
شبكة النبأ: عن المجلس الوطني للثقافة
والفنون والآداب في دولة الكويت صدرت دورية عالم الفكر..
وحمل ملف العدد عنوان (الوثيقة)
لا يمكن قراءة التاريخ قراءة مرجعية من دون الرجوع إلى المستندات
الموثقة لأحداثه ومساراته ومحطاته، بل لا يمكن تصور تاريخ البشرية من
دون مثل هذه (الوثائق).
ولقد تركت لنا العصور المتعاقبة آثاراً مكتوبة ومخطوطات مختلفة
الأهمية ومتنوعة الشكل، وبالطبع متفاوتة المصداقية، غير أن المهم منها،
الذي درج على تسميته بالوثائق، بقي المرجع الأكثر ركوناً إليه من قبل
المؤرخين والدارسين والباحثين.
وإذا كان البعض يعتبر (الوثيقة) مرآة للتاريخ، والبعض الآخر يرى
فيها نبض حركة الجماعة أو الفرد في حقبة غابرة، فإن افتقارنا إلى وثائق
كافية عن معظم المراحل التي مرت بها البشرية ضاعف من أهمية الوثائق
النادرة المتوافرة، أو التي لا يزال يُعثر عليها بين الحين والآخر. وفي
هذا السياق انشئت المراكز والدواوين المتخصصة، وشكل كثير من فرق
الخبراء للتحقيق والعناية بهذه الكنوز المعرفية... وكان هذا الاهتمام
سمة من سمات عصرنا الراهن، ولاسيما بعد ظهور الأمم المتحدة ومنظماتها
التابعة المتخصصة، ومنها تحديداً تلك المعنية بمجتمع المعلومات،
وبالحفاظ على التراث الإنساني.
واللافت أنه مع تطور تكنولوجيا الاتصال ومع اتساع طفرة وثورة
المعلومات، بفضل الشبكة العنكبوتية العالمية، اكتسبت الوثائق التاريخية
قيمة جديدة، وبقيت تمثل ما اعتبره "النوع المعلوماتي الأصيل"، مقابل
"الكم المعلوماتي المتواتر" الذي يصعب التحقق منه بسبب سرعة انتشاره
(وربما تقبله)، إلى درجة يصبح معها من المسلمات المعرفية أحياناً. أما
الوثيقة – الحقيقية طبعاً – فتبقى ملكة في هذا المجال، وما يزيد من
تألفها أنها محفوظة وغير متاحة للجميع!
لذا، فالوثائق تمثل عالماً خاصاً تتمتع به – عادة – قلة من الباحثين
والمؤرخين والمعنيين بصون التراث الملموس، ما عدا تلك التي تعرض في
المتاحف أو في المعارض الموسمية، لكن فوائدها شاملة للإنسانية جمعاء
ويكفي أنها أداة حاسمة وفريدة – غالباً – في العثور على حقائق تُجلي
صورة الماضي، وفي قضايا قد تكون محط خلاف ونزاع في الحاضر، وربما في
المستقبل.
وفي هذا العدد من (عالم الفكر) نحاول أن نسبر بعض جوانب وخفايا هذا
العالم المثير – حقاً – وإشكالياته غير السهلة، وذلك من خلال دراسات
لنخبة من المتخصصين، فيقدم الدكتور قاسم عبده قاسم دراسة يناقش فيها
تزوير التاريخ هل يمكن تزوير التاريخ؟
هذا السؤال بحد ذاته يثير العديد من الأسئلة حول المقصود
بـ(التاريخ) هنا.
ذلك أن كلمة (التاريخ) لا تحمل معنى اصطلاحياً محدداً يتفق عليه
المتخصصون وعامة المثقفين، كما أنها لا تحمل معنى لغوياً واحداً يمكن
أن ينصرف إليه الذهن عند سماعها، فعلى مستوى اللغة قد تعني كلمة
(التاريخ) التعريف بالوقت، مثل تاريخ الميلاد، أو تاريخ التخرج أو ما
شابه ذلك من المعاني.
وقد تعني عملية مرور الزمن وما حفل به من أحداث. وقد تعني أيضاً
لحظة فارقة في الزمن بسبب أهميتها، وهو ما يسرف السياسيون كثيراً في
استخداماتها عندما يصفون حدثاً سياسياً ما، أو حرباً، أو حتى خطاباً
لأحدهما بأنه (حدث تاريخي) أو (معركة تاريخية) أو خطاب تاريخي ومن
ناحية أخرى، لا يتفق المؤرخون على تحديد واحد لمصطلح التاريخ، إذ إن
مجال الدراسة التاريخية بات معقداً ومركباً بدرجة تكاد تستعصي معها
محاولة الوصول إلى مصطلح يحظى بالموافقة الجماعية، فهناك من يرى أن
التاريخ سجل للماضي، ولكن دراسة التاريخ ليست هي دراسة الماضي برمته.
وإنما تنصب على دراسة مسيرة الإنسان في هذا الماضي. ويعني هذا الاعتبار
(التاريخ) سجلاً للماضي من حيث ارتباطه بالإنسان.
