الدين والسياسة: Religion and
Politics
شبكة النبأ: تبدو أهمية العامل الديني
في العلوم الاجتماعية مركزية في الكثير من النظريات المؤسِّسة. وقد
أبرز دوركهايم، في كتابه "الأشكال النموذجية للحياة الدينية"، وماكس
فيبر، في "الأخلاقية البروتستانتية" بشكل خاص، أبرزا المكانة التي
يشغلها المقدّس في بناء الاجتماعي. فقد انطلق الأول من فرضية أن "كل
المؤسسات الاجتماعية الكبرى تقريباً نشأت عن الدين "ودعانا إلى أن نجد
في الدين "التعبير المختصر للحياة الجماعية بأسرها"، وبالتالي المبادئ
الكبيرة التي تؤسس كل مجتمع؛ فيما يسعى الثاني، من جهته، إلى استخلاص
الروابط بين الهيكليات الأخلاقية والدينية الكبيرة بكل نموذج علاقة
اجتماعية معروف تاريخياً.
إمتدت هذه الفرضيات من خلال نوعين من الأعمال: تلك التي تحاول تفسير
تركيبة كل نظام سياسي خاص وفقاً للدين المتواجد كثقافة سائدة؛ وتلك
التي تسعى لتفسير السلوكات الاجتماعية وفقاً لتصرفات الأفراد الدينية.
في الحالة الأولى، تنعقد العلاقة بين الدين والسياسة على أساس ماكرو
اجتماعي حيث يؤثر الاول في الثانية من خلال المؤسسات وأنماط التشريع
التي اكتسبتها الأطراف الاجتماعية الفاعلة؛ عندها تصبح المجتمعات
متعددة المذاهب حالة خاصة تنزع تقريباً حكماً نحو "التعددية الثقافية"
والثنائية. في الحالة الثانية، تبنى العلاقة إفرادياً من قبل الأطراف
الاجتماعية الفاعلة وتصبح متوقفة على نمط اجتماعية كل منها، مؤدية إلى
سلوكات سياسية متمايزة، لحظها علم الاجتماع الانتخابي الذي أبرز الدور
الواضح للممارسة الدينية في تحديد الاقتراع.
في فترات أحدث، حاول علم السياسة الإشارة إلى الاستعمال الرمزي – أي
المقصود – للدين في التعبئة السياسية، ولكن أيضاً في بناء الهوية:
بدلاً من أن يؤثر كعامل، يصبح الدين أكثر وسيلة تعبير عامة عن حالة أو
رغبة، وعن إظهار تمايز بالنسبة إلى الآخر.
الدين والسياسة ... وصراع
الأصوليات(1)
عندما وقعت الجريمة المأساوية في نيويورك في 11 سبتمبر 2001 لم يجد
الأصولي الإنجيلي الأميركي القس 'جيري فولويل' تفسيراً لها سوى قوله:
'إنها عقاب من الله لأن الشعب الأميركي يعصى التعاليم الإلهية' وقبل
وفاته بأقل من أسبوع أجرت معه محطة تلفزيون 'سي إن إن' الأميركية
مقابلة في إطار برنامج حول الأصوليات الدينية، شرح خلالها نظريته التي
يتمسك بها بقوله : 'إن الإجهاض يؤدي إلى قتل مئات الآلاف من الأطفال
الأميركيين سنوياً، وهذا أمر يناقض التعاليم الإلهية كما أن زواج
المثليين يتحدَّى الله والقيم الدينية ولذلك فإن الله أنزل بالشعب
الأميركي هذا العقاب الشديد كإنذار لنا، حتى نعود إلى جادة الحق
والصواب'.
وكان زعيم تنظيم 'القاعدة' أسامة بن لادن ونائبه أيمن الظواهري قد
رددا مراراً وتكراراً أن الله كان مع الذين نفذوا تلك العملية التي ذهب
ضحيتها حوالي ثلاثة آلاف إنسان بريء من مختلف الجنسيات والأديان
وإنه ما كان للعملية أن تنجح لولا 'التدخل الإلهي' الذي سدّد خطى
الرجال الذين نفذوها
وقبل ذلك بسنوات عندما وقعت جريمة اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية
الأسبق إسحاق رابين أطلق أحد كبار منظّري الأصولية الإنجيلية الأميركية
القس 'بات روبرتسون' تفسيراً دينياً للجريمة قال فيه : 'إن الاغتيال هو
عمل من أعمال الله، وإنه حكم إلهي نفذ فيه لخيانته شعبه'
فقد اعتبر روبرتسون اتفاق 'أوسلو' الذي يعيد للفلسطينيين جزءاً من
أراضي الضفة الغربية 'تنازلاً عن أرض مقدسة هي أرض الله، وأن لله كلمات
قوية تجاه من يقسّم أرضه
لقد استحق رابين غضب الله عندما بدأ يقسِّم أرض الله'
وفي الوقت الذي يجري فيه حديث حول استئناف مساعي التسوية السياسية
يرتفع صوت منظّر أصولي إنجيلي آخر هو القس 'كلارنس واغنر' يقول :
'علينا أن نشجع الآخرين على فهم الخطط الإلهية، وليس الخطط التي هي من
صنع الإنسان في الأمم المتحدة أو حتى في الولايات المتحدة، أو الاتحاد
الأوروبي، أو في 'أوسلو' أو في 'واي ريفر' الخ
إن الله بعيد عن أي مخطط يعرّض مدينة القدس للصراع بما في ذلك منطقة
جبل الهيكل وجبل الزيتون، وهو أبعد ما يكون عن إعطائها للعالم الإسلامي
إن المسيح لن يعود إلى مدينة إسلامية تدعى القدس، ولكنه سيعود إلى
مدينة يهودية موحدة تدعى جيروزاليم'
وكان القس 'بات روبرتسون' قد حذر في الأول من يناير 2002 في برنامجه
التلفزيوني 'نادي السبعمائة' من تدخل الولايات المتحدة في النبوءات
الدينية وانتزاع القدس من اليهود وإعطائها لياسر عرفات
'فإذا استرجعت الولايات المتحدة القدس الشرقية وجعلتها عاصمة لدولة
فلسطينية، فإن معنى ذلك أننا نسعى وراء غضب الله'
هذا عن الأصولية المسيحية الإنجيلية في الولايات المتحدة، أما في
إسرائيل فقد طلع الحاخام الأكبر يوسف بتفسير للهزيمة التي مُنيت بها
القوات الإسرائيلية في لبنان
وقال الحاخام : 'إن غضب الله نزل على الذين قتلوا والذين جرحوا من
الجنود الإسرائيليين وذلك بسبب عدم أدائهم الواجبات الدينية من صلاة في
الكنس، وعدم التزامهم بالأخلاق الدينية اليهودية' وقد لاقت كلمات
الحاخام ردود فعل حادة حملته على التراجع عن تفسيره
وهو ما لم يحصل مع أي من 'فولويل' أو 'روبرتسون' أو 'واغنر' في
الولايات المتحدة
هناك تناقض خطير بين العولمة من حيث هي انفتاح اقتصادي وثقافي، وبين
التطرف الديني من حيث هو انغلاق على الذات ورفض للآخر واحتكار للإيمان
والخلاص
أما إسلامياً، فقد نشر وزير الإعلام الإيراني السابق عطا الله
مهاجراني مقالاً صحفياً قال فيه : »عندما عاد الرئيس أحمدي نجاد إلى
إيران بعد أن ألقى خطاباً في الأمم المتحدة، وعندما التقى واحداً من
أبرز رجال الدين في إيران وهو آية الله جوادي أمولي، قال إن أحد
الحاضرين في الأمم المتحدة أبلغه أثناء المحاضرة بوجود هالة ضوء كانت
تحيط به عندما كان يلقي خطابه أمام الجمعية العامة، وإنه هو نفسه أحسّ
بذلك أيضاً
وقال الشاهد إنه عندما بدأتَ بالكلمات »بسم الله« رأيت أنكَ محاطٌ
بهالة ولم يتغيّر الوضع إلا عند انتهاء الخطاب
وقال أحمدي نجاد : شعرتُ بذلك أيضاً شعرتُ فجأة بأن الجو تغيّر هناك
ولفترة 27 إلى 28 دقيقة لم ترمش عين لأحد من الزعماء
وأكد أحمدي نجاد أنه لا يبالغ لم تعد الأصوليات الدينية على
اختلافها الإسلام والمسيحية واليهودية والهندوسية وحتى البوذية! تؤمن
فقط بوجوب الالتزام بالتعاليم الإلهية الواردة في الكتب المقدسة،
ولكنها تؤمن بأنها معنية وملزمة أيضاً بوجوب العمل على تحقيق الإرادة
الإلهية وحتى تحقق هذه الإرادة فإنها تعطي نفسها حق معرفة ما يريده
الله وتالياً حق تفسير النصوص المقدسة واحتكار تفسيرها وإلغاء كل من لا
يشاركها مفهومها لهذه النصوص ومن هنا فإن الأصولية الدينية ليست وقفاً
على دين دون آخر ولا على شعب دون آخر فالأصولية الدينية ) ليس بمعنى
العودة إلى الأصول، بل بمعنى احتكار تفسير أو فهم الدين وتوظيفه في
خدمة قضايا سياسية وحتى عسكرية)، هي أقوى ما تكون في الولايات المتحدة.
حتى أصبحت هذه الحركة الأصولية تلعب دوراً أساسياً في صناعة القرار
السياسي الأميركي
وقد أثبتت الأصولية وجودها في الهند من خلال الحزب الهندوسي الذي
ترأس رئيسه الحكومة السابقة لعدة سنوات، وهو الحزب الذي قام بتدمير
المسجد التاريخي »بابري« بحجة أن الإله »فشنو« تجلى فيه .... قبل بناء
المسجد.
وقد ثبت وجود الأصولية اليوم في تايلند كذلك من خلال المؤسسة
الدينية البوذية التي تطالب باعتبار البوذية ديناً وحيداً للدولة، وذلك
على قاعدة الصراع مع المسلمين التايلنديين في جنوب البلاد المتاخم
لماليزيا
ومعروفة هي الحركات الأصولية في العالم الإسلامي وخاصة في باكستان
وإندونيسيا، حتى أن 'حزب التحرير الإسلامي' مثلاً أعلن عن مشروع لإعادة
العمل بنظام الخلافة حتى في بريطانيا، حيث حصل على ترخيص لعمله الحزبي
وعلى رغم أن أوروبا لا تزال بعيدة عن هذه الموجات من التطرف الديني،
وعلى رغم أنها لا تزال متمسكة بالعلمانية التي دفعت ثمن الوصول إليها
سلسلة من الحروب الدينية (بين الكاثوليك والإنجيليين ـ البروتستانت(،
فإن العامل الديني بدأ يفرض نفسه في عملية اتخاذ القرار السياسي على
قاعدة تنامي الحضور الإسلامي في أوروبا، سواء من حيث العدد أو من حيث
الدور
فالتصور بوجود علاقة بين الدين (الإسلامي) والإرهاب، أملى على الدول
الأوروبية ـ ومن قبلها على الولايات المتحدة ـ وضع تشريعات جديدة تفرض
قيوداً على الحريات العامة والفردية، مما يشكل تراجعاً عن مبادئ
الليبرالية التي تميّزت بها منذ عصر النهضة
وإذا استمر هذا النهج في التصاعد، فقد تشهد أوروبا ولادة أصولية
دينية كاثوليكية في دول مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال،
وإنجيلية في الدول الإسكندنافية (السويد والنرويج والدانمرك) وألمانيا
من هنا يبرز التناقض الخطير بين العولمة من حيث هي انفتاح وتداخل
بين المجتمعات والدول اقتصادياً وثقافياً وبين التطرف الديني من حيث هو
انغلاق على الذات ورفض للآخر واحتكار للإيمان والخلاص
ولاشك في أن التوظيف السياسي للدين من شأنه أن يؤدي إلى تعميق هذا
التناقض وإلى تسريع وتيرة انتشاره
فالعالم كله يشهد المزيد من تنامي ظاهرة هذا التوظيف، والمزيد من
تراجع وذبول ظاهرة فك الارتباط بين ما هو ديني وما هو سياسي
والظاهرتان معاً تشكلان أساساً لاحتمالات الانزلاق ليس نحو صراع
ثقافي ديني كما تصوّر الكاتب الأميركي صموئيل هنتينغتون، وإنما نحو
صراع سياسي باسم الدين.
الدين والسياسة في مواجهة تحديات
العصر(2)
بعكس ما بثته الأيديولوجيات الوضعية والمادية التي سادت منذ القرن
التاسع عشر، تظهر أحداث العقود الماضية تجدد الطلب على الدين في الحياة
السياسية والمدنية بشكل عام، إذ كان للكنيسة الكاثوليكية والكنيسة
الأرثوذكسية دور رئيسي في التعبئة التي قادت إلى الإطاحة بالنظم
الشيوعية، سواء عن طريق ما قام به البابا السابق جان بول الثاني الذي
أظهر نشاطا استثنائيا في الدبلوماسية الدولية، أو عن طريق الكنائس
المحلية التي نشطت لدعم قوى المعارضة السياسية وشكلت رافعة لها في
بولونيا وروسيا وبلدان أوروبا الشرقية عموما.
"
بقدر ما يعبر الإيمان عن الولاء والانتماء والتماهي مع الوجود في
صوره المادية أو الذهنية، يندفع المؤمن إلى الإخلاص لما يؤمن به،
ويؤهله ذلك للارتفاع على شرطه المادي بل والإنساني ليصل إلى مستوى
نكران الذات والاستغراق في الفكرة التي يتعلق بها
"
ويسري الأمر نفسه على ما قام به المجاهدون الإسلاميون في أفغانستان،
حين كبدوا النظام السوفياتي هزيمة عسكرية وسياسية لن ينجح في التغلب
على آثارها أبدا.
ولعب أنصار لاهوت التحرير دورا أساسيا أيضا في هزيمة الدكتاتورية
وتعبئة شعوب أميركا اللاتينية أو بالأحرى طبقاتها الفقيرة لتأكيد
حقوقهم الاجتماعية، بعد انحسار العقيدة الماركسية.
وفي منطقتنا ما كان من الممكن تصور نجاح المشروع الصهيوني الرامي
إلى بناء دولة يهودية صافية في فلسطين من دون إحياء الذاكرة الدينية
والخلط المتعمد بين القومية والدين، وبالمثل ما كان من الممكن الإطاحة
بحكم الشاه الإيراني المدعم بقوة من الولايات المتحدة لولا التعبئة
الدينية الهائلة التي عملت عليها، خلال عقود، الحوزة الشيعية.
ولا يزال النظام الذي ولد مع الثورة الإيرانية يدين بوجوده
واستمراره إلى حد كبير للروح الدينية التي فجرتها هذه الثورة.
وتستند معظم حركات المعارضة العربية والإسلامية وأكبرها اليوم إلى
الذاكرة والتعبئة الدينية في نشاطها الرامي إلى تغيير الأوضاع أو
مواجهة النظم القمعية والفردية، وقد حلت الحركات التي تستلهم العقائد
الدينية محل الحركات القومية واليسارية في تعبئة الجمهور وقيادة الرأي
العام في صراعه من أجل تحسين شروط معيشته أو ضمان مشاركته في الحياة
العامة أو طرد المحتلين من أراضيه، كما هو الحال في فلسطين ولبنان
والعراق وبلدان عديدة أخرى.
وأجبرت الحركات الإسلامية الناشطة في كل بقاع العالم -ممن يتبنون
إستراتيجية مواجهة صدامية ومباشرة مع الغرب- العواصم الغربية والأطلسية
على إعادة بناء إستراتيجيتها الدفاعية على أساس مواجهة الحرب
الإرهابية.
وقد أصبح مقر البابا ممرا إجباريا لجميع أولئك الدبلوماسيين الذين
يأملون في إضفاء شرعية دينية على سياساتهم، بما في ذلك قادة الولايات
المتحدة الأميركية.
وهذا ما ينطبق بشكل أكبر على المرجعية الشيعية التي تشكل اليوم في
العراق وإيران مصدر التوجيه الأول للسياسة وللقادة السياسيين الحاكمين.
ومن آخر تظاهرات هذا النفوذ الديني المستعاد في سياسات عصرنا
انتفاضة رجال الدين البوذيين في بورما أو ميانمار.
يصدم هذا الدور المتجدد للدين، أو للأديان، في صنع السياسة وبناء
المجتمعات بقوة الأفكار المسبقة التي سودتها حقبة طويلة من التفكير
الاجتماعي الوضعي، الذي بدأ مع عصر الأنوار العقلاني في القرن الثامن
عشر، وآمن بالعلم مصدرا لخلاص الإنسان، وعارض بينه وبين الدين الذي نظر
إليه كنتاج لجهل الإنسان بالطبيعة أو كتعبير عن طفولته الفكرية.
كما تصدم بشكل أقوى أولئك الذين اعتقدوا، على خطى ماركس والفلسفات
المادية، بأن الدين أفيون الشعوب، وأنه سينحسر لا محالة مع انهيار نظم
السيطرة والاستعباد الطبقية وزوال استغلال الإنسان للإنسان والحاجة إلى
عزاء من طبيعة سحرية.
وبالنسبة للجميع كانت الحداثة تفترض انتصارا مؤكدا لأشكال الوعي
الوضعي والعلمي وتراجعا مضطردا للوعي الديني وللأديان بشكل عام.
ليس هناك شك في أن الثورة الصناعية، وما تبعها من انقلاب في أساليب
إنتاج المجتمعات وحياتها وتفكيرها معا، قد ترافقت مع تحول كبير في
عقائديات الناس وتطلعاتهم وغاياتهم من العمل والحياة أضعف من دور
الأديان الكلاسيكية في التأثير على السياسة لصالح عقائديات جديدة آمن
الناس بها، ليس بالضرورة بديلا عن الأديان السماوية ولكن إلى جانبها،
من بينها القومية والشيوعية والوضعية التي انتشرت بقوة في القرن التاسع
عشر، وفاضت عنه إلى القرن العشرين.
وارتبط انتشار هذه الأيديولوجيات ذات الطابع الزمني بتطور منظومات
من القيم والتطلعات تركز على تحسين شروط حياة الإنسان على الأرض، وتؤكد
على سعادته الجسدية والعقلية، مقابل تأكيد العقائد ومنظومات القيم
الدينية السماوية على الخلاص الروحي والتطلع إلى حياة الآخرة الأبدية.
لكن الأمر بدأ يتغير منذ السبعينيات. وهناك ثلاثة عناصر تفسر هذه
المفاجأة أو ما يمكن أن نسميه مفاجأة تنامي أثر الدين في الحياة
السياسية والمدنية عموما:
الأول هو سوء تأويل ظاهرة انحسار الفكر الديني وتوحيدها مع فكرة
حتمية زوال الدين أو تلاشيه بوصفه نموذجا عتيقا للتفكير تجاوزه العلم،
وهو ما يعكس الطابع التبسيطي والخطي لأطروحات الفلسفات الوضعية
والمادية التي بشرت بانحسار الدين لصالح الفكر والوعي العقلاني
والعلمي.
"
الدين كالفن صيغة من الصيغ الذهنية لتمثل العالم بطريقة تجعل من
التسامي الروحي والأخلاقي مذهب فكر وحياة في الوقت نفسه، ولا يمنع تقدم
المعرفة ولا تحرر الفرد من نظم الوصاية والقمع استمرار مثل هذه التجارب
الإنسانية الكبرى
"
فانحسار نمط من التفكير والقيم الدينية لا يعني بالضرورة انحسار
الدين، كما أن تطور المعرفة العلمية وسيطرة العلم على الحياة العملية،
لا ينفي وجود صيغ أخرى لتمثل الواقع أو الوجود والكون لها أيضا قسطها
من العقلانية التي تختلف في معاييرها عن العقلانية التي أطلق عليها
أصحاب الفلسفة النقدية اسم العقلانية الأداتية.
فعلاقة الفرد مع الوجود ليست علاقة معرفية موضوعية فحسب، كما يظهر
ذلك الفن والأخلاق والعاطفة، وإنما هي علاقة متعددة المستويات
والأبعاد.
ومن هذه المستويات علاقة الإيمان الذي يشكل جوهر المنطق الديني أو
التجربة الدينية. وبقدر ما يعبر الإيمان عن الولاء والانتماء والتماهي
مع الوجود، في صوره المادية أو الذهنية، يدفع المؤمن إلى الإخلاص لما
يؤمن به، ويؤهله للارتفاع على شرطه المادي بل والإنساني، ليتحد
بالمطلق، أي ليصل إلى مستوى نكران الذات والاستغراق في الفكرة أو
القيمة أو الرمز الذي يتعلق به.
والإيمان، أي الانخراط الكلي والتسليم كأسلوب للتعامل مع العالم
والتصالح مع الذات، كجزء من الكون، تجربة إنسانية أصيلة ليست مرتبطة
بمستوى تطور المعرفة البشرية ولا بالاستلاب الناجم عن السيطرة الخارجية
أو الاستغلال الطبقي ولا بالتدين الكلاسيكي فحسب، بل يمكن لكبار
العلماء أن يعاينوها.
وقد كان بين الشيوعيين من تمثل الفكرة الشيوعية بطريقة إيمانية،
وكان يتصرف تصرف المؤمنين الذين يهبون أنفسهم للفكرة ويموتون في
سبيلها. وقد مات منهم الكثير في السجون والمنافي من دون أن يرف لهم
جفن.
وبهذا المعنى فإن الدين، كالفن، صيغة من الصيغ الذهنية لتمثل العالم
بطريقة تجعل من التسامي الروحي والأخلاقي مذهب فكر وحياة في الوقت
نفسه.
ولا يمنع تقدم المعرفة ولا تحرر الفرد من نظم الوصاية والقمع
استمرار مثل هذه التجارب الإنسانية الكبرى، كما كانت تجسدها بشكل أوضح
بعض المذاهب الصوفية الإسلامية.
يشكل التدين بهذا المعنى نمطا من أنماط العلاقة بين الفرد والفكرة
التي يتمثلها ويتعامل بها مع غيره من الأفراد، إذ المجتمعات لا تعيش من
دون عقائد توجه سيرها وتضمن تفاعل عناصرها فيما بينهم.
وكما أنه من الممكن أن يتعامل الفرد مع عقائده وأفكاره بطريقة
استعمالية، أو أداتية، يستخدمها حسب مصالحه وحاجاته الأنانية، حتى لو
كانت عقائد دينية سماوية، من الممكن أيضا أن ينظر إليها كوسيلة للسمو
بذاته والارتفاع عن شرطه المادي الفاني وفرصه للاتحاد مع المطلق الإلهي
أو الاجتماعي، حسب طبيعة العقيدة.
والواقع أن كثيرا من الفلاسفة وعلماء الاجتماع المحدثين كانوا قد
رفضوا النظرة التبسيطية التي سيطرت على الفلسفة الوضعية عموما،
واعتبروا الدين نظاما رمزيا مرافقا لوجود المجتمع. وكان إليكسي دو
توكفيل أول من أشار إلى أهمية الدين في استقرار النظام الديمقراطي
الحديث الذي نشأ في أميركا في القرن التاسع عشر لما ينطوي عليه من
ذخيرة أخلاقية.
كما أن دوركهايم الذي كان أول من سعى إلى تأسيس علم الاجتماع على
أسس علمية يعتبر أن الدين ضروري لتحقيق الاندماج الاجتماعي، بما في ذلك
في المجتمعات الحديثة.
أما ماكس فيبر فقد أكد أهمية المنظومات القيمية في قيام النظم
الاقتصادية نفسها، كما أبرز ذلك في كتابه عن المناقبية البروتستنتية
وروح الرأسمالية، ونظر جورج سيميل إلى الشعور الديني بوصفه معطى أساسيا
في حياة المجتمعات.
والعنصر الثاني الذي يفسر هذه العودة ما شهدته الأديان التوحيدية
المنحسرة سابقا من تحولات داخلية عميقة، ربما كان من الصعب على المراقب
الخارجي وغير المختص أن يتعرف عليها، لأنها تقع في قلب منظومة القيم
والتطلعات العميقة للأفراد.
وقد استعادت هذه الأديان دورها بقدر ما غيرت من دلالاتها وتحولت إلى
أطر فكرية للاحتجاج على حداثة إشكالية، مخربة، تمييزية، مفقرة وسالبة،
وأحيانا مستحيلة، بالنسبة لجميع أولئك الذين خرجوا من تقاليدهم الفكرية
والدينية القديمة، من دون أن يجدوا ما يملأ فراغهم الروحي والفكري
والاجتماعي معا.
فليس من المبالغة القول إن تبرير الاحتجاج وتأطيره هو اليوم الوظيفة
الرئيسية للأديان التوحيدية المستعادة.
والعنصر الثالث هو أزمة الحداثة أو نمطها الكلاسيكي، وانكشاف عجز
هذا النموذج، وريث المرحلة الصناعية وما بعد الصناعية، في استيعاب
الكتل المتزايدة الخارجة من أنماط حياتها التقليدية، وإدماجها في نموذج
الحياة الداعية لها، وبالتالي تبين المآزق التي تقود إليها هذه النماذج
القائمة على التنافس في رفع معدل الإنتاجية والمزايدة في القيم
الاستهلاكية.
"
الدولة بوصفها دولة مواطنين متساوين يخضعون لقانون واحد، لا تقوم
إلا إذا نجحت النخب السياسية في تحييدها عقائديا وإخراجها من دائرة
النزاعات السياسية والدينية والارتفاع بها إلى مستوى الدولة المؤسسية
غير الأيديولوجية
"
كما أن التطورات التقنية والعلمية والعولمة التي أفرغت المجتمعات من
روابطها الحميمة، وعمقت الشكوك في المستقبل، ربما كانت أحد الدوافع
الرئيسية للإحياء الديني الراهن.
وهذا ما يفسر كيف بدأت المعتقدات الزمنية أو الدهرية التي رافقت
تقدم الحداثة، كالقومية والشيوعية، تتراجع وتنحسر شيئا فشيئا، ومعها
السياسة ذاتها، لصالح العقائد الدينية وروابطها القائمة على الأخوة
والقرابة الروحية، التي بدت في الحقبة السابقة وكأنها الضحية الحتمية
لعملية التحديث والتنمية الفكرية والتقنية.
هكذا شهدنا منذ السبعينيات تقاربا مطردا بين حركات الاحتجاج
والتغيير والإحياء الديني، وربما كانت الثورة الإسلامية الإيرانية هي
النموذج الأكثر تعبيرا عن هذا التقارب الذي سيستمر وينتشر ويعبر عن
نفسه بصور مختلفة في معظم مناطق العالم النامي، بل في أوساط شعبية
متزايدة من العالم الصناعي المتقدم.
لا يختلف الأمر عن ذلك بالنسبة للاهوت التحرير الذي شهدته مجتمعات
أميركا اللاتينية، وحركة رجال الدين البوذيين في ميانمار اليوم.
والواقع أن ما يسمى بالصحوة الدينية لا يعبر عن عودة إلى أشكال
التدين القديمة ذاتها ولكنه يعيد استثمار جدلية الإيمان أو ما يسميه
البعض بالشعور الديني، الذي هو مزيج من نكران الذات والتفاني -الذي
يمكن أن يكون منزها لذاته أو للمبادئ التي يتعلق بها، أو لحساب الجماعة
القومية أو الطبقية أو الطائفة- في المعارك التي أثارتها وتثيرها
عمليات التحديث نفسها.
فهي أقرب إلى أن تكون توظيفا للفكر الديني الكلاسيكي في هذه المعارك
الحديثة بالفعل، من أن تكون استعادة للمعارك الدينية والعقائدية
التقليدية، وهذا ما يفسر الطابع السياسي لهذا الإحياء في كل مكان.
فالدين يستعاد هنا كمورد أو مصدر لتعزيز موقف فئات اجتماعية معينة
في صراعها ضد البؤس أو الفقر أو البطالة أو التهميش أو العدوان
الخارجي. ويشكل الدين هنا مصدرا لتأكيد هوية جمعية أو عقيدة كفاحية
تشجع على التضحية، أو تفعيلا لقيم التضامن الاجتماعي والإنساني.
ومن هنا يمكن القول إن الدين لم يعد بعد أن انحسر وإنما أعيد تأهيله
وتجديد أفكاره وقيمه ليقوم بأدوار جديدة، إذ المادة التي يستخدمها
الدين المجدد قديمة، تتعامل بالأفكار والمفاهيم والمصطلحات والطقوس
ذاتها، لكنها وضعت في صورة جديدة أوحت بها حاجات المجتمعات وتحديات
الحداثة.
من هنا لم يعد هناك معنى لوصف هذه الأديان، كما فعل ماركس، بأنها
أفيون الشعوب أو أداة تخديرها، ولا لعزو انتشار الفكر الديني إلى جهل
العامة أو غياب المعرفة العقلية.
لا يتناقض هذا الإحياء المتزايد للدين مع الحداثة وقيمها إذن ولكنه
يصب فيها، فهو يهدف إلى تأكيد قيم الحرية والعدالة والمساواة. بيد أن
المشكلة التي يطرحها تظهر بشكل رئيسي على مستوى إعادة بناء المجتمع
والدولة.
فالسياسة تعتمد بشكل متزايد في هذه الحالة على تعبئة المشاعر والقيم
والموارد الدينية، لكن الدولة بوصفها دولة مواطنين متساوين يخضعون
لقانون واحد، لا تقوم إلا إذا نجحت النخب السياسية في تحييدها عقائديا،
وإخراجها من دائرة النزاعات السياسية والدينية، أي إلا بالارتفاع بها
إلى مستوى الدولة المؤسسية، غير الأيديولوجية.
