قبل عام ونيف تقريبا من هذا التاريخ، وفي يوم مشابه لما حدث في
جنوب العراق وقعت معركة (الزركة) في شمال محافظة النجف، وباسلوب وتوقيت
مشابه كثيرا لما حدث في البصرة وذي قار، وإن كانت الجماعة تختلف
اختلافا كبيرا عن سابقتها في الفكرة أو الطريقة.
فمجموعة "احمد بن الحسن" الملقب بـ"اليماني" والذي يدعي أنه وصي
أو رسول الإمام المهدي متواجد منذ فترة كبيرة في جنوب العراق، وله حركة
علنية معروفة لدى الشارع الجنوبي بصورة خاصة، أضف إلى ذلك أنه يحاول
الابتعاد قطعيا عن صبغة "جند السماء" ويعتبرها هو الآخر حركة غير
صحيحة. وبغض النظر عن شخصيته أو نوع أتباعه، فالمهم أن هذه الحالة عادت
إلى الظهور في جنوب البلاد هذه المرة، وهذا ما أشرنا إليه سابقا من
احتمال تكرار الحادثة في مواقع أخرى وهي مرشحة لذلك.
بعد التغيير السياسي في البلاد شهدت الساحة العراقية ظهور عدة موجات
من الأفكار الضالة وتغيرت أنواعها من منطقة إلى أخرى، وهي بلا شك في
كل منطقة ذات صبغة خاصة تتعايش بصورة طبيعية مع آراء ومبادئ الحالة
العقائدية لتلك المنطقة أو الطائفة، وهذا ما بدأ أول الأمر في توسيع
تنظيم القاعدة أفكاره في وسط وغرب البلاد وبعض المناطق الأخرى ليتحول
فيما بعد إلى مساحة واسعة من العنف استهدفت في مراحلها الأخيرة حتى
المناطق التي تتركز فيها.
وفي جنوب العراق ذات الصبغة الشيعية يكاد لا يرصد نشاط لتنظيم
القاعدة بسبب الاختلاف الجذري في العقيدة المتبناة ولكن هذا الأمر لا
يعني عدم وجود حركات تشابه إلى حد كبير نشاط القاعدة وان كانت بصبغة
اخرى.
وعلى هذا الأساس ونتيجة لعدة عوامل منها الانفتاح الكبير على
المحيط الخارجي لدول العالم بدون رقابة تذكر وانشغال الدولة بالاهتمام
بأمور حساسة كأمن المناطق المهمة في وسط البلاد والتقلبات السياسية،
إضافة إلى عوامل أخرى، نشأت حركات وأحزاب ذات أفكار ضبابية خارجية
التمويل على رأي أكثر التحليلات، كان الهدف الأول منها على ما يبدو
محاولة تفكيك التماسك الموجود في مناطق جنوب ووسط العراق.
يرى البعض أن الأسباب التي أدت إلى نشوء وظهور هذه الحركات لا
تعدو كونها نتاج وإفراز مؤقت لما بعد الدكتاتورية وحالة التنفس الطبيعي
لأفكار كانت مكبوتة في الأنفس لعقود خلت، فيما يرى البعض أنها ذات
توجهات خاصة وتخطيط مسبق وبأهداف معينة.
وبعيدا عن هذا وذاك فان واقع الحال يتحدث عن شيء آخر، وان كان
يشترك في بعض الأشياء فيما سقناه، وهنا لا يوجد اختلاف كثير فالنتائج
تكاد تنطبق على نفس النتائج، والأسباب هي نفسها فقط هناك تغيير في بعض
الآليات، أما الأهداف فهي تكاد تكون بالقطع مخطط لها وان لم يعلم
منفذوها أو عامة العاملون فيها.
لماذا جنوب البلاد ؟
في الأيام القليلة الماضية سيقت عدة أسباب لظهور وتحرك
مجموعة (أنصار المهدي) حسب ما يعبرون وعلى منابر حكومية أو دينية وهي
متعددة الآراء في ذلك، ولكن يبدو ان الأسباب التي دفعت الحالة إلى
الظهور هذه المرة في جنوب العراق كانت متمثلة بعدة أشياء منها:
1– الفراغ الفكري والعقائدي الكبير الموجود في هذه المناطق في
الآونة الأخيرة نتيجة اهتمام أكثر الأحزاب الدينية والسياسية ومنظمات
المجتمع المدني ومختلف المؤسسات بالتوجه السياسي والإداري الخاص بها،
وترك العامل التثقيفي، والتنازع المستمر على المناصب الإدارية
والحكومية دون الالتفات إلى حدوث فراغ كبير في جوانب كثيرة في المجتمع
ادت الى افرازات سلبية أهمها تشتت وتسرب(القوى الشبابية).
2- عدم وجود توازن سياسي في الاهتمام بتلك المناطق أسوة بباقي مناطق
البلاد، إلا في حالة الطوارئ أو الاستثناءات رغم كونها المتضرر الأكبر
تقريبا من سياسات النظام السابق، وعدم وجود خطة حكومية لرفع المستوى
المعاشي للفرد في محافظات الجنوب وتعويضها عما فقدته من سنوات التهجير
والقتل والمطاردة، مما ولد حالة من التمرد على الحكومة بصورة عامة
والحكومات المحلية بصورة خاصة في تلك المناطق وخلق مناطق فراغية يسهل
الدخول إليها من قبل أي طرف يلوح باسترداد المظلومية.