، ويحلل الدكتور عبد الملك التميمي الوثائق الرسمية البريطانية
الخاصة بمنطقة الخليج العربي ينسب عدد من المؤرخين إلى بعض فراعنة مصر
القدامى أنهم كانوا يمحوون ما سبق أن حفره أسلافهم، ويعيدون كتابة بعض
الأحداث، ناسبين إلى أنفسهم معارك لم يخوضوها وانتصارات لم يحرزوها،
وأعمالاً لم يقوموا بها سواء كان طمساً لأعمال حكام سابقين عليهم، أو
انتحالاً لفضل لا حق لهم فيه.
وفي الثلث الأول من القرن العشرين. بعد أن مات لينين قائد الثورة
الروسية، دار صراع عنيف على السلطة من بعده بين أبرز رفيقين له، وهما
ستالين وتروتسكي، انتهى بانتصار ستالين وطرد تروتسكي، وعرفنا أن ستالين
عاد إلى وثائق الثورة بسلطة الدولة، يمحو منها كل عمل مهم قام به
تروتسكي للثورة، وظهر من الكتب ودوائر المعارف طبعات جديدة تعيد شرح
الأحداث بطريقة أخرى محو أثر تروتسكي، أو تشوه دوره، حتى اللوحات
الزيتية التي رسمها الرسامون لأحداث الثورة، التي علقت على المتاحف
العامة، أعيدت الريشة إليها لتمحو وجه تروتسكي، بل إن عدداً من الصور
الفوتوغرافية المهمة في الأرشيف أجريت عليها تعديلات في الاتجاه ذاته،
لقد أعيدت كتابة التاريخ بصورة واحدة، وحدث هذا من قبل السلطات، لذلك
من الطبيعي أن يشك الناس في كل ما هو تاريخي رسمي.
نحن بصدد البحث في مسألة شائكة هي "الشك في بناء الوثيقة" في نصها
ومضمونها، وأيضاً إلى حد ما في تفسيرها وظروف استخدامها. في هذه الورقة
محاولة لمعالجة هذا الموضوع منطلقين من دوافع كتابة الوثيقة، والظروف
التي أثرت في كتابتها، وكيفية توظيفها، ذلك من الجانب النظري، على أن
الأمر يحتاج إلى جانب تطبيقي، لذا فقد اخترنا له نماذج من بعض الوثائق
البريطانية الرسمية عن منطقة الخليج، كتبت في الفترة الاستعمارية
لأغراض تطلبتها ظروف السيطرة والمصالح البريطانية.
بعد تعريف الوثيقة يناقش هذا البحث دوافع كتابتها ويتساءل: هل
الوثيقة نص مقدس؟ بمعنى أنه هل ينبغي التسليم بمحتواها على أنها نقلت
الحقيقية لكونها وثيقة تاريخية؟ وأكد البحث أن ذلك يجب ألا يكون إلا
بعد التأكد من هويتها وأصالتها ومدى صدقيتها، وهذا لا يكون إلا بالشك
في مضمونها إلى أن يتم التأكد من صحة ما جاء فيها.
وصنفت دوافع كتابة الوثيقة التاريخية إلى: الدوافع السياسية
والايديولوجية، والمصلحية والاقتصادية، الفردية والاجتماعية ومن
الدوافع العلمية.
في حين يكتب الدكتور مسعود ضاهر عن منهجية التاريخ الشفهي وكيفية
الاستفادة منه عند العرب ليس من شك في أن علم التاريخ هو من أكثر
العلوم الإنسانية تعقيداً، لأنه يطال جميع نشاطات الإنسان من خلال
علاقته بالمكان والزمان. لكن ما دُوِّن من تلك النشاطات لا يشكل سوى
جزء بسيط جداً من الكم الهائل لأعمال البشر الذين مضوا من دون أن يُعرف
كثيرٌ من أعمالهم.
ومع ازدياد عدد سكان الكرة الأرضية من بضعة ملايين – عند بدايات
التدوين التاريخي لأعمالهم – إلى أن بات يقدر الآن بأكثر من ستة
مليارات نسمة، تبدو قدرة المؤرخين على رصد تاريخ شمولي ودقيق للإنسانية
مسألة سجالية، وما دُوِّن من علاقة الإنسان بالأرض، وعلاقة الجماعات
البشرية بعضها بالبعض الآخر، لا يرقى إلى أكثر من عشرة آلاف سنة في
أكثر التقديرات تفاؤلاً، ولا يزيد على أخبار متواترة ومتناثرة، ويركز
على الشخصيات البارزة دون سواها، متجاهلاً (تاريخ الناس كل الناس)، وفق
مفاهيم ومبادئ التاريخ الاجتماعي الحديث. وما كتب عن نشاط الناس متواضع
جداً لأسباب عدة، أبرزها النقص في التدوين، وغياب الوثائق أو إتلافها.
كما أن ما دون من ذلك النشاط هو موضع نقد مستمر؛ لأنه استند إلى روايات
شفوية، وكان انتقائياً وعرضة لكثير من التحيز والهوى، وتنقصه الدقة
والموضوعية والشمولية.
