عندما حدثت احداث الزركة في النجف الاشرف في العام الماضي -
فيما اصطلح على تسميته مؤامرة جند السماء - تصور الكثير ان الفتنة قد
وئدت في مهدها وتم القضاء عليها نهائيا، لكن التحليل الدقيق لتلك
الاحداث كان يشير الى ان هذا اول الغيث وما تخبئه الايام اكبر وافضع،
وقد اثبتت احداث البصرة والناصرية الاخيرة صحة هذا الرأي، ولا زال
القول بأن ماتخبئه الايام سوف يكون ابشع واكثر هولا صحيحاوقويا.
قد يقول البعض: ان هذه الحركات هي نتاج لمؤامرات خارجية يقودها
اليهود تارة، والمسيحيون تارة ثانية، ومخابرات دول الجوار تارة ثالثة،
ومصالح المحتل تارة رابعة وهلم جرا، ولا أريد نفي تورط بعض او كل هذه
الجهات في تغذية وتضخيم هذه الحركات ومدها بالوسائل الفكرية والمادية
المطلوبة، لكن الملاحظة التي يجب ان ينتبه لها جميع الخيرين والشرفاء
من النخب والاوساط الشعبية العراقية هي ان حطب هذه الحركات ليس اليهود
والاجانب ومخابرات الجوار، بل هو ابناء الشعب العراقي من رجال ونساء
واطفال.
ومايثير الرعب ان اعداد الضحايا اخذت تقفز من عشرات الى الى مئات
وربما الى الآف، ومن تحرك محصور بنطاق جغرافي ضيق – الزركة مثلا – الى
تحرك بدأ يشمل محافظات متعددة من وسط وجنوب العراق – وربما شماله –
وهنا لايكفي بث السلوى في النفوس بحجة تحسن اداء القوات الامنية
العراقية وجاهزيتها، فكثير من الانظمة كانت تتصور انها منيعة بجيشها
وقواتها الامنية، فأخذت على حين غرة وسقطت وعم الهرج والمرج بلدانها.
لذا فان الوضع في العراق بات يحتاج الى وقفة طويلة تجند لها كل
الطاقات الرسمية والشعبية، الفردية والجماعية، للبحث عن اسباب هذه
الظاهرة وطرق علاجها، وعلينا ان ندرك حقيقة ان هذه الظاهرة مهما حاول
البعض الصاقه بها من تسميات فأنها لاتعدو ان تكون شكلا من اشكال التطرف
الديني بنكهة عولمة القرن الواحد والعشرين، فما هي اسباب هكذا تطرف في
العراق؟، وماهي سبل معالجته؟
لايمكن – قطعا الاجابة عن كل الاسئلة التي تدور حول ظاهرة التطرف
الديني، لان تحقيق هذا يحتاج الى جهد وامكانيات لاتتوفر في مقال واحد،
لكن يمكن ان نؤشر ابرز اسبابها بالاتي:
1- الفراغ العقائدي-السياسي
قد يجادل البعض على جعل الفراغ العقائدي احد اسباب الظاهرة، بالقول:
ان هذا غير صحيح لأن المنظومة العقائدية في العراق حبلى بألافكار
والنظريات التي يمكن ان يغترف منها من يريد، فأقول: تلك هي المصيبة وهي
انها حبلى، ولكنها لم تلد فكرا عقائديا يجمع العراقيين بعد 9/4 / 2003،
فواجه المواطن فوضى عقائدية لايعرف الى ايها يميل؟ وما هو الصحيح منها
والخاطئ؟، فأثار ذلك ارباكا وبلبلة اعتقادية اكثر مما اوجد اطمئنانا
واستقرارا روحيا ونفسيا، وما زاد هذا الفراغ العقائدي صعوبة وتعقيدا
على المواطن البسيط هو وجود ذلك الكم الكبير من الحركات والتيارات
والاحزاب التي تلبس لباس الدين ومن مختلف المذاهب، وهي تعمل في الميدان
السياسي وتمسك بزمام السلطة، لكن الاختلاف بينها في المسميات، اما في
ميدان العمل فهي متشابهة ولاتكاد تختلف عن بعضها في التكالب على السلطة
والسيطرة على مراكز النفوذ، وفي اطلاق الشعارات الفارغة، وغياب رؤيتها
لايديولوجية دينية واضحة في الحكم،فلا الاحزاب الدينية الشيعية تطلع
للمواطن بنظرية في الحكم مستوحاة من التشريع الاسلامي وتواكب العصر
وتطوراته وتجيب عن الحيرة والقلق الذي استحوذ على الانسان العراقي، ولا
الاحزاب السنية – ايضا.
