كثيرا مايقال عن العراقي بأنه طيب، وكريم، وشهم، وغيور...وهذه
الصفات الجميلة والحسنة بلا شك موجودة عند العراقيين ويشهد بذلك
الجميع، لكن الى جانب هذه الخصال هناك ميل لدى بعض العراقيين يتمثل في
ضيق افق الحوار لديهم وانكفائهم غالبا على الذات والتخندق تجاه الاخر،
ولايوجد في الغالب استعداد للاعتراف بالخطأ في حالة حصوله، بل غالبا
ماتتحرك الانا لدى البعض خالقة شتى الاعذار والمبررات للذات وملحقة شتى
الموبقات والخطايا بالاخر، لذا غالبا ماتجد بعض الحوارات العراقية تميل
الى الصراخ والتهديد والوعيد والانسحاب ورفض التسليم بالحقيقة، واحيانا
تأخذ اتجاهات بعيدة عن اداب الحوار والسلوك الحضاري.
وهذا الامر لايقتصر على الافراد وانما شمل بعض الاحزاب والحركات
والتجمعات السياسية والاجتماعية والثقافية، داخلة ضمنها حتى تلك التي
تنادي بالديمقراطية، فهي تكتب وتفكر وتبشر بأسلوب ديمقراطي، لكنها
ماتكاد تتحرك وتتفاعل في وسطها الاجتماعي الا وتترك كل شعاراتها وراء
ظهرها وتستخدم العنف والقوة سبيلا لبلوغ اهدافها، ولعل هذا الواقع الذي
تنطوي عليه الثقافة العراقية هو الذي دفع الدكتور علي الوردي في كثير
من كتاباته التي تناولت المجتمع العراقي، الى ان يتهم الشخصية
العراقية بالازدواجية معللا السبب في تصارع قيم الحضارة والبداوة على
الارض العراقية، وقد لانتفق مع الوردي في بعض افكاره، ولكن تحليل تاريخ
الدولة العراقية الحديثة وما مرت به من انعطافات كثيرة، كان رائدها
العنف بين العراقيين، وما نشهده في حياتنا اليومية من سيادة مظاهر
العنف، ابتداء من الاسرة مرورا بالمدرسة ومواقع العمل، والروابط
الاجتماعية والسياسية، يدفعنا الى القول بوجود مشكلة في الثقافة
العراقية المعاصرة، تتمثل بسيادة نزعة العنف الى درجة القسوة فيها، فما
هي اسباب هذه النزعة ؟، وكيف يمكن معالجتها ؟.
ترجع اسباب السلوك العنيف الذي يمتاز به بعض العراقيين الى جملة
اسباب نذكر منها:
1- طول عهود الاستبداد
سبق ان قرأت لاحد الباحثين العرب قوله: لقد تواترت علينا عهود
الخوف حتى اصبحنا بشر خائفين، وقد اراد هذا الباحث بقوله وصف الشعوب
العربية، لكن الحقيقة هي ان هذا القول ينطبق بدرجة عالية على العراقيين
الذين لم ينعموا طوال تاريخهم الطويل بحكومات عادلة، حتى يمكن اعتبار
ظهور هكذا حكومات بمثابة فلتة او استثناء عن القاعدة، اذ غالبا ماوجد
العراقي نفسه خاضعا بلا ارادة منه لحكومات مستبدة تمارس سياسة الحديد
والنار والتهديد والوعيد بالثبور لشعبها، فأصبح الانسان العراقي دائم
التوجس والخوف من السلطة، تلك السلطة التي لم تترك اسلوبا قذرا من
اساليب الاهانة والتنكيل الا واستخدمته، وتحت مثل هذه الحكومات ترعرت
ثقافة العنف، عنف السلطة تجاه الناس، وعنف الطوائف والفئات والولاءات
المستغلة بوحيها -اي السلطة- تجاه بعضها البعض، وصار المجتمع عبارة عن
مجتمعات متناحرة متقاتلة منغلقة على ذاتها لم تتحاور فيما بينها بأجواء
يسودها التسامح والقبول بالاخر، اذ الاخر غالبا لم يتم الاحساس به
كشريك في الوطن،وانما تم الاحساس به كعدو يخشى بأسه وظلمه.