وربما هنا تكمن مفارقة السياسة المعاصرة في بلداننا، إذ كيف نوفق
بين متطلبات ممارسة سياسية تنجذب أكثر فأكثر نحو استلهام العقائدية
الدينية، ومتطلبات بناء الدولة كمؤسسة جامعة، يتساوى في ظلها أصحاب
العقائد والمؤمنين جميعا من كل المذاهب والأديان، أي تحويلها إلى دولة
قانونية لا أيديولوجية؟
ألا يفسر هذا التحدي الانقسامات العميقة التي تسم مجتمعاتنا وتجعلها
تتخبط في معارك ونزاعات مستمرة، تدخل السياسة في طرق مسدودة وتفرغ
الدولة من مضمونها كمؤسسة قانونية جامعة؟
في نظري، لا يكمن الجواب على هذه المفارقة التاريخية بالدعوة إلى
استبعاد الدين من السياسة، وإنما بالسعي إلى تعميق مفهوم الدين بمعنى
الإخلاص، بوصفه نكرانا للذات في سبيل المبادئ الإنسانية، التي هي مقاصد
إلهية أيضا، على حساب استغلاله لتأكيد نفوذ الطائفة أو القبيلة أو
الأمة، مما يشكل مصدر الخطر الرئيسي على أي تجربة سياسية دينية معاصرة.
عندئذ يمكن للدين المساوي للإخلاص القائم على مبادئ الحق والعدالة
والمساواة أن يكون عاملا رئيسيا في بناء دولة القانون والديمقراطية
العربية أو الإسلامية المنشودة.
الشيعة في العراق بين الدين
والسياسة(3)
أعادت المتغيرات الأخيرة في العراق الضوء إلى طائفة الشيعة التي
تشير التقديرات إلى أنها تشكل ما بين 55 إلى 60 في المئة من مجموع
السكان المسلمين، وتسود جنوب البلاد والفرات الأوسط مع انتشار متباين
في بغداد ومناطق أخرى شمالها.
وغاب عن الذهن في أحيان كثيرة أن الشيعة، كسكان، ليسوا حركة سياسية
متجانسة أو شبه متجانسة، فهم كغيرهم من الطوائف والأديان موزعون بين
فئات وطبقات وتوجهات وانتماءات مختلفة.
كما لا يعني مجرد الانتماء إلى الطائفة الشيعية أو غيرها مؤشرا إلى
هوية سياسية محددة، ولم يكن الدور السياسي الذي اضطلع فيه الشيعة في
تاريخ العراق الحديث ذا جذر طائفي بحت بقدر ما هو دور وطني عام غير
منعزل عن نشاط الطوائف والملل الأخرى.
إلا أن الإسلام الشيعي، في إطاره العام، اصطبغ بصبغة سياسية بسبب
الأحداث التي أحاطت بنشأته والمسار الذي اتخذته تلك الأحداث في الفترات
اللاحقة من تاريخ الدولة الإسلامية. وفي حالة العراق ينضاف عامل الحيف
الذي وقع على الطائفة الشيعية في أعقاب بناء الدولة الحديثة.
تاريخ التشيع
في حين أن تاريخ بدء التشيع أمر مختلف عليه بين المؤرخين والفقهاء،
إلا أنهم يتفقون على أن الجزيرة العربية هي مكان انطلاقه.
وهناك من الفقهاء من يرجع التشيع إلى عهد الرسول محمد (ص)، ويرون
أنه نشأ على يد صحابة دعوا إلى إمامة علي بن أبي طالب، ويقولون إن بعض
قبائل العرب التي شايعت الإمام علي وصلت إلى العراق أيام الفتوحات
الإسلامية واستوطنت في المناطق المحاذية للكوفة.
وثمة من ينسب انتشار التشيع في جنوب العراق ووسطه إلى فترات
تاريخية أقرب قد تصل لدى بعضهم إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر.
أما في إيران فقد اتسع نطاق التشيع أيام الدولة الصفوية في القرن
السادس عشر الميلادي، بعد أن كان محصورا في مناطق محددة.
الشيعة والعراق
للوجود الشيعي ارتباط عضوي بالعراق ، بسبب أن الأحداث الجسيمة التي
كونت تاريخه وبلورت هوية أتباعه وقعت على هذه الأرض. لكن لهذا الوجود
امتدادات في دول أخرى وخصوصا إيران التي شكلت فيها مدينة قم مركزا
رديفا للنجف العراقية وبديلا عنها في ظروف معينة.
وبقدر تعلق الأمر بواقعة كربلاء فإنها تمثل منعطفا هاما في تحديد
المنحى الذي سارت عليه طقوس الطائفة الشيعية التي اتخذت طابعا فجائعيا.
وتمارس لا كل عام فحسب بل في معظم المناسبات الدينية التاريخية، مما
أسهم، إلى حد كبير، في تشكيل هوية الطائفة.
ويروي المؤرخون أن الإمام الحسين توجه مع رهط من صحبه وأهله إلى
الكوفة قادما من الحجاز عام 680 للميلاد للمطالبة باستعادة الخلافة،
التي تولاها يزيد بن معاوية بعد وفاة أبيه.
ووجد الحسين نفسه مجردا إلا من نفر قليل من أنصاره في مواجهة قوة
منظمة يقودها والي يزيد في البصرة والكوفة، الأمر الذي اضطره إلى
مواصلة السير باتجاه كربلاء حيث حوصر ومنع الماء عنه، ومن ثم قتل وأسر
الأطفال والنساء من أهله ومن بين من أسر ابنه، علي زين العابدين،
الإمام الرابع لدى الشيعة.
وعليه احتضنت مدن عراقية مراقد وعتبات مقدسة لدى الشيعة، أضحت
مزارات يؤمها المسلمون من العراق وخارجه وتمارس فيها أهم الطقوس
الشيعية.
طقوس الشيعة
بدأت عادة إحياء الطقوس الشيعية في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر
الميلادي). وتقام خلال الأيام العشرة الأولى من محرم المجالس الحسينية
لاستذكار الحدث والتعبير عن الحزن بالبكاء ولطم الصدور.
كما تمارس طقوس أخرى تتضمن مسرحة الحدث حيث تقدم عروض في الهواء
الطلق تسمى "التشابيه" تروي أحداث واقعة كربلاء وتجسد شخوصها الرئيسيين
وتحضرها أعداد غفيرة من المشاهدين.
ومن بين الطقوس الأخرى ضرب الرأس وشجها بأدوات حادة واستخدام
السلاسل الحديدية لضرب الكتفين، لكن هذه الطقوس محدودة ومختلف على
شرعيتها من قبل علماء الشيعة أنفسهم.
دوافع سياسية
ولم تكن الإجراءات التي اتخذتها السلطات العراقية في السنوات
الأخيرة للحد من ممارسة هذه الطقوس هي الأولى من نوعها في التاريخ، فقد
جرى التضييق عليها في فترات تاريخية مختلفة.
ويقول المؤرخون الشيعة إن شعائر عاشوراء منعت في بعض الحواضر إبان
حكم المماليك في العراق، لكنها استأنفت في ما بعد خلال الحكم العثماني
عندما وقعت الأستانة وثيقة سلام مع الإيرانيين في الربع الأول من القرن
التاسع عشر.
كما جرت مساع أخرى للسيطرة عليها في فترات أخرى من تاريخ العراق
الحديث وخاصة في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي .
وزادت وطأة التضييق على ممارسة الطقوس الشيعية بعد قمع الانتفاضة
الشعبية التي اندلعت في العراق عام 1991 إثر هزيمة بغداد في حرب
الخليج. وقد تعرض السكان إلى عمليات انتقام واسعة ونفذت القوات
الحكومية عمليات قصف لم توفر حتى العتبات المقدسة.
الإسلام الشيعي السياسي
تعرضت الطائفة الشيعية في العراق في الحقبة الماضية إلى إجراءات سعت
للحد من نفوذها لعل أهمها الحرمان من المشاركة الفعالة في الحكم. فلم
يحظ الشيعة كسكان في العراق بتمثيل في المؤسسات السياسية بما يتناسب مع
حجمهم.
ويرجع سبب ذلك، في جانب كبير منه، إلى غياب الديمقراطية خلال فترات
طويلة من تاريخ البلاد الحديث، وخاصة خلال العقود القليلة الماضية،
الأمر الذي كبح إسهام الكثير من الفئات والشرائح القومية والدينية
والسياسية والفكرية، وأدى في ما أدى إليه إلى أن يبدأ منحى الإسلام
الشيعي السياسي بالصعود ممثلا بنشاطات رجال الدين ومجموعات سياسية
منظمة.
وانعكست هذه النشاطات في مسيرات احتجاجية في المدن المقدسة اعتقل
على إثرها كثيرون وأعدم قادة ورجال دين كان من أبرزهم المفكر الإسلامي
محمد باقر الصدر الذي يعتقد أنه اسهم في أواخر الخمسينات بتأسيس حزب
الدعوة في وقت كانت الساحة السياسية تشهد نشاطا واسعا للحزب الشيوعي
وأحزاب قومية.
واضطلع الدعوة بنشاط بارز في السبعينات والثمانينات مما أثار غضب
النظام السابق الذي أصدر قرارات تعاقب من يتهم بالانتماء إليه
بالإعدام، لكن الحزب عانى في ما بعد من انشقاقات حولته إلى عدد من
الأجنحة.
العتبات الشيعية لم تسلم من القصف بعد الانتفاضةوما أن تأزم الوضع
أكثر بعد اندلاع الثورة الإسلامية في إيران ونشوب الحرب بين العراق
وإيران وتهجير أعداد كبيرة من أبناء الطائفة الشيعية بحجة أنهم من أصول
أجنبية حتى اضطر محمد باقر الحكيم، وهو نجل آية الله محسن الحكيم
المرجع الأعلى الذي توفي أوائل السبعينات، إلى مغادرة العراق نحو إيران
حيث أسس "مكتب الثورة الإسلامية في العراق".
وقد تحول هذا التنظيم في الثمانينات إلى المجلس الإسلامي الأعلى
للثورة الإسلامية، وأصبح له في ما بعد جناح عسكري عُرف بفيلق بدر.
الحوزة العلمية
تأسست الحوزة العلمية في النجف في القرن الخامس الهجري ويقودها مرجع
أعلى هو حاليا آية الله علي السيستاني بعد أن خلف آية الله أبو القاسم
الخوئي الذي توفي عام 1992.
وقد سلطت الحكومة السابقة ضغوطا كبيرة على المرجعية الشيعية تمثلت
باعتقال واغتيال وقتل عدد من أبناء الأسر الكبيرة كأسرة الحكيم وأسرة
آل الصدر التي قتل منها عام 1980 آية الله محمد باقر الصدر، وهو صاحب
مؤلفات في الفكر الإسلامي بينها "فلسفتنا" و"اقتصادنا"، والمرجع الأعلى
محمد صادق الصدر الذي اغتيل عام 1999 بعد إصراره على إقامة صلاة الجمعة
للشيعة وإمامتها في مسجد الكوفة، الأمر الذي أثار غضب النظام الحاكم
حينذاك خوفا من أن تتحول إلى حافز للتمرد.
وفي تاريخ العراق الحديث لعبت الحوزة، المدعومة من عشائر الجنوب
والفرات الأوسط، دورا سياسيا مهما لعل أبرز معالمه ثورة العشرين التي
اندلعت عام 1920 ضد الاحتلال البريطاني. كما ظهر ذلك واضحا في الآونة
الأخيرة حين رفعت أطراف معينة شعارات تنادي بدور سياسي قيادي للحوزة.
وقد واصلت العشائر الوقوف إلى جانب الحوزة العلمية وكان آخر نشاط
لها عندما هبت مؤخرا، كما أوردت الأنباء، للتدخل من أجل فك ما وصف بأنه
حصار على السيستاني فرضه أنصار مقتدى الصدر، نجل آية الله صادق الصدر.
ويزعم البعض أن مرجعية السيستاني اتخذت موقفا مهادنا مع النظام السابق
متذرعة بمبدأ "التقية" إي اتقاء شر القوي.
زعامات وانقسامات
وبالرغم من الخيط المشترك الذي يربط القوى الشيعية ببعضها، يدور
صراع في الخفاء أحيانا وفي العلن أحيانا أخرى، مما يؤشر لانقسام بين
الزعامات الشيعية بتداخل بين الاتجاهين السياسي والمرجعي.
فأتباع الصدر، المرجع الأعلى السابق، يسعون إلى تبوء دور قيادي،
ويتطلع مقتدى الصدر إلى الزعامة الدينية إلا أن عاملي السن والدرجة
العلمية لا يؤهلانه لذلك.
وقد شاع مؤخرا اشتباه بأن لهذه الجماعة علاقة بمقتل عبدالمجيد
الخوئي الذي عاد إلى النجف أثناء الحرب الأخيرة، وهو نجل أبو القاسم
الخوئي ورئيس المؤسسة المعروفة باسمه في لندن.
وتوجد أيضا زعامة أسرة الحكيم التي تجمع بين المرجعي والسياسي ..
وفي حين يرى البعض أن الأحزاب السياسية الشيعية لا تمثل الحوزة في
النجف التي يجب أن تتولى هي تمثيل الشعب، ثمة علماء دين وشخصيات دينية
واجتماعية يرون ضرورة النأي بالمرجعية عن النشاط السياسي.
فالفريق الأول يدعو إلى اضطلاع الحوزة بدور يمكنها من تولي القيادة
السياسية، بينما يعتقد الفريق الثاني بضرورة اقتصارها على النشاط
الروحي وإصدار الفتاوى الدينية إضافة إلى إشرافها على العتبات المقدسة
وجباية المال من أتباعها.
الدين والسياسة فى أجندة الإصلاح فى
العالم العربى(4)
العلاقة بين الدين والسياسة علاقة قديمة ومتجددة في آن واحد، ولا
يختص بها دين معين كما يحاولون إيهام العالم، ولذلك تحظى قضية العلاقة
بين الدين والسياسة بأهمية كبيرة على الساحتين الدولية والعربية خلال
الفترة الأخيرة، فعلى الصعيد العالمي يتم استخدام الدين في تفسير
العديد من القضايا الملحة، حيث ألبسوا الصراعات في البلقان رداء
الصراعات الدينية، وتردد الاتحاد الأوروبي حيال مسألة قبول عضوية
تركيا، والجهود العديدة التي تبذلها الحكومات الغربية، خاصة الولايات
المتحدة، لمحاولة التدخل في الثقافة الإسلامية وخاصة التعليم الديني،
بدعوى أنها السبب في انتشار التطرف والإرهاب. فضلاً عن الأولوية
الفائقة التي حظي بها موضوع الحركات الإسلامية ـ خاصة تنظيم القاعدة
وحركة طالبان - من جانب الولايات المتحدة خاصة بعد أحداث الحادي عشر من
سبتمبر 2001، والتداعيات التي ترتبت عليها متمثلة في إعلان ما أطلق
عليه "الحرب الدولية ضد الإرهاب"، والتي بدأت ضد طالبان وتنظيم القاعدة
في أفغانستان وشكلت بداية الربط بين الإسلام والإرهاب. وقد برزت قضية
العلاقة بين الدين والسياسة بصورة واضحة في الأطروحات والمبادرات
الخارجية الداعية إلى تحقيق الإصلاح السياسي والديمقراطي في العالم
العربي، والذي مثَّل جانب التعليم بعدًا هامًا فيه من خلال تركيزه على
إصلاح مناهج التعليم الديني من وجهة نظرهم.
بينما على الصعيد العربي، يعتبر الدين ذا خصوصية شديدة في إطار
الواقع السياسي العربي، حيث يعتبر الإسلام المصدر الأساسي لمعظم مواد
الدساتير والقوانين الوضعية في غالبية النظم العربية القائمة بشكل
مباشر أو غير مباشر والذي يعد منهجًا إيجابيًا، بينما على الجانب الآخر
تقوم بعض النظم بتوظيف الإسلام أحيانًا كوسيلة لتبرير سياساتها
وتستخدمه للتعبئة السياسية والاجتماعية أو لاستغلاله في إطار التوازنات
الداخلية والإقليمية، وهو ما يعد منهجًا سلبيًا. وتعتبر مسألة العلاقة
بين الدين والسياسة وموقعها في إطار قضايا الإصلاح في العالم العربي من
القضايا البالغة الأهمية والحساسية والتعقيد في المرحلة الراهنة، لما
قد تثيره من إشكاليات عديدة بشأن مدى انعكاساتها السلبية والإيجابية
على التطور المستقبلي للمجتمعات العربية والإسلامية، وهل يمكن أن تسير
في نفس اتجاه التطور الذي شهدته المجتمعات الأوروبية، وهل هناك حقًا
اختلاف في المنظور الإسلامي للعلاقة بين الدين والسياسة مقارنة
بالمنظور الأوروبي الغربي ومدى هذا الاختلاف ولصالح أي من الجانبين،
ومن ثم هل من الصعب على المجتمعات العربية الإسلامية السير في نفس طريق
التطور الذي سارت عليه المجتمعات الغربية؟، ويساعد على تأكيد هذا
الاتجاه الفجوة التكنولوجية ومدى تطور المجتمعات الغربية مقارنة بمعظم
المجتمعات الإسلامية على وجه العموم والمجتمعات العربية على وجه
الخصوص.
ورغم كل ما يثار في هذا السياق من آراء متباينة، فإنه لا يمكن إنكار
حقيقة هامة مفادها تزايد حضور الجانب الديني في التفاعلات الإنسانية
شرقًا وغربًا، حيث تقوم الأديان ومؤسساتها وسلطاتها بممارسة أدوار
عديدة في العالم المعاصر في المجالين العام والخاص، كما يتم في حالات
كثيرة توظيف الدين في المجال السياسي إضافة لاستخدامه أحيانًا في أداء
بعض الوظائف من أجل تدعيم الشرعية السياسية وتبرير الخطاب السياسي
للنخب الحاكمة، ودعم سياساتها الاجتماعية وقراراتها السياسية، فضلاً عن
كونه بعدًا مهمًا في سياساتها الخارجية. ولا تختلف في ذلك كبرى
الديمقراطيات الغربية وهي الولايات المتحدة وما يحدث فيها عما يجري في
دول عديدة من العالم النامي إسلامية كانت أو غير ذلك.
وهكذا أدى الربط بين الدين والسياسة في الإطار العام إلى بروز قضية
الإصلاح في العالم العربي بشكل خاص، والتي تتضمن في أحد أبعادها
أطروحات لإصلاح منظومة القيم الثقافية وتنقية القيم الدينية المستمدة
من تعاليم الدين الإسلامي والتي تشكل جانبًا هامًا لرؤية العرب
والمسلمين لذاتهم ورؤيتهم للآخر في العالم المعاصر، إلا أن ذلك لا يعني
أن الارتباط بين الدين والسياسة توجه جديد ناتج عن ظروف المرحلة
الراهنة للنظام العالمي الجديد بأحداثه وقيمه الجديدة، وإنما امتدت
أصوله ومنطلقاته الفكرية إلى فترات تاريخية بعيدة تعود إلى بداية ظهور
الإسلام الذي لم يقتصر ذلك عليه وحده، بل تبلور في الفكر الغربي أيضًا
في بعده الديني رغم العلمانية التي تسود معظم مجتمعاته، غير أن كلاً
منهما استند في تصوره لدور الدين في الحياة السياسية إلى عدد من
المنطلقات والرؤى الفكرية المستمدة من الإسلام والمسيحية. وهي منطلقات
ليست متعارضة في مجملها، حيث إن مساحة الاتفاق بينهما أكثر من مساحة
الاختلاف.
وقد كان لتلك المنطلقات الفكرية بشأن العلاقة بين الدين والسياسة،
سواء من جانب الولايات المتحدة خاصة أو الغرب عامة، دور كبير في صياغة
المبادرات الخارجية للإصلاح في العالم العربي، خاصة الأبعاد المرتبطة
بإصلاح مناهج التعليم عمومًا ومناهج التعليم الديني على وجه التحديد،
وكذلك تحديد رد الفعل العربي الرسمي والشعبي تجاه محاولة الغرب
والولايات المتحدة (المسيحية الصهيونية، واليمين المحافظ) استخدام
الدين لتحقيق أهدافه ومصالحه السياسية التي تتخذ من تلك المبادرات
ستارًا لها من ناحية أخرى.
لقد أثارت تلك المبادرات وما تحويه من بعض الرؤى التي تتعارض مع
الدين الإسلامي ومن ثم معتقدات المسلمين إضافة للظلم الواقع عليهم في
مناطق مختلفة من العالم، العديد من التداعيات على الساحة العربية خاصة
انتشار العنف والإرهاب، وهو ما قد يترتب عليه عدد من الانعكاسات
السلبية على الواقع العربي الراهن في المجالات السياسية ـ الأمنية
والاقتصادية ـ الاجتماعية، ومن ثم فإن تلك الانعكاسات تثير التساؤل
بشأن ماهية الوسائل والآليات اللازمة لإيجاد علاقة متوازنة بين الدين
والسياسة دون أن ينفي أحدهما الآخر، لتحقيق الإصلاح الشامل في العالم
العربي، انطلاقًا من الخصوصية الدينية والثقافية في المجتمعات العربية،
وذلك في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في ضوء ما سبق، وانطلاقًا من اهتمام المجلس الاستشاري العربي التابع
لمركز الخليج للدراسات الاستراتيجية وإيمانه بأهمية مناقشة وإبداء
الرأي في القضايا المطروحة على الساحة العربية بأبعادها المختلفة، وبما
يضمه من نخبة متميزة من أصحاب الرأي والفكر في العالم العربي؛ عقد
المجلس الحلقة النقاشية الثامنة يوم 17/2/2005 لمناقشة قضية "العلاقة
بين الدين والسياسة في أجندة الإصلاح في العالم العربي" والتي جاء
ثمرتها هذا الكتاب الذي يحتوي على أربعة فصول، هي:
الفصل الأول: العلاقة بين الدين والسياسة في المنظور الغربي.
الفصل الثاني: العلاقة بين الدين والسياسة في المنظور الإسلامي.
الفصل الثالث: العنف والإرهاب بين الدين والسياسة.
الفصل الرابع: وسائل وآليات الإصلاح الشامل في العالم العربي
.... رؤية استشرافية.
الدين والسياسة والحياة العامة في
الغرب(5)
يتزايد تأثير الدين في السياسة الغربية على نحو لا يقل عنه في
الشرق، وتتلاشى معه الصورة التقليدية التي سادت عن الغرب بأنه علماني
يفصل بين الدين والسياسة والحياة، ولا يتوقف المشهد عند صعود التدين
والتعصب الديني وصعود العنصرية والكراهية المستندة إلى الدين، بل
يتجاوز ذلك أيضا إلى التأثير في السياسة والانتخابات والسياسات العامة.
وتؤدي الكنيسة المسيحية أيضا وبخاصة في أميركا اللاتينية دورا
اجتماعيا ونضاليا، وتشارك المجتمعات مطالبها واحتياجاتها وتواجه معها
السلطات والشركات الرأسمالية.
مرجعية مسيحية للحياة العامة
"
دور الكنيسة في حياة الغربيين العامة والسياسية حاضر ومتزايد, بل إن
الولايات المتحدة اليوم بقيادة بوش الأصولي اليميني تبدو دولة دينية
متطرفة لا تختلف في تطرفها الديني عن طالبان
"
"أي سيارة كان يسوع سيقود؟" هذا السؤال يشكل شعارا لحملة إعلانية
مناهضة للتلوث تنظمها الشبكة البيئية الإنجيلية ومقرها بنسلفانيا،
ويقول قائد الحملة الكاهن جيم بول إن التلوث الذي تسببه السيارة كان له
أثر مدمر على الناس، وعلى صانعي السيارات أن يصنعوا سيارات تعكس قيمنا
الأخلاقية.
ولكن الكاهن بات روبرتسون من الإنجيليين الأميركان الذي يستخدم
سيارة رياضية أدان هذه الحملة البيئية وقال: أظن أن ربط يسوع بحملة
مناهضة للسيارات الرياضية يقارب التجديف وأعتبره نكتة.
والمثال يشير إلى نموذج من دور الكنيسة اليوم في حياة الغربيين
العامة والسياسية وإلى أنها حاضرة بأهمية كبرى وتتزايد أهميتها، بل إن
الولايات المتحدة اليوم بقيادة بوش الأصولي اليميني تبدو دولة دينية
متطرفة لا تختلف في تطرفها الديني عن طالبان.
لقد تشكلت الدول الأوروبية الحديثة بعد سلسلة من التفاعلات
والصراعات والنهضة العلمية والفنية، واتجهت الدول والسياسات بمحصلتها
وتداعياتها وجهة علمانية تفصل بين الدين والسياسة لحماية الديمقراطية
كما في الثورة الإنجليزية عام 1679، وفي فرنسا لحماية الجمهورية (1789)
أو لحماية الحرية الدينية كما في الولايات المتحدة الأميركية (1776).
ولكن الكنيسة موجودة على نحو أكثر تعقيدا وشمولا مما سبق، فالإنسان
كائن ديني، وربما يكون الإنسان الغربي المسيحي أكثر ارتباطا بالدين
والمؤسسة الدينية من المسلم.
فالصلاة والموت والاعتراف والزواج مرتبطة أساسا بالمؤسسة الدينية
بلا فكاك منها، بخلاف الإسلام الذي يتيح للناس والأفراد ممارسة العبادة
والطقوس والمراسم والحياة بلا حاجة لرجل دين أو مؤسسة دينية وإن كان
وجودها ضرورة تنظيمية وإدارية وليس دينية كما في المسيحية.
ويبدو التاريخ الأوروبي سلسلة من الحروب والصراعات والفوضى الناجمة
عن الحروب والخلافات الدينية، عندما انشقت الكنيسة بين الكاثوليك
والأرثوذكس، ثم بين الكاثوليك والبروتستانت، بالإضافة إلى الصراعات
والتضحيات التي ارتبطت بسعي الإنسان الدائب للحرية والتقدم والفردانية.
"
بقدر ما كانت تجربة التاريخ الأوروبي قاسية ومليئة بالنماذج الموحشة
والمظلمة فقد كانت أيضا مفعمة بالتقدم الإنساني، فالحريات والعلوم
والحضارة القائمة اليوم هي من محصلات ونتائج هذا الكفاح والجدل مع
الدين والكنيسة ودروهما وموقعهما في الحياة والسياسة
"
وبقدر ما كانت التجربة قاسية ومليئة بالنماذج الموحشة والمظلمة فقد
كانت أيضا مفعمة بالتقدم الإنساني، فالحريات والعلوم والحضارة القائمة
اليوم هي من محصلات ونتائج هذا الكفاح والجدل مع الدين والكنيسة
ودروهما وموقعهما في الحياة والسياسة.
ولم تؤد موجة العلمانية وفصل الدين عن الحياة والسياسة التي اجتاحت
أوروبا في القرن التاسع عشر أو قبل ذلك بقليل إلى تغييب الكنيسة كما
كان يبدو للوهلة الأولى في منتصف القرن العشرين حتى إن مجلة عريقة
ومهمة (نيوزويك) وضعت على غلافها سؤالا مثيرا استفزازيا " هل حقا مات
الله؟"
فقد ظهرت الكنيسة بسرعة وبوضوح محركا للحركات السياسية في الحكم
والمعارضة والإصلاح في بولندا ودول الاتحاد السوفياتي وفي أميركا
اللاتينية وفي الولايات المتحدة أيضا.
وتلخص رواية شفرة دافنشي لمؤلفها دان براون -والتي بيع منها عشرات
الملايين من النسخ ثم حولت إلى فيلم سينمائي لقي إقبالا كبيرا- قصة
تفاعل الدين مع السياسة والفلسفة والثقافة والحياة العامة في الغرب وفي
حياة الأوروبيين وشؤونهم على مدى ألفي سنة، فقد ظلت الكنيسة حاضرة في
الصراع والتقدم والنضال والسلطة والحياة في صيغ متعددة ومعقدة.
المسيحية والسياسة والنضال
كان البابا السابق يوحنا بولص الثاني رمزا للحملة المناهضة للشيوعية
في بلده بولندا ودول أوروبا الشرقية بعامة، ويشكل اليوم الحزب
الديمقراطي المسيحي القوة السياسية الأولى في ألمانيا.
وكان كذلك لفترات طويلة في تاريخ ألمانيا الحديث، وفي البلقان كانت
الكنيسة الكاثوليكية الصربية تقود الصراع والمجتمعات في الحرب الأهلية
التي دارت بعد وفاة الرئيس اليوغسلافي السابق تيتو.
وفي جزيرة تيمور التي استقلت مؤخرا عن إندونيسيا وكانت قبل ضمها
لإندونيسيا مستعمرة برتغالية لمئات السنين، واعتنق في أثناء ذلك أغلبية
سكانها المسيحية يتسلم رجال الدين مهمات سياسية وقيادية.
حتى إنه يبدو أن الكنيسة هي الحزب السياسي الحاكم والأكثر أهمية
وفاعلية، أو هي المرجعية العليا التي تتنافس الأحزاب السياسية على كسب
تأييدها وثقتها.
فلم تكن المسيحية الكاثوليكية في تيمور دينا فقط، ولكنها محرك
الصراع التيموري الإندونيسي، وكان الفاتيكان على الدوام رافضا للحكم
الإندونيسي للجزيرة ويدعم استقلالها مخالفا العالم الغربي الذي ظل
صامتا إزاء هذا الوضع أكثر من ربع قرن.
وفي الولايات المتحدة ركزت الحملة الانتخابية للجمهوريين بشكل واضح
علي الدين، كما عبر الجمهوريون بصراحة عن معتقداتهم الدينية طارحين
بذلك الديانة موضوعا في الحملة الانتخابية الرئاسية رغم أنهم يجازفون
بذلك بفقدان تعاطف بعض الناخبين.
وعندما سئل بوش الابن الذي ينتمي إلى الكنيسة الأنغليكانية عن اسم
الفيلسوف والمفكر الذي كان تأثيره عليه كبيرا، قال: إنه يسوع المسيح،
وقال إنه بحث طوال حياته عن الخلاص، وأكد حرصه على "الاقتداء بيسوع" في
حياته اليومية، وكانت الموضوعات الدينية والأخلاقية محورا للبرامج
والحملات الانتخابية.
"
كان مجيء يوحنا بولص الثاني على رأس الفاتيكان عام 1980 تحولا كبيرا
في سياسة الكنيسة وبرامجها وتوسعة مشاركتها السياسية والاجتماعية،
وشملت جولاته البابوية الطويلة أكثر من 120 بلداً من بينها عدد من
الدول العربية ليقتفي خطى القديس بولص
"
وكان مجيء يوحنا بولص الثاني على رأس الفاتيكان عام 1980 تحولا
كبيرا في سياسة الكنيسة وبرامجها وتوسعة مشاركتها السياسية
والاجتماعية، وشملت جولاته البابوية الطويلة أكثر من 120 بلداً، وفي
عام 2000 زار عددا من الدول العربية للاحتفال بالألفية الثانية وليقتفي
خطى القديس بولص في فلسطين ومصر والأردن.
وفي اليونان تظاهر أكثر من مائة ألف من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية
احتجاجا على قيام امرأة يونانية بإقامة مركز للديانة البوذية، وقد قضت
محكمة سالونيك بسجنها لمدة شهرين.
ففي اليونان لا يوجد فصل بين الدولة والكنيسة الأرثوذكسية، ولذلك
يشترط في اليونان الحصول على إذن مسبق من وزارة التربية والأديان قبل
فتح أي مركز للعبادة، ولا يتم التصريح بذلك لغير الأرثوذكس إلا بعد
استشارة الكنيسة الأرثوذكسية، التي لا توافق عادة على ذلك.
وفي مقدونيا التي يشكل المسلمون حوالي 40% من سكانها تنشط مبادرات
ومشروعات لتأكيد وتنشيط الطابع المسيحي، وأقيم صليب عملاق يصل ارتفاعه
إلى مائتي متر على قمة جبل فودنو، وأعيدت تسمية مستشفى مدينة أوهريد
(ذات الأكثرية الإسلامية) باسم "القديس أرازمو"، وقدم إلى البرلمان
مشروع قانون بإصدار عملة جديدة تحمل الصليب، وقدم مشروع قانون آخر يعطي
الكنيسة الأرثوذكسية وصفًا مميزًا في الدولة.
وفي صربيا التي يشكل المسلمون 25% من سكانها تقود الكنيسة
الأرثوذكسية تقريبا الحياة السياسية والعمليات العنصرية ضد المسلمين
والكروات الكاثوليك.
وكان للكنسية أيضا دور حاسم في تنحية ميلوسوفيتش الرئيس الصربي
السابق وانتخاب فويسلاف كوستونيتشا في عام 2000، وذلك بسبب الخلاف الذي
أنهى التحالف الذي كان قائما بين ميلوسوفيتش والكنيسة.
ويحاول كوستونيتشا رد الجميل إلى الكنيسة بسبب تأييدها له في فرض
سياسات وتشريعات قد تحول صربيا من دولة علمانية إلى أرثوذكسية تخضع
لإرادة وسيطرة الكنيسة، فيحرص الرئيس الصربي على زيارة الكنائس
والمشاركة في الاحتفالات الدينية وأن يشارك قادة الكنيسة إلى جانب
الوزراء والمسؤولين في المهمات والاحتفالات الرسمية.
وأعيدت إلى الكنيسة الأملاك التي صودرت منها في العهد الشيوعي
بقيادة تيتو، وأعيد التعليم الديني المسيحي إلى المدارس والجيش
والسجون، وتساعد الحكومة في بناء ستمئة كنيسة ومبنى ديني في أنحاء
البلاد، إلى درجة أثارت حفيظة المسلمين في صربيا وفي البوسنة والهرسك،
بل وأدت إلى انتقادات صربية أيضا، مثل الفيلسوف الصربي نيناد جاكوفيتسش
الذي قال إن صربيا تشهد قومية دينية غير ديمقراطية.
وفي أميركا اللاتينية تقوم الكنيسة بدور نضالي في مواجهة الاستبداد
وسوء توزيع الموارد والفرص، فالساندينيون الماركسيون في نيكاراغوا على
سبيل المثال يستلهمون تعاليم المسيحية ومبادئها في العدالة ومناصرة
الفقراء والمستضعفين، ويعتبر القائد السانديني أورتيغا أن المسيح عليه
السلام يمثل القائد الاجتماعي المتواضع والمنحاز للفقراء.
إن تجربة الكنيسة في كل من بولندا والبرازيل تعطي مؤشرات على
إمكانيات وتحولات في دور الكنيسة توثق أهمية الدور التاريخي للكنيسة
باعتبارها مؤسسة دولة لتصبح مؤسسة مجتمع.
وفي البرازيل تبنت الكنيسة هوية جديدة بوصفها "كنيسة الشعب"، وكان
لذلك دور كبير في التحول الديمقراطي، ولكن هذه الهوية وجدت نفسها برأي
خوسيه كازانوفا مؤلف كتاب الأديان العامة في العالم الحديث في صراع مع
الواقع التعددي للمجتمع المدني البنيوي ومع واقع البنى المهنية
النخبوية للمجتمع السياسي.
وقد بدأ الخلاف بين الدولة والكنيسة في البرازيل في القرن التاسع
عشر بعدما كانت الكنيسة مؤسسة تابعة للدولة في البرازيل ومن قبل للتاج
الإسباني، ولكن جرت تسوية هذه الخلافات وأعيدت الكنيسة إلى التضامن مع
السلطة.
"
تعتبر الكنيسة في البرازيل صوت الطبقات الفقيرة الأساسي في مواجهة
حالة لا يجدون فيها تمثيلا لآرائهم واهتماماتهم، فالكنيسة كما توصف
هناك "صوت من لا صوت له"
"
ولكن الحركات الاجتماعية التي نشأت في البرازيل وبخاصة بعد سياسات
إهمال الريف وتجاهل الفقراء شملت الكنيسة لتشارك في برامج الإصلاح
الزراعي والانحياز لخيار الفقراء مما جعلها توصف بأنها "كنيسة الشعب"
بل وتحول أساقفة الكنيسة إلى دعاة راديكاليين يهاجمون الأوضاع غير
الإنسانية للفقراء والمزارعين، بل ويدعون علنا إلى الاشتراكية ومناهضة
الرأسمالية.
وساهمت الكنيسة في تشكيل ونشأة الحركات النقابية الريفية، ومواجهة
الحكم العسكري الذي جاء نيتجة انقلاب عام 1964 وبدأت مواجهة قوية بين
الكنيسة والدولة موضوعها حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
وكان رد الكنيسة على سياسات الحكومة والاستثمارات الرأسمالية التي
أدت إلى نشوء هجرة واسعة من الريف إلى المدن وقيام أحزمة البؤس حولها
بمساعدة الهنود والريفيين على تنظيم أنفسهم، وتقديم الدعم والحماية لهم
في مواجهة الإقطاعيين والسلطات المحلية والمركزية والشركات الاستثمارية.
وأنشئت أيضا مؤسسات كنسية من الأساقفة لهذه الأغراض، مثل اللجنة
الرعوية لشؤون العمال والسكان الأصليين (الهنود) ولجنة العدل والسلام
لتنسيق النشاطات الإنسانية والاجتماعية والنقابية، والعمل السياسي
والإعلامي في مواجهة التعذيب والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.
ومع بداية الثمانينات كان يعمل في البرازيل حوالي ثمانية آلاف جمعية
كنسية كانت تعمل كتنظيمات شعبية بين الطبقات الفقيرة بين البرازيليين
البالغ عددهم حوالي 150 مليونا يعاني نصفهم على الأقل من الفقر ويعيشون
على الهامش، وتعتبر الكنيسة هناك صوتهم الأساسي في مواجهة حالة لا
يجدون فيها تمثيلا لآرائهم واهتماماتهم، فالكنيسة كما توصف هناك "صوت
من لا صوت له".
الإسلام السياسي".. جدلية الدين
والسياسة من يطوع من؟(6)
التماهي بين الديني والسياسي ليس «فعلاً حديثا» بقدر ما هو ضارب في
عروق التاريخ البشري ـ الإسلامي وغير الإسلامي ـ المكتظ بحمولات «تسييس
الدين» و«تديين السياسة»، الأمر الذي يصبح معه البحث عن الخيط الفاصل
بين «الديني» و«الدينوي» ـ بما يتضمنه من نزعات سياسية واجتماعية
وسواها ـ من أهم وأعقد المباحث الفكرية والفلسفية في العصر الحديث.
والتاريخ الإسلامي مكتنز بنماذج هائلة تصب في هذا الاتجاه كانت نتاج
هذا التماهي بين «الديني» و«السياسي» سواء في السلطة أو في المعارضة.
وهو ما جعل كل فريق يمارس عملية تنظير شرعي وحشد نصوصي يثبت فيه صحة
موقفه السياسي و«لا شرعية» موقف الخصم. الأمر الذي أدى إلى نشوء مذاهب
وعقائد واتجاهات فكرية وفلسفية كان الدافع السياسي رقماً مهماً في
نشوئها وتكونها. وهو ما تناولته بالبحث والدراسة مؤلفات حديثة متعددة
حاولت الغوص في تأثير البعد السياسي في نشوء وتكوّن هذه المذاهب
والاتجاهات في التاريخ الإسلامي كبعض إنتاجات الجابري وفهمي جدعان
وهشام جعيط وسواهم.
أما الحديث عن «الإٍسلام السياسي»، فقد بات اليوم أكثر رواجاً من أن
يقتصر على اهتمام الدوائر البحثية والثقافية بسبب تزايد أهمية هذا
المبحث لارتباطه المباشر بالفعل السياسي الملتصق بحياة الناس، ودخوله
ميدان التأثير المتزايد على دوائر السياسة الدولية. خصوصاً بعد أحداث
سبتمبر التي جعلت الحديث عن «الإرهاب» مرتبطاً في كثير من الأحيان
بالحديث عن الإسلام السياسي. مما زاد من الجرعة البحثية عن هذا الموضوع
سواء في العالم العربي أو في المراكز الاستشراقية الغربية وعلى يد
باحثين كبار كبرنارد لويس وأولفييه روا وجيل كيبل وفرانسوا بورغا
وسواهم.
ويتمحور الحديث حول أن حركات «الإسلام السياسي» هي في حقيقتها حركات
سياسية برغماتية بالدرجة الأولى لها رؤاها وحساباتها ومشروعها السياسي.
ربما ساهمت البواعث الدينية والعقدية في تكوينها، ولكنها تسيست بعد
دخول المعترك السياسي. وأصبح الدين مجرد غطاء يُستخدم لحشد الجماهير
وردع الخصوم وكسب الرأي العام، ووسيلة للّعب على العاطفة الدينية
الفطرية للجماهير وكسب تأييدها عن طريق النزعة الشعاراتية المفضلة لهذه
الحركات، والتي تُستخدم في كل ميادين العمل السياسي كمقولات «القرآن
دستورنا» و«الإسلام هو الحل» ورفع المصحف تحت قبة البرلمان في وجوه
الخصوم السياسيين في إيحاء ديني لا تخفى دلالته حتى على البسطاء.
يتضح ذلك جلياً لمن يعايش أو يقترب من كواليس العمل السياسي داخل
أروقة الحركات والأحزاب الإسلامية حين يكتشف أن الصراع السياسي والبحث
عن الحضور الشخصي والمكاسب الذاتية هي الدوافع الطاغية على العاملين في
الحقل السياسي الإسلامي. وأن الدوافع الدينية تبقى محدودة وتضيع وسط
زحام المصالح والمكاسب الشخصية. وأقرب مثال لذلك ما حصل في الأردن
مؤخراً حيث قررت جبهة العمل الإسلامي ـ الجناح السياسي للإخوان
المسلمين ـ تغيير بعض الوجوه السياسية «المعمرة» في البرلمان بوجوه
شابة وجديدة. ونتج عن ذلك رفض بعض هذه الشخصيات البرلمانية المعمرة
لفكرة التغيير. وقررت الانسحاب من الجبهة والترشح للبرلمان كشخصيات
مستقلة. وسارت في طريقها نحو البرلمان لتطأ تحت قدميها كل ماضيها
النضالي وشعاراتها حول الصف الإسلامي الموحد والتضحية من أجل الدين
والدعوة حين وصلت هذه الشعارات إلى مرحلة التطبيق وإلى محك حقيقي يثبت
مدى صلابة وصدقية هذه الدعوات التي رددوها لعشرات السنين.
حركات «الإسلام السياسي» تضفي قدسية على الخلاف السياسي، وتجعل
الاختلاف في الرؤى والمشروعات السياسية خلافاً دينياً عقائدياً لا مكان
فيه للفكر المغاير، ولا رأي فيه إلا لأولئك الموقعين عن رب العالمين.
ولكن البعض يرى أن في هذا الطرح مصادرة لحرية «الموقف السياسي» للفرد،
المكفول في مواثيق حقوق الإنسان، وذلك بوضع اشتراطات وخطوط حمراء على
حقول فكرية وأنماط في التفكير السياسي هي في حقيقتها الأكثر رواجاً
وانتشاراً في العالم العربي والإسلامي اليوم.
كما أن هذا الطرح يصب في اتجاه تسويغ القمع والمصادرة التي تمارس ضد
الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية، وتبرير حرمانها من العمل السياسي
العلني. أو السماح لها ولكن وفق سقف محدود في العمل والحركة والمشاركة
لا يمكن لها تجاوزه. وذلك بحجة أنها أحزاب دينية. في حين تعمل الأحزاب
المسيحية والدينية في الغرب «العلماني» بحرية مطلقة ودون قيود.
إضافة إلى أن هذه الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية هي في
حقيقتها تجمعات ديمقراطية تؤمن ـ وبشكل صارم ـ بالتعددية السياسية
وبحرية تكوّن وتشكل الفكر ضمن الفضاء السياسي والثقافي المفتوح. وباتت
تعلن صباح مساء أنها لا تحتكر فهم الإسلام، وأنها لا تمثل إلا رؤاها
وأفكارها السياسية. وأن للجميع الحق في مخالفتها وفق أرضية ديمقراطية
للعمل السياسي لا تصادر حق أحد في الوصول إلى الجماهير ومخاطبتها.
ويتساءل بعضهم.. لماذا في الوقت الذي يُصادَر فيه على الإسلاميين
حقهم في العمل السياسي يُغض الطرف عن الأحزاب والحركات القومية
واليسارية التي ما فتئت تحتكر الحقيقة وتمارس عملية تخوين وتشنيع على
المخالف السياسي والتخطير لأفعاله ومواقفه الفكرية والسياسية؟
ويبقى السؤال..
إلى أي حد يغدو «الإسلام السياسي» حراكاً سياسياً مشروعاً.. وهل
«الدين» أم «السياسة» باتت الروح الدافعة لعمل هذه الحركات؟
في كتابه الجديد "الدين والسياسة في
أمريكا"
مركز الزيتونة يناقش صعود اليمين
الديني المحافظ ونفوذه في أمريكا(7)
أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات كتاب "الدين والسياسة في
أمريكا: صعود المسيحيين الإنجيليين وأثرهم" من تأليف د.محمد عارف زكاء
الله، وترجمته أمل عيتاني إلى العربية. وهذا الكتاب كانت قد صدرت نسخته
الأصلية باللغة الإنجليزية عن مركز الزيتونة أيضاً أواخر شهر
شباط/فبراير من العام الجاري.
والمؤلف الدكتور عارف زكاء الله، هو خبير اقتصادي باكستاني، وممن
لهم اهتمام بارز في الشؤون السياسية الأمريكية وعملية صناعة القرار
فيها؛ وقد فاز بجوائز عديدة، ويعمل حالياً أستاذاً مشاركاً في الجامعة
الإسلامية العالمية في ماليزيا.
يناقش الكتاب موضوع صعود اليمين الديني المحافظ في أمريكا، مستعرضاً
الخلفية التاريخية للتدين البروتستانتي، وبروز الأصولية المسيحية بعد
الحرب العالمية الثانية. ويسلط الكتاب الضوء على كيفية تنظيم الأصوليين
المسيحيين أنفسهم ليشكلوا قوة مؤثرة في صناعة السياسة الأمريكية، وكيف
طوّروا هذا التأثير في عهد الرئيس الأمريكي الراحل ريجان، إلى أن وصلوا
إلى قمة نفوذهم في عهد جورج بوش الابن.
دراسة زكاء الله ليست الأولى من نوعها في بحث هذا الموضوع، لكنها
تتميز عن الدراسات الأخرى بكونها دراسة علمية موثقة ومحدّثة حتى أواخر
سنة 2006، ومختصرة لكن شاملة. وتقدم الدراسة الكثير من الإضاءات بطريقة
منهجية منظمة حول اليمين الديني الأمريكي، مدعّمة بالوقائع التاريخية،
مازجة الماضي بالحاضر، بتناغم وسلاسة وموضوعية. ولا يكتفي زكاء الله
ببحث الواقع الأمريكي لكنه ينتقل في الفصول الأخيرة إلى نظرة وتعاطي
العرب والمسلمين مع هذا الواقع الأمريكي، ويشدد على ضرورة إيجاد تحليل
ناقد ودراسات موضوعية لقضايا وسلوكيات وسياسات "الآخر" حتى يتمكن
الطرفان (الأمريكي-الغربي والإسلامي-العربي) من إجراء حوار حضاري على
قاعدة سليمة.
الاشكالية المزمنة بين الدين
والسياسة (8)
الحلقه الاولى
في البداية :
لابد من اعلان الحيادية في طرح الاراء التي تؤيد تدخّل الدين
وهيمنته على الحياة السياسية في بلداننا العربية والاسلامية , او بين
تلك التي تـُبعد الدين ولاتقبل تدخله بأي شكل من الاشكال في الحياة
السياسية, أذن نحن امام فريقيين لكل منهما وجهة نظره الخاصة التي لها
اسبابها وادلتها المنطقية التي يعتقد كل فريق بصوابها. وحتي نأخذ
الفرصه كاملة لابد من معرفه اوليه عن نبذه وجيزه ومختصره في الفضاء
والدائره التي يتحرك ويختص بها الدين في الحياة البشريه.
وحتى نستطيع فهم ذلك الفضاء وهذا الاختصاص ينبغي ان نبين ان فهم
الدين يعني فهم الظاهره التأريخيه, فالدين من خلال البرهه التاريخيه
التي تواجد وانتشر بها بواسطة النبي الاكرم فأنه جاءالى الناس كافه,
وهذه اللحظه والبرهه الخاصه نطلق عليها اسم الظاهره التأريخيه وهي نزول
القرآن , وظهور النبي ( ص ) , والكتاب المـُنزل, وهذا ايضا يعني ان
الدين الاسلامي بكليته ظاهرة تاريخيه نفهمها من خلال ما نمتلك من
معلومات في السياق التأريخي, وعلى هذا الاساس انطلق الرعيل الاول من
المجتمع المسلم في فهم هذه الظاهره من خلال ادواته وتصوراته في ذلك
العصر, فكانت تلك التفسيرات لهذه الظواهر في ذهن المجتمع من المسلمات ,
أما ماهو الكم من الترسبات عن الديانات السابقه التي اثرت في تشيكل هذه
التصورات والمسلمات , فتلك مسأله تحتاج الى بحث ونحن الان لسنا في صدد
التعرض اليها في هذا المقال , ومانريد ان نخلص اليه ان المجتمع الذي
تلقى الظواهر التاريخيه, القرآن ,النبي والوحى كان ينطوي على تصورّات
سابقه للدين ,والا لما تيسر له فهم تلك الظواهر التأريخيه الجديدة
عليه, لذلك استمرالتطورفي فهم هذه الظواهر من خلال الادوات والتصورات
المختلفه بأختلاف الاجيال المتنميه اليها, الامر الذي جعل لكل جيل
منها جديته واجتهاده في تصوراته وتفسيراته من خلال الكم الهائل لتلك
التراكمات التي شكلت ولاتزال تـُشكل المفتاح في حل وفهم هذه الظواهر
التأريخيه الكبيره.
من هذه المقدمه البسيطه نريد القول : بان الفكر الاسلامي بأعتباره
فكرا انسانيأ يتبدل ويتعدل على ضوء ما اشرنا, في فهم الظاهره التأريخيه
لذلك نرى ان الفكر الاسلامي مـرَ في عدةحلقات متواصله وفي اتجاهات
مختلفه , ابتدا ً من الرعيل الاول وكيفية فهم هذا الرعيل لتلك الظواهر
التاريخيه ومروراَ بكثير من الحركات مثل الاشاعره والمعتزله الخ...
الذين ابدعوا نظريات فكريه وطرحوا أسئله وأجوبه انبثق من خلالها
تفسيرهم الخاص للاسلام , ولهذا كله و على سبيل المثال اوجد المعتزلة
الثقافه الخاصه بهم في الحياة الدينيه,نتيجة لفهم المعتزله للظواهر
التأريخيه من خلال مقولاتهم ومفاهيمهم الخاصه.
والتي تختلف او تتفق بشكل وبأخر عن الاتجاه الذي تلاهاالا
وهوالاتجاه الفلسفي في فهم وطرح المفاهيم الاسلاميه من خلال ما تكـّون
من منظومة فكريه خاصه لهذا الاتجاه في فهم وتفسير هذه الظواهر
التأريخيه, والفلاسفه ايضا ابدعوا في الاضافات الفكريه العميقه التي
استمدوها من تصوراتهم الفلسفيه عن الوجود والخالق والوحي والقرآن. ومن
هذا التدرج السريع والبسيط في فهم الظواهر التأريخيه نصل الى نيجه و
صياغة السؤال التالي , في الوقت الذي شهد عصرنا مجموع من التحولات
الجديده والكبيره ونحن المسلمون جزء من هذه المنظومه البشريه كيف ستكون
مساهمتنا وفهمنا لهذه الظواهر التاريخيه. وما تأثير ذلك في فك الاشتباك
الذي حصل ولايزال يحصل ان صح التعبير بين السياسي والديني في فهم الدين
و امكانية تدخله في كل الشؤون الحياتيه ؟ هذا ما سنتواصل به معكم في
الحلقه القادمه انشاء الله.
الحلقة الثانية
فض الاشتباك والتحولات الكبرى ...
تـُمثـل التحولات الكبرى في الحياة بكافة محاورها العلمية
والاقتصادية والسياسية التي عاشها ويعيشها العالم المعاصر والحديث نقطة
تحول لميل الانسان الى الجدّيه في التعامل في نظرته لتجديد كل ما يمت
بصلة في منظومته الثقافية وفكره السياسي وعاداته وتقاليده الموروثة
والسائدة. وبطبيعة الحال هذا لايعني باي شكل من الاشكال نفي الماضي
والتراث بحيث ان لا تكون هناك قطيعة بينهما وانما الاستفادة والتوظيف
من دون ان يتحول هذا الماضي الي قيدٍ يعيـق حركة الانسان-المجتمع من
تحولاته الجديدة .
النظرة الخاطئة.
لذلك كانت هناك نظرة خاطئة لتصور ٍ مهيمن ٍ قبل هذه التحولات الكبرى
مفاده ان اطر الحياة على كافة الصعد الاجتماعية والسياسية لاسبيل في
تغيرها ؟ لانها تـُعتبر في تصوراتهم مقدرة لهم من خلال نظام الخلق
والتكوين, وليس امامهم الا الخضوع والاذعان لها ولا امكانية لنقدها
وتصحيحها بحيث اصبحت هذه النظم ذات طابع قدري في الفكر الاجتماعي
والسياسي.
وبعد انهيار هذه المنظومه تبّـين ان النظام الاجتماعي السياسي ليس
جزءا ً من النظام المحتوم و قدرا ً منزّلا من نظام الخلق والتكوين ,
لذلك تجاوز اصحاب الفكر التنويري الكنيسة وتعيّـناتها المفروضة في اطر
الحياة الاجتماعية والسياسية في اوربا , بالوقت الذي كان هذا الفكر
السياسي يـُـفرض من قبل ارباب الكنيسة الذين كانوا يحيطون اطرهم
الاجتماعية والسياسية بهالة من التقديسي والتفخيم , على انها من ضمن
نظام الخلق والتكوين, ولكن نتيجة للنمو السريع في مجال العلم
والتكنلوجيا تزعزع هذا التفخيم وهذا التقديس و انهارت تلك النظم والاطر
الفكرية السياسية التقليدية التي كانت سائدة في المجتمعات الغربية, مما
فتح الافاق الواسعة في كل الاتجاهات للفكر الجديد.
موجه قوية وعنيفة .
تعرض العالم اجمع نتيجة لتلك التحولات الى موجة قوية وعنيفة من
التغيرات التي كان مداها اهتزاز قواعد التفكير التقليدي والثقافي
الموروث , مما خلفه هاجسا ً لدى بعض المعنيين ولاسيما الذين يهتمون
بالفكر والشان الاسلامي, وهذا الهاجس يتمثل بصيغة السؤال الاتي, ماهي
الكيفيه التي سوف يتعامل بها اصحاب هذا الشأن في تقديم الدين للناس في
ظل هذا الفضاء الفكري المفتوح الذي اثر على كل المجتمعات وفي كل
الاتجاهات وفي قلب و صميم الاطر الحياتيه المتمثلة بالوضع الاجتماعي
والسياسي والاقتصادي.
تياران في الساحة للتصدي ..
وعندئذ لما انبرى للتصدي لهذه التحولات وتأثيرتها تياران احدهما
التيار الاول الذي اعتبر هذه التحولات بدعه ولابد من مواجهتها بتهمة
الانحراف عن التفكير السليم وان هذه التحولات بلاء عظيم قد اصاب جسم
الامة في صميم دينها ومعتقداتها مما يستوجب التصدي لها ومقاومتها ,
ولان هذا التيار وبكل صراحة لايريد ان يعترف بأن المقولات والمفاهيم
الفلسفية الارسطية غير صالح ولانهم يعتقدون بأنه لايمكن الحديث عن
موضوع الدين خارج المقولات الارسطيه وفي ظنهم بأن فلاسفة وروّاد النقد
المعرفي الحديث امثال كانت وهيوم واخرين هم لا يمثلون الا فكرا سقيما
وبطلا ننا مبينا .
أما التيار الثاني من المفكرين الذين وجدوا في هذه التحولات تعبيرا
ً عن واقع ظهر في منهج التفكير الانساني ولابد من التعامل معه بجد ّية
ومعالجة انعكاسته لاسيما ان هذه الفلسفه تتعرض بالنقد المعرفي للفلسفة
الاولى , لذا يرى هذا التيار بعدم حصر مهمة موضوع الدين والحديث عنه في
اطار الفلسفة الاولى, وافضل من عبر عن هذا التيار وبوضوح وقوه المرجع
السيد محمد باقر الصدر( رض) الذي جعل من موضوع الدين الامكانية
والمكانة التي يستحقها في عالم المعرفة في عالمنا المعاصر ولو اتيحت
الفرصة لهذا العالم الفذ ان يمتد به العمر, لكان اليوم لنا قولا اخر
في عالم المعرفة والفكر النير الذين نستطيع به ان نزيل كل هذا التخبط
والارباك الحاصل . لكن اليد الاثيمه واللئيمة عاجلته المنية بحكم
الاعدام الجائر في 1980
حالة تعارض وعدم انسجام
اذن هناك حالة تعارض وعدم انسجام بين طرفين او تيارين لهما رؤى
مختلف ومتباينه , اي هناك تباين واختلاف بين معطيات الفكر العلمي
والفلسفي من جهه ومعطيات و اجتهادات الفكر الديني من الجهة الاخرى ,
واذا مااقتربنا قليلا من الفكر السياسي الجديد لابد من تحديد مفهومين
اساسيين هما العلمانية والعلمنه.
" العلمانية نظرية او حركة نشأت وتطورت في السياق التأريخي بين
الكنيسة والدولة القومية في اوربا لفصل الدين عن الدوله وحياة المجتمع
من جهة , وبين مفاهيم الكنيسة والمفاهيم العلمية عن الكون والحياة
والمجتمع من الجهة الاخرى . اما العلمنه, فهي التطبيق العملي لتلك
النظريه في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والميل
للتصرف بمعزل واستقلال عن الدين والديني كما يقول الباحث الانكليزي
شادويك Chadwick "
فصل الدين عن الدولة
اول تحرك في اتجاه فصل الدين عن الدولة قام به محمد علي في مصر ,
عندما عزل الازهر رسميا ً وبالتدريج عن مجالات الحياة والمجتمع وقد
حاصر الازهر بشبكة من المدارس العلمانية الحديثة وترك الازهر يواجه
مصيره, إن تطور نجا , وإن بقى على جموده هلك . لذا نستطيع القول بأن
وجود النظام السياسي ضرورة حضارية , لان الحياة في المجتمع الانساني لا
تستقيم بدون وجود سلطة حاكمة, واطار قانوني يوضح العلاقة بين القوتين
الحاكمة والمحكومة , وهو الدستور. وكما هو معلوم بأن هذا الدستور صادر
عن العقل البشري وليس عن التشريع الاسلامي فهل يصح لنا التسائل , الى
اين نتجه اذن في تحقيق النـُظم السياسية والاجتماعة وهل هناك منهجاً
محدد نتبعه,بل دعنا نصيغ السؤال بشكل اكثر دقه اي منهجاً نتبع, دولة
الفتوى ام دولة القانون ؟ وهل هناك امكانية للتلاقي بينهما لوضع حد ٍ
لهذا الارباك؟ ام ان هناك اكثر من راي في هذا الجانب ...........؟
الحلقة الثالثة
دولة الفتوى ام دولة القانون.
المنطق الارسطي وكما هو معروف أداة البحث الوحيدة في العصور القديمة
, والذي لايزال يدرس في اغلب الحوزات العلمية, مع انه تعرض للنقد
الشديد مع بداية القرن الخامس عشر من قبل مفكرين أوربيين تنوريين, وكما
تعلمون ان المنطق الارسطي منهج جدلي استقصائي قائم علىالقياس ,يستننتج
من الحقائق المعروفة اكثر من البحث عن حقائق جديدة. وكان فرنسيس بيكون
من اوائل الذين اكتشفوا عقم وعدم جدوى هذا المنطق بعد اتصاله بالعلم
العربي التجريبي عن طريق الترجمات في بلاد الاندلس , وكان هدف العلم
عند بيكون إخضاع الطبيعة لخدمة الانسان من اجل رفاهية الانسانية
وتطورها,وبعد بيكون رينيه ديكارت وثم المنهج النيوتوني هذا المنهج الذي
يقوم على تحليل الحقائق المشاهدة بغية التوصل منها الى مبدأ أساسي , ثم
استخراج النتائج الرياضية لهذا المبدأ والتحقيق منها تجريبيا, وبعد ذلك
جاء باركلي وهيوم ثم بنتام وجون ستيوارت ميل وجون لوك الذي كان وراء
فكرة مؤسسات المجتمع المدني والذي اقام نظرية الجديدة في الدولة التي
تدحض الحق الالهي للملوك وتدعوا الى مبدا فصل السلطات,وبعد كل هذا جاء
فلاسفة عصر التنوير الذين اكدوا على قيمة العلم وفضيلة الحرية
ومحاربتهم الى الاتجاهات الميتافزيقية , ونشر الفكر الواقعي, وهذا أدى
الى ظهور فكرة التقدم اي التطور من البسيط الى المعقد ومن الادنى الى
الارقى , وكان لهذه الفكرة دورا ً هاما ً في العلم والثقافة, ومن ثم
توالت الاكتشافات والنظريات مما ادى الى خطوات كبيرة باتجاه الفصل
التام بين الدولة والكنيسة, وكان البرلمان الفرنسي سباقا ًفي هذا
المجال عندما صادق في عام 1905 على قانون الفصل بين الدولة والكنيسة ,
ومع بداية القرن العشرين اخترعت السيارة والطائرة والكهرباء الى نهاية
وبداية القرن الواحد والعشرين اصبح العالم قرية كونية بفضل غزو الفضاء
. وهنا لابد من ذكرالشعب الياباني الذي شارك بفعالية في هذه المنجزات
والتحولات دون ان تقف تقاليده العريقة ومعتقداته الدينية حائلا بينه
وبين التطور العلمي . هذه كانت بأختصار العوامل التى ادت الى ولادة
المجتمع الجديد الذي تبنى دولة القانون, ودولة القانون تلك التي تقوم
على اساس المؤسسات والتي تحتكم الى دستور البلاد,الذي يضمن فصل السلطات
الثلاث ويحترم حقوق الانسان , وتوفر بشكل فعلي ظروف المشاركة في ادارة
المجتمع والدولة.
أما دولة الفتوى . ويقصد بها من الناحية السياسية الامامة "
والامامة العظمى وامارة المسلمين هي رياسة الحكومة الاسلامية الجامعة
لمصالح الدين والدنيا " . وهنا لابد من مرور تأريخي سريع على بعض
محطات الخلافة فحين سعى المسلمون الاوائل الي نشر العدل الاجتماعي
والمساوة والتحرر من نير الفقر والعبودية , وكان هذا كله قد شكل رؤية
جديدة للعالم في شتى جوانب الحياة , ولكن بعد وفاة النبي الاكرم تصدعت
وحدة المسلمين وتوزعوا الى فرق ومذاهب مختلفة منذ بدأت مسالة الخلافة
تتفاعل فيما بينهم بالعنف وتتحول الى صراع دام ٍ , حتى وصل الامر
بالمسلمين ان تفككت وحدتهم السياسية وتفرقوا الى دويلات متناحرة
متقاتلة فيما بينها واصبحت السلطة السياسية بيد الامراء الذين
ابتعدوا عن فكرة التشريع الجامع الموحد وبهذا الامر فارقت السياسة
الاسلام ...؟
أمكانية الحل مع بداية القرن الواحد والعشرين ؟
قد يغلب الظن على البعض ان في كثيرمن هذه التساؤلات التي وردة في
طيات هذا البحث قد تجد لها أجابات في البحوث التي قـُدمت ولاتزال
تـُقدم في حلقات الدرس و البحث, لكنني أقول أجوبة لا تصل بنا الىعمق
مستويات المشكلة ولا تـُعّد أجوبة شافية ووافية لانها بعيدة كل البعد
عن الواقع الراهن في مجتمعاتنا العربية والاسلامية , بل أقول و بصيغة
اخرى ان المشكلة المزمنة التي نعاني من مضاعفاتها في مجتمعاتنا,
اساسها الاشتباك الحاصل بين الديني والسياسي ,و تبقى تلك الاجابات
معلقة ومفتوحة, لان اغلب هذه الاجابات تمثل ردود فعل لاترتقي ان تكون
حلا ً للمشكلة القائمة بين الدين والسياسة في واقعنا الراهن بالرغم مما
حملته من عناوين براقة كانت على شكل لوائح وحقوق ومن امثلتها حقوق
الانسان, وحقوق المرآة, وحقوق العامل, .. وحقوق.. وحقوق....الخ
ونحن الان في بداية القرن الواحد والعشرين , والمجتمع العربي
والاسلامي مازال يراوح ويترنح في مكانه, والارباك والتخبط باديا ً
عليه من خلال عناوين بارزة في صفحات ازماته واحباطاته المريرة على كافة
الصعد. ومع ذلك مازال هذا المجتمع يسعى لدولته الوطنية التي تحقق له
الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والرفاهية الاقتصادية والاستقلال
ولكنها لم تتحقق بعد , في الوقت الذي مازال فيه تفكير هذا المجتمع
اسيرا ً لطروحات واسئلة منذ بداية عصر النهضة والى يومنا هذا ولم يفلح
في ان يجد أجوبة حاسمة عليها ولاسيما في اشكالية العلاقة بين الدين
والسياسة ولايزال الانسان العربي والمسلم يعيش وضعاً شاذا ً وغريبا من
بين كل ابناء شعوب هذه المعمورة.
كيف نتخطى المحضور...؟؟
لان هذا الانسان مازال محضور عليه التفكير الحر في الدين والدنيا
رغم مانعيشه الان من تحولات كبيرة و ثورة عارمة في العلوم المستقبلية.
ولو استحضرنا التأريخ ليكون شاهدا ًعلى شدة ذلك الصراع بين تياريين
كبيرين سعى كل منها للانتصار على الاخر, فكانت نتجية ذلك الصراع محنة
ابن رشد في اتهامه بالزندقة وحرق كتبه في الساحات العامة, والقائمة
تطول في مثل هذا الباب للاتهام بالزندقة مفتوح على مصراعيه لحد الان ,
لكنني اقول , اتجه بنظرك نحو المغرب العربي وبالتحديد الى الجزائر
ستشاهد مثالا مؤلما ًوحيا ً على مانقوله في تجسيد ذلك الصراع المرير
بسيل من الدماء سببه المباشر وغير المباشرصراع المؤسسة الدينية مع
المؤسسة المدنية, اللتان لا تعترفان ببعضهما البعض,لانهما لم يحددا
سلطة كل منهما مع الاخر منذ البداية, وهذا يدل على ان هناك خلل بنيوي
في الفكرالذي صاغ المؤسستين, ونكتفي بهذه الاشارة وسأحاول التفصيل
عنهما بالتحليل الاجتماعي والتأريخي في طيات هذه البحث, عندما أستعرض
بعض الاراء والتصورات الدينية و السياسة للمشكلة.
العلمانيون اللبراليون وأكثر من مئة عام في الحكم والسلطة ....
...ماذا كانت النتيجة ؟
هذا الموجز القصير والسريع الذي قدّمته لحركة الصراع بين الجانبين
الديني والعلماني في امثلته القديمة الجديدة يدلنا على ان العلمانيين
اللبراليين أتيحت لهم ايضا فرصة الحكم والسلطة طيلة قرن كامل من الزمان
, ولم يستطيعوا ان يـّـكون مرجعية ثابتة تؤصّـل للانسان العربي والمسلم
نظرته الى الدولة والمجتمع والحياة والمستقبل, والامثلة عديدة على ذلك,
وبالامكان ملاحظتها بعدة بلدان عربية واسلامية ولانريد الدخول في
تفاصيل تلك الانظمة الحاكمة وفشل تجاربها والتي حاولت في اغلبها ان
يكون حل الاشكالية من خلال تثوير الفكر الديني ووضعه في خدمة الانسان
وقضايا المجتمع السياسية والاجتماعية , لكن سقوط هذه التجارب لأسباب
عدة وعلى رأس قائمة هذه الاسباب استغلال الدين والمتاجرة به من طرفي
المعادله بشكل كبير, مما أدى الى خلل في فهم الذات و فهم الاخر, وكذلك
أدى هذا الخلل لتكون هناك قطيعة بين تراثنا الابداعي من جهة وبين
منجزات الحداثة والنهضة من جهة اخرى, ونتائج هذه القطيعة أدت بنا الى
فقداننا اية بنية تحتية على مستوى العصر. وحتى نبدء بتلمس اطراف الحل
للمشكلة لابد من المرور السريع على بعض التعريفات المهمة التي نحتاجها
في البحث.
بعض الرؤى في و ظيفة كل من الدين والسياسة
..و حتى تكون بعض الرؤى واضحة لابد من تعريف الدين والسياسة, الدين
هوالتزام كامل وتام با لتعاليم السماوية لتكامل الحياةالانسانية
للانسان. أما تعريف السياسة فهي فن الممكن,او تعريف اخر للسياسة في
المفهوم الغربي، يرتبط بمفاهيم الشعب والقانون والسلطة والمصلحة العامة
والدولة، ويستبطن قيم الصراع والتكييف والحلول الوسط وتحكيم الواقع.
من خلال هذه التعريفات يرى اصحاب فكرة الفصل بين الدين والسياسة بأن
الدين والسياسة ينفصلان عن بعضهما البعض ولكل منهما وظيفته الخاصة
ولاتستطيع السياسة اداء وظيفة الدين ولايستطيع الدين القيام بوظيفة
السياسة, لان الدين في رأي هؤلاء يدعوا الانسان الى الارتباط بالله,
وان هذه العلاقة وحيدة من حيث ان الانسان فيها ينمو ويترعرع ويموت
وحيدا ً , اما السياسة فانها تدعو الى الجمع فلا وحدة فيها,والدين سلوك
وصراط فردي , بينما السياسة سعي على صراط جماعي , ويقول هؤلاء ايضا ان
ازدواجية الدين والسياسة تستدعي ازدواجية القانون , وفي هذه الحالة
نكون امام قانون ديني يريد للانسان السمو والتكامل في شخصيته
الانسانية, وقانون مدني يريد سعادة ورفاه المجتمع , ويقولون ايضا يجب
ان لاتكون القوانيين
الدينية مهما كانت عظيمة اساس القوانيين المدنية ,ومونتسكيو في
كتابه روح القوانيين يقول
"القوانيين الوضعية لاتحتاج الى النصيحة والموعظة,وانما تحتاج الى
المقررات لانها وضعت للافراد .اما القوانيين الدينية التي وضعت لقلوب
الناس فأنها يجب ان تركز اهتمامها على الموعظة والنصيحة وتأتي المقررات
في المرتبة الثانية" , وحسب مقارنة هؤلاء فالدين يعني عندهم حبل ممدود
من السماء لأنقاذ المؤمنين من عبادة الالهة وعبادة الاصنام ,أما
السياسة فانها حبل يمثل طرف منه كثرة من المنتخـِبين المحكومين والطرف
الاخر منه قلة من المنتخـَبين الحاكمين, وبهذه الطريقة يتعلم الطرفان
الحاكم والمحكوم بأن الاخذ من الافكار والرؤى المختلفة ومداراة اصحاب
الرؤى الجديدة تؤدي كلها الىتحسين ظروف الحياة. ولكن الدين حسب ما يقول
هؤلاء يرفض ويقف حاجز في وجه كل هذه التصورات , وعليه فأن الافكار
المتناقضة والعلاقات الاجتماعية المتداخلة وضرورةالتسامح مع النظريات
الجديدة ونبذ التعصب الفكري, وهذا كله يمنع الدين من التدخل في كثير من
شؤون الحياة .هذه اذن الاراء التي طرحها اصحاب الفصل بين الدين
والسياسة ومبررات الحاجة لهذه الفصل.
اراء فريق ثان ٍ
نأتي هنا الى ما قاله فريق اخر على ان الدين استخدمه السياسيون
لخداع الشعوب وتبرير المظالم وغصب الحقوق, بحيث اصبح الدين في خدمة
السياسة والسياسيين من خلال دعوة الناس لقبول الظلم والصبروالهدوء
والسكينه بناءا على امل في تحسن الاوضاع والتخفيف عن الالام والمحن,
وفي زعم هؤلاء ان الدين في ذلك يفتح نافدة نحو عالم الخيال بعد الموت
ويمنع الناس من السعي لتحسين اوضاعهم الحياتية من خلال الجنة التي بها
يوعدون .
أراء الفريق الثالث
يعتقد هذا الفريق ان السياسة تقوم على مبادئ واصول انسانية محورها
الدين, وان السياسة التي تخضع لارادة الدين لايكون الحكم هدفا بعينه
وانما وسيلة لتحقيق غايات كبرى وسامية لانها تسعى لمجتمع متكامل , كما
ان الحكم فيه يقوم على اساس تكريم الانسان , ويتعامل الناس ضمن هذه
السياسة على اساس المعايير الانسانية.
والان طرحنا بعض من هذه الاراء التي تفصل الدين عن السياسة وتلك
التي تقبل الدين وتـُخضع السياسة له,
وهذا كله سيوصلنا الى الدراسة المهمة للجوانب المختلفة للتيارين,
وكيف ان التيارين مقبولان ومنطقيان في جوانب ومرفوضان وغير منطقيين في
جوانب اخرى ..
الحلقة الرابعة
ما وراء الواضح
من كل ما ذكرناه وسطرناه في الحلقات الثلاثة السابقة, عن الإشكالية
المزمنة يدل على إن هناك هوة فاصلة, تفرض ذاتها بين الدين والسياسية,
والتي يترتب عليها أو ينتج منها, عملا نقديا يتبين من خلاله الكيفية
والإمكانية التي تباعد فيها كل من الدين والسياسة عن بعضهم البعض ,
لذا يكون النقد عملية إجرائية بنائية متكررة لفض الاشتباك الحاصل
بينهما.
ولطالما هناك بعض الخلل في تراكمات الوعي الإسلامي, والذي خلق
واقعا تاريخيا منحازا باتجاه كل منهما, وبما إن الدين هو الحقيقة
الكاملة التي ابلغها الله إلى أنبيائه ثم أبلغوها بدورهم إلى الناس .
وإن هذا الدين أيضا يُعبر عنه بواسطة فهم الناس إليه , وهذا الفهم لا
يتيسر إلا عن طريق البحث والتحليل والنقد الدائم , فتصبح العملية على
شكل حوار بين الإنسان والله جل وعلا , لتكون المحصلة النهائية صياغة
التعبير الإنساني من كلام الله سبحانه وتعالى , ومن هنا تأتي عملية
نقد العقلية التي أفرزت هذا الفهم الإسلامي أو ذاك , والتي نفترض وجود
بدائل فيها عن تلك النظم والمؤسسات الدينية الموجودة , بدائل نستطيع
تصحيح أو تغير ما نجده من أخطاء , لان النقد هو قناعة بوجود البديل ,
ولأننا نؤمن بأن الإرادة الإنسانية تمارس دورا أساسيا في صياغة تلك
المؤسسات والتنظيمات,والتي من الممكن أن تكون شيئا أخر .
لذلك يكون لدينا طروحات وأسئلة تدور حول ما هو كائن , والتي ننطلق
فيها من الفعالية التاريخية لكل من الدين والسياسة. باعتبار إن
كثيرين ممن أسسوا و تطلعوا إلى أقامة الدولة الإسلامية , فإنهم
اصطدموا بالإشكالية المزمنة أو تجاوزوها بطريقة لوي عنق الحقيقة في
بناء السلطة السياسية الدينية لهذه الدولة أو تلك , بالرغم من
الإشكالات الكبيرة التي أحاطت في تأصيل تلك الموقف , إذن لابد من
الذهاب إلى ما وراء الواضح والى جوهر الأشياء بغية كشف الطابع الحقيقي
لطبيعة هذه الإشكالية في تشكيل السؤال المهم, هل السلطة السياسية, سلطة
دينية أم سلطة مدنية؟
الاقتراب نحو الحل
ولطالما ساد هذا الفهم من خلال سؤالنا السابق, ولفترات طويلة بتوحيد
السلطتين, والذي روج له الخلفاء والأمراء والسلاطين وتجار الدين ,
والذين استبدّوا بالمسلمين , وحرّموا عليهم النظر في علوم السياسة ,
وضيقوا على عقول الناس , فأماتوا عندهم ملكة التفكير والبحث العلمي ,
حتى صاروا هؤلاء لا يرون غير الدين مرجعا حتى في مسائل الإدارة وفنونها
والسياسية وألاعيبها .
وبما إن الإسلام ليس فيه سلطة تيوقراطية أو سلطان الهي , واختيار
الحاكم وعزله خاضعان لإرادة الأمة , والفكرة الشائعة باقتران وامتزاج
السلطتين خطأ محض على الإسلام , لان هذه الفكرة في الأصل فكرة
كاثوليكية , تعود إلى أصولها وجذورها المسيحية, فمن هذا المنطلق أصبحنا
نقترب قليلا في حل الإشكالية المزمنة في شكلها العام وفي جوهرها على
ضوء النظرة العامة إلى السلطتين المدنية والدينية باعتبارها الأساس
المفترض لقيام تلك الدولة , ولنأخذ مثالا تاريخيا على ذلك, الفتوحات
الإسلامية التي لا تمثل إلا أعمالا سياسية حربية سلطوية ,لا تمت بصلة
بالفكرة القائل إنها حروب دينية , وكذلك لدينا مثال أخر ينطبق أيضا
على الحروب التي وقعت بين أطراف وفرق إسلامية , لم تكن أسبابها دينية
وإنما أسبابها سياسية , وفي اغلب دوافعها الأساسية الاختلاف في الآراء
التنظيرية والتطبيقية لطريقة الحكم , ولم تكن أسباب تلك الحروب من اجل
نصرة العقيدة وإنما أسبابها الواضحة والجلية من اجل تغير آلية الحكم ,
وهذا دليل واضح و صريح لنظرة الإسلام في التفريق بين السلطتين.
توافق الطرفان في الحل
فكلما ظهرت قوة أيديولوجية الدين, كثر الحديث من قبل اللبراليين
والقوميين والماركسيين عن تحديث المجتمع وقراءة التراث بعلمية وواقعية
حتى يتسنى على حد زعمهم تفسير الإسلام تفسيرا تقدميا وحضاريا , وهذا
يعني رغبة متزايدة في التحديث والتجديد, مما يؤشر ويدل على إن الأجيال
وكأنها تتوارث هذا السجال الفكري المتكرر بين الطرفيين , وبما إن
الإسلاميين يقبلون الحداثة والتجديد ولكن ضمن ضوابط وثوابت الإسلام
وآلا سيكون القبول بكل شيء من التجديد والتحديث استلابا وتغريبا . ومع
صعود التيار الإسلامي إلى الحكم في بعض البلدان ولاسيما في العراق من
خلال الحركات والتنظيمات الإسلامية , إلا إنهم كنخبة سياسية كانوا
يختلفون مع الديكتاتورية في العراق في انعدام المشاركة الشعبية ,
وعلاقة الحاكم مع المحكوم , وحقوق الأقليات , وطريقة المشاركة
السياسية, لكن اختلافهم هذا لم يبرز حين استلامهم للسلطة في العراق من
خلال تحكيم الدين كما كانوا يزعمون , وإنما برز من خلال الديمقراطية
التي أتت مع الاحتلال الأمريكي العسكري للعراق ,أي بمعنى أخر فهم لا
يختلفون عن الدكتاتورية إلا في إلية الحكم , أي هم فصلوا بين الدين
والسياسة بشكلا عملي ؟
وهذا الاستنتاج يقودنا إلى القول أن لافرق بين الإسلامي والعلماني
في تحقيق الأهداف السياسية , سوى إن الإسلامي ينظر إلى الإسلام من
خلال عقيدته بان الإسلام يقود الحياة من خلال مسيرته , والعلماني يريد
الدين فقط علاقة فردية بين الخالق والمخلوق ..
الحلقة الأخيرة
فلسفة الأهداف السياسية :
متابعة ً لما ذكرناه في الحلقة الرابعة وثبتنا فيها بعض التأصيل ,
أن لا فرق بين الإسلامي والعلماني من حيث تحقيق الأهداف السياسية , إلا
في الاختلاف بالـنظرة , فالأول ينظر من خلال عقيدته والثاني ينظر على
إن الدين علاقة فردية . الاثنان يعتقدان أن الغاية والأهداف الجيدة
تـُبرر لهم استخدام الوسائل السيئة للوصول إلى ( الحكم) وهذا لا يعني
أن الغاية أصبحت سيئة , بالرغم من إن تحقيقها يتطلب وسائل سيئة حتى ولو
كانت تلك الوسيلة لاحتلال , مادامت الغاية والأهداف تتحرك وتعمل مع
حركة التاريخ وتنتـقـل بالمجتمع من صعيد إلى صعيد تاريخي جديد أي من
نظام ديكتاتوري مستبد إلى نظام تعددي ديمقراطي , شريطة أن لا تتحول هذه
الوسيلة ( الحكم والسلطة) إلى غاية فتضمحل وتسقط عنها الشرعية
الأخلاقية .
سياسة قارب النجاة:
وعلى ضوء هذا النظرية والسلوك المتبع نقول إن الإسلامي والعلماني في
قارب نجاة واحد مع اختلاف لون المجداف الذي أبحرا فيه, ولكن يبقى الشرط
قائما ً في توجيه البوصلة بيدي الشركة الناقلة. وأفضل مثل لتقريب
الصورة ( السلطة العراقية الحالية) . فطبيعة الصراع الدولي والإقليمي
والمصالح المتفاعلة لكل هذه الأطراف دفعت وأغرت النخبة السياسية
الحاكمة في العراق , العلمانية والإسلامية منها علي حدا ٍ سواء , أن
تتخذ من قارب النجاة وسيلة نقل سهلة ومجانية للفوز بالسلطة , ولكن
شعبنا العراقي هو من دفع ولا يزال يدفع ثمن الفاتورة للذين اعتقدوا
مجانية النقل بحسن نيةٍ أو بخبثٍ سياسي, وهؤلاء لم يكترث للدماء
العراقية البريئة , وليس في ذهنهم إلا المحاصصة والاستحواذ على السلطة
بأية طريقة كانت , والتي من خلالها استطاعوا الخلط والمزج بين السلطتين
الدينية والسياسية ً بنموذج ٍ جديد ٍ ( ناجح ) بحسب ظنهم. وهذا(النجاح
ُ)أتى بفضل ديمقراطية الفوضى الخلاقة وديمقراطية القتل والدمار للشعب
العراقي , والتي للأول مرة يتعرف الشعب العراقي على نموذج الخليط
والتمازج بين هاتين السلطتين الدينية والسياسية في زمن الاحتلال
الأمريكي للعراق في نيسان / عام ( 2003 ) بعد أن كانت هذه الأحزاب
الإسلامية والحركات الحاكمة ذاتها ترفض رفضا ً قاطعا ً أي مشروع للحكم
المشترك مع بعضها البعض!!! وكأني بلسان حال تلك الأحزاب يقول .. وداعا
ً أيتها المبادئ !!
مصدر السلطة الدينية والسياسية :
ولنتفحص المرجعيات والحركات والأحزاب الإسلامية من حيث المصدر الذي
تعتمد عليه في تشخيص هاتين السلطتين الدينية والسياسية, ولنبدأ أولا
بالحديث عن مصدر السلطة الدينية. فكما هو معروف فأن مصدر هذه السلطة هو
الله جل جلاله , والسلطة الدينية كما تطرح نفسها ممثلة و متصلة في
الغيب من جهة المصدر والغاية . وكذلك يعتقد أصحاب هذا الرأي بان السلطة
الدينية تتأرجح في التنافس والتنازع بين الحركات والأحزاب الإسلامية من
جهة وبين المرجعيات الدينية من جهة أخرى كما نراه حاصل في الوقت
الراهن. وقد تجلت هذه الصورة بشكلها الفاعل والقوي في الانتخابات
العامة العراقية لسنة (2005) والتي في حينها أُقحمت المرجعيات الدينية
بشكل فاعل ومهيمن في كسب وتجاذب أصوات المقترعين , والتي امتدت
تأثيراتها الدعائية إلى إلزام المقترعين بالتصويت لقائمة معينة دون
غيرها , والا فأن مصير مَنْ لا يشاركوا ولا ينتخبوا تلك القائمة الويل
والثبور في الدنيا والآخرة .
المرجعيات الدينية ولاية الفقيه:
المثل الأخر الواضح قد تجسد عند الجارة الشرقية للعراق , الجمهورية
الإسلامية الإيرانية , فان مرجعياتها الدينية طرحت مشروعها في الحكم
على انه الممثل الشرعي لهذا المصدر الغيبي على الأرض وحسمت أمرها
باتخاذ منهج ولاية الفقيه في الحكم والسلطة, لذلك كان الاندماج كاملا
وطبيعيا ً بين السلطتين الدينية والسياسية في آلية نظام الحكم , وهذا
ما أفرزته بالفعل التجربة الإيرانية على مدى أكثر من عقدين من الزمان
والى يومنا هذا . فإيران دولة إسلامية ومضمون الحكم والسلطة فيها ديني
وتعتبر إن الدين أساسا شاملا لجميع ميادين الحياة , وتكون السلطة
الدينية فيها مستوعبة للسلطة السياسية . أما في العراق على ما يبدو ليس
هناك من عامل ٍ حاسم ونهائي لحل الإشكالية المزمنة, وذلك لعدة أسباب
منها طبيعة الحوزات الدينية في العراق ,
والتي يتراوح اعتقادها وعملها بين التصدي الفعلي والكامل لمشروع
السلطة وتحكيم الإسلام وحل الإشكالية ضمن هذا التصور , وكان رائد هذا
التوجه الإسلامي الشهيد المرجع آية الله السيد محمد باقر الصدر( رض ),
والتحق به بنفس المنهج والخط والريادة الشهيد المرجع آية الله السيد
محمد محمد صادق الصد( رض ) .
أما التصور والاعتقاد الأخر لبعض المرجعيات التي تفضل الانكماش
والابتعاد عن السلطة بكل مفرداتها والاكتفاء بالشكل النظري للإسلام عن
طريق النصح والإرشاد تارة والسكوت تارة أخرى . وهذا يدلنا على إن
الطرفين قد تلمسا الشكل الواضح لمصدر السلطة بكامل أبعاده , بالرغم من
الاختلاف في الطريقة والمنهج عند بعضهم البعض الأخر, و كذلك الاختلاف
عند معظم الاتجاهات والديانات الأخرى , و يبقى السؤال المهم والعالق ,
هل هناك من اتفاق على مرجعية دينية واحدة بين كل هذه الاتجاهات
والديانات على من يتولى هذه السلطة من بني الإنسان ؟ وما هي تلك
المعايير والمواصفات لذلك الإنسان الممثل لهذه السلطة على الأرض,
وماهية هذه السلطة ؟ و ما هي الطريقة والكيفية التي تنتقل بها السلطة
إلى الإنسان ؟ وما هي الفترة الزمنية التي يحق للإنسان فيها الاستمرار
بالسلطة ؟ وهناك أسئلة وتفاصيل تطول وتطول في هذا الخصوص وتمتد إلى
مالا نهاية , وهذا مما لا غرض لنا في بحثه الآن.
فلسفة ومصدر السلطة عند اللاديني :
أما الفريق الثاني اللاديني العلماني فمصدر السلطة السياسية عنده
يتحدد في عالم الإنسان من دون النظر إلى ما فوق هذا الإنسان . وهذا
الإنسان لا يحتاج بالضرورة إلى بحث ميتافيزيقي خارج عالمه . لان السلطة
السياسية كما يقول أصحاب هذا الرأي سلطة دنيوية من ألفها إلى يائها, إذ
إن مصدرها لا يتعدى طبيعة الوجود الاجتماعي , وغايتها لا تتعدى الشرط
الاجتماعي لسعادة الإنسان في الدنيا . وبهذه النظرة الفلسفية استطاع
الإنسان أن يخترق التصور المهيمن على نطاق الأطر الحياتية على الصعيد
السياسي والتي كان يعتقد الإنسان حينها ,إنها مقدرة له من قبل نظام
الخلق والتكوين , وكان الطابع القدري المحتوم هو المسيطر على عقلية
صناعة الفكر السياسي للسلطة , وبعد انهيار النظام الكنسي في عصر
التنوير بدأت التحولات الجديدة في الغرب و بدء التحرر من القيود
والأغلال الفكرية القديمة و بناء المنظومة السياسية الجديدة بعيدا ً عن
الميتافيزيقية للفكر الكنسي وبعيدا ً عن أرباب الكنيسة وثيابها المقدسة
. و إن هذا الفريق وهذه الفلسفة جعلت من الإنسان مركزا ً للخليقة
ومصدرا ً للتشريع وغاية ً للتطور.
الـنــتيـجـــة :
لقد هدفنا من خلال هذا البحث , طرح اغلب السبل المؤدية إلى فهم
الإشكالية بطبيعتها المعقدة والشائكة , وحاولنا بكل جهد أن نفكك هذه
الظاهرة لإعادة تركيبها , والقينا نظرة فاحصة حول أهم المقومات
والمبررات لوجود السلطة السياسية في الفكر الإسلامي, اخذين بنظر
الاعتبار الخصائص العامة للدين كظاهرة تاريخية , وكذلك التداخل بين
الدين والسياسة ضمن التركيبية الاجتماعية والثقافية لكل مجتمع .
وبعبارة أخرى إن فض الاشتباك الحاصل بين الدين والسياسة , من خلال
التطور المنطقي في فهم التحولات الكبرى بكافة محاور الحياة العلمية
والاقتصادية والاجتماعية والسياسية .
وتعرضنا بالشرح والتفصيل لتيارين تجاذبا التصدي بين القبول والرفض
للدين في بناء السلطة السياسية بين دولة القانون ودولة الفتوى . ثم بعد
ذلك مررنا بشيء من التفصيل على بعض الرؤى في وظيفة كل من الدين
والسياسة , والكيفية والطريقة التي يفترق فيها الدين عن السياسية
لاعتقاد وظن هذا الفريق بان الدين استخدمه السياسيون لخداع الشعوب
وتبرير المظالم وغصب الحقوق , وبين الفريق الأخر الذي يعتقد إن السياسة
تقوم على مبادئ وأصول إنسانية محورها الدين, وان السياسة التي تخضع
لإرادة الدين لا يكون الحكم هدفا بعينه وإنما وسيلة لتحقيق غايات كبرى
وسامية لأنها تسعى لمجتمع متكامل . وتابعنا الحديث عن التلازم بين وجود
الدولة ودعوة الإسلام لتطبيق شرع الله بحيث لا يمكن الفصل بينهما في
التصور الإسلامي . وختام البحث كان التعرض بشيء من التفصيل لمصدر
السلطة عند الطرفيين .
قراءة في كتاب: الدين والسياسة
والعلمانية(9)
الكتاب: الدين والسياسة والعلمانية
المؤلف: د. متعب مناف
الناشر: مركز المستقبل للدراسات والبحوث
عدد الصفحات: 140 قطع متوسط
موضوعة الدين والعلمانية والسياسة هذه المصفوقة هي من اكثر المواضيع
التي اثارت جدلا ولا زالت تثيره في الاوساط الثقافية وحتى الشعبية، وهي
منطوية على مفاهيم ادت وتؤدي الى الاشكالية الفكرية في انسجامها
وترجيحاتها وكأنها مضادات لبعضها البعض، فقد تشكل مفهومها كوحدة غير
متجانسة لايمكن ان تسير في عملية واحدة إلا ان تتشظى ويبقى الاختيار هو
اصطفاء واحدة لتكون المذهب الذي ينّسق الحياة السياسية.
فأما ان يكون الدين هو الحاكم للامور او العلمانية، وطبقا للتجربة
الغربية التي اندفعت بخطوات متسارعة في التطور الاقتصادي والتكنولوجي
والتقني فان العلمانية التي كانت مذهبه وهي السبب الذي ادى الى هذا
التطور قد اثرت على كثير من العلماء والمفكرين وولدت لديهم
قناعات شبه باتة في ان الدين لا يعدو كونه معرقلا من المعرقلات
الكبيرة التي تقف عثرة كأداء في طريق التطور، ويكون لزاما على الاقل
فصل الدين عن السياسة، واعتبار الدين مذهب فرداني يرتبط به الشخص ذاتيا
دون ان يتدخل وفق نظرته الدينية في الموقف السياسي أي لا ينسحب المعتقد
على القرار السياسي.
وطبعا هذه الرؤية لا تمس الجانب العقائدي او الثقافي الديني بل
تعترف بالكيانات الدينية وبكل ما يلحق بها من فعاليات، بمعنى صيانة
كياناتها وتمكينها من تأدية الرسالة الاخلاقية.
ولا يقتصر الامر على مؤسسة دينية بعينها وانما يتطلب الامر رعاية
جميع المؤسسات الدينية على تنوعها.
ونخلص الى ان الدولة العلمانية انما تكون حاوية وراعية لكنها ليس
بالضرورة منتمية لمن ترعاه، فانها كما تحافظ على استقلالية الدين عن
الدولة وتحجيمه بالمقابل فالدولة لها مربعها الخاص الذي تتفاعل به
بمنأى عن الدين حتى وان اتخذت عنوانها او في دستورها الصفة الدينية.
من جهتهم المؤمنون يرون بان الدين هو المؤهل لأن يلعب الدور الفعال
في الدولة والسياسة يقفون ضمن التيار المعاكس للتوجهات العلمانية،
ولكنهم ليس بالحّدة نفسها وانما يبدون المرونة في انهم ياخذون من
العلمانية كثير من المفاهيم كالديمقراطية .. الانتخابات .. المجالس
النيابية ..الخ.
فيما يعتبر العلمانيون هذه المرونة عملا تكتيكيا يمتص القناعات
المتزايدة في تأييد العلمانية.
فاذن تكون الاشكالية كبيرة ومعقدة وتحتمل كما هائلا من الطروحات
المتنوعة في هذا السجال الفكري حول الدين والسياسة والعلمانية.
يقول الدكتور عامر حسن الفياض: ان المطالبة بمقبولية التجوهر
السياسي العام للمرجعية وعدم مقبولية التبرقع بالدين عند السياسي، هي
دعوة للتمايز الوظيفي بين الديني والسياسي، وهذا التمايز لا يقر ولا
يعني الفصل والقطيعة بين الدين والسياسة، ولا يقر ولا يعني الدمج
والتماهي بين وظائفهما، إنما يقر ويعني فقط رفع ومنع التدخل القائم على
الهيمنة المتبادلة بينهما .. فلا السياسي يهيمن على وظيفة الديني ولا
الديني يهيمن على وظيفة السياسي، لأن كل طرف يدرك وظائفه وتكاليفه التي
ينبغي عليه تأديتها دون التهيمن من احدهما على وظائف وتكاليف الآخر.
والدراسة التي بين ايدينا الآن للدكتور متعب مناف، تخصصت في هذه
الاشكالية بطرحها القضية بصيغتها العلمية العقلانية استنادا الى
التوثيق والشرع الديني والتجربة الانسانية واستلال التجربة العلمانية
من تأريخها الخاص التي نمت من ترابه، إضافة الى دراسة النمو المذهبي في
الفكر الاسلامي وكيفية تحصله على الادارة السياسية بصورة طبيعية وبصورة
غير مباشرة، أي دون الدخول بصراع مباشر وهو الامر الذي سلكته مرجعية
النجف العراقي الاشرف على مدى تاريخها الديني.
كذلك تسّيد الاصوليين للمسار التنويري الإحيائي النجفي وتقوية سلطة
حملة المعرفة الدينية الفكرية التي تحولت الى اكاديميات إسلامية، سميت
بالحوزات العلمية وهي المؤسسات العرفانية التي من خلالها تمر سلطة
المجتهدين.
والبحث الذي يباشره الدكتور متعب مناف انما هو تنوير لحالة احيائية
الارتباط بين الدين والسياسة في الاسلام بالمعنى الاعم المتعدي لسلوك
الإنسان الى المجتمع السياسي أي السلطة الحاكمة، كمحرك فكري تجديدي
ومواجهة عقلانية فاعلة وليست تبريرية في السياق الاحتوائي للعلاقة بين
الدين والعلمانية.
وقد احتوى الكتاب على 21 مبحث منها:
1ـ النجف ودورها في ابراز الصلة بين الدين والسياسة.
2ـ الأصوليون والمجتمع الشيعي في العراق.
3ـ الفقه الامامي والحالة العراقية.
4ـ العلمانية مفهوما وواقعا سياسي او اجتماعي.
5ـ نحن والعلمانية.
6ـ الحوزات في الافتاء للحياة والسياسة.
7ـ الدين، الحوزة، العلمانية، العولمة.
8ـ صراع الحضارات.
وقد اشتمل البحث عدة مواضيع اخرى غنية بذاتها، بما فيها من
استدلالات وتحليل.
ونجتزئ منها:
لقد ركزت غاية جهود الفقه الإمامي على حل إشكالية، تتخذ غاية في
الاهمية هي:
ان الشرع الهي، أما عمل الشورى فينحصر في إمكانية تأثره في الادارة
السياسية، إلا التشريع الذي هو خارج عن إطار الرغبات والمتطلبات
والمصالح.
اذن فان هناك ثابت هو شرعة الله التي فوق كل اعتبار لإنها تتجاوز
الشورى وديمقراطية الراهن. والحل الفقهي الجعفري تولي المعصوم السلطة،
عندها يمكن ان يكون العدل كاملا.
إلا ان في غياب المعصوم لا يمكن ان تترك الساحة السياسية من رأس
مدبر وضياع الفاصل والفيصل من الامور. ولذا فإن الفقه الجعفري حاول سد
هذا الفراغ إنتظارا لظهور الامام المنتظر(عج).
واكد العلامة النائيني على دولة لها سلطان مقيد بدستور، مع حضور
الفقهاء، للحفاظ على سير السلطة والرقابة على عدم خروج السلطان على
تكليف الامة وتجاوزها بالفعل تحقيقا لإنفراده بالسلطة.
لقد بدأت الحوزات الجمع بين تدريس فقهها وإعداد طلبتها وفق آلية
التدريس الحوزوية التي تجمع بين المقدمات والسطوح وبحث الخارج وبين
الانشغال بالقضايا ذات الشان العام ـ السياسة ـ التي اخذت إيقاع العصر
وتأثره وخصوصا عندما وجد نفسه مطالب بالدخول هذه الساحة المتحركة
وتقديم الحلول للامة في السياسة بالذات وفق المفردات المستوردة للثقافة
السياسية الاوربية الغربية التي قامت على التباعد بين السياسة والديانة
او بين الدين والدولة ـ العلمانية ـ .
والكتاب اخيرا جهد متميز في الفكر العراقي الرصين من لدن مؤلفه
الدكتور متعب مناف.
وهو من الكتب الضرورية التي درست بتفصيل هذه القضية الخطيرة.
مصادر القهر بين الدين والسياسة(10)
القهر سمة العصر وأحد أسباب الضيق في الوجدان العربي المعاصر. قد
يشعر الفرد بأنه مقهور، أو تحس الجماعة بأنها مقهورة. ويعاني الشعب
أولاً لأنه مقهور. وقد كتب كثير من علماء النفس والاجتماع العرب عن
"سيكولوجية الإنسان المقهور"، وعن مصادر القهر الديني والسياسي
والاجتماعي والتاريخي.
القهر بنية بصرف النظر عن تجلياتها في السلوك الإنساني وفي الحياة
العامة. هي بنية تقوم على التسلط. ويعني التسلط تحديد العلاقة بين
طرفين معينين، بغض النظر عن شرعية ذلك، على نحو رأسي، بين الأعلى
والأدنى، وليس على نحو أفقي بين الأمام والخلف. فالقمة أعلى من
القاعدة، والإرادة الشاملة أقوى من الإرادات الفردية بل وتجبُّها. هو
التصور الهرمي للعالم. وما دام هرمياً، فليس غريباً أن يبدعه قديماً
فرعون ليجعله رمزاً للحياة وللممات. فهو "الإله"- الفرعون رمز القهر
الديني والقهر السياسي. فالطغيان قد يولد نفاق البعض للتعايش وتجنب
البطش. كما قد يؤدي إلى شهادة البعض الآخر لمقاومة البطش دفاعاً عن
العدل ضد الظلم. وليس غريباً أن ينشأ القهر في مصر القديمة، بالرغم من
شكاوى الفلاح الفصيح، وثورة ابن الهمام في صعيد مصر، وثورة الفلاحين،
وثورة 1919، وثورة يوليو، والهبَّات الشعبية بين الحين والآخر
والمظاهرات العارمة في لحظات الخطر والمساس بالكرامة الوطنية.
ومصادر القهر متنوعة، الأول، الدين في فهمه المغلوط، كما يعرضه بعض
المحسوبين على رجال الدين دفاعاً عن مناصبهم "المزوَّرة" كما يقول
الكندي. وطالما تعاون بعض رجال الدين مع رجال السياسة عبر العصور.
وطالما تعاونت الكنيسة مع الدولة، والبابا مع الإمبراطور، وعلماء
الأزهر مع رجالات الحكم باستثناء القليل. وأفرزت عقائد القدَرية
السلبية التي ينقدها جمال الدين الأفغاني دفاعاً عن الحرية والمسؤولية
بعد أن تحولت إلى ثقافة شعبية كما تبدو في الأمثال العامية "المكتوب ما
منوش مهروب"، "المتعوس متعوس ولو علَّقوا على راسه فانوس"، "يا متعوس
غير رزقك ما تحوش"، "العين صابتني ورب العرش نجَّاني" إلى آخر الأمثال
التي درسها أحد علماء الاجتماع في مصر في "هتاف الصامتين" و"رسائل
الإمام الشافعي". ولا تقوم ثورة إلا إذا تخلى الشعب عن هذا المسلك كما
حدث قبيل الثورة الفرنسية بفضل فلاسف التنوير.
والثاني، السياسة كما تبدو في النظم التسلطية مثل النازية والفاشية
والنظم الشمولية. وهو ما سماه ابن رشد في "الضروري في السياسة"،
"وحدانية التسلط" أي الذي يقرر الصواب والخطأ، ويضع السياسات بناء على
عبقريته أو إلهامه الخاص في الحرب والسلام، والاشتراكية والرأسمالية،
والاعتماد على الشرق أو الغرب. هو وحده كامل الأوصاف لا بديل عنه. يحكم
عن طريق أجهزة الأمن والشرطة والإعلام. لذلك تشتد الدعوات للحرية
والديمقراطية وينتهي حكم الفرد بالليبرالية البرلمانية.
والثالث، المجتمع. وهو قهر العادات الاجتماعية وقهر أب الأسرة،
والأخ الكبير والأم أحياناً والمدرِّس والناظر والفتوة والشجيع. ومن
يخرج على التقاليد يتهم بالعقوق والانحراف. وإذا كان ما خرج عنه
معتقدات شعبية فسرعان ما يتهم بالكفر والإلحاد والردة، جزاؤه الموت
والتفريق، وعدم التوريث أو الدفن في مقابر المسلمين أي أنه "موت وخراب
ديار". لذلك قامت كل الحركات الإبداعية في الفن والأدب بتجاوز التقاليد
والعرف للتحول من القديم إلى الجديد، ومن الاتباع إلى الإبداع.
والرابع، التاريخ وتقليد القديم والتمسك بالماضي وممارسة العادات
دون نقد أو تمحيص. مع أن القرآن يدعو إلى المشاركة في حركة التاريخ
والاختيار بين التقدم والتأخر، كما يدعو إلى التنافس في الخير،
فالتاريخ له ثقله في الوعي الشعبي. يعيش الماضي في الحاضر، والسلف في
الخلف. فتنشأ الحركات الراديكالية التي تطالب بالعودة إلى الماضي بعد
أن انسد الطريق أمامها. وعجزت عن الخروج من توقف الحاضر إلى حركة
المستقبل. وهو ما يحدث الآن في هروب الحركة الراديكالية الدينية إلى
الماضي وهروب الحركة العلمانية إلى المستقبل. وكلاهما عجز عن الدخول في
أتون الحاضر. والأهم هو القهر الديني وتعاونه مع القهر السياسي والقهر
الاجتماعي والقهر التاريخي. فالقهر الديني هو الأساس أي قهر الروح باسم
الإيمان والطاعة، مستغلة القهر السياسي لأن أفضل وسيلة لطاعة السلطة
السياسية هي السلطة الدينية. حدث ذلك في الغرب في العصر الوسيط عندما
استعمل القهر الديني القهر السياسي، وسيطرت الكنيسة على الدولة، وقام
البابا بطرد الملوك من الرحمة الإلهية إذا ما عصوه. تعاونت السلطتان
على الدفاع عن الإقطاع، أراضي الكنيسة وأراضي الدولة، ضد ثورات
الفلاحين كما حدث في ألمانيا في القرن السادس عشر بقيادة "توماس مونزر"
الراهب البروتستانتي. واستعمل الملوك الأحْبار في بني إسرائيل.
واستعملت بعض النظم السياسية في الوطن العربي المؤسسات الدينية لتبرير
سياسات هذه النظم. فإذا ما قويت الدولة استعملت الكنيسة لمد سلطانها في
الداخل والخارج في قبول النظام الإمبراطوري، واستعمار الشعوب في
أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية باسم التبشير.
ويأخذ النظام صفاته من الدين. ثم يسمع ويبصر عن طريق أجهزة
المخابرات العامة والبوليس السري وأدوات التجسس والتصنت وانتهاك
الحرمات.
وفي كلتا الحالتين، الشعب هو الخاسر، وهو مصدر السلطات. والفرد في
المجتمع هو الضائع بفقدان حرياته الفردية. ومن تراكم القهر الديني قد
تنشأ بعض حركات الإلحاد في حده الأقصى، أو العلمانية في حدها الأدنى
للفصل بين السلطتين الدينية والسياسية، بين الكنيسة والدولة. كما تنشأ
حركات ليبرالية تدافع عن حرية الفرد والجماعة، أو فوضوية تكفر بالدول
والأنظمة السياسية والطبقة وكل مظاهر القهر الديني والسياسي والاجتماعي
والتاريخي دفاعاً عن الفرد كما فعل "شترنر" في "الواحد وصفاته". وبدلاً
من أن يتوقف التاريخ تحدث الثورات فيه وتقع الانكسارات في مساره
المتصل. فالتاريخ قصة الحرية عند "كروتشه".
مازال القهر هو البنية الغالبة على الوجدان العربي. وانغرست فيه
محرمات ثلاثة: الدين والسلطة والجنس، الثالوث المحرَّم. لعبة الدين
والسياسة والجنس وراء كثير من الصراعات البرلمانية و أباطرة الإعلام
والقنوات الفضائية والصحافة السوداء، صراعاً على السلطة، والقهر باقٍ.
قنوات ثلاث يغذي بعضها بعضاً. لا يحدث تحرر سياسي إلا بعد تحرر الدين
من التأويلات المغلوطة. تحرر الروح سابق على تحرر البدن. وتحرر الذهن
قبل تحرر السجن. وتحرر القلب قبل تحرر العقل.
الدين والسياسية وآفاق التحوّل في
الوطن العربي(11)
حاولت الندوة تحرير إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة في إطارها
الفكري، واستكشاف العلاقة والترابط بينهما في إطاريها النظري
والتطبيقي، حيث أنها تمثّل ضرورة هامة في مستقبل الحياة السياسية في
المجتمع العربي.
أكد المشاركون* على أن جدلية الدين والسياسة ليست مقصورة على الوطن
العربي وإنما تمثل كذلك إشكالية عامة في المجتمعات المختلفة، حيث تبدو
جلية في ثقافة الإقصاء التي تمارسها السلطة السياسية أو المعارضة على
حدٍ سواء، فالسلطة ترى حقها في التدخل في الشؤون الدينية بل وتوظيفها
لصالح خطابها السياسي وتمنع المعارضة من هذا الحق، والتي بدورها تحارب
أو تعارض السلطة باسم الدين أو من أجله، بل إن أساس الجدلية الحقيقي هو
الصراع على السلطة والحكم وليس المقاربات العلمية المنهجية، ومن ذلك أن
العلاقة بين الدين والدولة في الوطن العربي تبدو مشكلة أمنية أكثر من
كونها ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية.
ومن الواضح عبر التاريخ الإنساني أن الإنسان متدين بطبعه كما هو
مدني بطبعه، ولا بدّ لهذا الدين من دور في حياته، غير أن التناول
النظري والفلسفي ينتقل بشكل سريع نحو تناول التطبيق العملي قبل إنضاج
الأول أو حتى الثاني، ويمكن القول أن الخوف مما يسمى "الإسلام السياسي"
من مختلف الأطياف والتوجهات السياسية المغايرة ينبع في معظمه من الخوف
من الآخر أو من التغيير أساساً، فضلاً عن الخلط بين مصدر السلطة
(الأمة) ومصدر النظام القانوني (الدين)، يضاف إلى كل هذا مشكلة القياس
على التجارب الأخرى الجزئية أو المشوّهة على حدٍ سواء.
و نظام الحكم الإسلامي التي تنشده الحركات الإسلامية السياسية مدني
ومرجعيته إسلامية, حيث لا يوجد لدى هذه الحركات صيغة لهذا النظام، فليس
هناك رفض لدى حركات الإسلام السياسي لأي صيغة حكم يتوافق عليها
المجتمع، وتعتبر الشريعة الإسلامية هي المرجع ولا تناقضها القوانين.
وخلصت الندوة إلى طرح مجموعة من الرؤى والأفكار لحماية التجربة
السياسية العربية بغض النظر عن التيار الذي يحكم أو يعارض، ومن أبرزها
التوقف عن نزع شرعية الآخر حتى لا يقود ذلك إلى الصدام الذي طبع
التجربة العربية منذ عقود، إضافة إلى التوقف عن نفي الآخر من حيث
الانتماء أو الوطنية من خلال الاحتكام إلى المواقف والسلوك والأداء،
وكذلك منح العلماء والمفكرين والمثقفين فرصة ممارسة دورهم الإيجابي في
الإقناع والتغيير والتأثير، كل هذا في سبيل الوصول إلى حالة من الحوار
والتكامل والتعاون من أجل مصلحة الوطن العربي وقضاياه الأساسية.
* المشاركون: الدكتور أحمد البرصان رئيس قسم الدراسات الاستراتيجية
في جامعة الحسين بن طلال، الأستاذ زكي بني ارشيد أمين عام حزب جبهة
العمل الإسلامي، الدكتور عامر الحافي أستاذ الأديان في جامعة آل البيت،
الدكتور غازي ربابعة أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأردنية،
الدكتور غسان عبدالخالق أستاذ الاجتماع في جامعة فيلادلفيا، الأستاذ
الدكتور محمود الرشدان أستاذ التربية في جامعة الزرقاء الأهلية،
الأستاذ جواد الحمد مدير مركز دراسات الشرق الأوسط.
اشكالية العلاقة بين الدين والسياسة في الدولة العراقية
المعاصرة(12)
سجلت اشكالية العلاقة بين الدولة والسياسة حضورا مكثفا في الدولة
العراقية المعاصرة منذ السنوات الاولي في تاريخها الحديث . وقد ارتبطت
هذه العلاقة بنحو عضوي مباشر بالدور الكبير الذي اضطلع به المجتهدون
وعلماء الدين في الحياة السياسية للمجتمع العراقي المعاصر ابتداء من
مواجهة الاحتلال البريطاني للعراق اثناء الحرب العالمية الاولي وليس
انتهاء بالمواجهة السياسية والعسكرية الساخنة والمستمرة حتي هذه اللحظة
بين النظام العراقي الحاكم وبين التيار الاسلامي الذي يقوده بنحو اساسي
علماء الدين والمثقفون الاسلاميون.
سجل الدور المميز لعلماء الدين في الحياة السياسية للمجتمع العراقي
المعاصر حضوره الكثيف مع وصول طلائع القوات البريطانية الغازية الاراضي
العراقية الجنوبية في عام 1915 في سياق الحرب العالمية الاولي بين
الدولة العثمانية الاسلامية التي كان العراق احدي ولاياتها وبين الدول
الاوروبية الغازية ومنها بريطانيا العظمي انذاك.
فمع وصول اول جندي في الجيوش البريطانية الغازية كانت فتاوي
المجتهدين وعلماء الدين في النجف وكربلاء وسامراء والكاظمية، وهي حواضر
القيادات الاسلامية في العراق، صريحة وقاطعة وحاسمة وقاضية بوجوب
التصدي للغازي الكافر والدفاع عن بيضة الاسلام ، اي الاراضي الاسلامية
العراقية . ولم يتاثر هذا الموقف الاسلامي الشرعي بحقيقة ان العلماء
الذين صاغوه هم من المجتهدين الشيعة في حين ان الدولة الحاكمة انذاك
وهي الدولة الاسلامية العثمانية كانت علي مذهب السنة.
ذلك ان اجماع مجتهدي الشيعة المسلمين كان علي الدوام قاضيا بوجوب
الدفاع عن الاسلام وحرمة اراضيه بغض النظر عن مذهب الدولة الحاكمة .
ولم يكتف موقف العلماء المجتهدين باصدار فتاوي الجهاد بل شارك بعضهم
مشاركة فعالة في الجهد العسكري الميداني الذي تصدي للقوات البريطانية
الغازية.
وحين نجحت القوات البريطانية في احكام قبضتها علي غالبية الاراضي
العراقية واخضعتها لسلطتها العسكرية والادارية المباشرة لم ييأس
العلماء المجتهدون ولم يستسلموا بل واصلوا تحريض جماهير الشعب العراقي
في المدن والارياف والعشائر علي مقاومة الاحتلال والثورة عليه. وقد
اسفر هذا التحريض عن اندلاع الثورة العراقية الكبري في شهر حزيران
(يونيو) من عام 1920 والمعروفة باسم ثورة العشرين. وقد كانت شعارات هذه
الثورة واضحة وقاطعة وتلخصت بتحرير العراق من سلطة الاحتلال واقامة
حكومة اسلامية عراقية بقيادة ملك عربي مقيد بدستور ومجلس نيابي. وكانت
القيادة العليا لهذه الثورة معقودة بلا منافس لعلماء الدين المجتهدين
ويليهم في القيادة والتأثير والنفوذ رؤساء العشائر العراقية الذين
كانوا يدينون بالولاء والطاعة والانقياد لعلماء الدين المجتهدين خاصة
في النجف والكاظمية.
والي هذه الفترة لم يكن دور علماء الدين وتدخلهم في الشؤون السياسية
وبالتالي العلاقة بين الدين والسياسة موضع تساؤل او نقاش في الاوساط
الشعبية والسياسية والثقافية فضلا عن العشائر. فقد كان من المسلم به ان
علماء الدين هم رؤساء الدين وزعماء المجتمع وقادته. وكانت سلطتهم تستمد
نفوذها الحاسم بين الناس من علاقة التقليد بين المسلم العادي والمجتهد
باحكام الشريعة الاسلامية. وهذه العلاقة تعطي المجتهد سلطة شرعية علي
"المكلف"، اي المسلم العادي، لا يجوز له ان يتحداها او يخرج عليها.
وجوهر هذه السلطة هو الامتثال الطوعي لاوامر الفقيه المجتهد واحكامه
سواء في الشؤون الدينية او الشؤون السياسية، علما بان الاخيرة كانت
تطرح في فتاوي الفقهاء والمجتهدين في اطار الاولي الامر الذي يجعل
الديني سياسة والسياسي دينا. ونجد هذا التداخل في نصوص فتاوي المجتهدين
مثل فتوي الامام ابو الحسن الموسوي الاصفهاني حول المشاركة في انتخابات
المجلس التاسيسي الذي كانت الحكومة العراقية عازمة علي اجرائها، والتي
جاء فيها:"نعم قد صدر منا تحريم الانتخاب في الوقت الحاضر لما هو غير
خفي علي كل باد وحاضر فمن دخل فيه او ساعد عليه فهو كمن حارب الله
ورسوله واولياءه . وهي عبارة تكررت في فتاوي مشابهة للشيخ الامام محمد
حسين النائيني والامام محمد مهدي الخالصي . وقد صدرت كلها في 5 تشرين
الثاني (اكتوبر) عام 1922.
لقد كان يشار الي المجتهد بعبارة الحاكم الشرعي ، وكانت هذه العبارة
تمنح الفقهاء موقعا قياديا في حياة الفرد والمجتمع . ولم يكن هذا الدور
محصورا في الامور الشخصية للفرد وانما اتسع ليشمل كل شؤونه الفردية
والاجتماعية وفي المركز منها قضايا الدولة والسياسة خاصة وان هذا الفرد
وذلك المجتمع كانا يتحركان بقيادة العلماء في واجهة قوات اجنبية وسلطة
محتلة وحكومة محلية هي من صنع تلك السلطة . وبقي الفقيه يمارس دور
الحاكم الشرعي حتي مع وجود سلطة الدولة العثمانية ولكن علي نطاق ضيق.
لكن مع انهيار هذه السلطة وانسحابها من العراق لم تعد هناك سلطة يعترف
الناس والفقهاء بأي نوع من الشرعية لها. وهذا ينطبق بنحو كامل علي سلطة
للاحتلال ثم علي السلطة المحلية التي اقامتها سلطة الاحتلال ثم ينسحب
هذا الانطباق علي السلطة المحلية التي اقامتها سلطة الاحتلال والمتمثلة
في الحكومة العراقية الاولي التي شكلها المندوب السامي لسلطة الاحتلال
برئاسة عبد الرحمن النقيب في 25 تشرين الاول اكتوبر عام 1920.
ومع ان التناقض الرئيسي كان بين الموقع القيادي للفقهاء والمجتهدين
من جهة وبين سلطة الاحتلال التي يمثلها المندوب السامي من جهة اخري الا
ان السلطة المحلية ايضا كانت تشعر بان سلطة الفقهاء ودورهم القيادي
تشكل تحديا اساسيا لسلطتها ونفوذها. خاصة وان الفقهاء تصدوا لمشاريع
الحكومة المحلية وعلي راس ذلك انتخابات المجلس التأسيسي واعتبروا ان
المشاركة في هذه الانتخابات والفعاليات امر مخالف للاسلام.
لقد عمل الفقهاء علي عزل الحكومة المحلية عن المجتمع عبر الفتوي
بحرمة الانخراط فيها وفي فعالياتها وانشطتها وتحريم المساهمة في
نشاطاتها ومشاريعها السياسية. واثر هذا علي فعالية هذه الحكومة
وصدقيتها في تمثيل الشعب العراقي وفي التعبير عن مصالحه الحيوية وكشف
عن كونها دمية تتستر وراءها سلطة الاحتلال وتحركها من وراء ستار لكنه
ستار غير كثيف، بما يخدم مصالح الاحتلال ويخدم السياسة البريطانية في
العراق.
ولم تكن سلطة الاحتلال السلطة المحلية لتخلو من مؤيدين ومناصرين.
فقد اخذت تتشكل بمرور الزمن ولكن بسرعة ملفتة للنظر نخبة سياسية ساندت
الاحتلال وسلطته المحلية وتعاونت معهما وشكلت ظهيره المحلي في مواجهة
الفقهاء والمجتهدين ومن ورائهم عامة الشعب خاصة ابناء العشائر العربية
ومثقفو المدن الذين التفوا حول اولئك الفقهاء والمجتهدين. وكانت هذه
النخبة التغريبية التي سوف ترتبط مصالحها بمصالح الاحتلال وسلطته
المحلية تضم اسماء لامعة مثل طالب النقيب والشاعر جميل صدقي الزهاوي
والشيخ خزعل ومزاحم الباجه جي الذي القي خطبة ذم فيها ثورة العشرين
ووصفها بحماقات الافراد العرب وادعي ان فيها عنصرا اجنبيا وهي اشارة
مبكرة الي علماء الدين الذين قادوا الثورة وحرضوا عليها. وكان عبد
الرحمن النقيب الذي اصبح اول رئيس للوزراء في ظل الاحتلال يمقت الثورة
والثوار والمجتهدين الذين ايدوا الثورة.
ومن اجل مواجهة النفوذ المتزايد والمزعج لعلماء الدين عمد الاحتلال
البريطاني ومعه النخبة السياسية التغريبية المتعاونة معه والمؤيدة له
الي استخدام عدة اسلحة منها اثارة الدعوة الي فصل الدين عن السياسة
وبالتالي منع علماء الدين من التدخل في الشؤون السياسية واثارة الدعوة
القومية العربية في مواجهة الدعوة الاسلامية واتهام علماء الدين
والمجتهدين بأنهم اجانب وغرباء عن البلد واخيرا اللجوء الي سلاح
الاعتقال والابعاد والنفي ضدهم.
لقد شكل العلماء والمجتهدون مركز الاستقطاب في مواجهة سلطات
الاحتلال البريطاني والحكومة المرتبطة به في العراق المعاصر . وقد
ادركت هذه السلطات ان الامور سوف لن تستقيم لها مالم تتصدي لهم لتأمين
انسيابية السلطة المحلية العراقية التي اقامتها في العراق تحت حراب
الاحتلال العسكري. وقد تفننت سلطات الاحتلال البريطاني والحكومة
المحلية والنخبة السياسية التغريبية في محاربة المجتهدين والعلماء
وابعادهم عن الحياة السياسية والقضاء علي نفوذهم في المجتمع العراقي.
وقد كان هذا الامر يشكل هدفا ذا اولوية قصوي اقتضت ان يشير اليه
التقرير البريطاني المقدم الي عصبة الامم المتحدة في عام 1924 بقوله ان
الحكومة العراقية تستحق التهنئة علي موقفها الصلب الذي انتهي بانتصارها
علي رجال الدين الايرانيين المشاغبين.
وقد تطلب هذا الانتصار حربا منظمة ومستميتة شنتها سلطات الاحتلال
والحكومة العراقية والنخبة السياسية التغريبية علي المجتهدين وعلماء
الدين استخدمت فيها مختلف الاسلحة والاساليب.
وكان من اوائل هذه الاساليب اثارة الدعوة الي فصل الدين عن السياسة
باعتبار ان هذا الفصل سوف يشكل عاملا مهما في سحب البساط من تحت اقدام
العلماء والمجتهدين الذين كانوا يصدرون الفتاوي الدينية في الامور
السياسية ويقودون الفعاليات والنشاطات السياسية والعسكرية والاجتماعية
علي اساس ديني بحت.
ولعل اولي بوادر هذه الدعوة تكمن في الانشقاق العشائري الذي نفذه
عدد من زعماء العشائر عام 1922 بتنسيق تفصيلي مع المندوب السامي
البريطاني كوكس . وكان من هؤلاء الزعماء كل من عداي الجريان رئيس
البوسلطان ورشيد العنيزان رئيس عشيرة اليسار وعمران الزنبور رئيس بني
عجيل وشمران الجلوب رئيس آل فتلة الهندية ومراد الخليل رئيس الجبور.
وقد اعد هؤلاء مذكرة مضادة لمؤتمر كان قد عقد انذاك بمبادرة علماء
الدين للدفاع عن العراق والعتبات المقدسة في مواجهة الغارات العسكرية
التي شنها الاخوان من الجزيرة العربية. وقد ضمن هؤلاء الزعماء مذكرتهم
احتجاجا علي تدخل علماء الدين في السياسة واعلانا بتمسكهم بالانتداب
البريطاني الذي كان علماء الدين يحملون راية محاربته والدعوة الي تحرير
العراق واقامة الدولة الملكية الدستورية المستقلة.
واستخدمت النخبة السياسية التغريبية الدعوة الي القومية العربية
كسلاح في مواجهة الدعوة الاسلامية التي كان علماء الدين يحملون لواءها.
وقد كانت هذه محاولة مبكرة للايقاع بين العروبة والاسلام لم تقم علي
اساس وجود تناقض بينهما يستدعي اختيار احدهما وطرح الثاني بقدر ما كانت
سلاحا للحد من تأثير الدعوة الاسلامية المترفعة علي الدعوات بل النعرات
القومية. وكان من شأن الدعوة الاسلامية ان تستقطب العراقيين علي اختلاف
انتماءاتهم القومية وفي مقدمتها الانتماء القومي العربي والانتماء
القومي الكردي وغيرهما من الانتماءات التي تشكل فسيفساء المجتمع
العراقي. وعلي النقيض من ذلك كانت الدعوة القومية العربية سببا لاشعار
العراقيين غير العرب بأن الدولة التي يجري العمل علي اقامتها في العراق
سوف لن تكون دولتهم بل لن تكون دولة العراقيين جميعا بقدر كونها دولة
العرب بحجة كونهم الاغلبية الساحقة في المجتمع العراقي.
ونعرف اليوم ان هذه النعرة قد تطورت علي الجانبين العربي والكردي
علي نحو سلبي قاد الي سنوات دامية من الحروب المدمرة بين الكرد
والحكومات العربية العراقية المتعاقبة في المركز.
بل ان الدعوة للقومية العربية استخدمت ايضا لحرمان العلماء
والمجتهدين الشيعة من ممارسة دورهم في الحياة العامة العراقية بحجة
كونهم ايرانيين وليسوا عراقيين عربا. وقاد هذا التوجه عبد المحسن
السعدون وزير الداخلية ورجل بريطانيا الاول في الحكومة المحلية. وكان
هذا يزعم ان المجتهدين عجم وبالتالي غرباء عن العراق وليس لهم الحق
بالتدخل في سياسة البلد اما اذا ارادوا العمل في السياسة فالواجب يقضي
عليهم ان يتجنسوا بالجنسية العراقية والا فان الحكومة يجوز لها ان
تبعدهم عن البلاد. وكانت هذه بوادر اولي لسياسة التطهير العرقي التي
مارستها حكومة عراقية قادمة هي حكومة صدام حسين التي اقدمت علي تسفير
وابعاد مئات الالاف من العراقيين بدءاً منذ اوائل السبعينيات بحجة
كونهم من التبعية الايرانية رغم انهم يمتلكون الجنسية العراقية . وقد
قنن السعدون هذا الموقف رسميا حين اصدر في 9 حزيران (يونيو) عام 1923
تعديلا لقانون العقوبات البغدادي اعطي للحكومة العراقية الحق في نفي
الاجانب بسبب الجنح التي يرتكبونها. وطبلت الصحف التي كانت تصدرها
النخبة السياسية التغريبية لهذه السياسة فكتبت صحيفة العاصمة مقالا دعت
فيه الي محاربة الدخلاء الذين لا ارتباط لهم بالعراق. وطلبت من الحكومة
ان تكف يد كل من ليس بعراقي ولا عربي عن التدخل في شؤون الامة . بل ان
الصحيفة اعتبرت في مقال لاحق ان فتوي مقاطعة الانتخاب اكبر مظهر من
مظاهر الفكرة الاعجمية تلك الفكرة الدخيلة التي لا تخلص للقومية
العربية واستقلال العراق. وطلبت الجريدة من الحكومة الضرب بشدة علي
الايدي الآثمة التي تدس السم بالدسم لتتمكن من القضاء علي القومية
العربية في ربوع العراق. ثم اصدرت الحكومة نفسها بيانا رسميا ذمت فيه
المجتهدين ووصفهم بأنهم دخلاء لا علاقة لهم بالقضية العربية ولا تهمهم
مصالح الشعب الحقيقية وانهم يختلقون اقوالا يزعمون انها مستنبطة من
الشرائع الدينية غير انهم لا يقصدون منها سوي الاخلال بسير الانتخابات
وتضليل الراي العام وعرقلة وصول الشعب الي السلطة.
ومهد هذا الموقف الارضية لخطوة اخري اقدمت علي اتخاذها الحكومة
العراقية وهي اعتقال ونفي العلماء . فقد قرر عبد المحسن السعدون اعتقال
الشيخ مهدي الخالصي الذي كان من ابرز علماء الدين الذين يتعاطون الشأن
السياسي في ذلك الوقت ومن ثم نفيه وابعاده . وكان ذلك الاجراء الاول من
نوعه الذي تتخذه السلطة المحلية بحق علماء الدين الذين ظلوا طيلة
الفترة السابقة مصونين ازاء مثل هذه الاجراءات. فقد حافظ مجتهدو النجف
وكربلاء والكاظمية علي استقلالية كاملة عن السلطات الزمنية في بغداد
خاصة في العهد العثماني المتأخر. ولم تجرؤ هذه السلطات علي اعتقالهم او
ابعادهم او اتخاذ اي اجراء اخر مماثل بحقهم. لكن خطوة عبد المحسن
السعدون فتحت الطريق امام الحكومات المتعاقبة لانتهاك استقلالية
المجتهدين وانتهاك حرمتهم الامر الذي وصل ذروته علي يد حكومة صدام حسين
التي اعتقلت وعذبت واعدمت المرجع الديني الاعلي المجتهد السيد محمد
باقر الصدر. وشجعت خطوة السعدون صحف النخبة السياسية التغريبية علي نشر
المقالات الطويلة في ذم المجتهدين بصورة غير مباشرة ووصفهم بانهم اجانب
وانهم يملكون ذهنية محدودة ويريدون هدم كيان الدولة. وكتب سلمان الشيخ
داود مقالا عنيفا قال فيه ان هؤلاء المجتهدين لم يقصدوا سوي الفت في
ساعد الحركة العربية المباركة فهم بذلك يخونون البلاد التي يتنعمون تحت
ظلها الوارف بقصد خدمة شعب اجنبي كان من اكبر عوامل القضاء علي دولة
العرب وابادة مدنيتهم الزاهرة.
اخيرا جاءت الضربة القاضية التي تلقاها المجتهدون علي يد سلطات
الاحتلال والحكومة المحلية والنخبة السياسية التغريبية وقد تمثلت في
اجبارهم علي اصدار تعهد بعدم التدخل في السياسة اي الالتزام بفصل الدين
عن السياسة. وهو الامر الذي اعتبرته الحكومة البريطانية انتصارا
للحكومة العراقية كما مر قبل قليل.
وقد تم ذلك في عام 1924 حيث قدم كبير مجتهدي النجف السيد ابو الحسن
الاصفهاني تعهدا خطيا بهذا المعني جاء ضمن رسالة وجهها الي الملك جاء
فيها: وان كنا اخذنا علي عاتقنا عدم المداخلة في الامور السياسية
والاعتزال عن كلما يطلبه العراقيون ولسنا بمسؤولين عن ذلك وانما
المسؤول عن مقتضيات الشعب وسياسته جلالتكم .
وقد اشارت هذه الرسالة وهي واحدة من اربع رسائل وقعها اضافة الي
السيد الاصفهاني كل من حسن النائيني وعبد الحسين الطباطبائي والسيد حسن
الطباطبائي الي انتهاء مرحلة مهمة من تاريخ التيار الاسلامي في العراق
وبدء مرحلة جديدة تمثلت في انحساره العام عن القضايا العامة ومسائل
الدولة والسياسة وهو انحسار سيستمر فترة طويلة تمتد الي اواخر
الخمسينيات دون ان يؤثر علي عموميته الانقطاعات التي تمثلت في موقفين
اتخذهما بعض علماء الدين الاخرين وهما:
اولا: موقف الاستمرار في التدخل في الشؤون السياسية ورفض التعهد
المشار اليه وهو موقف جسده الشيخ كاشف الغطاء والشيخ الخالصي الاب
والابن.
وثانيا: موقف التعامل الايجابي مع السلطة المحلية بدل مقاطعتها وهو
موقف مثله السيد محمد الصدر، الذي تولي رئاسة الوزراء فترة من الزمن.
الإصلاح والسلطة في لبنان بين
الديني والسياسي(13)
خرجت الدولة الحديثة من رحم العلاقة بين الدين والسياسة. هذه
العلاقة كانت حاضرة في كل مرة فتح فيها سجال التقدم والتأخر، أو كان
المجتمع يتهيّأ للدخول في طور جديد. وستبدو مسائل الإصلاح والنهضة
والتنوير التي حددت معالم الفكر السياسي الحديث، خالية من المعنى لولا
قيامها على نفي تأويلات دينية مقابلة، في ميدان العقل والتجربة والعلم،
والحصيلة السياسية التي انبثقت منها هي أن الكائن الفاعل يجسّده ذلك
الفرد الحر الذي يبني يقينه بنفسه فيستحق مركزيته المتألّهة في المعرفة
وفي الوجود... وفي السلطة.
وبقليل من المبالغة يصح القول بأنّ حداثة القرن العشرين التي قامت
على دعوى التناقض المرير مع الدين، أوجدت دياناتها الوضعيّة في قوالب
صارمة أو مرنة، فأعادت من حيث لا ترغب وبطرف خفي للدين شرعيّة سلبت
منه، بلغ ذلك ذروته في الربع الأخير من القرن المنصرم، حين بدأ الدين
خروجه المفاجئ في الشرق وإلى حد ما في الغرب، من اللاوعي الجماعي
الغائر، إلى المسرح المنظور، وهناك الآن ميل لتجديد الاعتراف بالدين
كقوة اجتماعية راسخة لا يمكن ولا يحسن تجاهلها (ريجيس دوبريه ..)، وليس
فقط كلاهوت وشريعة أو كمجرد إيمان خالص. سبقت ذلك وتلته اعترافات فكرية
كثيرة بأنّ الدين ما زال فاعلاً ورئيسيّاً في تفسير الفروق والتناقضات
الكبرى في العالم وفهمها.
ربما كان تلازم الظاهرتين، الدين والسياسة، دليلاً على وجودهما داخل
سياق تاريخي واجتماعي واحد، لا يقوم بأحدهما دون الآخر. سياق يجمع ما
بين ضرورة السلطة وضرورة فرض قيود عليها. ففي جميع الحالات التي لا
يكون فيها الدين بحد ذاته سلطة، يصبح تلقائياً مساحة حرة خالية من أي
حضور مهيمن للقوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة، وفي داخلها يتم
منع نظم العلاقات المترتبة على الإنتاج والعمران، من أن تفترس
الفردانية القصوى المعبّر عنها بالإيمان. إن من أهم ما يتسنّى للدين
إتاحته أيضاً هو توفير حصانة «متسامية» لوجود الإنسان الفاعل المستقل
في وجه السيادة «الشاملة والمتسامية» للدولة المعاصرة، حيث الصلة واهية
بين الحقوق القانونية والنظرية للفرد وحقوقه الفعلية الواقعية في خضم
عالم مشحون بالسلطات.
مفاهيم ومداخل
بيد أنّ معالجة علاقة الدين بالسياسة، تتطلب تخطّي قلق مفهومي لا
قرار له، وخروجاً من التباسات أفضت إلى قراءات غير بنّاءة.
ثمة أكثر من معنى للسياسة.. فهل هي فضاء افتراضي لتفاعل الهويات
الاجتماعية، أم مجال وظيفي لتقييدها والعبث بتركيبتها؟ هل هي قانون
اجتماعي بموجبه تغدو السلطة تعبيراً صافياً عن تطور المجتمع ونمو
غاياته، أم مؤسسة محافظة مهمتها إعاقة التقدم، عبر حبس المجتمع أطول
فترة ممكنة، داخل أقفاص بيروقراطيتها العملية والذهنية؟
ثمة أيضاً أكثر من فهم لوظيفة الدين ودوره، فهل الدين حافز للبحث عن
المعنى خارج هيمنة «خطاب السلطة»، أم مصدر إضافي للرقابة والزجر، أم
خيار فردي وجماعي يستلهم الحاجات المادية والمعنوية المتآلفة، أم تعالٍ
لاتاريخي مفارق؟...
هناك ثالثاً أكثر من مدخل لتفسير اتساع دور الدين في السياسة. يقع
تنوع الآراء هنا بين حدين: بين من يجد في هذا الاتساع انتكاسة تطور
ناجمة من نقص الجهوزية الاجتماعية لاستيعاب تسارع التقدم المادي، وما
ينتج منه من تمزق مؤلم للهويات، ومن تنابذ متزايد بين التقاليد
والحاجات المتزايدة، وبين من يرى أن الدين سبيل لا بديل منه لامتصاص
النتائج غير المرغوبة للتطور نفسه، وللإبقاء على حضور إنساني ملموس في
عالم «الأشياء» الذي يزداد قوة واتساعاً. العلاقة بين الدين والسياسة
في الفهم الأول هي علاقة ارتداد وفي الفهم الثاني علاقة حداثوية تبحث
عن ربط التطور بجذور القوى الاجتماعية المحركة، وتنظر إلى الدين خشبة
خلاص في غمرة التدفق الخطر لمنتجات الحداثة.
الدين والسياسة في لبنان والعالم العربي:
قامت الدولة العربية ما بعد الاستقلال على أساس محاولة لم تنجح
لتجاوز السؤال الحرج عن موقع الدين من الدولة، ومحل السلطة من الدين.
تسببت هذه المحاولة في تجميع أسباب الانفصال بين الهرم العلوي للسلطة
وركائزها الاجتماعية. لكن هذا الانفصال الفعلي بقي مؤجلاً لفترة من
الزمن، بسبب هبوب رياح مؤاتية استفادت منها الأنظمة القائمة طوال عقود:
التدفق الهائل للموارد النفطيّة، والزخم الحماسي والوطني للصراع مع
المشروع الصهيوني ما اعتبر مصدراً بديلاً من الشرعيّة، ووعود التنمية
والتحديث والوحدة التي جمعت تحت رايتها قوى اجتماعية مؤثرة، ناهيك
بالاستثمار الناجح في الانقسام الدولي أثناء الحرب الباردة. وقد ساهمت
هذه العوامل وغيرها في إقصاء إشكالية الدين والسياسة على الرغم من
حضورها العميق في الوجدان السياسي العربي، فتحولت إلى سؤال مكتوم
ومحرّم يحتجب تحت غلالة رقيقة من شبكات المصالح المالية والنفطية
والعصبوية والعائليّة المدعومة من الخارج غالباً، والتي سميت بشيء من
التعسف «دولة».
ومع تبدّل اتجاه الريح، وفشل دول الاستقلال في إنجاز ولو اليسير من
أهدافها، ومرور وقت كافٍ لاكتشاف عقم الرهانات الكبرى، تفتّتت أغلفة
السلطة لينكشف الفراغ الهائل في المكان الذي كان يظن كثيرون أنّه مليء
بمشروع الدولة، ولتطفو على السطح الأسئلة المحرّمة عينها. وبالتالي
المد الديني الراهن الذي يقبض على العناصر الفاعلة في العالم العربي لا
يعبّر عن انسداد الأفق السياسي كما درجت التحليلات على اعتباره، بل
ينمّ عن تعامل متأخر مع إشكاليات مؤجلة. ويشير إلى وجود رغبة شعبية
عارمة في إنتاج محرّكات جديدة للسلطة، وإيجاد نقاط ارتكاز مختلفة لنهضة
سياسية محتمة.
وبخلاف ما كانت عليه الحال في الدول العربية الأخرى، قام الاستثناء
اللبناني منذ البداية على أساس المبالغة في إشهار علاقة الدين بالدولة،
والفكرة التي تسوّغ ذلك هي أن قدراً وافياً من الإفصاح والوضوح يساعد
على نزع عناصر التأزم وتثبيت الاستقرار، في مجتمع صغير جداً قياساً إلى
شدة تنوّعه.
بحسب الميثاق الوطني الأول عام 1943، تمت صياغة إشكالية الدين
والسياسة في لبنان بطريقة تتعارض مع صياغتها التاريخية المطروحة في
العالم العربي. فالأمر لا يتعلق البتة بشكل الحكم، ولا بالهوية الجامعة
للأمة، ولا ببقايا الأسئلة العالقة منذ سقوط الخلافة العثمانية، وإنما
يرتبط بالسعي إلى استيلاد هوية وطنية جامعة، مستجمعة من هويات صغرى،
الدين هو المظهر الأوضح في تمييزها ورسم فوارق ما بينها.
ويمكن ملاحظة الأمور التالية في المرحلة الممتدة من الاستقلال إلى
ما قبل الحرب الأهلية:
ــ وجود علاقة صريحة بين الدين كهوية اجتماعية والسلطة. التعريف
الاجتماعي للدين جعل النظام السياسي في لبنان متعدد الوجوه بين علمانية
واضحة في المجال المدني الواسع للسلطات الثلاث، ونقض قروسطي لها، عبر
إقرار حقوق سياسية للطوائف تطيح المواطنية القائمة من حيث المبدأ على
تساوي الفرص.
ــ القدرة على امتصاص الصدمات الناتجة من تضارب امتيازات الطوائف،
في إطار الجسد الهلامي والمرن لكيان الدولة. هذا في الشكل، أما في
المضمون فإن ما ساعد على لجم التناقضات المحلية آنذاك وتحقيق استقرار
نسبي ومؤقت للنظام هو قيام تراتبية السلطة وتوازناتها بين المجموعات
الدينية على أساس غير متكافئ، تمثّل أساساً في وجود طائفة قائدة. لكن
مياه التغيير كانت تسير على غفلة تحت الجسور بانتظار نقاط انحدار
تحوّلها إلى مساقط هادرة.
ــ إن استتباب العلاقة بين مكونات النظام السياسي وذلك حتى نشوب
الحرب الأهلية، لم يتأتّ فقط من كوابحه الذاتية، الناشئة عن تكتيل
السلطة في بؤر طائفية واجتماعية وسياسية محددة، فقد ساعد عليه أيضاً
تجميع تلك الطوائف بمعرفة منها أو من دون معرفة داخل «ايديولوجيا
موحدة» يمثلها المشروع الاجتماعي ــ الاقتصادي ــ السياسي للنظام:
الازدهار غير المتوازن، الليبرالية النخبوية، الانفتاح على الغرب في
مقابل التحفّظ في الداخل العربي. ويمكن القول بأنه وحتى اندلاع الحرب،
جرى توظيف العصبيّة الدينيّة لحفظ التوازن الداخلي لهوية لبنان غير
المتكافئة، وليُستبعد أي مشروع آخر يحمّل الفئات الحاكمة تبعات
والتزامات تتعارض مع الاعتماد المتبادل القائم في ما بينها حصراً، وذلك
بدعوى أن الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي سيمس الاستقرار الحرج للنظام
برمته.
قُيّض لهذه الصيغة أن تصمد بالنظر إلى توافر شروط تخدم استمرارها.
فالمنطقة لم تكن قد وصلت بعد إلى البحث عن ايديولوجيا داخلية بديلة من
تلك الايديولوجيات الوافدة التي أغرقت المنطقة في دوّامتها طوال ثلاثة
عقود وعُلّقت عليها آمال عريضة في التنمية والتحرر الاجتماعي. وقد ساهم
إخفاق الصيغ التقليدية في لبنان والجوار، في تحويل الاستقطاب السياسي
إلى استقطاب عقائدي، من حيث اقتحم الدين الحياة العامة ليضيف إلى صلته
بقضايا الانتماء والهوية صلة بوضع الأهداف ورسم المسارات وتقرير
السياسات، لكنه بقي مشوباً لدى الفئات المتنازعة بميول فئوية خطيرة أدت
أحياناً إلى تبديد التراكم الوطني الذي حققه في أكثر من مكان.
تضمّن اتفاق الطائف الموقّع عام 1989، محاولة لإعادة انتاج المعادلة
عينها التي رعت العلاقة بين الدين والسياسة في لبنان، من دون أن تتحسّب
للمتغيرات، ما انطوى على مفارقتين على الأقل. الأولى هي أن اعتبار
الدين مجدداً جماعة طائفية وعصبيّة اجتماعية، يتجاهل الالتحام الحار في
المنطقة بين الدين وقضايا التحرر والمقاومة والإصلاح، من حيث لم يعد في
الإمكان العودة إلى التسوية الساكنة التي استوطنها النظام السياسي
اللبناني سابقاً، وكان من أغراضها جرّ الدين إلى أن يكون حارساً
للخصوصيات لا للتنوع.
المفارقة الثانية ضعف التماسك الايديولوجي للنظام، بسبب تراجع قوة
وحجم قاعدته الاجتماعية الاقتصادية المتمثلة في الأقلية المهيمنة على
الموارد. هذا يعني أنه فقد الإطار الذي أرسى في السابق العلاقة بين
الدين/المجتمع والسياسة/السلطة، وكفل توازناً ما بين الطوائف.
في الخلاصة...
جرى منذ الاستقلال استخدام الدين بهذه الطريقة أو تلك، لإرساء دعائم
نظام فريد في محيطه، أُريد له صون مصالح فئات ذات مصالح متشابكة
والتعامل مع مشكلة الأقليات في منطقة لا تمنحها ضمانات كافية. كان الظن
أن هذا النظام سيحظى بالديمومة نظراً إلى درجة الوضوح التي تمتع بها،
وقد صح ذلك لزمن، لكن مع مرور الوقت أخذ يتحول إلى نظام لاعقلاني يحمل
في طياته بذور تطرف من نوع خاص.
إن إعادة بناء الدولة في لبنان على سوية من الاعتدال والعدالة يتطلب
بادئ ذي بدء إصلاحاً جوهرياً وجريئاً لعلاقة الدين بالسياسة وبالحياة
العامة، تقوم على استنقاذه من التبعية للسلطة، وتجديد معنى السياسة من
حيث تنطوي على قيم الدين وتستلهم غاياته ومقاصده.
وبعدما بدا عجز «الدين» الموظف في بناء نظام استثنائي، عن توفير
استقرار دائم له، وبدا أيضاً فشل «الدين» العصبوي في صيانة اللحمة
الاجتماعية، تتعلّق الآمال اليوم على اشتقاق وظيفة سياسيّة جديدة له
مطبوعة بمبادئه وأهدافه، وذلك على أساسين: تنويري/إصلاحي بجعله ركيزة
لتنقية القيم الاجتماعية والسياسيّة بعد التدهور الواسع الذي لحق بها
في أثناء الحرب وبعدها، ونضالي/وطني يجعله رمزاً للهوية الجامعة بدلاً
من مهمته السابقة في رسم حدود الهويات الصغرى.