ان هكذا فراغ عقائدي – سياسي ترك امكانية سده الى تلك الحركات
الماورائية التي تغازل العواطف وتجمد العقول، حتى لو كانت نسبة
الانحراف فيها 360 درجة عن مبادئ الاسلام وحقائق المنطق، وليكن من يكون
ورائها، طالما انها تستهلك دماء العراقيين، فأنها تشكل شرا محيقا يجب
عدم التغاضي عنه.
2- انعدام الوعي السياسي
يشكل الوعي السياسي ميدانا يجب عدم صرف النظر عنه، لان الانسان
المتسلح بالوعي السياسي من الصعب خداعه وتوريطه بتبني افكار وسلوكيات
غير صحيحة، وان تحري هذه الحركات التي نسميها بالمتطرفة نجد انها غالبا
تنمو في الاوساط الشعبية الفقيرة التي ينخفض مستوى تعليمها، ولاتتذكرها
الاحزاب السياسية الا في وقت الانتخابات عندما تأتيها بشعارات مبرقعة
وفتاوى مهلهلة تثير عواطفها وتستفز مشاعرها، اما بعد الانتخابات فتنسى
في كل شئ ابتداءا بالخدمات وانتهاءا بالانسان، لذا يشكل تدني مستوى
الوعي السياسي لهذه الاوساط مطية مناسبة لأستغلالها لتكون حطب التطرف
الديني وذراعه في آن واحد.
3- العوز الاقتصادي
ورد في الاثر عن سيد الكونين صل الله عليه وآله قوله: من لامعاش له
لا معاد له، وقوله: نعم العون على الاخرة الغنى، وقوله: الفقر الموت
الاكبر....وعن الامام علي عليه السلام ورد قوله: كاد الفقر ان يكون
كفرا، وقوله: لو كان الفقر رجلا لقتلته.... لكن يبدو ان نخبنا
وقياداتنا بما فيها تلك التي تزعم انها دينية لم تطلع على هذه الروايات
او لاتؤمن بصحتها لذا نراها مشغولة بالجملة عن النزول الى مستوى الشعب
ومعرفة مظاهر عوزه وفقره، وتدعي او تكاد منذ خمس سنوات ان الشعب سوف
يعيش في بحبوحة الرفاه والنعيم الذي طال انتظاره ولم تلمس لحد الان
ثماره بالنسبة لغالبية الناس الذين يقيمون اكواخهم وبيوتهم المتهرئة
فوق بحار النفط واغنى بقاع المعمورة، وعندما يخرج هؤلاء الذين كاد
فقرهم ان يكون كفرا عن معايير المنهج القويم ويسيروا وراء الشيطان او
الانسان يتم نعتهم بشتى التهم ولايبذل جهد حقيقي لمعرفة الفيروس الذي
اذهلهم وكان سببا في انحرافهم الفكري، لأعداد الدفاعات المناسبة
لمعاجته، كيف يتم ذلك والسادة متكالبون ومتصارخون ومتزاعقون للحصول على
الكراسي وملئ الجيوب نسوا الله ونسوا الشعب ولم ينسوا انفسهم. ان
استمرار تردي الوضع الاقتصادي ينبأ بزركات كثيرة واحداث لايعلم مداها
الا الباري عز وجل.
4- جسامة التحديات
غالبا مايقال ان لكل فعل رد فعل يوازيه في القوة ويعاكسه في
الاتجاه، وهذا القول منطقي جدا عند تحليل ظاهرة التطرف الديني التي
بدأت تستشري في العراق، ذلك ان ماواجهه الانسان العراقي من تحديات لم
يكن مستعدا لها منذ 9/4 /2003 ولحد الان ليس قليلا، فقد واجه مرة
واحدة التحديات الاتية:
- تحدي الاحتلال الاجنبي.