3- وجود أجندة خارجية متعاشقة مع ميول داخلية تحاول العمل على عرقلة
تجسيد نظام فدرالي في تلك المناطق ووضع المطبات الأمنية ومنزلقات
التقاتل الاهلي بين عدة جهات ملوحة باحتمالية تفكك الجنوب في حالة
إقرار الفدرالية واقعا، واشتداد الحملة أكثر كلما حدث تقدم نحو التطبيق
الفعلي للفدرالية.
2- التدهور المستمر في حالة الخدمات اليومية وفقدان الثقة في
القيادات السياسية في مناطق الجنوب، مضاف إلى ذلك حالة البطالة الكبرى
المتواجدة في مناطق كثيرة، وانتشار الفساد الإداري والمالي في اغلب
أجهزة الدولة والأخطر في ذلك الاختراق الكبير الحاصل في الأجهزة
الأمنية وهذا ما أكدته الأحداث الأخيرة بتورط عنصر مهم (برتبة ضابط) في
الأجهزة الأمنية بالتعاون مع المسلحين وتسريب المعلومات المهمة.
3- القصور الكبير والواضح في الجانب الاستخباراتي والذي يبدو فيه
بان القوات الأجنبية لها دور سلبي فيه، مما جعل القوات الأمنية
العراقية في كثير من الأحيان تتحرك بعد فوات الأوان أو تقع في مصيدة
الطرف المقابل رغم قدراتها القتالية الجيدة.
4- فقدان واضح وكبير لقنوات التعاون فيما بين المواطن والجهات
الأمنية والرسمية، أضف إلى ذلك الاعتقالات العشوائية غير المدروسة
والتي رافقتها انتهاكات لحقوق الإنسان، مما ولدت نوع من التعاطف مع بعض
المعتقلين حتى ممن اتهموا بقضايا مخالفة القانون أو إرباك الوضع
الأمني.
قد يرى البعض بان هنالك أسباب أخرى قد تكون ذات حديث مسموع في هذا
الجانب، وهذا لا يمنع دراستها أو الاهتمام بها وهي قد تكون من قبيل
الجانب الثقافي أو الاجتماعي او التربوي، كأن تكون البحث عن( شخصية
منقذة) في وجهة نظر الشباب غير المتفهم للكثير من الأمور العقائدية أو
محاولة الهروب من مشاكل نفسية واجتماعية تحيط بالبعض.
وكل هذا وذاك من الاسباب لا يبرر لمنطق تلك الحركات أو يخلق
الأسباب لها، فهي تبقى حركات غير منطقية ذات نتائج ومردودات سلبية في
جميع الاتجاهات، وأهمها وأولها فقدان العنصر البشري في كلا الطرفين من
المغرر به، أو القوات الأمنية التي فقدت عناصر ورموز مهمة في قياداتها
في معركة كان من السهل تجنبها بحركات استخبارية استباقية بسيطة ولاسيما
في مناطق يكاد يغلب عليها الطابع العشائري والعرفي في علاقاتها.
ولعل حادثة (زركة) الجنوب كانت أقسى بعض الشيء من سابقتها في
شمال النجف على الحكومة العراقية نتيجة فقدانها مراتب وضباط أكفاء،
ولكنها تتحمل الكثير من المسؤولية في ذلك حيث كان يمكن معالجتها للحالة
من خلال:
1- عدم تركها تلك المناطق دون اهتمام حقيقي يذكر من جهة الأعمار
والبنى التحتية ومد جسور العلاقة فيما بينها وبين جميع الفئات في تلك
المناطق، وهذا بطبيعة الحال يتحمله الجميع بدء من مجلس النواب كونهم
أعضاء ممثلون للشعب إلى آخر حلقة في قيادة الدولة والأجهزة التنفيذية.
2- التركيز على قضية المصالحة الوطنية في جنوب البلاد أيضا كمشروع
للم الشمل وان كان بين نفس الطائفة، وتشخيص الأطراف المفسدة وعزلها
وجذب العناصر التي يمكن إصلاحها وشملها بجميع ما يستحق المواطن
العراقي.
3- إعادة النظر بطرق تعيين القيادات العسكرية الجديدة في تلك
المناطق ولاسيما ما أنتجه (قانون دمج المليشيات) من عناصر غير كفوءة
او مرتبطة بجهات خارجية لها أجندتها وأهدافها الخاصة.
4- إشراك الأحزاب الدينية والسياسية ومنظمات المجتمع المدني ومراكز
الدراسات والبحوث والمراكز الثقافية في حملة واسعة للتثقيف من مخاطر
الأفكار المستوردة والظلامية والضالة والتي تسوق بأسماء وعناوين
مختلفة، وتحمل الجميع مسؤولياتهم في الحفاظ على البسطاء من الناس من
عدم جذبهم إلى مواقع مشبوهة.
5- حث المواطن في نفس المنطقة على متابعة ومراقبة جميع أفراد عائلته
و أبناء منطقته في عدم الالتقاء بالأشخاص غير الموثوق بهم ومحاصرة
الأفكار التي يروج لها البعض ومحاولة تطويقها بشتى الوسائل.
قلنا سابقا ولعل كلامنا سيكرر الآن بان ما حدث هذه المرة كسابقتها
في معركة الزركة، حيث فقدنا فيها أهم شيء وهو العنصر البشري والإنسان
العراقي، وحقيقة الأمر انه لا رابح في هذه المعركة سواء من خطط لها عن
بعد او نفذها عن قرب، لذلك لابد من توفير الضمانات اللازمة لعدم
تتكررها أيضا مرة ثالثة في مواقع أخرى وأزمنة مختلفة.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |