النفط والديمقراطية

جودت هوشيار

معظم بلدان العالم الثالث الغنية  بالنفط تحكمها أنظمة غير ديمقراطية وتعيش شعوبها فى فقر مدقع، ذلك لأن وجود النفط  أوالثروات الطبيعية الأخرى  يؤدى الى اهمال " الثروة البشرية " الكامنة فى طاقات الأنسان الخلاقة  وتأثيرها  فى السلطة.

 وقد توصل العالمان الأقتصاديان   جيفرى ساكس/ Jeffrey Sachs  (الحائز على جائزة نوبل) واندريووارنر / Andrew Warner   فى كتابهما الموسوم  "غنى الثروات الطبيعية والنموالأقتصادى " / Natural Resource Abundance and Economic Growth  استنادا الى نتائج تحليل الأوضاع فى 97 بلدا من بلدان العالم خلال  العقود الثلاثة الماضية،  ان ثمة علاقة  مباشرة بين احتياطى الخامات الطبيعية وفى مقدمتها النفط  ومعدلات  النموالأقتصادى. كلما كانت الدولة غنية  بالثروات الطبيعية، كان معدل  نموها الأقتصادى  أبطأ.

 وعلى النقيض من ذلك، فأن البلدان الأفقر بالثروات الطبيعية تتطور بمعدلات أسرع. وقد يبدو هذا الأستنتاج غريبا لأول وهلة، ولكن تجارب الشعوب تثبت هذه الحقيقة بما لا يدع مجالا للشك، ان المقياس الصحيح للقاعدة الأنتاجية لأقتصاد ما هوالثروة  والتى تشمل:

- قيمة الأصول المصنعة  (الأنشاءات، المصانع)

- رأس المال البشرى (المعرفة، المهارات، الصحة)

- رأس المال الطبيعى (الأنظمة البيئية، المعادن، الوقود)

- المؤسسات (الحكومة، المجتمع المدنى، حكم القانون)

والمؤشر الحقيقى للتنمية هوالحفاظ على ثروة اقتصاد ما على مر الزمن  نسبة الى عدد السكان. وينبغى النظر الى النموالأقتصادى كنموللثروة وليس كنموللناتج المحلى الأجمالى.

وثمة فارق كبير بين الأثنين. فهناك  العديد من الظروف التى يتزايد فيها الناتج المحلى الأجمالى لدولة ما  - نتيجة للأنتاج المكثف من  النفط  أوالموارد الطبيعية  الأخرى  والذى يصاحبه غياب خدمات الأنظمة البيئية.-  حتى مع اضمحلال ثروتها. وهى حالة لا يمكن ان تستمر طويلا.

  ان التنمية البشرية (التعليم والتدريب والتأهيل) وامتلاك قاعدة علمية رصينة فى الحقول الأساسية  (معاهد ومراكز بحوث متقدمة) والمؤسسات الديمقراطية (الحكومة المنتخبة، المجتمع المدنى، حكم القانون) والأستغلال العقلانى للثروات الطبيعية ومنها النفط  بما يفى بأحتياجات الحاضر دون المجازفة  بقدرة اجيال المستقبل على الوفاء بأحتياجاتها، هى التى تحقق  مجتمعة التقدم الأقتصادى والتكنولوجى و المنشود للأمم. لأن امتلاك الثروات الطبيعية ليس العامل الأساسى فى غنى الدول وتقدمها، لأن الثروات الطبيعية و(النفطية منها على وجه الخصوص )  التى تحتكرها الدولة يمكن  ان تجعل تلك الدولة فقيرة. ولكن اذا تمتعت دولة ما بحكم القانون وتعرف فيها حقوق الملكية بشكل واضح وتضمن قبل اكتشاف النفط، عندئذ يصبح النفط مصدر ازدهار.

 خذ  النروج كمثال على ذلك. فالنروج  التى شرعت منذ السبعينات من القرن الماضى  باستخراج النفط على نطاق واسع من  قاع  بحر الشمال  كانت  تمتلك اقتصادا  متطورا  ومؤسسات ديمقراطية  قبل اكتشاف النفط. ولهذا تمكن المجتمع النرويجى  من فرض رقابة صارمة على  أوجه انفاق  العائدات الكبيرة المتأتية من بيع النفط، كما ان الحكومة النرويجية  حاولت تشجيع تطوير القطاعات  الأقتصادية  المختلفة  استعدادا لتلك  اللحظة التى تنضب فيها منابع النفط. وينطبق ذلك ايضا على كل من الولايات المتحدة الأميركية وكندا وبريطانيا.

ولكن  اذا لم تتمتع دولة ما بحكم القانون ولم تعرف فيها حقوق الملكية بشكل واضح وتم اكتشاف النفط بعد ذلك فأن النفط    سيصبح لعنة، لأنه  سيكون محتكرا من طرف الدولة أو اسرة حاكمة، وتقف  تلك الثروة  التى يغتنى منها الحكام عقية امام تطور الديمقراطية.

 عندما  تحصل  الدولة على تدفقات نقدية كبيرة دون جهد مبذول عن طريق  مبيعات  الخامات الطبيعية وليس عن طريق الضرائب، فأن المواطنين يصبحون نتيجة لذلك متكلين على الدولة ولا يمارسون ضغطا  فعالا على  السلطة وعلى خلاف الدول التى تستوفى ضرائب عالية  على مداخيل مواطنيها، فأن دافعى الضرائب فى الدول النفطية لا  يقلقهم كيف تصرف الدولة عائدات الضرائب. كما ان هذه المبيعات استنزاف لموارد غير متجددة وهى السبب الرئيسى فى اهدار الأموال والطاقات التى كان فى امكانها أن تسهم  على نحوفعال وكفؤ فى التطور الأقتصادى للبلدان المنتجة والمصدرة للنفط والخامات الطبيعية الأخرى. 