ويتناول الدكتور عادل العبد الجادر إشكالية التعامل مع (النسخة
الفريدة) من المخطوطات التاريخية.. استخدم الباحثون المخطوطات مصادر
لدراساتهم، فجهدوا واجتهدوا في البحث عنها والاستعانة بها، وأمل البعض
منهم أن يعود نشر ما يقع بين أيديهم من مخطوطات ذات أهمية بالنفع على
طلبة العلم والمتخصصين، فكثر نشر المخطوطات العربية، وساعد على ذلك
وجود مراكز ومعاهد متخصصة لتلك المخطوطات في العالمين العربي والإسلامي
والمكتبات العالمية. ويبدو أن كثيراً من الدارسين استهواهم نشر
المخطوطات بعد قراءتها، الأمر الذي جعل بعضهم يخوض في علم أوسع من
مداركه وإمكاناته. فقراءة المخطوطات ومقارنة النسخ وتوليفها ما هي إلا
مرحلة ابتدائية من مراحل التحقيق، تأتي بعدها مرحلة دراسة الرسم
الإملائي وتصحيح مفردات لغة الكتابة وإكمال السقط، وشرح ما استعصى
فهمه، وتخريج الأحاديث الشريفة، وشرح الغريب وتخريج النصوص المقتبسة
وإحالة الروايات إلى رواتها، والتعريف بالأعلام والأمكنة والبلدان،
وضبط الآيات القرآنية وإحالتها إلى سورها، ولا يكتفي المحقق بذلك، بل
يتبع منهج البحث والمقارنة والمقابلة، ونقد ما يجده من زلل أو خطأ وقع
فيه المؤلف أو الناسخ، هذا إضافة إلى تاريخ المخطوطة من خلال دراسة
الورق والحبر وخط الكتابة، والبحث في ترجمتي المؤلف والناسخ. إن مثل
هذا العمل المضني يجعل من تحقيق المخطوطات ميداناً له فرسان ذوو
مواصفات خاصة، وذوو إلمام بعلوم اللغة كالنحو والصرف والعروض، وعلوم
القرآن والحديث، والتاريخ والجغرافيا والفلسفة والمنطق، وربما علوم
أخرى، كالكيمياء والفلك والطب، وبهذا يكون المحقق عالماً موسوعياً، أو
على الأقل عالماً بأولويات وأصول التحقيق.
ويسلط الدكتور ناصر سعيدوني الضوء على إشكالية التعامل مع وثائق
الوقف، من خلال دراسة الحالة الجزائرية كنموذج، إن الوقف باعتباره
مظهراً روحياً وتعبيراً ثقافياً وإجراء اقتصادياً وتعاملا اجتماعيا،
اكتسب أهمية كبرى لدى الباحث في مسائل التاريخ وقضايا التراث، واحتلت
الجوانب التي يتناولها والمسائل التي يعرض لها مكاناً مميزاً في مجال
الدراسات الإنسانية والبحوث الاجتماعية.
لكونه يعبر عن حالة المجتمعات الإسلامية ويحدد ملامح الحياة اليومية
بها، خاصة لدى الجماعات الحضرية في الولايات العثمانية بأقاليم البلقان
والأناضول، وفي بلاد الشام والعراق ومصر، وفي أقطار المغرب العربي، حيث
غدا الوقف هو العامل الذي يطبع الحياة الاجتماعية ويتحكم في النشاط
الاقتصادي للمجتمعات المحلية بتلك الأقاليم، في غياب مبادرة الحكام
وقصور الجهاز الإداري عن تلبية الحاجات الاجتماعية وتوفير الخدمات
الضرورية للسكان باختلاف أوضاعهم وتعدد طوائفهم وأعراقهم.
ويعرج الدكتور محمد صالحية على قضية الوثائق الفلسطينية النادرة
منذ الحرب العالمية الأولى، وحتى نكبة احتلال فلسطين (1914 – 1948).
إن محتويات هذا العدد ستمكن القارئ من الوقوف على الجوانب البالغة
الأهمية التي لعبها اكتشاف (أو تزوير) بعض الوثائق في عصرنا الراهن،
كما ستساعده على اكتشاف الصعوبات التي تعترض المتخصصين في هذا
الميدان... لكن أخطر صعوبة في تقديري هي أن نهمل مكانة الوثائق، ونقلل
من الدور الذي يمكن أن تؤديه، ليس في كشف الحقائق والتحقق من التاريخ
فقط، بل في مجرى الصراعات والنزاعات (الفردية والجماعية) وفي تحصيل أو
ضياع كثير من الحقوق.
في باب آفاق معرفية نقرا لأدريس هاني (الايديولوجية بين الحقيقة
والزيف) وللدكتور محمد أحمد صالح حسين نقرأ (اثر الصراع العربي –
الإسرائيلي في حركة الترجمة من العربية إلى العبرية) ويختم العدد
الدكتور العياشي عنصر ببحثه المعنون (الأسرة في الوطن العربي: آفاق
التحول من الأبوية.. إلى الشراكة). |