الخليج ومنطق الحداثة السياسية

أحمد شهاب

 لا يستطيع منصف أن يقلل من حجم التغيرات التي طرأت على دول الخليج في السنوات الأخيرة، وهي تحولات إيجابية وملموسة لكل متبصر، فعلى مستوى حقوق الإنسان سمحت أغلب دول الخليج لمنظمات حقوقية وإنسانية بالعمل داخل دولها، كما أجازت في السنوات الأخيرة إنشاء جمعيات أهلية تعتني بحقوق الإنسان.

أما على صعيد المشاركة السياسية فإن دولتين من دول الخليج العربي على الأقل لديها برلمان منتخب، ودولة خليجية على الأقل جرت فيها مؤخرا انتخابات جزئية، وثلاث دول على الأقل تتبوأ المرأة فيها مواقع قيادية على المستوى السياسي للدولة.

أما الحديث عن الديمقراطية كمفهوم ،فيتم تداوله بصورة غير مسبوقة في جميع الأوساط السياسية الرسمية والشعبية، ولم تعد هناك دولة خليجية تجاهر بأنها ضد الديمقراطية، أو الحريات العامة وحقوق الإنسان، بل إنها تدعم وتسعى لتحقيق ذلك في أقرب فرصة ممكنة، وجميعهم يحلمون بأن يتلذذوا بطعم الحداثة السياسية، أو على الأقل ينسبون أنفسهم إليها، لأن النسبة إليها تعني الاستقرار السياسي، والمزيد من الشرعية أمام العالم الحر.

لكن هذه الصورة الجميلة ليست هي كل شيء، وإنما هي القشرة الخارجية لدول المجلس فقط. أما الواقع فيختلف إلى حد مثير للقلق، والمظاهر المذكورة أعلاه لا تشفع لتصنيفها من ضمن الدول المحدّثة سياسيا، بل جُل ما يمكن إدعاؤه أنها تتقدم ببطء في مسار الإصلاح السياسي من دون أن تلامس عمقه.

نتحدث عن حرية الرأي، لكن بعض دولنا تتأزم إذا ما مارس أهل الرأي حقهم في التعبير بصورة مخالفة للأطروحة المتبناة داخليا، ويمكن أن يصنف صاحب الرأي من ضمن المغضوب عليهم لأنه كشف عورات بعض المفسدين، أو لأنه تجرأ على الدخول في المناطق المحظورة، وهي في العادة مصالح عمومية لكن يقف خلفها بعض المتنفذين.

وتُسلم دولنا بأهمية ممارسة الديمقراطية وضرورة القبول بنتائجها، لكن في الواقع لا يتم قبول إلا النتائج المحددة سلفا من قبل بعض الأطراف، ويتم التحايل على الآراء الأخرى بأساليب لا تمت إلى الميثاق الديمقراطي بصلة. ونفتتح بين الفينة والأخرى جمعيات لحقوق الإنسان، لكن من بين أبناء جلدتنا الآلاف من المحرومين من ممارسة حقوقهم لاعتبارات سياسية، ومئات الآلاف من المحرومين من حق المواطنة، بل ومن حق العيش بكرامة، وظاهرة غير محددي الجنسية أبلغ من أي تعبير.

الأسئلة الحائرة

يُثير التناقض بين الادعاء والواقع داخل دول الخليج استفهاما حول علة تباطؤ الحراك الإصلاحي في المنطقة برمتها، وعلة تباطؤ التطور الديمقراطي في دول المجلس بصورة خاصة؟ إذ كيف يمكن أن نفسر دخول مفاهيم مثل الديمقراطية والدستور والحقوق والعدالة السياسية مبكرا في الحياة السياسية لبعض الدول من دون أن يطرأ عليها تطور نوعي، ومن دون أن تحصل على فرصة للنضج والإبداع المحليين؟

كيف يمكن أن نصدق أن هذه المفاهيم لا تزال تناقش بالكثير من البساطة بينما يقوم العالم الحر بالتنقيب عن مفاهيم أكثر جدة وحداثة للحفاظ على مسلكية التقدم والإنجاز الحضاريين؟ وكيف تتمكن بعض الأنظمة من تعطيل الدستور ،أو الالتفاف على القانون، أو تقييد الحريات الشخصية في عصر الفورة الديمقراطية وسيادة القانون؟

كيف تحول الإصلاح الحقيقي إلى أُحجية لا يستطيع حتى العارفون بالمسألة كيف يفسرون غموضها، في زمن تحول الإصلاح في مناطق أخرى إلى شأن عام، يتشارك الجميع في إنجازه وتشكيله وتظهيره ؟

الإجابة عن هذه الأسئلة لا تتطلب الكثير من التفكير وإنما تنتظر الكثير من الصراحة ومواجهة الذات، ودول الخليج معنية بتقديم أجوبتها عليها إذا أرادت أن تعبر من مرحلة انتظار المستقبل إلى مرحلة صناعة المستقبل، وإلى تدعيم بنائها الذاتي من أجل سد الفجوات الداخلية كخطوة للحاق بزمن مقبل.

الأثواب البالية

الحداثة السياسية ليست دعوة للإحسان على شعوب المنطقة، وإنما هي ضرورة للاستمرار وعدم الشيخوخة، المطلوب الآن التقدم نحو تأسيس دولة حديثة تقوم على أنقاض الدولة القديمة، فإن كانت الدولة القديمة تكتفي بالوجود البشري المنظم الذي تقوده سلطة حاكمة تمتلك زمام أمره وتسير به إلى حيث ترى، فإن الحداثة السياسية تؤسس لعلاقة نموذجية بين الدولة والمجتمع المدني، قوامها عدم خضوع الأخير للدولة، لا من قريب ولا من بعيد، والعلاقة التي يمكن أن تنشأ بين الطرفين هي علاقة التكامل وليس التبعية.

علاقة التكامل، لا تعزل الدولة عن المجتمع المدني، بل تحولها إلى داعم يقف على مسافة واحدة من الجميع، عبر مجموعة التشريعات الناظمة لحركة المجتمع، وعبر الدعم المادي والمعنوي الذي يجب ألا يقدم بعقلية الصفقات والمصالح، وإنما إيمانا بضرورة تكريس دور المنظومات المجتمعية النشطة على اختلافها وتنوعاتها، وهي في ذلك كله تدخل معهم في حوار متواصل يمنع من محاذير الانفصال والتباعد بين الطرفين.

تعين هذه العلاقة على تبلور مفهوم المواطن الحقيقي الذي يمتلك مجاله الخاص في مقابل المجال العام الذي يربطه بالدولة، وهذا المجال ما هو إلا فضاء الإبداع الذي يُتيح أمام الفرد فُرصة الانفلات من مراقبة السلطة، وتخطي عقبة القيمومة التي نشأ عليها، والتخلص من الأثواب البالية في العمل والتفكير السياسي، كما أنه يمنح هامشا أوسع لإعادة صياغة المفاهيم السياسية بالكثير من الجرأة والعقلانية. فإن كانت ثمة وصفة لترميم المسافات بين الواقع السياسي والمأمول فهي “الحداثة السياسية”.

Alshehab4@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 30 كانون الاول/2007 - 19/ذو الحجة/1428