ان المستفيد الوحيد من سيادة هكذا اجواء مشحونة متأزمة كان
السلطات المستبدة بمختلف اشكالها والوانها، تلك السلطات التي تمسكت
بكراسي الحكم من خلال العنف والارهاب تجاه الانسان، فتحققت في العراق
تلك الصورة التي تحدث عنها (قاسم امين) منذ اكثر من قرن من الزمان، اذ
صار ت المرأة في رق الرجل والرجل في رق الحاكم، فهو ظالم في بيته مظلوم
اذا خرج، وكيف لايكون الرجل ظالما في بيته وهو يعاني الكبت والظلم
والجور من السلطة ويتغذى من ثقافتها ويغذيها لاولاده واحفاده.
ان السلطة في الوقت الذي كانت بعيدة عن الانسان وتتحكم به من خلال
اساليبها اللاأنسانية، كان الشعب يبتعد عنها ويتحين فرص زوالها بأي
طريقة كانت، ولعل زوال حكم صدام حسين في21 يوما عندما تخلى الشعب عنه
وتركه تحت رحمة الامريكان برجاء التخلص منه دليل على صدق هذا القول.
أن الزمان الطويل الذي رزح فيه العراق تحت حكم الاستبداد كان سببا
رئيسا في بروز ظاهرة العنف في ثقافة شعبه.
2- دورالقوى الغازية
تميز العراق بأنه ارض تثير طمع الغزاة فيها على مر التاريخ، لاسباب
لسنا بصدد الكلام عنها، وهذه القوى الغازية غالبا ما تأتي لبث الفوضى
والخراب والموت والقتل داخله، فيالكثرتها من مشاهد عنف وخراب تلك التي
يحدثنا عنها التاريخ منذ ايام سومر حيث القوى الغازية من جهة الشرق _
مايسمى اليوم بايران – والى اليوم حيث الغزو الامريكي _ الغربي الذي
انتهى باحتلال البلاد في 2003. ان مشاهد الخراب والدمار التي اتت مع
قوى الغزو ترسخت في وجدان العراقيين وأخذت طريقها الى ثقافتهم الشعبية
حيث تقص عنها الروايات والقصص التي ترسم الخوف والرعب من الاخر -وهنا
الاخر هو الاجنبي- بل تم تجسيد هذه الثقافة في المناهج الدراسية تلك
المناهج التي ترسم تاريخ العراقيين وكانه عبارة عن كر وفر واحتلال
وانتصار وخراب وبناء ليأتي الخراب مرة اخرى، كما ان دور الاجنبي الغازي
لم يقتصر على ماتقدم، فقد تفريق العراقيين شيعا واقواما تتناحر فيما
بينها على فتات ماأبقاه لها خيرا من اتحادهم واجتماع كلمتهم على طرده
وبناء بلادهم، وهذا العامل بتكراره وكثرته رسخ الخوف والعنف في النفوس
والعقول، وضيق مساحة الحوار والتفاهم والتسامح.
3-تدخل دول الجوار العراقي
يقع العراق في موقع جغرافي حيوي يحسد عليه، كما ان لشعبه امتدادات
دينية ومذهبية وقومية مع اغلب الدول المجاورة، وغالبا ماكانت هذه الدول
المجاورة غير مقتنعة بوزنها الاقليمي والدولي اذ تراودها رغبات شتى في
الزعامة والسيطرة على الاقليم، وخير وسيلة لذلك هو اظهار مقدار تحكمها
وسيطرتها على الاوضاع في دول جوارها، لذا نجد كل هذه الدول بلا استثناء
كانت شريكة في عدم استقرار البلد، وعامل محفز اساس لكتله الاجتماعية
للتناحر فيما بينها، موظفة في هذا السبيل كل طاقاتها المالية
والافتائية والمخابراتية والسياسية، فلم يترك العراقيون لتداول امورهم
فيما بينهم بعيدا عن تدخلات جوارهم والامثلة كثيرة في تاريخ الدولة
العراقية الحديثة، من فرض ملك غير عراقي بحجج واهية الى اجراء حوار
امريكي –ايراني حول مستقبله، وعبور الارهاب بمختلف صوره من دول الجوار.
لقد ترك تدخل دول الجوار اثرا سيئا على الثقافة العراقية وعمل على
تغذية نزعة العنف التي سادتها واستفحلت فيها.