الدين والسياسة في الولايات
المتحدة(14)
كرر ووكر بوش تعابير سابقه
الرئيس ولسون إبان الحرب العالمية الأولى. فإستعار منه مصطلحات الحرب
الصليبية والعدالة المطلقة وغيرها من المصطلحات. ولم يكن بوش موفقا"
بإستعارة هذه المصطلحات. فهي مصطلحات تنتمي للثقافة الغربية المسيحية
وهي تعطي دلالات معاكسة تقريبا" في الحضارات الشرقية والاسلامية
تحديدا". فكانت هذه الإستعارات دعما" إضافيا" لتهمة الغباء التي وجهتها
الصحافة الأميركية للرئيس. وهذه العثرات إن هي إلا نموذج عن رعونة
إستعارات بوش لمصطلحات ومواقف ورؤى سابقيه من الرؤساء الذين ينالوا
إعجابه لدرجة التماهي المراهقي معهم. وفي مقدمهم الرئيس ريغان.
مهما يكن فإن الإدارات الأميركية المتلاحقة استخدمت "الحس الديني
ومصطلحاته" لتحقيق أهدافها! أما المسلمين فهم يواجهون عقب 11 ايلول تحد
أكبر للذوبان في الثقافة الأكبر للمجتمع الأميركي!. وهذه المرة تحت
وطأة عمليات وتصرفات مخابراتية سوداء. بما يبرر التساؤل عن ماهية و
طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة في الولايات المتحدة؟!
للوهلة الأولى قد يبدو أن الترابط بينهما مقتصر على
الشعارات.. ومنها الكلمات والعبارات الدينية التي استخدمتها الإدارة
الأمريكية وما زالت مستمرة في ذلك في ذروة حديثها عن حربها ضد الإرهاب
مثل:"محور الشر"والحرب المقدسة"و "العدالة المطلقة".. وحتى"الحرب
الصليبية"- والتي كانت من وجهة البعض مجرد "زلة لسان"- كما يذهب إلى
تأكيد هذا الترابط حرص الإدارات الأميركية المتلاحقة إلى استخدام الحس
الديني للتأثير على المواطنين هناك لتحقيق أهدافها.. الصحيح أن الأمر
قد يكون مفاجئا للكثيرين خاصة أولئك المقتنعين بأن المجتمع
الأمريكي"علماني".. في حين أنه في الحقيقة "مجتمع متدين: منذ إنشائه..
ولم يزل!!..
لذا فإنه من الضروري التوقف أمام كتاب"الدين والسياسة في الولايات
المتحدة" لمؤلفه مايكل كوربت.. أستاذ الدراسات الدينية في ذات
الجامعة".. وتولى ترجمته إلى العربية الدكتور عصام فايز والدكتورة ناهد
وصفى والدكتور زين نجاتي والمهندس نشأت جعفر"--.أمام هذا الكتاب نجد
أننا أمام قراءة مميزة وشاملة للجميع الأمريكي ولطبيعية التفاعل بين
الدين والسياسة لنصل إلى المنظور الكامل للولايات المتحدة.. وإلى جانب
هذا الموضوع الرئيس فإن هناك عددا من الأطروحات والقضايا المتجاهلة و
التي يطرحها الكتاب للمناقشة ومنها:
- شن الحرب وتفهمها أوتبرير أسبابها دينيا": فقد اثر الدين منذ
الثورة الأميريكية وحتى حرب الخليج على رؤية الناس للحرب..وهذه الرؤية
انقسمت إلى رؤية تعارض الحرب وأخرى تؤيدها..
- تنظيم الحياة الشخصية: بدءا من القيود البيوريتارية (التطهرية)
حول ما يصح وما لا يصح القيام به يوم الأحد.. ووصولا إلى قناعة
الاميركيين الشخصية بالآراء الدينية .. ولقد سعى الأفراد إلى سن
قوانين تجعل آراءهم تنطبق على الجميع..
- العلاقة بين الجماعات: اعتاد الدين- على سبيل المثال- تشجيع كل
من العبودية وإلغائها في الوقت نفسه.. بالمثل تشجيع الفصل العنصري
والاندماج في آن واحد ..
- الدور السياسي للدين: غالبا ما كان الدين في الولايات المتحدة
داعما للحكومة الفيديرالية وللرئيس.. ولكن كثيرا ما شكل الأفراد
والجماعات تحديا خطيرا تجاه إجراءات معينة من وجهة نظرهم الدينية على
مر التاريخ..
- الدين والعملية الانتخابية: لعب الدين إلى جانب عوامل أخرى
دوارا مؤثرا في سلوكيات الناخبين عبر التاريخ.. فعلى سبيل المثال يتجه
اليهود والكاثوليك لانتخاب المرشحين الديمقراطيين أكثر من الناخبين
البروتستانت.. وقد أثر الدين أيضاً على طريقة عرض المرشحين والمسئولين
المنتخبين لقضاياهم على عامة الناخبين..
وعلى الرغم من تقاطعات السياسة والدين إلا أنهما غير متطابقين
في المجتمع الأميركي. ومع ذلك فإنهما يتداخلان في نقاط فائقة الحساسية.
فالولايات المتحدة لم تعرف رئيسا" من غير البروتستانت سوى جون كينيدي
الذي قضى إغتيالا". حيث يرجح بعضهم إغتياله على أيدي المخابرات
المركزية الأميركية نفسها. وتتأكد هذه السطوة البروتستانتية عبر الفوضى
التي أثارها ترشيح يهودي (ليبرمان) في الانتخابات الأخيرة. ولعلنا
لانبالغ إذا ربطنا بين هذه الفوضى الانتخابية وبين الفوضى الأميركية
الاستراتيجية الراهنة. حيث تعجز إدارة بوش عن تحديد استراتيجية واضحة
للتعامل مع محاور الشر المفترضة أميركيا". فنراها تعامل كل محور بأسلوب
مختلف ( case by case) وهذه الفوضى ستعطي للدين دورا" مقررا" في تعديل
قانون الانتخاب الاميركي ومعه الدستور والقوانين الخاصة بالولايات.
وبمعنى آخر فإن قنبلة الأقليات الأميركية في طريقها للتفجر داخل
أميركا. وبمراجعة ناريخ العلاقات بين الولايات وتوزعها ومواقفها خلال
انتخابات العام 2000 لوجدنا ان لهذه القنبلة تهديدات جدية لمستقبل
الدين في أميركا.
وهذا الأمر صحيح تماما فيما يتعلق بالقيم حيث إن كلا من الطرفين
يهتم بهيمنة السلطة على حياة الأفراد وفي بعض الأحيان يستخدم رجال
السياسة الدين للحصول على التأييد اللازم لمآربهم الشخصية بالإضافة إلى
اهتمام كلا من الدين والسياسة بالقيم والسلطة فإنهما غالبا ما يتداخلان
في المجتمع ولكن الأفراد يختلفون في آرائهم حول نوع العلاقة التي يجب
أن تربط بينهما.. وحول ماهية ونوعية الرابطة التي تربطهما..
لكن الكنيسة الرسمية تعرضت لسحب التأييد والاعتراف بها- وهو بداية
الفصل بين الكنيسة والدولة- وقد استند هذا السحب إلى مبدأين أساسيين:
الأول أن الدين هو أمر نابع من الضمير الشخصي ولا يمكن فرضه بالإكراه
سواء من جانب الحكومة العلمانية أو من جانب أية جماعة دينية.. أما
الثاني: فبالرغم من أن معتقدات الأشخاص الدينية قد تؤثر على سلوكهم
السياسي إلا انه ليس هناك أية صلة رسمية قانونية بين الدين والسياسة
ولقد بدأ الوجود الديني العام في الولايات المتحدة مع الوثائق
التأسيسية للأمة وتم تعزيزه من خلال الخطب الرئاسية.. فعلى سبيل المثال
استخدم الرئيس كلينتون في خطابه الافتتاحي الأول سنة 1997 استعارة
مكنية من التوراة حينما قال" استرشادا بالرؤية القديمة الأرض
الميعاد،فلنوجه أبصارنا اليوم إلى أرض ميعاد جديدة".. لقد اعتد الرؤساء
الأمريكيون بدءا من جورج واشنطن فصاعدا على الحس الديني.. ليس للتأثير
على عقول أبناء الشعب فحسب.. بل على أفئدتهم أيضا لتأييد الأهداف
الرئاسية!..
وإضافة إلى الأقوال الرسمية التي تؤكد النظرة الرسمية للامة نفسها..
فان أمثلة استخدام البعد الديني كثيرة.. هذا البعد للحياة القومية له
مجموعة من الرموز مثل: "العلم الأمريكي" وناقوس الحرية.. كما يظهر في
الأغاني مثل "أمريكا الجميلة". و"فليبارك الرب أمريكا" و"راية النجوم
اللامعة".. وتعتبر المدارس العامة أول مكان تعلم فيه المعتقدات
والممارسات الخاصة بالدين المدني الأمريكي.. وأنه أن لم تكن "كنسية"
للدين المدني.. فمن المؤكد أن المدارس العامة تشكل "قسم التعليم
الديني"!..
ويأتي"المسلمون" كثاني أكبر جماعة دينية منفردة في الولايات
المتحدة.. وغالبيتهم ليسوا من العرب الأمريكيين كما يتصور البعض.. وهم
شأنهم شأن الجماعات الصغيرة والجديدة نسبيا يواجهون العديد من المشاكل
هذه الأيام وهي ذات المشاكل التي واجهتها الكاثولوكية ثم اليهودية فيما
بعد في فترة مبكرة من تاريخ الولايات المتحدة.. وهنا يطرح سؤال هو في
حد ذاته تحد..وهو إلى أي مدى سوف يقوم المسلمون بتعديل شعائرهم
التقليدية وأسلوب حياتهم وذلك من أجل الذوبان بسهولة أكثر داخل الثقافة
الأكبر للولايات المتحدة؟!.. وإلى أي مدى سوف يحتفظون بذاتيتهم وهويتهم
المتفردة؟!.. لكن الجواب يأتينا من سلوك المحققين الأميركيين بعد 11
أيلول حيث تطاولوا على عربي من العاملين في البيت الأبيض بسبب ملامحه
الشرق أوسطية. وهو السلوك الذي يجبر العرب والشرق أوسطيين ( مسلمين
وغير مسلمين ) من الذائبين للعودة إلى جماعاتهم الأصلية.
أما "اليهود" فهم ثالث أكبر جماعة دينية منفردة.. ومع ذلك هناك
مشكلة تصاحب تقدير رد "اليهود" على سؤال الهوية الدينية الذاتية في
الاستطلاعات.. وحسب ما أكدته دراسة كبيرة معاصرة عن الهوية اليهودية
داخل الولايات المتحدة..من أن اليهود يميلون لعدم فصل اليهودية كمعتقد
ديني عن اليهودية كهوية عرقية وأخلاقية.. وأحيانا قد يستعمل الناس
تعبير" يهودي" للإشارة إلى الهوية المرتبطة بإسرائيل..ولذلك فان
الأميركيين اليهود عرقيا وثقافيا قد حققوا ذوبانا" خاصا" بتجاربهم
التاريخية في الذوبان بحيث يصعب تمييز هويتهم الذاتية على أنهم
"يهود"ّ.. لكن المؤلف يتجاهل أن اليهود يحتفظون ضمنا" بهذه الهوية.
مستندين في ذلك الى التخويف التربوي من المذبحة والى الإسم العبري
السري الذي يعطيه اليهود لأولادهم الى جانب الأسم المعلن.
كما أن هناك أقلية من الأشخاص في الولايات المتحدة يبلغون حوالي
10% أو اقل يدعون أنه ليس لهم تفضيل ديني.. قد يكونون ملحدين أولا
دينيين ذوي تفكير حر يؤمنون بالمبدأ الإنساني.. أو ببساطة غير منخرطين
في الدين.. وقد أوضح بحث معاصر أن أولئك لديهم التزامات دينية رمزية
للغاية. بحيث يتصرفون مثل الأشخاص المتدينين.. وعند إضافة هؤلاء
الأشخاص المتدينين اسميا إلى العلمانيين المقرين بعلمانيتهم فإن نسبة
الأميركيين غير الملتزمين دينيا" بشكل حاسم تصل إلى 30%..
ويبقى التساؤل الذي يحاول الكتاب تقديم الاجابة عليه وهو: ما هو
موقف الأمريكيون من امتزاج الدين والسياسة؟!..
الإجابة على هذا السؤال سوف تعكس الغموض والالتباس الذي يميز
توجهات الرأي العالم الأمريكي تجاه العلاقات بين الكنسية والدولة.. وعن
الدور الأمثل الذي يلعبه الدين في السياسة.. ففي دراسة أجرتها بابليك
بيرسبيكتيف حول هذا التوجه وجدت أن 55% ممن شملتهم الدراسة يوافقون على
أن: "الله هو قوة الإرشاد الأخلاقي الديموقراطي أمريكا" في حين عارض35%
هذا القول هذا بينما لم يحدد10% رأيا محددا.. في المقابل فإن39% ممن
شملتهم الدراسة يعتقدون أنه من اللائق بالزعماء الدينيين أن يتحدثوا عن
معتقداتهم السياسية بينما لا يجد 61% أنه من اللائق مثل هذا الحديث
وظل4% بدون إبداء لأي رأي.. وفي دراسات أجرتها مؤسسة ويليام سبيرج أشار
54% ممن شملتهم الدراسات أنه يجب على الحكومة مساندة كل الأديان
بالتساوي في حين أن 46% قالوا إنه يجب على الحكومة ألا تقدم أية مساندة
لأي دين.. في حين أن 62% قالوا في موضع آخر إنه يجب أن يكون هناك جدار
عال يفصل بين الكنيسة والدولة.. في المقابل اصر38% على أنه يجب على
الحكومة اتخاذ خطوات معينة لحماية التراث "اليهودي-المسيحي"..وما يمكن
أن نخرج به من هذه النتائج وغيرها من نتائج الدراسات الأخرى أن
العالمين السياسي و الديني قد اختلطا إلى حد هائل خلال تاريخ الولايات
المتحدة.. وحتى قبل أن يبدأ هذا التاريخ فإن الدين والسياسة قد نسجا مع
بعضهما داخل المستعمرات بل وقبل ذلك أيضا.. فلقد اتحدا اتحاداً لا
انفصام له في تلك الدول التي جاء منها المستوطنون إلى ما أصبح فيما بعد
الولايات المتحدة..والسبب الجوهري للعلاقات اللصيقة بين الدين
والسياسة.. هو انهما يتعاملان مع اهتمامات إنسانية متداخلة.. فالدين
على سبيل المثال يؤثر بقوة على ما يعتبره الناس صالحاً أو سيئاً أو
صواباً أو خطأ.. وتنشأ السياسة لأن للناس صراعات تتعلق بهذه القيم.. لا
يوجد اتفاق بين الجميع لذلك ينبغي على السلطة إحلال القيم داخل المجتمع
وهذا هو سبب نشوء السياسة.. والنقطة التي غالبا ما تتداخل عندها
الاعتبارات السياسية والدينية هي النقطة التي تعني للناس أعظم قيمة..
يوفر الدين الوسائل التي يستطيع بها الناس أن يحيوا حياتهم داخل علاقة
واعية بما يمثل لهم القيمة الأعلى.. ويبدو لمعظم الناس على أنه من
الطبيعي والصحيح والمعقول هو أن فقط القيم الأغلى التي تخصهم وبنبغي أن
تكون القيم المختارة للثقافة التي يعيشون في ظلها.. وهنا يأتي دور
السياسة.. وخلال تاريخ الولايات المتحدة ظلت القيم الدينية منسوجة داخل
القضايا اليومية واستخدمت كثيرا لدعم المعارضة لوجهات النظر
والاستراتيجيات.. فعلى سبيل المثال دعم بعض الناس الحرب في جنوب شرق
آسيا بوصفها معركة ضد "الشوعية الملحدة" بينما تظاهر آخرون "من أجل
السلام بناء على قناعتهم الدينية إلى قيم سياسية تختلف ما بين
الأمريكيين السود والبيض.. إن احدى الطرق (التي أدت إلى تكوين محور جدل
بين الدين و السياسة خلال معظم تاريخ الولايات المتحدة) يعبر عنها
المفهوم المسمى"الدين المدني".. وهو تدين عام يجمع بين القيم الدينية
والوطنية.. وقد ظهر في التفكير في "الدين المدني"أصلا على أنه مورد
تحتي مشترك ومقبول من الدين والعاطفية الوطنية التي وحدت الأمة على
الرغم من رؤاها الدينية والسياسية المتعددة.. كما أن سياسة الأرضية
المشتركة هي محاولة لحل هذا الخلاف..أو استحضار سياسات جديدة تتجاوز
انقسامات اليسار واليمين.. لذا يبدو من المعقول التكهن بأن النقاشين
السياسي والديني في الولايات المتحدة سوف يستمران.. قضية أخرى مستمرة
عن المكان الذي ينتمي إليه الدين وهي: هل أن الموقع الأمثل الوحيد
للدين هو دائرة الحياة الخاصة- الأسرة والبيت وجماعة الإيمان –أم أن
له مكانا في "الميدان العام"..أيضا؟!.. إن احدى الطرق الرئيسية التي
أصبح بها الدين- استمر- منخرطا في السياسة ذلك عندما عملت الجامعات
الدينية كجماعات مصالح.. وحاولت التأثير على المسار السياسي بأساليب
متنوعة.. فعلى سبيل المثال وفي التاريخ الحديث نسبيا تعاملت الجماعات
الدينية كجماعات مصالح في محاولة للتأثير على السياسة العامة تجاه
حقوق الإجهاض وتجاه حركة الحقوق المدنية ومساعدة إسرائيل.. وهي أمثلة
قليلة من كثيرة!.. ونتحول أخيراً تجاه السؤال عما إذا كانت الولايات
المتحدة هي أمة دينية.. أو أمة علمانية؟!.. أو هي إلى حد ما خليط
منها؟.. وعلى الرغم من الإجابية الأخيرة الأكثر تعقيدا إلى حد بعيد إلا
أنها الإجابة الوحيدة التي تصف الولايات المتحدة كما هي في السنوات
الماضية.. وكما كانت خلال معظم تاريخها.. من الواضح أنه لا توجد كنيسة
رسمية وأموال الضرائب لا تذهب لدعم المنظمات الدينية.. والناس ذوو
الإنتمائات الدينية بكل أنواعها أو اللادينيين يستطيعون الوصول إلى
المناصب العامة.. ( هنا يهمل المؤلف احتكار البروتستانت للرئاسة
والانجلو ساكسون عامة للاقتصاد) .ويعود المؤلف الى الفكر الكامن في
الوثائق المؤسسة للأمة الامريكية. والتي كتبها أناس يحملون تصورات
دينية مختلة للغاية بما في ذلك الفكر الحر وأيضا اللادينيين.. وهكذا
فإن وجهات النظر السياسية والاجتماعية حتى للناس "المتدينين"قد تكون
علمانية حقيقية.. ويعيش أتباع كل الديانات السماوية والإنسانية في هذا
البلد فوق قاعدة من المساواة القانونية بين الجميع ومع اللادينيين
أيضا.. وتؤيد الغالبية العظمى من الأميركيين قوانين الحقوق مثل حرية
التعبير لهؤلاء الذين يعارضون الكنائس والدين.. في المقابل تبدو
الولايات المتحدة أمة دينية حيث تنمو الكنائس وأماكن العبادة ومعابد
اليهود بوتيرة مرتفعة.. ويعيش أتباع جميع الديانات العالمية بها. وهذه
الأديان تجتذب الأمريكيين للتحول إليها.. وتظهر الكتب ذات الموضوعات
الدينية في قائمة الكتب الأكثر مبيعا.. ويستمر الناس في الالتفات إلى
جماعات الإيمان الخاصة بهم لدعمها خاصة في أوقات الأزمات.. وحتى إذا
قمنا بجولة سريعة بين مواقع شبكة الانترنت سنكتشف وجود توليفة هائلة من
هذه المواقع مخصصة للدين.. وقد أصبحت المنظمات الدينية المحافظة
الأصولية بوجه خاص.. أكثر فاعلية في السياسة خلال العقود الماضية..
ويحفز الدين الأشخاص على العمل وعلى الاعتراض من أجل القضايا التي تعنى
بالقيم الدينية التي تشكل أهمية لهم .. ويناقش علماء اللاهوت وعلماء
الأخلاق" كيفية" الانخراط الدينية في الحياة العامة لأمة .. والذي
نخرج به من ذلك باختصار أنه يبدو لنا أن الولايات المتحدة هي أمة
علمانية يسكنها أناس متدينون في معظمهم.. البعض منهم متدينون للنخاع
واكثرهم يمكن إطلاق هذه الصفة عليهم.. لكن الغالبية هم متدينون قد
وجدوا لهم موطنا في هذه الأمة العلمانية..
ويخلص المؤلف الى تقرير دينامية العلاقة بين السياسة الاميركية
والدين. وهو يحدد هذه الدينامية بالمحورين الأساسيين التاليين:
- إن الدين والسياسة بحكم طبيعتهما الخاصة لا يمكن تجنب ترابطهما
وتتخذ العلاقة بينهما أشكالا عديدة.. وعلى الرغم من تعددها إلا أنها
ستظل موجودة دائماً..
- إن إلغاء مبدأ الكنيسة الرسمية- أي الفصل القانوني بين مؤسسات
الحكومة والمؤسسات الدينية يعني أن العلاقة بين الحكومة والدين في
الولايات المتحدة لا يمكن أن تحسم بشكل نهائي أي أنها سوف تظل دائما
محل تفاوض!!
- أن للدين المدني الأميركي توراته الخاصة وهي الدستور الأميركي
الذي وضعه الآباء الأوائل. والذي يعتبره الأميركييون توراتهم الجديدة.
إلا أننا ننهي عرض هذا الكتاب بالتحذير من محاولة الإدارة
الأميركية تصدير هذه التوراة الجديدة الى دول الأديان التقليدية
وخصوصا" الإسلامية والكونفوشية. فهل كان طرح صدام الحضارات على علاقة
بنية التصدير هذه؟.
قرن من الدين و السياسة .. البقاء
عند المعضلات الأساسية نفسها(15)
1- من المثير أننا نشهد في أيامنا هذه مرور قرن على جملة من
الاحداث التي شكلت بداية ما يمكن تسميته التحول في الوعي الاسلامي تجاه
النظر الى العالم الذي يحيون فيه. فمع مطلع السنة القادمة
سنكون أمام الذكرى المئوية الاولى لصعود جمعية الاتحاد والترقي
التركية، التي مهدت للتغير الكاسح في الدولة العثمانية، كما هي الفترة
ذاتها لانطلاق حركة المشروطية 1906 التي قادها العلامة محمد حسين بن
عبد الرحيم النائيني، وغدا منظرها الاساس في ايران، والتي ادت الى
تحديد صلاحيات الشاه المطلقة بدستور.
وهي بداية قرن مثيرة حقاً، فالاحداث المتلاحقة في الدولة العثمانية
والغاء الخلافة حرك هاجساً نائماً لاستئنافها في بقاع اخرى من العالم
الاسلامي، وهذا ما حدا برجل دين شاب لم يكن يتجاوز الثلاثين من عمره
الى اصدار كتاب يهشم فيه صلاحية فكرة الخلافة في عصورنا الحالية. فتلقى
الشيخ علي عبد الرازق موجة كاسحة من ردود الافعال داخل مصر والعالم
الاسلامي على افكاره التي طرحها في كتابه "الاسلام و اصول الحكم" والتي
سعى لتأصيلها في أطار الشريعة الاسلامية. فالرجل لم يكن يفكر بمرجعية
أخرى، ولكن ذلك لم يعفه من تقديمه للمحاكمة بتهمة (الدعوة الى فصل
الاسلام عن السياسة) عام 1925 . كل هذه البوادر الجديدة في العالم
الاسلامي والتي انطلقت من أصول دينية كلاسيكية، كانت متلازمة مع بعضها
بطريقة أو بأخرى، على المستوى المعرفي، ومتلازمة مع ظرفها التاريخي،
بما يجعلها ليس أقل من حركة فكرية هائلة، دفعت لتغيير الكثير من
المسلمات في الوعي السياسي الاسلامي.فعلى المستوى الخطي نرى ان هناك
علاقة ما بين العلامة النائيني وجمال الدين الافغاني انجزت في الاراضي
الايرانية قبل ان يغادرها الافغاني نحو بلاد المشرق العربي، كما ان
الكثير من افكار الشيخ عبد الرازق نجد صداها في مؤلفات عبد الرحمن
الكواكبي. وهنا تنحل الكثير من محددات التباين الطائفي في بوتقة فكر
اسلامي جديد، ساهمت الكثير من الاقلام في انتاجه.إن الفكرة الاساسية
التي انطلق منها النائيني في فلسفة (المشروطية) هي الفكرة ذاتها التي
نجدها عن الكواكبي، والتي تنطلق من محاولة فك التلازم ما بين صورة الله
وصورة السلطان، والتي يحددها الكواكبي بتلك الآية القرآنية البليغة (
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) (الانبياء/23)
حيث انتهى نظام الحكم السياسي في العالم الاسلامي الى تلازم زائف ما
بين الصورتين، وتأبدت صورة السلطان الذي يسأل الآخرين ولا يسأله أحد
عما يفعل. والشيء الاساسي في هذه الصورة انها تستمد شرعيتها من الاسلام
نفسه. ولأن نظام الحكم على هذه الشاكلة ثبت ظلمه وبطلانه، فكان من
الحيوي البحث عن (تأصيل) أسلامي جديد للعمل السياسي والتشريعي
والقانوني. وهو ما انفتح بفضاء واسع وغني بالدلالات انطلاقاً من الأية
القرآنية السابقة نفسها. فالحاكم الشرعي هو من تسأله الناس عما يفعل،
وحتى تتمكن جماهير الناس، وفق آليات مدروسة ويمكن ضبطها، من تقدير حجم
تأديته أو انحرافه عن الشريعة السياسية الحاكمة (الدستور). الاطار
العام للمقولات التي اندرجت في هذا الخطاب الاسلامي الجديد ظل محكوماً
بالريبة في العالم الاسلامي، وعلى حد قول الباحث والمفكر العراقي رشيد
الخيون في كتابه "المشروطة والمستبدة" فأن لكل من مؤيدي التفكير الجديد
ومعارضيه فقهاء ومفكرين، (هؤلاء ينظرون وأولئك يفتون ويحشدون الأتباع
حولهم، وبطبيعة الحال كانت العامة تلتف حول المستبدة، لأن الإقناع
بالتغيير أو التجديد له متطلباته الثقافية والحضارية. أما المحافظة على
السائد فلا تكلف غير تقوية الواعز الديني( .ولكن حركة التاريخ قادت الى
توسيع (مقبولية) الافكار الاسلامية الجديدة، على الرغم من بقاء
الفاعلية السياسية بعيدة بمسافة عن هذا المتن التنظيري، وهي فاعلية
تحكمت بها تجاذبات مصالح الدول الكبرى مع النوازع الاستبدادية الاصيلة
في نظم الحكم السياسي في العالم الاسلامي، والتي أعادت انتاج نفسها في
نظم الاستبداد العسكري، التي أتخذت زي الحركات اليسارية الشعبوية، فقضت
على اليساريين انفسهم، وعلى بوادر التفكير الليبرالي الاسلامي، ولم
تقدم ـ هذه النظم الاستبدادية ـ مشروعاً حقيقياً بديلاً، ما دفع
بارتداد أشد التيارات الاسلامية راديكالية وتطرفاً، لتتصدر الواجهة في
النشاط الشعبي والسياسي، وحتى الثقافي. ولتتم من جديد محاكمة الشيخ علي
عبد الرازق على كتابه نفسه، الذي حوكم عليه قبل قرن من الزمان، ولنكون
مرة ثانية أمام المخطط نفسه: نظم استبداد محلي، اسلام شعبوي متطرف، فكر
تنويري يجاهد في تثبيت خطواته الاولى، وكأن القرن الذي مضى دار دورته
خارج العالم الاسلامي، ولم يمر بهذه البلاد اصلاً.
