الانتماء والاحساس بالتوازن النفسي

الدكتور اسعد الامارة

 عرف عن الانسان سعيه الدائب عبر مسيرة الحياة عن الراحة النفسية اولا والامان وضمان العيش المصحوب بالتقدير الذاتي بين اقرانه في المجتمع الذي يعيش فيه ثانيا وهذا يعطيه الاحساس بأنه انسان ينتج ويمنح بعطاءه وجود للاخرين لانه يجد الانعكاس بالرضا النفسي الذاتي وهذا يجعله يتقارب من الاخرين في المجتمع ويتفاعل معهم ويؤثر فيهم ويتأثر بهم، انها جدلية الوجود وديالكتيك الصراع من اجل تحقيق الذات والتفاعل من اجل خفض حدة هذا الصراع باضفاء الرضا النفسي.

فالانتماء الى مجتمع او عمل او جماعة يصاحب هذا الانتماء الاحساس بالامتلاء النفسي والاشباع، فالفرد يبحث في تصرفاته في المجتمع عن ما تمليه الاعراف او التقاليد او اللوائح المعمول بها والقوانين التي تضمن حقوقه في الانتماء بكل انواعه ابتداءا من الانتماء للوطن او للجماعة او للدين او للفكر او للمذهب شريطة ان تحترم كل الانتماءات في هذا المجتمع او ذاك لذا يقول "ريتشارد نيسبت" مؤلف كتاب جغرافية الفكر يؤمن غالبية الغربيين بأن التعميمات تصدق على كل فرد، وهذه التعميمات

• ان كل فرد يتصف بمجموعة من الصفات المتمايزة والمميزة له وأكثر من هذا يريد الناس ان يكونوا متمايزين عن الاخرين بنواح عديدة.

• فهم يتحكمون الى حد كبير بسلوكهم ويشعرون بأنهم في حال افضل حين يكونون في مواقف من شأنها ان تجعل الاختيار والتفضيل الشخصي هما العامل للنتائج.

• لذا يتجه الناس صوب اهدافهم الشخصية التي تمثل نجاحا وانجازا.

• فهم يجاهدون بغية الاحساس بالرضا عن انفسهم وتمثل النجاحات الشخصية والضمانات التي تؤكد هذه الخاصيات الايجابية عنصرا مهما لتوليد هذا الاحساس بالرضا والرفاه.

ان الناس في مثل هذه المجتمعات يؤمنون بضرورة ان تنطبق القواعد والقوانين نفسها على الجميع – ينبغي عدم استثناء احد ليلقى معاملة خاصة بسبب صفات شخصية او روابط وعلاقات خاصة تربطه بأشخاص مهمين ذوي حيثية، ان الناس يؤمنون بأن العدالة عمياء ولا تميز بين شخص وآخر بينما يلاحظ ان السمات النفسية الاجتماعية المميزة لغالبية المجتمعات الاخرى في العالم خاصة مجتمعاتنا العربية والاسلامية ومجتمعات شرق اسيا أميل الى الاختلاف عن ذلك بدرجات كبيرة او وجود هوة شاسعة، فالفرد العربي حينما يؤمن بالانتماء الى الوطن او الى المجتمع وقيمه لا يجد المساواة في المعاملة ولا في التقدير ولا في العدالة حتى وان نطق بها بانها عدالة القضاء او حكم الخالق، يتم تحريفها او تزييفها او تحويرها بشكل مؤدب او ذو طبيعة تحايل شرعي ديني او قانوني.

ان الانتماء للمواطنة في معظم دول العالم الثالث والعالم العربي والاسلامي بضمنه يهتز بفعل التنازل عن رغبات الفرد وحقوقه للجماعة او للطائفة او للمذهب او للدولة اما بالقوة او بالتهديد او بالتي هي احسن.. "وكلت امرني لصاحب الأمر" كثيرا ما تقال هذه العبارة او " ان الله يمهل ولا يهمل " لذا بات لدى الجميع في مثل هذه المجتمعات والدول ان المساواة في المعاملة ليست مفترضة ولا ينظر الناس اليها كشئ مستصوب بالضرورة.

