وقفَةٌ مَعَ واقِعَةِ الغَدِيرْ

محمد جواد سنبه

واقعة الغدير من الوقائع الفريدة في تاريخ الاسلام، فهذه الواقعة قد حددت مدرسة معينة ومنهجاً محدداً، في التعاطي مع قضية معتقدية، غاية في الاهميّة والخطورة. لا بل حادثة واقعة الغدير، قد حددت مسار الاسلام كله، وفق رؤية الهيّة، تتبنى الامتداد الطبيعي لخط النبوة في خط الامامة العصمويّة، لتبقى نفحات الرسالة الاسلاميّة، مفعمة بالحيويّة والتجدد، معضّدة بالاصالة الرساليّة، ليحيا الاسلام على امتداد التاريخ، يافعاً نافعاً، دون ان تعتريه هنات الشيخوخة والعجز، فيصبح كومة من الاثار وركاماً من التراث، يزيّن قاعات المتاحف العالميّة. ويصبح مجموعة من التعاليم المقدسة، ضمن دائرة التاريخ الماضي، إلاّ أنّها خارج منطقة الحاضر والمستقبل.

إنّ يوم الغدير حدث الهي، شاءت إرادة الخالق تعالى، أنْ تجعل به جذوة الاسلام منيرة، الى يوم يبعثون. إنّ يوم الغدير لا يشكل حدثاً تاريخياً عابراً، وانّما يشكل ركناً اساسياً من معتقد مدرسة أهل البيت(ع)، وهذا الاعتقاد ليس نابعاً عن حالة عاطفيّة، يتعاطاها جماعة من البشر، متأثرة بفيوضات روحيّة، أو انشدادات عاطفيّة، تعبرعن مشاعر شخصيّة، تجيش حناناً وشوقاً لرموز أسطوريّة، قدستها العقليّة الماضية للآباء، وانتقلت بعد ذلك الى الأبناء. هذه ليست مشاعر غير مسيطر عليها، (كما يتصور البعض)، بانها تنبع من حالة الشعور بالمظلوميّة، على امتداد التاريخ الشيعي، الذي عانى من الظلم والتعسف والاجحاف، والتي تحتاج الى صمام أمان، يمَنّي النفوس باحقيّة القضية، ليكون بمثابة البلسم المسكّن لألم الازواء والاقصاء والابعاد، عن ساحة التجربة وميدان العمل.

 هذه الارهاصات والشعور بالظلم قد تجعل المحبّ، يميل ميلاً عاطفياً ملحوظاً، بالتشبث باساطير تاريخيّة (كما هي الحالة عند اليهود، الذين يجعلون من السبي البابلي رمزاً لشتاتهم وضياعهم بين الشعوب والامم، الأمر الذي يجعلهم يعتقدون بانهم فقدوا الكثير من خصوصياتهم التاريخية). فهكذا شعور يحركه اللاشعور المترسخ في الذهنية الموروثة، او التقليد المنبعث، من تصورات البيئة، التي يعيش فيها الانسان مأسوراً بفروضات معينة، لايمكن الاعتماد عليه بأن يكون مبعث تصور وهمي انخدعت به مدرسة أهل البيت (ع)، (كما يتصور الغلاة في رسم معالم فكر مدرسة اهل البيت).

 إن الامر ليس بهذا الاتجاه من التفكير الساذج على الاطلاق، فإنّ الاعتقاد الراسخ بهذه القضيّة الرساليّة (قضية واقعة الغدير)، له جذوره الواقعية، التي تستند الى صلب الوقائع التاريخيّة الصحيحة، والتي أجمع على صحتها جميع رواة الحديث، في الصدر الأوّل من الاسلام. لا بل نجزم متأكدين، بأن لا توجد واقعة تاريخيّة كواقعة الغدير، أجمع عليها المسلمون، وتعددت مصادر روايتها. فقد احصى وضبط العلامة الجليل، الشيخ عبد الحسين احمد الاميني النجفي (قدس سره)، في موسوعته الجليلة، التي ضمّها (كتاب الغدير)، باجزاءه الاحد عشر، حيث ذكر مائة وعشرة، من الصحابة، الذين رووا حديث واقعة الغدير بطرق مختلفة، وكذلك مثلهم من التابعين.

 إن هكذا استفاضة واجماع، في مصادر حادثة تاريخيّة معيّنة، تخرجنا من كل دوائر الشكّ، التي يرسمها الظلمة المتغطرسون، في محاولاتهم لطمس الحقائق الناصعة، خوفاً على عروشهم من الانهيار، تحت مطارق الحقّ. فإن مجرد الاعتراف بهذه الحقيقة، يزوي بشكل تلقائي، جميع العروش الظالمة والمنحرفة عن سدّة الرياسة، ويخضعها لمحاكمة التاريخ.

ويعطي المبرر الشرعي للشعوب الاسلامية، بان جميع الحكام الامويين والعباسيين والعثمانيين، وما تخلل فترات حكم تلك الامبراطوريات، من سلاطين تتار وسلاجقة وفرس وعرب، وحتى يومنا هذا، هم حكام يأخذون شرعيتهم من الاسلام بصورة مزيفة، يفرضها التعسف والجبروت بالقوّة.  

ففي الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام، من العام العاشر الهجري، جمع رسول الله (ص)، حجيج المسلمين الذين حجّوا معه حجّة الوداع، في منطقة غدير خمّ بمنطقة الجحفة، حيث منها تتفرق الطرق، إلى الأمصار والأقطار. فنزل عليه الأمين جبرائيل (ع)، مبلغاً قوله تعالى( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).

 لقد قرن الله تعالى، أمر التبليغ بالولاية لأمير المؤمنين(ع)، بأمر تبليغ الرسالة كلّها، باعتبار الإمامة هي الامتداد الطبيعي، لجوهر الرسالة الإسلامية. فمن الدروس المهمة لهذه الواقعة، أن المسلمين كلّهم، وكان عددهم يربو على المائة وعشرين الفاً، من مختلف بقاع أرض الاسلام،  اجتمعوا كلّهم على كلمة واحدة، إمتثالاً لله تعالى ورسوله(ص). وبعد تبليغهم بأمر الولاية من المولى سبحانه، نزل قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِيناً). ثمّ أمرهم النبي(ص)، بمصافحة أمير المؤمنين(ع)، وتهنئته بالولاية الإلهية. فطفق الناس يهنئونه(ع)، وكان بمقدمة الصحابة الشيخان، أبو بكر وعمر(رض)، حيث قال الصحابي عمر بن الخطاب(رض)، كلمته الشهيرة، عندما دنا من أمير المؤمنين(ع) مهنئاً، فضرب على كتف أمير المؤمنين (ع)، غبطة و تعظيماً لهذا الشرف العظيم، وقال : (بخ بخ يا ابن أبي طالب أصبحت مولانا و مولى المؤمنين).

إن هذا الدرس يعطينا فرصة كبيرة للتامل في واقعنا اليوم، لنجيب بأنفسنا عن تساؤل مهم، يجب علينا الإجابة عليه، هو: هل ستنجح الأمّة الاسلاميّة عامّة، بالصمود بوجه المخططات المعادية للاسلام، التي تقصد تفريق الكلمة، وشقّ وحدة الصف، عن طريق خداع البسطاء والجهلة، و تهويل الأمور وتضخيمها في اذهانهم الساذجة، وتصوير محبي أهل البيت (ع)  بانهم كفرة واهل ضلالة واصحاب بدعة ؟. ومن ثم تفخيم صدى تلك الادعاءآت، التي هي أصلاً بدعة دخيلة على الاسلام وتاريخه، في أبواق الإعلام المأجورة للاعداء؟.

إنّ الإجابة على هذا التساؤل، يكمن مقدار تحمّل الأمّة لمسؤليتها الرساليّة، أمام الله تعالى ورسوله الكريم(ص)، وأمام التاريخ والأجيال القادمة ؛ فإزاء هذا الأمر الخطير، يجب أن تكون الإجابة: سنبقى مع الله تعالى، نتشرف موحدين متوحدين، برسالة و وصايا نبيّه الكريم (ص)، عن طريق وحدتنا، تحت كلمة (لا إله إلاّ الله محمد رسول الله). كل ذلك لايكون إلا عندما تتوحد أفكارنا ومشاعرنا تحت لواء الحقّ، دون ان تؤثر فينا حمية جاهلية او عصبية سلفيّة، في يوم يكون كعيد الغدير المبارك، الذي توحدت به الأمّة الاسلاميّة، تحت لواء رسول الله(ص).

* كاتب وباحث عراقي

Mj_sunbah@hotmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3 كانون الثاني/2008 - 23/ذو الحجة/1428