- تحدي الانفتاح الثقافي غير المدروس.
- تحدي غياب القيادة السياسية الجامعة والفوضى السياسية العارمة.
- تحدي الارهاب وماصاحبه من مشاهد بشعة تستفز المشاعر والعقول بشكل
لا يصدق.
- تحدي التدخل الاقليمي المخرب.
- تحدي المحاصصة بمختلف اشكالها.
ان هذه التحديات لم تكن متوقعة ولم يكن العقل العراقي الجمعي مهيأ
لها، وكل منها شكل فعلا مسلطا يضغط بقوة على هذا العقل، لذا ان تكون
ردات الفعل غير متوقعة بشكل انكفائي على رموز الماضي، او استلابي تجاه
الذات والقائها في حبائل الاخر، فهذا امر طبيعي،وعليه يجب ادراك هذه
الحقيقة وتجنب كل اجراء يقود الى تعقيد الامر بدلا من معالجته.
هذه الاسباب الاربعة،هي الاسباب الرئيسة لبروز ظاهرة التطرف
الديني، او كما يسميه البعض الانحراف الديني، وقد تكون هناك اسبابا
اخرى نابعة من الموروث او التقاليد او المؤامرات الخارجية.. لكنها
لاتعدو ان تكون فروع وتشعبات من هذه الاصول، والسؤال المطروح هو كيف
السبيل للتخلص من هذا الخطر؟
وللاجابة على ذلك نضع الحلول الاتية:
أ- يجب ان تمارس المرجعيات الدينية دورها في سد الفراغ العقائدي
وعدم ترك الناس نهبا للاهواء والاطماع من خلال وضع معايير عقائدية
صحيحة تبرز للناس الفكر المنحرف من الفكر الصحيح، ووضع الاليات الصحيحة
لجعل الفكر الصحيح فاعلا في حياة الناس لاسببا في انشقاقهم وتنازعهم،
مع عدم الانكفاء على افكار ونظريات عديمة الفاعلية في الواقع العراقي.
ب- يجب ان تتفق القوى السياسية على مشروع وطني عراقي يلم شمل
العراقيين، وترك الاساليب البدائية في التوفيق والتقريب باسم المصالحة
اوالمقاسمة الوطنية، ولعل من الجيد ان يقترب هذا المشروع الوطني من
المعايير العقائدية الصحيحة التي يجب ان تتفق عليها المرجعيات العراقية
الدينية.
ت- يجب ان ترتق مؤسسات المجتمع المدني العراقي بمستواها، لاسيما
الاحزاب السياسية، لتمارس دورها في الارتفاع بمستوى الوعي السياسي
للمواطنين، خاصة في الاحياء الشعبية، ولايكون دورها موسمي او وقتي يزول
بزوال الحاجة لهم.
ث- يجب ان تمارس الدولة العراقية دورها في نشر التعليم في كل بقاع
العراق، واعداد الكوادر والمناهج الدراسية المناسبة.
ج- يجب معالجة حالة العوز والفقر السائدة في اغلب مناطق العراق (
وبسرعة ) ومايرافقها من بطالة، لان هذه آفة خطيرة من العيب استمرار
تواجدها في العراق.
ح- استخدام كافة الخبرات الداخلية والخارجية في مجال العلوم
الاجتماعية والنفسية لتأهيل العقل الجمعي العراقي لأستيعلب حالة الصدمة
التي يعيشها منذ خمس سنوات، وجعله قادرا على التكيف مع التحديات
ومواجهتها والتغلب عليها.
خ- عدم التعويل كثيرا عى القوة المجردة مع ضرورتها احيانا، لكن
هناك الكثير من الاشياء تحتاج الى معالجات خاصة، قد يقود استخدام القوة
معها الى استفحالها.
اخيرا اكرران هذا المقال حول تشخيص اسباب ظاهرة التطرف الديني
وطرق معالجتها هو اولي وبدائي اذا ماقيس بخطرها واحتمالاته المستقبلية،
نرجو ان يكون صرخة لأتخاذ مايلزم في التشخيص والعلاج قبل فوات الاوان.
* مركز الفرات للتنمية والدراسات
الاستراتيجية
www.fcdrs.com |