هل الجدل شائع ومقبول في بعض الدول والمجتمعات ؟

الجدل غير شائع وغير مقبول في معظم الدول العربية والاسلامية ودول العالم الثالث وهي سمة تميز الكثير من هذه المجتمعات او لنقل اغلبها، بينما جميع الغربيين يبدأون في التعبير عن آرائهم وتبريرها وهذا سلوك يتم تعليمه منذ فترة مبكرة من حياتهم ابتداءا من رياض الاطفال والتربية الاسرية (داخل الاسرة) الى التربية في المدرسة ثم التنشئة الاجتماعية في اول مواجهة للطفل مع اقرانه، فهو يقول ما يريد دون ان يجرح احد او يسيئ لاحد حتى وان كان ما يتناوله يتعرض للمقدسات او للدين، ويتعلم الطفل اولا انه لا يسيئ لاحد في معتقده او يتعرض له بالعنف، لذا يتعلم اولى دلالات الجدل والمناقشة وقبول الرأي والراي الاخر، فتراث الجدل والحوار يترسخ في سلوك الناس منذ بواكير النشئة والتكوين الفكري لدى الغربي وهذا انعكس في ابداء الرأي بالتصويت والانتخاب دون تأثير هذه المرجعية او تلك الحركة السياسية او قوة تأثير هذا الدين او الاتجاه السياسي، اذن الاحساس بالمواطنة يرتبط بقوة الجدل والحوار والتعبير عن الرأي بدون فرض او اجبار، حتى سنت القوانين وشرعت اللوائح لحماية المواطن في ضمان حرية ابداء الرأي من خلال الحوار وهذا ما لا نجده في تلك المجتمعات الشرقية والعربية والاسلامية وهم عادة يتجنبون الجدل والخلاف بالراي لانه بالاخير يخلق الضغائن وربما يؤدي الى التصفيات الجسدية والادلة كثيرة بدون حصر او عد، سواءا بين السياسيين في السلطة او في الاحزاب او المرجعيات الدينية بانواعها او المرجعيات المذهبية حتى ادت الى تكفير التفكير وتفكير التكفير لدى من يعارض هذا او ذاك انها ازمة اخلاق في الفكر والممارسة والتنفيذ ولنا في تاريخنا العربية اعظم الادلة، فكم من خليفة للمسلمين كان يصلي في احدى زوايا المسجد وقتله احد المسلمين من ملته بعد ان رباه وآواه واطعمه وكم من خليفة اقام في الارض العدل والقسطاط ونام بجوار شجرة مطمئنا وفجأة يطعن بسكين من احد اتباع الدولة الاسلامية او مؤمن صالح مات مسموما في عقر دار الخليفة وبايعاز من امير المؤمنين، انها فكرة القضاء عمن يحاول ان يفكر في اخطاء امير المؤمنين ولم بنبس ببنت شفة قولا وانما فكرة لم تجد الرؤية، انها مجتمعات امة تعلمت ان تلعن عظماءها وتطاردهم طيلة حياتهم وتمجدهم بعد مماتهم وهذا كله يرجع الى الفشل في قبول فكرة الحوار واستبدالها بفكرة الشجار والتصفية الجسدية والغدر والخيانة والوشاية لدى السلطان او امير المؤمنين او السيد الرئيس واتباعه واعوانه من الاجهزة الديمقراطية الحديثة.

 والنتيجة يكون الانتماء مشوها وهشا لذا كان الفارق مذهلا اكثر من سواه بين تراثين يحتلان طرفي العالم المتحضر هو قدرة المنطق ومصيره، اذ ظل المنطق عند الغرب محوريا ولم ينقطع ابدا الخيط الممتد لرسالته كما يقول يقول الفيلسوف انجوس جراهام بينما قطع منذ بداية الدعوة الفكرية في الاسلام ودول العالم الثالث في العصر الحديث واستبدل بلغة العار والتكفير والالغاء وهو بذلك توقف اتجاه التطور نحو المزيد من التحرر الفكري وتوقف  الانتاج والابداع الفكري فضعفت الحاجة الى الانتماء وهي الحاجة التي يشعر بها المرء بأنه محبوب ومقبول ومرغوب وهو يشعر بذلك بالتقدير الذاتي ويشعر ان الاخرين يقدرونه ويعطونه قيمة واهتماما وحينما يتحرر الانسان من كل الاحتياجات الاساسية يسعى الى ما يمكن ان نسميه تحقيق الذات وهي كما يقول "محمد شعلان" اعلى مراحل التطور في الانسان ابتداءا من المعرفة وتذوق الفن في نفسه وفي العالم المحيط به، وهذا ما نراه في الضفة الشرقية من الكرة الارضية، فضعف الاشباع البيولوجي وتدهور الامان وتقهقر الحب وضاع الانتماء.

* استاذ جامعي وباحث سيكولوجي

شبكة النبأ المعلوماتية-السبت 12 كانون الثاني/2008 - 3/محرم/1429