"ينبغي أن تظهر عبقرية الفيلسوف في ميزة أخرى غير التي تجعله غامضا
ومبهما في نظر معظم الناس" جورج غسدورف
مللنا من انتظار قدوم الفيلسوف ومن طرح سؤال هل يوجد لدينا فلاسفة
الآن أحياء في حضارة اقرأ ؟ وثرنا على من لا يعترف بقيمة هؤلاء
المشتغلين بالفلسفة والقضايا الفكرية والمتناثرين في كل الدول العربية
و اللاجئين في العواصم الغربية والذين يمارسون التنظير المعرفي
والتحليل العلمي للواقع ويمتلكون رؤى مستقبلية فذة. ولكن ما أحوجنا الى
إعادة طرح السؤال وتدقيق الصياغة حتى تكون أكثر دلالة ويكون الطرح
وجيها ومقبولا فنقول: كم يمتلك هؤلاء الفلاسفة من قراء وجمهور ومنتظرين
متلهفين لكتاباتهم ومقالاتهم ومقابلاتهم التلفزية؟
الجواب الذي يعترضنا أن عدد قليل من القاعدة الاجتماعية العريضة هو
فقط الذي يكترث بهم ويركز اهتمامه عليهم ويتابع ما ينتجون من معارف وما
ينشرون من أفكار جديدة. ولذلك فان هؤلاء الفلاسفة العرب ليست لديهم
شعبية تذكر وشهرتهم هي شهرة نخبوية لا غير والإجماع حولهم لم ينعقد
وأحيانا يؤلفون الموسوعات ويكتبون المجلدات ويؤثثون المراكز ويملؤون
الكراسي في الجامعات ويحالون على التقاعد ويتوفون دون أن يسمع بهم أحد
ودون أن يكون ما كتبوه قد قرأ ونوقش على الملأ وبالتالي دون أن يستفيد
مجتمعهم من حضورهم وحراكهم الفكري ودون أن تؤثر أفكارهم في عصرهم سلبا
أو إيجابا وتهديما أو تأسيسا.
وتوجد عدة أسباب وراء هذا التباعد والإهمال أولها النظرة الخاطئة
التي يتعامل بها الرأي العام مع الفلسفة والمشتغلين بها وعدم مجازفة
هؤلاء بصنع الرأي العام وتوجيهه نحو تقبل الأفكار الفلسفية ولفت
انتباههم إليهم، السبب الثاني هو غياب روابط عضوية بين الفلاسفة وقضايا
مجتمعاتهم وعدم تواجدهم في مؤسسات المجتمع المدني وغيابهم عن مراكز صنع
القرار وخاصة الأحزاب والنقابات والجمعيات الحقوقية من أجل الإقناع
والتأثير على المترددين وتحقيق الإضافة النوعية في تلك المجالات.
السبب الثالث هو انغماس هؤلاء العلماء في القضايا الفلسفية المجردة
واعتناءهم ببحوثهم الأكاديمية وإيمانهم بأن الفلسفة حرفة وتخصص ينأى
بنفسه عن الشأن العام مما يخلق جو من التصادم مع عدة أطراف ونفور عدة
جهات ثقافية ودينية واقتصادية منهم. السبب الرابع وهو حاسم في رأيي وهو
تعامل السلطات السياسية مع الفلسفة والفلاسفة بنوع من الإقصاء والتهميش
والمنع والاحتقار وفي بعض الأحيان بنوع من التوظيف والاستغلال
والاحتواء والاستقطاب وذلك لإرضاء السواد الأعظم الذي يعيش وفق ما
يقوله الرأي بينما الفلسفة تأسست أصلا لمداهمة هذا الرأي والدعوة الى
الارتفاع عنه نحو التعقل والتبصر ثم لإرضاء فئة الفقهاء التي تركز
عليها السلطة السياسية لإضفاء المشروعية على ممارساتها وللمحافظة على
الإجماع والتأييد ونحن نعلم أن الفقهاء قد ناصبوا الفلسفة والفلاسفة
العداء لأسباب نفسية مصلحية ترتبط بصراع القوى أكثر منها أسباب مبدئية
وقيمية ترتبط بالحقيقة والثقافة.
