتيجي المستدام، وتتحرك الإيديولوجيا مدفوعة بالوسائط الإلكترونية نحو شكل جذري من تعظيم الاستهلاك الفردي على المدى القصير تماما، في الوقت الذي سيعتمد فيه النجاح الاقتصادي على الاستعداد والمقدرة على تقديم استثمارات اجتماعية –على المدى البعيد- في المهارات والتعليم والمعرفة والبنية التحتية. وعندما تفترق التكنولوجيا عن الإيديولوجيا فإن السؤال الوحيد سيكون هو: متى ستحدث (الواقعة الكبيرة)، أي الهزة الأرضية التي ستطيح بالنظام؟

......................................................................................

المصادر/

1- موقع الكيمياء الحيوية للجميع

 2- فريتيوف كابرا / مجلة معابر

 3- أ. د. علي مشعل/  مجلة  رسالة التقريب

 4- موقع بروجيكت سنديكيت

 5- د. عزالدين فراج/  موقع ا لبلاغ

 6- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

 7- مجلة الدفاع السعودية

 8- موقع جورداتا في الصحة والثقافة

 9- موقع حكيم

 10- عبد المجيد السخير/ مجلة فكر ونقد

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 11 شباط/2008 - 3/صفر/1429