الاسلاميون والهوية العراقية

 ياسر جعفر

في مطلع عام 2008، ليكن شعار الاسلامين السياسيين في العراق، شيعة وسنة،  الدعوة الى التمسك بالهوية العراقية ولكن هذه المرة من منطلقات دينية. نعم دينية ! لتكن فريضة حالها حال الفرائض الأخرى وهناك من الاسباب  ما تدعم فكرة تفعيل الوطنية لدى الاحزاب الاسلامية المشاركة في العملية السياسية الجارية تفعيلاً لا على مستوى الشعارفحسب بل على مستوى الالتزام الديني.

فأولاً، الجميع يعلم كيف أن سوء استخدام مفهوم التعددية  الطائفية والاختلاف المذهبي أدى الى نتائج وخيمة بعيدة كل البعد عن روح الشريعة ومقاصدها، ثم ان الدعوة  الى الوطنية كفريضة في الظرف العراقي الخاص ليست دعوة الى ما يخالف الشرع ولا يوجد هناك تعارض بين الانتماء الاسلامي  والانتماء للوطن بشكل عام وهناك الكثير من الايات القرانية (وهنا تعرض نماذج منها) التي تتحدث عن هذا الانتماء وتعتبره جزءاً من تعاليم الاسلام.

المصطلح القراني للوطن أي "الديار" قد تكرر في ايات متعددة لكونه حقيقة متأصلة في واقع المجتمع تعترف بها الشريعة وتقف منها موقفاً ايجابياً، وقوله تعالى "لا ينهاك الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين"(الممتحنة: 8)  يوحي بشكل للانتماء المحمود والرفض الصارخ  للاخراج من الوطن.

يتحدث القران الكريم تارة عن حب الانسان للوطن بصيغة تخرجه من انتماء وولاء تقليدي عندما يعادل حبه هذا بحبه للحياة في قوله تعالى "ولوأنا كتبنا عليهم ان اقتلوا أنفسكم أواخرجوا من دياركم ما فعلوه الا قليل منهم ولوانهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً" (النساء:66) وتارة عن الاخراج من الوطن والديار كقرينه لسفك الدم وقتل الحياة في قوله تعالى " واذ اخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم ولا تخرجون انفسكم من دياركم ثم أقررتم وانتم تشهدون – ثم انتم هولاء تقتلون انفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وان يأتوكم أسارى تفادوهم وهومحرم عليكم اخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون الى اشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون"  (البقرة:84) وايات اخرى لامجال لذكرها جميعاً.

أضف الى ذلك الاحاديث الواردة عن الرسول الأكرم في حبه واشتياقه وحنينه الى مكة فروي عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: "ما أطيبكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ". رواه الترمذي (الحديث رقم 3926، ص 880).

وثانياً، الانتماءات المذهبية والقومية في العراق تجعل الحالة العراقية في تعددية توجهات افرادها حالة فريدة واستثنائية لا نبالغ أن قلنا على المستوى العالمي.

 فقد نجد هناك بلداناً فيها قوميات مختلفة ولكن الانتمائات الدينية- المذهبية لديها لم تكن قوية الفاعلية والتأثير كما هوالحال في المثال العراقي ...

 أو قد نجد بلداناً فيها تنوعات دينية ومذهبية ولكن تفتقد الى التلون القومي ...

 وقد نجد  بلداناً أخرى فيها الانتمائين الديني- المذهبي والقومي ولكن لا تتمتع بالمواهب والثروات وما يولد ذلك من حساسيات وتضارب  في المصالح ...

 وبلدان أخرى تكون فيها تنوعات دينية ومذهبية وقومية وثروات طبيعية ولكن المجموعات المذهبية والقومية  لم تشكل من الناحية العددية  نسبة سكانية ضخمة على مستوى العشرات بالمأة. فخلافاً للحالة العراقية في تلك البلدان، هناك أكثرية مطلقة وأقليات دينية-مذهبية أو قومية لا تستطيع بحكم ضآلة عددها ان تغير شيئاً من المعادلة وفي احسن الحالات سوف تحصل على تمثيل جزئي في البرلمان مثلاً...

 ولكن الحالة العراقية مختلفة ومتميزة والموزائيك العراقي متعدد الالوان وفي مساحات واسعة والمصلحة  الاسلامية اليوم تقتضي ان ننتمي للعراق ولهويتنا العراقية لكونها أكثر العوامل فاعلية وتأثيراً للتقريب بين العراقيين من مختلف شرائح المجتمع وتقوية الروابط والاواصر بين ابناء البلد الواحد.  الامر الذي قد لايمكن تحقيقه عندما تكون العلاقات على اسس اخرى مذهبية أوقومية وما شاهدناه  على ارض الواقع دليل على صدق هذه الرؤية.

 ان الولاء للوطن سوف يقفز بعلاقات الناس الى مستوى رفيع ينظر بعدها الانسان الى الاخر وكانه يحمل معه هماً مشتركاً لا لصالحه في الابعاد الضيقة التي تستثني الاخر وانما لصالحه هووالاخر. فالعراق لجميع العراقيين ولا تعارض بين  دلالات الانتماء للهوية العراقية وبين ما يدعوا اليه الاسلام.