لكن الفلاسفة لن يصبحوا أبدا طائفة دينية كما يرى فولتير ولن تثير
أفكارهم الحمية والحماس في عامة الناس لأنهم ببساطة ضد التهريج
والتجييش ومع السيطرة على الانفعالات والأهواء بواسطة العقل والإرادة.
ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو التأكيد على القيمة النوعية لماهو
موجود من مفكرين وعلماء وفلاسفة وكتاب ومثقفين وفنانين في الساحة
العربية والإقرار بمستوى وعيهم التاريخي وحسهم النقدي العالي ورغبتهم
الصادقة في التعامل مع قضايا أوطانهم والمساهمة في محاولات الإصلاح
والتغيير ولعل ما ينشر في الصحف والمجلات والمواقع من كتابات ملتزمة هو
خير دليل على نواياهم الحسنة وإقبالهم على الوجود دون تحفظ.
بيد أن النوايا الحسنة لا تصنع مشاريع ولا تخرج شعوبا من حالة
التردي لتنطلق بها الى حالة التحفز والحركية ولا تدافع عن الأوطان إذا
لم تترجم الى تجارب عملية ملموسة،كما أن إفلاس المشاريع السياسية
العربية بعد ذهاب الاستعمار وبروز دولة الاستقلال ودخول الشعوب في حالة
من القنوط والعبث أدت الى تنامي الأصوليات بمختلف تمظهراتها الدينية
والقومية والعلمانية والماركسية يعزز مدى حاجتنا اليوم الى الفلسفة
والفلاسفة من أجل النقد والتفكيك والتظنن والارتياب والشك للتحرر من
هذه الوثوقيات وإعادة الأمل للإنسان وتشجيع روح الاستثبات واردة الحياة
لدى الناس.ألم يقل أفلاطون:" إن الانسانية ستصبح سعيدة إذا ما تفلسف
الحكام وحكم الفلاسفة"؟
ما يعزز رأينا أن الفلسفة العربية منذ نشأتها كانت محترمة ومبجلة
من طرف الحكام والساسة وأن الفلاسفة المسلمين كانوا من المقربين والذين
يعد برأيهم في الأمور المصيرية لأوطانهم بل إن بعض الفلاسفة كانوا أصلا
من عائلات حاكمة على غرار الكندي وابن رشد ومارسوا القضاء والتشريع
الفقهي والإفتاء وحددوا نمط المعاملات بين الناس. ثم إن استشارة
الفلاسفة ودخولهم لقصور الساسة أفضل بكثير من استشارة فئة
التكنوقراطيين الذين لا يمتلكون بعد النظر وحصافة وقوة شكيمة ورباطة
جأش الفلاسفة.
علاوة على ذلك يمكن التأكيد على غياب التناقض بين الحكمة العملية
والفقه السياسي كما بين أبو نصر الفارابي في كتابه إحصاء العلوم وأن
التفلسف واجب شرعا،وبما أن الدين نصيحة وبما أنه وجد في التراث تقليد
نصيحة الملوك فانه يجوز للفيلسوف أن يتدخل لتوجيه سياسات بلاده ولو من
باب النصح والتذكرة،فمتى يفهم حكامنا ويوقرون الفلاسفة ويشركوهم في وضع
سياسات مستقبلية لدولهم؟
ماهو مطلوب ليس تفلسف الحكام بأن يصبح الساسة فلاسفة وليس تحكم
الفيلسوف بأن يسعى الفلاسفة للوصول الى الحكم فذلك جموح نحو السلطة وحب
للهيمنة بل العودة الى الجذر المشترك الذي يجمع بين الاثنين أي الحكمة
والحكم.فإذا كانت السياسة غير الحكيمة قد سببت الأمراض للحضارة والسقم
للشعوب فان الحكمة السياسية هي القادرة على تسكين الأوجاع واستشراف
الآتي،فلماذا لا نستدعي الفيلسوف بماهو طبيب الحضارة كما يقول نيتشه
ونجعل الفلسفة هي التي تداوي ذلك السقم كما يقول ماركس؟ ما العيب في أن
تكون الفلسفة هي منهج التغيير إذا ما أردنا التطوير ومواكبة العصر؟
فمتى ينصت الحكام للفلاسفة لنر أرسطو يرافق الأسكندر المقدوني
مجددا في ديارنا؟
* كاتب فلسفي |