وقد لوحظ ان حكومات الدول النفطية فى بلدان العالم الثالث،  تنفق المداخيل العالية المتأتية من تصدير النفط على البرامج التى تهدف الى تعزيز سلطتها. ولدينا أمثلة كثيرة وبارزة تؤكد هذه الحقيقة. فقد رأينا كيف ان  صدام بدد العائدات الكبيرة المتاتية من تصدير النفط فى  تغطية تكاليف   حروبه العبثية وعسكرة البلاد وشراء الذمم وكيف ان المستفيدين الرئيسيين من هذه العائدات كان  صدام وعلئلته وكبار المسؤولين فى نظامه الديكتاتورى، فى وقت كان فيه الشعب العراقى يعانى من شظف العيش والبؤس والحرمان.

والعائدات الهائلة  التى حصلت عليها المكسيك فى السبعينات من القرن الماضى مهد السبيل عمليا لأنفراد حزب واحد بحكم البلاد.

والأمر ذاته حصل فى جمهورية الكونغو فى  التسعينات  حيث انفقت العائدات الكبيرة لبيع النفط  قبل كل شىء على تأسيس وتسليح الجبش والحرس الجمهورى.

والدول النفطية عموما  تنفق أموالا طائلة على أجهزة الأمن والمخابرات لمنع نشوء مجتمع مدنى أوجماعات معارضة مستقلة وقوية فى البلاد. ومثل هذه الحالات نجدها بكل وضوح فى كل من الجزائر وليبيا وتونس وايران.

ويرى الصحفى والمحلل السياسى الأميركى (العربى الأصل) فريد زكريا  فى كتابه الموسوم   " مستقبل الحرية " 

 "  The Future of Freedom: Liberal Democracy at home and Abroad  "

ان  العائدات الهائلة المتأتية من بيع الخامات الطبيعية فى  الدول الأفريقية ودول الخليج لا تجلب الحرية لشعوبها  و  ثرائها  لا تساعد على  تحقيق الأصلاحات السياسية، لأن  تطورها الأقتصادى مختلف مبدئيا عن النماذج الأوروبية  والآسيوية  (المقصود هنا اليابان والصين والنمور الآسيوية).

 ومن الناحية العملية تستخدم هذه الدول  ثرواتها الطبيعية لشراء ما هومعاصر:  بنايات جديدة، السيارات،  اجهزة التلفزة والمنتجات التكنولوجية الأخرى. ولكن مجتمعات هذه الدول تبقى متخلفة  وطبقة رجال الأعمال فيها لا تنفصل عن الحكومة، بل تعتمد عليها اعتمادا كاملا.

ولا شك  ان منابع  النفط والثروات الطبيعية الأخرى ناضبة  فى المسقبل المنظور  والدول التى تحرص على الوفاء بأحتياجات شعوبها  راهنا   لا تجازف بقدرة اجيال المستقبل على الوفاء باحتياجاتها وتخطط لضمان الأستفادة القصوى من هذه الثروات  عن طريق تنويع الأ قتصاد الوطنى ووضع استراتيجيات متوسطة وبعيدة المدى  فى ضؤ  التطورات السريعة  المتلاحقة للثورة المعاصرة فى العلم والتكنولوجيا.

 وابرز معالم هذه الثورة هوظهور مصادر جديدة للثروة  تتمثل فى  رأس المال الفكرى اوبتعبير ادق: المعرفة المطبقة على عمل لخلق قيمة وتطبيق رأس مال فكرى على وسائل انتاج.

(لقد تغيرت طبيعة الثروة نتيجة لثورة الأتصالات والمعلومات ولم تعد الموارد الطبيعية نحنفظ بقيمتها السابقة، والتقدم الأقتصادى اليوم يعتمد على زيادة المساهمة النسبية للمعرفة فى خلق ثروة.وزيادة اهمية مكونات المعرفة للمنتوجات،

 ويقول جورج جلدر  Gilder: ان منتوج عصر المعلومات الأساسى ومكونات كل الأجهزة الألكترونية الحديثة تتألف تقريبا من معلومات، فالمواد الخام تشكل واحد بالمئة  من  تكاليفها، والعمل من النوع التقليدى يشكل خمسة بالمئة أخرى. اما  أغلب التكلفة - والقيمة  - فناتجة عن المعلومات المدمجة فى الشرائح الدقيقة وعن تصميم وتطوير الأجهزة عالية التخصص المستعملة فيها).

ولكن المجال ما يزال مفتوحا امام الدول النامية لتقليص الفجوة العلمية – التكنولوجية بينها وبين العالم المتقدم  وتحديث  المجتمع عن طريق تنويع الأقتصاد  واعادة البناء بالأعتماد على العلم والعمل بدلا من الشعارات الجوفاء والتخطيط العلمى بدلا من المشاريع المرتجلة والأستثمار  فى التعليم والموارد البشرية واعداد الكوادر المتخصصة فى شتى حقول المعرفة وعلى نحو منهجى ومتوافق مع  احتياجاتها ومتطلبات العصر وتطوره.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأثنين 24 كانون الاول/2007 - 13/ذو الحجة/1428