ليكن تمسكنا بعراقيتنا في اطار الاحكام الثانوية في الشريعة. ألم تقل القاعدة الشهيرة " أينما تكون المصلحة، فثم شرع الله" وهل هناك مصلحة أكبر وأسمى وأعم في الوقت الحالي  مما سوف يجنيه  الانتماء الحقيقي المخلص  للوطن وما يسبب ذلك الانتماء من أنتشار قيم وأخلاقيات مقارنه لما يسعى الاسلام لبثها في المجتمع.  فهل نكون مبالغين ان قلنا ان  "التمسك بالهوية العراقية هي فريضة شرعية". لنكن عراقيين أولاً في تعاملنا مع الأخر لا لتعدي الازمة الحالية التي يعاني منها العراق وانما دوماً لحفظ الوحدة والتماسك والتؤالف،  فتفعيل دور الهوية العراقية الايجابي  وعدم توقفها على مستوى الشعارات والخطب والمحاضرات والمناظرات سوف يشيع روح الاطمئنان في الحصول على الحقوق من قبل الجميع وسوف تلغي هاجس الخوف والقلق الذي ينتاب هذه القومية  اوهذه الطائفة امام احتمال التفرد اوالاستئثار بالسلطة والثروة من قبل القومية اوالطائفة الاخرى وبذلك يتحول مفهوم "ما لنا كقوم اوطائفة "  الى مفهوم "ما لنا كعراقيين".

وثالثاً، فافق الانتماء للهوية "العراقية" اليوم هو أوسع  من افق الطائفية والقومية. انها دعوة لاتستثني احداً ولا تلغي احداً ولم تكن فيها حساسية من قبل أحد. الانتماء الحقيقي للعراق لا يلغى أياً من الخصوصيات فلنكن ما نريد ان نكون ولكن لا على حساب عراقيتنا.

لنكن عراقيين قبل كل شيء وسوف نجد في الخيمة العراقية فسحةً للاعتراف بخصوصياتنا. الدعوة الى التمسك بالهوية العراقية من منطلقات دينية دعوة يكتب لها النجاح. ليتمسك كل منا بمذهبه  ولكن لنتحرك بعدها يداً ليد  لحمايته روح المواطنة وتفعيلها فانها دعوة لكل ما يحلم به العراقيون من بث قيم المحبة والاخوة واحترام الاخر والنبل والاخلاق الحميدة والفضل والاحسان والخير والعطاء والعفووالتسامح والهم المشترك على اساس الانتماء الوطني. عندما يكون ولائنا للعراق، عندما تكون عشيرتنا العراق، عندما نتحول الى خلايا هذا الجسد الواحد، سوف تكون التعددية الدينية والمذهبية والقومية عاملاً للتقارب والتعاون والتعاطي والتماسك.

وقد لانكون مسرفين ان قلنا وليكن شعارالاسلاميين وبشكل متوازي  نبذ الانتماء الطائفي  اذا كان ذلك الأنتماء يولد الطائفية في دلالاتها السلبية بدلاً من التعددية المذهبية الايجابية والاختلاف في وجهات النظر التي لاتفسد في الود قضية واذا كان التوظيف السلبي لمعنى الطائفية يولد روح الفرقة والكراهية ويولد التباغض والتضاغن والتباعد والتنافر مما يناقض روح الاسلام واهداف الشريعة.

الانتماء المذهبي جميل ولكن لا على حساب الوطن ولا على حساب اخوة الاحبة وتماسك المجتمع ولا على حساب تعاليم السماء ورسالة الاسلام وهدفها في اصلاح المجتمع وانسانه، فهل يعقل ان نضرب الاسلام بعصا الاسلام بحجة المذهبية؟ فالقران يحث على الاخوة "انما المؤمنون اخوة"(الحجرات:10) والولاء الطائفي بالصيغة السلبية التي تحث على الكراهية والفرقة سيكون مخالفاً للكتاب وعندها يضرب بعرض الجدار. الهوية العراقية ليست شيئاً كمالياً يضيفه الانسان العراقي لنفسه اذا شاء ذلك أويستغني بمذهبه أوقوميته ان أبى. انها  ضرورة  وعامل حقيقي وواقعي لتفعيل الوحدة التي لا غنى عنها للخروج من المأزق.

وأخيراً فالدعوة للهوية العراقية وبث روح المواطنه ليست الا دعوة الى العودة الى الجذور المتأصلة في عمق المجتمع والانسان العراقي. العراقيون الذي عاشوا الغربة كانوا ومازالوعندما يسمعون اللهجة العراقية يشعرون فوراً باحساس غريب مفعم بالمحبة والعطف والمودة للشخص الذي يتكلم بتلك اللهجة الجميلة. هذه هى "العراقية"، هذا هوالانتماء الذي حينها يعلوعلى الطائفية والقومية، فانت لا محالة تشعر من قربك من الشخص المتكلم ولا تساله عن قوميته ومذهبه. انه عراقي وكفى. انه عراقي بكل ما تحمله الكلمة من دلالات للغيرة والشهامة والنخوة "العراقية" التي لم ولن تفارق العراق وأهله قط.

yjafer@connect.carleton.ca

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء 9 كانون الثاني/2008 - 29/ذو الحجة/1428