بين الحرب والسلم مرحلة انتقالية هامة في الدول المتحضرة، يتم فيها
التوقف والتقييم استعدادا لتجاوز ظروف الحرب بما حملته من خراب ودمار
ونتائج معتمة القت بظلالها على البشر وسلوكياتهم والاقتصاد والبنية
التحتية وكافة المجالات من خدمية واجتماعية وتعليمية وغيرها. وفي هذه
المرحلة الحاسمة ينسحب قادة الحرب الى ثكناتهم او الى مواقعهم او
يتقاعدوا بعد العناء والجهد والنصر الذي حققوه او لانهم في يوما ما
واثناء الحرب اتخذوا قرارا ميدانيا خاطئا راح ضحيته عددا من رجالهم
الشجعان والامر ينسحب كذلك على السياسيين ايضا. واذا كان الدفاع عن
الوطن والمثابرة والتفاني في خدمته اثناء الحرب او في حالة تهديد
مصالحه العليا دافعا للبقاء والاستمرار في السلطة والتمسك بها فأن ذات
الخدمة والهدف تحتم على تلك القيادات الانسحاب من الميدان او العمل
السياسي حال الدخول في فترات الاستقرار والسلم، وذلك لافساح المجال
للقيادات الاخرى من ذوات الاختصاص لاداء اعمال البناء والاعمار واصلاح
ما افسدته الحرب والذي لا يتوائم مع قابلياتهم وطبيعة امكانياتهم.
وهذا ما استقرت عليه التجارب التأريخية في حياة الامم والشعوب الحية
مع استثناء الديكتاتوريات واحزاب الاستبداد وحب السلطة والنفوذ والحكم
الوراثي في الملكيات التي لا زال مشهدها ظاهرا على الساحة الدولية وان
كان نظامه ( يملك ولا يحكم ) في اغلب الدول المتطورة في انظمتها
السياسية.
وفي مشهد العراق الراهن مرحلة تجمع بين الاهمية والحسم، تتمثل في
انتصار ارادة الشعب على الارهاب، ونحن نسميه نصرا للشعب لانه من حققه
في تصميمه على تحدي القوى الارهابية والتكفيرية والاصرار على الوصول
الى صناديق الاقتراع وممارسة الديمقراطية واقرار الدستور، وهذا النصر
الذي دفعه العراقيون من دماء ابنائهم الغالية لا يمكن ان يجير بأي صورة
من الصور لاية جهة كانت، وتلك هي الحقيقة الغائبة، فالنصر نصر الشعب
والعراق، وان كان للحكومة دور في ذلك، فليكن، ولكنها تتحمل وزر الكثير
من الاخطاء، والتي بدأتها بتهميش القوى السياسية الفاعلة من خارج
البرلمان وابعادها عن المشاركة في صنع القرار او اعادة البناء،
الانقطاع عن الجماهير واهمال معاناتها، حالات الفساد والمحسوبية
والحزبية الضيقة والاستئثار بالسلطة واحتكارها والتي اصبحت سمة العمل
السياسي وحتى الوظيفي هذا من جانب، ومن جانب اخر عجزت الحكومة عن
الوفاء بأدنى الالتزامات في ملفات البناء واعادة الاعمار طيلة الفترة
الماضية وابسطها ما يحدث مثلا في موضوع اعادة بناء مرقدي الامامين
العسكريين الذي ما زال حبرا على ورق رغم اولويته وبرغم الهالة التي
اثارتها اجهزة الاعلام حول وضع التصاميم والتخصيصات الكبيرة التي رصدت
لانجازه قبل عدة اشهر.
وفي مقابل الاهمال والفساد المالي والاداري وحالات البؤس والمعاناة
التي يعانيها ابناء الشعب العراقي وتضحياتهم ورغم النصر الذي حققوه على
الارهاب والذي نلمس معالمه في اغلب مناطق العراق عموما وبغداد خصوصا،
الا ان هناك مناطق كثيرة ما زالت تعاني، بما فيها ما يقع في ضواحي
العاصمة بغداد، مثل منطقة المعامل التي لا تتوافر فيها ابسط الخدمات من
ماء او مستشفى او حتى خدمات الصرف الصحي وغيرها مناطق اخرى كثيرة.
اذن المشكلة تكمن في سياسة الحكومة التي توجه كافة التخصيصات واموال
الميزانية الى المؤسسات الامنية والعسكرية حصرا على حساب المجالات
العمرانية والخدمية الاخرى حتى اصبح العراق صاحب النسبة الاعلى عالميا
في اعداد تلك القوات قياسا الى اجمالي عدد السكان، والتي وصلت حسب
تصريح احد النواب مؤخرا الى (مليون واربعمائة الف) شخص وبشكل يؤكد
توجهات الحكومة الحالية في عسكرة الفرد والمجتمع بما لا يخدم مرحلة
البناء والاعمار ولا خطط التنمية المزمع تنفيذها من قبل ذات الحكومة
عام 2008. وفي الوقت الذي يصمم فيه رئيس الوزراء وبشكل دؤوب على حضور
استعراضات الجيش، نجد اهمالا كبيرا للجانب التنموي.
بينما هناك جهات من داخل التشكيلة الحاكمة تتولى تلك المسؤولية لا
لشيء بل لانها ذات ميول عمرانية اكتسبتها عن خبرة ودراية ودراسة ومؤهل
علمي، لا تمتلكه قيادة الحكومة الحالية ذات التوجهات الامنية، فنراها
حريصة على تشجيع تنمية الاقاليم ومعالجة مشاكل المحافظات وعقد
المؤتمرات الناجحة بحضور اقليمي ودولي وشركات اعمارية عالمية لجذب
انظار المستثمرين واموالهم.
وهذا الموضوع يعيدنا قليلا الى الوراء والى شهر اب من هذا العام
تحديدا، عندما توجه وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير الى بغداد،
واثار في تصريحاته التي اعقبت الزيارة موجة عاصفة من الانتقادات حينما
دعا فيها الى تغيير رئيس الحكومة الحالية نوري المالكي بشخص من
التكنوقراط ورشح لهذه المهمة عادل عبد المهدي بديلا عنه في حينها. ورغم
تراجع الوزير كوشنير عن تصريحاته بعد وقت قليل من اطلاقها الا انه عاد
واكدها مرة اخرى، وبعيدا عن موضوع التدخل في الشؤون الداخلية ومدى
علاقة كوشنير برئاسة حكومة العراق، فهذا لا ينفي ان الرجل يمتلك باعا
طويلا في العلاقات الدولية وحنكة ونظرة سياسية جعلته مؤهلا لحمل حقيبة
بلاده الخارجية، وبالتالي فأن اراءه لا تأتي اعتباطا بل انها تقيم على
انها من اراء الخبراء التي تأخذ في الحسبان، وان لم يتم الالتزام بها
فأنها قابلة للنقاش.
ان كوشنير كان على حق يوم طالب برحيل المالكي لانه ذا نظرة ثاقبة
استشرفت امكانيات الرجل وصلابته وقوته وتوجهاته التي لا تصلح بأية حال
من الاحوال لعصر البناء والاعمار المقرر عام 2008، وان صدى حديثه
وتصريحاته ما زال يتردد في اكثر من اتجاه وفقا لمعطيات المرحلة
الانتقالية الحالية التي يمر بها البلد، وها هو صداه يتردد في اذهاننا
ايضا رغم مضي مدة عليه.
* الناطق الرسمي بأسم منظمة العمل الاسلامي
admin@iao-iraq.org |