4-دور القوى السياسية العراقية
تتحمل جميع القوى السياسية التي عملت في الساحة العراقية منذ تأسيس
الدولة الى هذا اليوم وزر بقاء العنف سمة من سمات الانسان العراقي، حيث
ان هذه القوى سواء سميت احزاب او حركات او تيارات او جمعيات او غيرها
وسواء كانت اممية او وطنية، علمانية او اسلامية عملت على قولبة الثقافة
لمصلحتها في الحكم، فهي لم تعمل على تطوير الانسان من اجل جعله عضوا
اخلاقيا وحضاريا فاعلا في بناء مجتمعه، بل كانت حريصة على جعله جنديا
يحارب بضراوة لحصول حزبه وحركته على كراسي السلطة، لقد تخلت قوانا
السياسية في الماضي ولازالت – نأمل ان لايستمر ذلك طويلا – عن مهمة
ترسيخ المواطنة العراقية من خلال خلق ثقافة الحوار والتسامح للتوصل الى
حلول وسط، وحتى بعض الأئتلافات السياسية كانت وقتية تتحين اطرافها
الفرصة للانقضاض على بعضها، كما ان هذه القوى في الاغلب الاعم تجد فيها
بونا شاسعا بين النظرية المرفوعة والتطبيق الحاصل فهي ديمقراطية حضارية
في نظريتها لكنها مغرقة في الاستبداد والنرجسية والرجعية في تطبيقها،
فساهم هذا الواقع للقوى السياسية العراقية في ضيق مساحة التفاهم بالعقل
والمنطق والحجة الحسنة وفسح المجال واسعا لثقافة السيف والبندقية
والمدفع، فكان العنف رائدها والقتل والتشريد والدمار نتائجها.
هذه العوامل الاربعة هي العوامل الاساسية في سيادة نزعة العنف في
ثقافة الانسان العراقي، وقد يتصور البعض عوامل اخرى مرتبطة بالبنية
الاجتماعية والاقتصادية السائدة، وهذ ا صحيح، لكن الاولوية تبقى
للعوامل اعلاه. وبعد ان اتضحت اسباب هذه الثقافة،فأن معالجتها والتخلص
منها يتم من خلال التالي:
1- قيام حكومة عادلة ديمقراطية لافئوية ولاطائفية ولاقومية تجمع كل
العراقيين وتجعل العدل والاحسان رائدها، وتشجع من خلال سلوكها المتسامح
والمتحضر الانسان العراقي على التخلي من خوفه، والتطلع لمستقبل يعيش
فيه حرا هو والاجيال التي تأتي بعده، ولايكفي الشعار فقط في هذا المجال
بل يحتاج الامر الى عمل وعمل دؤوب وطويل.
2- عدم انجرار المواطنين وراء مخططات القوى الاجنبية ومؤامراتها،
وهذا الامر يتطلب توضيح هذه المخططات من قبل النخب العراقية كي لاينخدع
بها بسطاء الناس، وتصفية كل آثار الاحتلالات الاجنبية الماضية
والحالية.
3- تغيير مناهج الدرس التي يتلقاها الانسان العراقي بشكل يسمح ببناء
فضاء الحوار وتقبل الاخر وعدم الخوف منه، وهذا يشمل كل المناهج من
الابتدائية وحتى الجامعة.
4- ان اعتماد سياسة حسن الجوار مع دول الجوار من قبل الحكومة
العراقية هو امر حسن على ان تعتمد تلك الدول ذات السياسة لا ان يكون
الامر مجرد اعلان وذر للرماد في العيون، اذ مهما تصور اي طرف عراقي ان
التعامل مع احدى دول الجوار على حساب احد الاطراف العراقية سوف يجر
النار الى قرصه، فأنه واهم حيث ان كل دول الجوار تتحرك بوحي مصلحتها لا
المصلحة العراقية ولن يضمن مصلحة العراق الا تكاتف اهله واصطفافهم خلف
حكومة حقيقية منهم واليهم.
5- ان تكون القوى السياسية العراقية بالمستوى المطلوب في بث الوعي
السياسي بين الناس، فتكون ادوات حضارية في غرس المواطنة لاسبيل
لتمزيقها وتشويهها.
6- ممارسة النخب المثقفة لدورها في نشر ثقافة اللاعنف والتسامح بين
الناس، فيكون المثقف مسؤولا تجاه شعبه لابوقا للسلطة ودوائرها، ولايعني
هذا عدم الاشتراك بالسلطة، ولكن يعني التمسك برسالة المثقف تجاه شعبه
اينما وجد، ويشمل هذا كل المثقفين الاسلاميين وغير الاسلاميين.
* مركز الفرات للتنمية والدراسات
الاستراتيجية
http://fcdrs.com |