2ـ الفكرة اللافتة للنظر في هذا المجال، أن هناك امكانية، مهما
استمرت فترات الصمت، لعودة خريطة المواجهة نفسها، تلك التي تشكلت
بتقابل الاسلام مع العصرنة والتحديث. والتي يبلورها التساؤل عن شرعية
الأخذ بصيغ وآليات حكم (غير إسلامية). فالاسلام (دين ودنيا) وهو عقيدة
روحية ونظام تشريع وحكم، كما يطرح في السائد من ادبيات الفقه السياسي
الاسلامي. لذا فأن شرعية الخلافة التي إنهارت فعلياً بعد قيام
الجمهورية التركية 1923، وتم تقويض اسسها الدينية من خلال جهود مفكرين
اسلاميين بالاساس، قبل ان يتناولها مفكرون ليبراليون أو يساريون، ظلت
كامنة تحت سطح (هذه الشرعية)، وتنبثق كل حين بزي جديد، لأن المتن
الفكري الجديد الذي أسسه علماء الدين الطليعيون ظل ـ مع قوته ـ على
هامش متن عريض وعميق يمتد لمئات السنين، استمد قوته على الدوام من
السلطات السياسية المستبدة، ومن تخلف الوعي الشعبي، ومن (وعاظ
السلاطين) الذين يستفيدون من ترويض الوعي الشعبي للقبول بالاستبداد
سعياً للحفاظ على مصالح هؤلاء الوعاظ الدينية والاقتصاديةوإذا كان مرور
مئة سنة على ذكرى بدايات التغيير في الوعي الاسلامي تبدو قليلة
المحصول، فأن الغرابة تنزاح حين نتيقن بأن هذا التغيير كان يتم اجهاضه
على الدوام، في الاقل منذ ألف سنة. مع حرق كتب ابن رشد. واستناداً الى
المعطيات نفسها التي تتحرك في واقعنا الحالي.كان أبن رشد يرى أن منطقة
التفكير البشري أزاء الشريعة تنحصر في ثلاث: فهناك ما صمتت الشريعة
عنه، والتفكير فيه (وإعمال العقل) واجب، وهناك ما توافقت به الشريعة مع
العقل، وهي الاساس التشريعي، أما المنطقة الثالثة فهي التي يتخالف فيها
العقل مع ظاهر الشريعة، وهنا يحضر التأويل, والمقصود تأويل الشريعة بما
يوافق العقل.ومن المفيد الإشارة هنا الى ان بدايات التفكير بشكل الدولة
المعاصرة يجده بعض المؤرخين مسطراً في آراء ابن رشد نفسه، حيث يشير
المستشرق والباحث الاسباني ميغيل ارنانديز، الى تصورات ابن رشد عن
"المدينة الفاضلة" وأمكانية تجاور عدة مدن فاضلة في زمان واحد، محطماً
بذلك ثنائية (ارض الحرب ـ ارض الاسلام) التي اشتغل عليها الوعي
الاسلامي الكلاسيكي، ومؤسساً لعلاقات سلمية بين أشكال يوتوبية من الدول
تعتمد العقل جذراً مؤسساً لنظم الحكم فيها، هذا العقل الذي يكيف
الشريعة في النهاية لتكون متوافقة معه، وليس العكس هل تقدمنا كثيراً،
في العمق والجوهر، عن لحظة ابن رشد هذه؟ المعطيات تنفي ذلك، حيث نشهد
ونعيش في عصرنا ضمور طاقة التأويل داخل المؤسسة الاسلامية نفسها، هذه
الطاقة التي ولدت لنا العديد من الاسماء اللامعة في الفكر الاسلامي
المعاصر، وغدا تيار التعارض ما بين الاسلام والعصر اقوى من غيره، وغدت
المؤسسة الاسلامية تخرج لنا اجيالاً من الاصوليين، ومن جامدي العقول،
ممن يشرعون لفتوى ارضاع الكبير مثلاً، و(حليّة) دم الذميّ وماله وعرضه،
الذي قد يكون واحداً من مواطني البلد. ليجور الاسلام الراديكالي حتى
على معطيات الثقافة المحلية، التي آخت بين الطوائف والمذاهب والاديان
دهوراً من الزمن، من دون الحاجة الى تأصيل تشريعي.وليزداد الحرج حتى في
اعادة طبع بعض الكتب والمؤلفات الإسلامية، التي يراها فقهاء العصر الآن
منحرفة عن الإسلام ومارقة عن جادته السوية. ليكون فضاء التفكير
الإسلامي ضيقاً اكثر من ذي قبل، رغم عصر المعلوماتية والانفتاح الفضائي
العولمي، فلا نكاد نلقى سوى هذا الصوت الأحادي الذي يستعمر الإسلام بكل
غناه وتنوعه، ويقسم العالم الإسلامي وتياراته الفكرية الى فسطاطين لا
وسيط بينهما. وليحولوا الإسلام من عقيدة حية الى صنم، تتوجب عبادته.
3ـ استناداً الى هذا الإسلام الراديكالي فأن كل النظم الحاكمة في
العالم الإسلامي (فضلاً عما سواها) هي غير شرعية. وهذا التصور يمتلك في
حقيقته اساساً (شرعياً) في نصوص العقيدة نفسها، ويمتلك كذلك مقبولية
عامة في الفكر الاسلامي، وحركات الاسلام السياسي عموماً، على الرغم من
التباين والاختلاف فيما بينها حول الاستجابة الممكنة تجاه حقيقة
كهذه.القضية تختلف كثيراً في العالم المسيحي، فالنظم الملكية المستبدة،
كانت تمتلك شرعية (دينية) استناداً الى قاعدة الفصل بين السلطة الدينية
والمدنية. فمملكة المسيح ليس على هذه الارض كما يصرح الانجيل بذلك، لذا
فأن (مملكة الارض) هي شأن يخص الارضيين ولا شغل للسماء به.
واي شكل لإقامة هذه المملكة هو جائز (شرعاً). لذا فأن التطور في
التفكير السياسي والقانوني والحقوقي المدني، الذي قاد الى تحطم هذه
النظم الاستبدادية في الغرب المسيحي، يستند الى (إجازة) شرعية بحرية
اللعب في هذه المساحة، وإلى عمومية الخطاب الديني المسيحي، الذي يؤيد
أية دعوى للحق والعدالة والمساواة بين البشر (ابناء الله).
أما في العالم الاسلامي فمن الصعب تجاوز النصوص والاسانيد القوية
التي تبين أن الاسلام سلطة روحية ومدنية في الوقت نفسه. ويظل البحث عن
اساس شرعي لأية صيغة حكم أمراً قائماً وحيوياً، وبالامكان تلمس متن
واسع داخل التراث الفقهي الاسلامي يشتغل على تأمل السلطة السياسية
والتشريع لها. بل ان التيارات والمذاهب الاساسية في الاسلام نشأت، في
صيغة ما، من الجدال السياسي وشرعية النظم القائمة وما الى ذلك. لذا فأن
أية محاولة للتحديث في العالم الاسلامي، يراد لها الدوام والاستمرار،
يجب ان تنطلق من اساس الشريعة قبل أي شيء آخر، انطلاقاً من المشروع
(الرشدي) الذي يدعو الى تنشيط التأويل في تكييف الشريعة مع العقل،
وبالتالي تكييف العقيدة مع (عقل الزمان) على رأي بعض المتألهين. بما أن
العقل متغير ومتحول، وله عوارض واحوال، وعمر في الزمن.إن عدم ترسخ كل
الجهد التأويلي السابق، منذ ابن رشد وما قبله، في أرضية النص التفسيري
الاسلامي، هو ما يجعل الاسلام ممتنعاً امام التحديث، ويجعل المسلمين
أقرب الى القبول لدعوى ان العالم الاسلامي
محكوم بنظم غير شرعية (على رأي الاصوليين( .
وما دامت هذه الاصولية تمثل المتن الاساسي للاسلام الحي في عصرنا،
فأن أية دعوى للعلمنة ستبقى مروقاً عن الدين، وأي استلاف لأشكال الحكم
من الغرب نوعاً من المؤامرة على الاسلام، وتظل الديمقراطية هجينة
وولداً غير شرعي، حتى لو استمر النداء باسمها عقوداً من الزمن.
إن الثرثرة الحالية حول العلاقة ما بين الاسلام والديمقراطية
ومحاولة التقريب بينهما، تبقى مهمة أقرب الى الخدش الخجول للمعضلات
الاساسية. فليس المطلوب هو تأويل الديمقراطية لكي تكون (إسلامية)، أو
تأويل الاسلام لكي يغدو (ديمقراطياً)، وأنما البحث في الاصول الاسلامية
للتشريع السياسي، ومحاولة اطلاق العمل السياسي والفكري من اقبية النص
التراثي. وتكوين متن جديد
للاسلام نفسه، يجعله يحيا للانسان (وهو جوهر الدعوات السماوية)
وليس العكس.
الشرق الأوسط... تشابكات الدين
والسياسة والمذهب!(16)
أدى الغزو الأميركي للعراق والانهيار السوسيو- سياسي الذي أعقبه،
إلى إرسال موجات صادمة إلى مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ولقد أُتيح لي أن
أشعر بتأثير هذه الموجات على نحو مباشر وذلك خلال إقامتي التي استمرت
شهراً في كل من مصر والأردن وسوريا.
يمكنني القول إن هناك أربعة أفكار سياسية تتصارع على النفوذ والدعم
في الدول العربية. والنتيجة التي سيسفر عنها هذا الصراع خلال فترة
الثلاث أو الخمس سنوات القادمة، هي التي ستقرر- على الأرجح- مستقبل هذه
المنطقة ذات الأهمية الكبيرة من الناحية الاستراتيجية خلال الجيل
القادم. وفيما يلي أورد عرضاً لهذه الأفكار:
1- القومية العربية العلمانية: سادت هذه الفكرة في العالم العربي
إلى أن سقطت من الاعتبار اثر حرب عام 1967. وهذه الفكرة المفتوحة أمام
المسلمين والمسيحيين، ضمت في وقت من الأوقات ثلاث نسخ متنافسة فيما
بينها: النسخة الناصرية المصرية، والنسخة البعثية العراقية، والنسخة
البعثية السورية التي ظلت وحدها في الحكم حتى اليوم، وإن كان من
الملاحظ أنها قد غدت تتبنى نهجاً ينحو بشكل متزايد إلى التركيز على
سوريا في المقام الأول. مع ذلك يمكن القول إن مشاعر القومية العربية لا
تزال منتشرة على نطاق واسع بفضل تبني بعض وسائل الإعلام لها وبفضل
الفعاليات الثقافية. ورغم أن صعود القومية الفارسية مؤخراً أدى إلى
إثارة بعض القلق في صفوف أنصار القومية العربية، فإن معظم الشعوب في
الدول المحيطة بإسرائيل لا تزال تعتبر إسرائيل تهديداً أخطر بكثير من
التهديد الإيراني.
2- الفكرة القطرية العلمانية: من المعروف أن النظام العربي القائم
على الدولة القطرية قد نشأ في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ومنذ ذلك
الحين تمكنت كل دولة من اكتساب قدر كبير من ولاء مواطنيها: فالمواطن
اللبناني اليوم يشعر أنه لبناني فقط، والبحريني يشعر أنه بحريني فقط...
وهلم جرا. ورغم انهيار الدولة المركزية في العراق بفعل الحرب، وما نجم
عنها من مذابح وحمامات دم بين طوائف الشعب العراقي، فإن العديد من
المواطنين في البلدان العربية الأخرى استجابوا لتلك الحرب بالالتفاف
حول الدولة المركزية العاملة، حتى لو افتقرت إلى كثير من عناصر
الديمقراطية طالما ظلت- هذه الدولة- قادرة على تلافي تكرار نموذج
الفوضى القاتلة في العراق.
3. الإسلاموية السنية: الغالبية العظمى من العرب تنتمي إلى المذهب
السني. وقد شهدت الجماعات السنية، بالاضافة الى أنشطة إسلاموية أخرى
ازدهاراً كبيراً في العالم العربي، في حين اختارت أقلية صغيرة من تلك
الجماعات اتباع الأفكار العدمية وخيار الجهاد العالمي الذي يروج له
تنظيم "القاعدة". وأكبر حركة إسلامية سنية في الوقت الحالي هي حركة
"الإخوان المسلمين" التي تأسست في مصر في عشرينيات القرن الماضي، وقد
اكتسبت وجوداً سياسياً ملحوظاً؛ ففي الأردن تتعايش مع نظام الحكم
الهاشمي. أما في سوريا فقد دخلت في ثمانينيات القرن الماضي في صراع
عنيف مع النظام الذي دأب على قمعها بقسوة منذ ذلك الحين. وفي فلسطين
يعرف "الأخوان المسلمون" تحت اسم "حماس" التي قاومت الاحتلال
الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، وفازت في الانتخابات البرلمانية أوائل
العام الماضي، وهي تسعى الآن إلى السيطرة على السلطة الفلسطينية من
خلال التحالف مع حركة "فتح" الوطنية العلمانية، كما أعربت عن استعدادها
لإجراء مباحثات مع إسرائيل وإن تحت شروط قاسية.
في المجتمعات الثلاثة المذكورة تتواجد حركات إسلامية ذات نزعة
قتالية جنباً إلى جنب مع حركة "الإخوان المسلمين"، لكن أتباع تلك
الحركات أقل عدداً من أتباع "الإخوان" والحركات المنبثقة عنهم.
4- الإسلاموية الشيعية: الحركات الشيعية السياسية الرئيسية في
العالم العربي تتمثل في "حزب الله" اللبناني وتلك التشكيلة من الأحزاب
الشيعية في العراق. والشيعة العراقيون الذين استبعدوا تاريخياً من
السلطة بواسطة السنة، يشعرون الآن بأنهم قد أصبحوا أكثر قوة بسبب
الصعود الإيراني. غير أنه تلزم الإشارة مع ذلك إلى أن معظم الشيعة
يعتبرون أنفسهم عرباً مخلصين، ويأنفون من الاتهامات التي توجه إليهم
باعتبارهم يمثلون طابوراً إيرانيا خامسا في العالم العربي.
ورغم الصراع الواسع النطاق بين الشيعة والسنة على السلطة في العراق،
فإن ما لا يعرفه الكثيرون أنه كانت هناك محاولات كثيرة لنسج علاقات
سياسية بين المجموعتين على قاعدة وطنية مناهضة للأميركيين.
التفاعلات بين الاتجاهات الأربعة المشار إليها أعلاه في العالم
العربي كانت دوماً تفاعلات معقدة بل مفاجئة تماماً في بعض الأحيان. مع
ذلك هناك أربعة مبادئ تبرز بوضوح في هذا السياق:
الأول، أن هذه الأفكار بشكل عام لا تقوم على النفي المتبادل بمعنى
أن اللبناني الشيعي يمكن أن يشعر بالولاء نحو "حزب الله" ونحو لبنان في
الوقت ذاته، كما يمكن للمصري السني أن يشعر بأنه مصري و"أخ" مسلم وعربي
في وقت واحد.
الثاني: رغم أن الشيعة والسنة يحاولون ممارسة النفي المتبادل
باعتبارهم يمثلون نسختين مختلفتين من الإسلام، فإن ذلك لم يمنعهم من
التعاون: فإسلاميو "حماس" السنة حافظوا على علاقات عملية طيبة مع "حزب
الله" الشيعي اللبناني ومع إيران... وفي العراق وجدنا الشيعة التابعين
لـ"جيش المهدي" يمدون أيديهم لمساعدات الإسلاميين السنة في الفلوجة.
الثالث: أن تلك الأفكار تتضمن عنصراً قويا مؤيداً للفلسطينيين. وقد
يحدث أحياناً أن يدخل أتباع فكرة من تلك الأفكار في تحالف تكتيكي مع
الولايات المتحدة لسبب أو لآخر، لكن ذلك التحالف لا يستمر طويلاً بسبب
أن أميركا ينظر إليها بشكل عام على أنها تقف حجر عثرة في سبيل تحقيق
الآمال الفلسطينية.
الرابع: رغم قوة المكون العقائدي في تلك الأفكار فإن زعماءها كثيراً
ما تبنوا خيارات سياسية شديدة البراجماتية.
والسؤال الآن، كيف يمكن لنا نحن الغرباء عن المنطقة النظر إلى تلك
الحركات؟ أولاً، ليس من حق الغرباء أن يقرروا ما إذا كان على الأنظمة
السياسية أن تحظر الأحزاب السياسية الدينية أو تلك التي تقوم على أساس
طائفي، لأن هناك أحزاباً عقائدية ساهمت في بناء الديمقراطية المعاصرة؛
في دول كألمانيا والهند وإسرائيل.
ولعل المهمة الأكثر دقة، هي العمل على تأسيس ثقافة حل الصراعات
والاختلافات السياسية بوسائل سلمية، سواء داخل الدول أو خارجها. فداخل
الدول يجب أن تكون الديمقراطية هي الأسلوب الأمثل لحل النزاعات
والخلافات بحيث يتم الترحيب في المنظومة القائمة بأي حزب سياسي يلتزم
بمبادئ الديمقراطية ويكتسب تفويضاً بتمثيل الناخبين.
الدين والسياسة وإشكالية العلاقة
بينهما في الفكر العربي(17)
تقديم :
لا يمكن التحدث عن الفكر العربي وبخاصة السياسي منه بمعزل عن
التاريخ بعمقه ومدلولاته. فإذا مابحثنا عن الجذور التاريخية التاريخية
الفكرية للعالم العربي نلاحظ أن الفكرة المسيطرة هي " فكرة الإسلام "
...هذه الفكرة التي دخلت في تناقضات كثيرة مع أفكار أخرى مما خلق
الكثير من الإشكاليات لعل أهمها إشكالية
" التفكير العربي " فالعقلية العربية- الإسلامية خاصة – مربوطة
مكبلة لشيء يحد من انطلاقها مما يجعلها تتحرك إلى حدود يمنع المساس بها
" الله- النبوة – الشريعة – السلطة السياسية – التقاليد والعادات "
وأكبر دليل على ذلك هو أن الذهنية العربية تحمل في طياتها فكرة " الخلق
من العدم " لكن ماذا كأن قبل العدم هذا ما لا يجوز لنا التساؤل عنه،
ففي قصة أبن طفيل " حي بن يقظان " التي يروي فيها قصة الطفل " آسام "
الذي عاش بالأدغال موضحاً في بداية القصة أن هناك رويتان :
الأولى : أن ابنة أحد الملوك قد حملت سفاحاً بابنها " آسام " ولما
وضعته جلبت صندوقاً ووضعته فيه وجعلته يجري مع مياه النهر حتى قذفت به
المياه على أحد الشواطئ ومن ثم تأتي الظبية التي كأنت قد فقدت ابنها
وترضعه.
هذه الرواية لا تلفت الانتباه، لكن الذي يلفت الانتباه هو الرواية
الثانية، التي تتحدث عن أن وجود آسام هو نتيجة لتفاعل مواد الطبيعة مع
بعضها البعض.
فالفكرة التي يطرحا هنا ابن طفيل " أن هناك طريقة أخرى افتراضية
ترجع لنشوء الإنسان غير لا هوتية " فلا وجود للعدم هنا.
ثم يتربى" آسام " على حليب هذه الظبية وفي لحظة معينة تموت الظبية
ويأتي قارب إلى الجزيرة، عليه أناس أصحاب ديأنة توحيدية ويتناقش آسام
معهم ثم يدعونه إلى ديانتهم ويجوبهم آسام قائلاً : أن ما توصلتم إليه
أنتم عن طريق الشريعة توصلت إليه عن طريق العقل .وفي هذا المجال يقول
ابن رشد : أن الحكمة أخت الشريعة، ولايمكن حق أن يضاد حقاً آخر .
فالدين حق والفلسفة حق و الحقيقة واحدة .
فهنا أبن طفيل يطرح فكرة " إمكانية استغناء العقل عن الشريعة ".
وأنه ليس هناك فرق بين الحقيقة " العقل " والشريعة " الدين " وبالتالي
ليس بالضرورة أن يعتنق آسام ديانتهم، لكن بالقصة آسام يعتنقها وينضم
إليهم ويذهب إلى بلدهم. فالسبب الذي يدعو : ابن طفبل " أن يكتب أن بطل
قصته " آسام " اعتنق الديانة التوحيدية هو خوفه من المرجعيات والوضعية
الموجودة، فهو لا يستطيع أن يكتب هذا بشكل مجرد مباشر فهذا يتناقض مع "
الإيديولوجية الدينية السائدة " .
ففي الإسلام هناك شريعة وعقل ويجب أن يتوافقا فهناك حد لا يجوز لعقل
الإنسان أن يتجاوزه وأن تجاوزه أصبح من " الهراطقة" أو ذنديقاً .
إذاً في الفكر العربي الإسلامي هناك حالة " توفيقية " بين العقل
والشريعة، بين السياسة والدين، فالفعل السياسي العربي يستمد سلطته من
قوة مفارقة عنه هي " الله" فلا سلطة بعد سلطة الله " أي الفعل السياسي
يستمد سلطته من الشريعة " .
وحدود الفعل السياسي العربي تتجسد في مقولة " دار الإسلام ، دار
الحرب " فدار الإسلام أينما وجد الإسلام أي أن الفعل السياسي العربي
الإسلامي يتجسد ضمن إطار : إمبراطورية " وليس ضمن إطار " مدينة " كما
كأن عند الإغريق .
أن إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة في الفكر العربي لن تستطيع
أن تتجاوز البنية الفكرية للعقل العربي الإسلامي التي تحدثنا عنها .
وحالت بالتالي دون نجاح المشروع النهضوي العربي .
هناك إيديولوجيات أربع في الساحة العربية وعلى مدى أكثر من قرن من
الزمن، فهناك الليبرالية وهناك الاشتراكية القومية العربية الثورية
وهناك الحركة الإسلامية وهناك أيضا الماركسية العربية، وكانت حصيلة
تجارب الماضي للإيديولوجيات الأربعة هي الاستبعاد المتبادل، فإذا ما
أتت إحداها السلطة استقصت الأخرى أو أودعته السجون، ولم تسمح له حتى
بالمعارضة العلنية الشرعية [1]
أن عدم نجاح المشروع النهضوي العربي يعود بشكل أساسي إلى أن هناك
كانت محاولة للعودة إلى مرحلة السابع الميلادي والعصر الراشدي، فعصر
كأن يحاول أن يبني حضارة مستقبلية بالعودة إلى الخلف، وهذه مغالطة
منطقية فريدة من نوعها " ففي اعتقاد النهضويين العرب أن كل شيء أكتمل
عند الأسلاف " أما أوروبة قامت على العودة إلى الماضي ونبشت التراث
اليوناني والروماني وأعادت إنتاجه .[2]
إن التوفيقية في الفكر العربي الإسلامي أي أن نأخذ من الحضارة
الأوروبية ما يتوافق مع عقائدنا وننبذ ما لا يتوافق، هم كلام باطل
معرفياً لأن البشرية الآن توصلت إلى مرحلة مختلفة نوعياً وهي مرحلة
كونية الفكرة, مرحلة العولمة، فلا نستطيع أن نحدد ما نأخذ وماذا نترك،
ففي رواية " ذهنية التحريم " لصادق جلال العظم، وتتحدث الرواية عن
خصائص الرأسمالية العالمية، وكيف استطاعت أن تقتحم أكثر الحلقات عتماً
في الكرة الأرضية، وكيف أن الإجراءات الاحترازية المتعلقة بالدين لم
تنفع والقصة هي : في إحدى القرى المتخلفة تمرض ابنة عمدة القرية،
استدعي الطبيب لكن الطبيب ليس من أهل القرية ويختلف بدينه عنهم ، فيرفض
والدها استدعائه لأنه لا يسمح له أن يكشف عنها " الوضعية متخلفة " لكن
هل الممانعة والإجراءات الاحترازية المتعلقة بالدين ممكن أن تحول دون
موت الفتاة. الحل الاحترازي كأن- وضع ستار بين الطبيب والفتاة – بحيث
لا يراها و... لكن بعد فترة اكتشف أن هذه الفتاة حامل من هذا الطبيب.
[3 ]
وفي نفس الطريق التي شقها النهضويين كالأفغاني ومحمد عبده، ظهر حسن
البنا. وتواصل العمل في نفس الإطار مع سيد قطب وابن تيمية والمودودي
الباكستاني الذي حدد السياسة الإسلامية بأربعة مبادئ :
- سلطة قومية في أيدي علماء الشرع.
- انصياع الشعب لهذه السلطة .
- نظام فكري أخلاقي تفرضه هذه السلطة .
- مكافأة وثواب لأولئك الذين يطبقون أحكامها.[5]
ولا يخفى على أحد أن لا وجود لسلك الكهنوت في الإسلام ومع ذلك فهناك
جماعة من أهل العلم والفقهاء " العلماء " الذين تتمتع مدوناتهم وسيرهم
باستقرار مرموق عبر الزمان والمكان. ويمكن لهؤلاء أن يشغلوا مناصب
مهنية متنوعة كمعلمين وقضاة وأئمة مساجد ويمكن أن يستأثروا بإقامة
أماكن العبادة.
أن النزعة إلى تشكيل مؤسسات كهنوتية هي نزعة متأخرة مصدرها الدولة
وليس رجال الدين "باستثناء إيران " فالدولة تسيطر على كبريات المدارس
أو الكليات وتعين المفتي وتحاول حصر سلطة تعيين أئمة المساجد والاجتهاد
الفقهي " الفتاوى " فيها، وهكذا ظهر رجال دين رسميون " موظفون ".
أن الدولة تؤمم الإسلام بتحويل رجال الدين إلى موظفين وبإنشاء
مؤسسات مركزية " الجامعات الإسلامية، والمدارس الدينية التي تنشأها
الدولة " [6]
الإشكالية :
لم يفكر الإسلام بالدولة، ولا كانت قضية إقامتها من مشاغله، لكن
الدولة كانت دون شك، أحد منتجاته الجانبية والحتمية. ولم يتحدث الإسلام
عن السياسة أو يقدم رأيه فيها، فهي تعني المقابل للوحي والمعرفة
الدينية لأنها مرتبطة بالعقل والحنكة والحيلة والخدمة. وليس من قبيل
الصدفة تجاهل القرآن لها. فهذا التجاهل نابع من الاختيار الأول للدين "
الروح " بالمعنى الباطني مقابل الدولة
ولم يعد القرآن، العرب أو المسلمين بدولة ولكنه وعدهم بالجنة
والمغفرة ولم يطلب منهم أن يحكموا الآخرين لكنه طلب منهم الرحمة وتبليغ
الرسالة والمعاملة الحسنة والتقوى والعدل والإحسان والصدقة ومخافة
الله، حتى صاروا يخشون الحكم ويرفضونه كي يتجنبوا مخاطر الظلم. ولو
تحدث القرآن والرسول في الدولة والسياسة لأخضع الدين للدولة، ولكانت
النتيجة تأسيس الدولة الإلهية الدينية.
وعندما توفي الرسول لم تطرح مشكلة السلطة السياسية والزعامة لكن
طرحت مشكلة الخلافة وملء الفراغ. ولم يخطر ببال أحد أن يبني دولة. لذلك
لم يفكر أبو بكر ولاغيره في أن يطلق على نفسه لقب " سلطان أو ملك "
ولكنه استخدم ببساطة كلمة " خليفة " رسول الله، فهم وجدوا أنفسهم في
وضع جديد كلياً، وضع الدين بدون نبي وليس وضع شعب بدون زعيم .
ويؤكد تاريخ اليهودية والمسيحية التناقض العميق والدائم بين
الدولة،فهو يظهر في اليهودية ضياع الدين في الدولة، فقد تحولت اليهودية
إلى عصبية جماعية شبه قبلية إعادة بناء الدولة الزمنية. ويظهر في
المسيحية، ضياع الدولة في الدين، فالمسيحية لم تكن ترى في الدين إلا
السلطة الروحية. وفي مواجهة اليهودية والمسيحية ركز الإسلام على
الرسالة الإنسانية والقيم الأخلاقية واللحمة الأخوية, وأكد على أهمية
الجهاد لنشر الدعوة الروحية، وتأكيد السلطة الإلهية.
لقد كأن الجهاد عاملاً حاسماً في دفع المسلمين إلى الأخذ بالمبادرة
العسكرية وبناء الجيش وتكوين القيادات العسكرية وبناء الجيش وتكوين
القيادات العسكرية التي سوف تلعب دوراً في تركيب الدولة المقبلة ونشوء
السياسة المدنية .
أن اغتيال عثمان بن عفان والفتنة الكبرى التي أثارها ومن ثم نجاح
معاوية في حربه سيكون المولد لأول دولة إسلامية فعلية منتقلاً من حقبة
الروح الرسالية للخلافة....حيث أنتهي الصراع بين العقل والإيمان، وبين
المصالح القاهرة التي تولدت بعد الفتوحات لصالح قوى المصالح . فقد تم
إخضاع الدين والعقيدة لمنطق السياسة والدولة وتوظيفه فيها. والنتيجة من
هذا كله أن ولدت دولة إسلامية " إسلامية فقط بمعنى أنها دولة المسلمين
كجماعة سياسية " فلم تكن دولة الإسلام أنما كانت دولة تشتغل على
الإسلام، أي تعيش عليه، فهي دولة إسلامية من هوية الجماعة والانتماء
وليس من حيث المبدأ والغاية . [7]
واستمر الأمر على هذا النحو إلى مرحلة ما يسمى " الخلافة العثمانية"
حيث قبل انهيار هذه الخلافة تبلور في المجتمعات العربية تياران رئيسيان
وهما:
- التيار القومي : الذي ترافق مع فكرة الاستقلال وبناء الدولة
الحديثة القطرية .
- التيار الديني الإسلامي
لكن ظروف انهيار الخلافة العثمانية وتفاقم وطأة الاحتلال الغربي
الذي تنعه، قد ساعدت – خلال فترة الحربين العالميتين – على التخفيف من
حدة التناقض بين التيارين، كذلك فأن حاجات المواجهة والرد على
الاستعمار، بلور صيغ من التحالف ساهمت في نشأت " الحركة الوطنية
الحديثة " على أساس التركيب العملي بين " تراث الإسلام من جهة وإرادة
التحرر والعصرنة من جهة أخرى " ونتيجةً لذلك ولدت دولة الاستقلال
القطرية، دولة المصالحة المؤقتة بين السياسة والدين وبين التراث
والحداثة .
لكن في فترة بعد الاستقلال سيعمل الاستقلال نفسه على تنمية جميع قوى
التناقض والتعارض الكامنة في الفكرة الوطنية والتي كانت حاجات الكفاح
قد كبحتها.
أن فهم ما يجري اليوم على الساحة السياسية الدينية والمدنية يقتضي
أولاً التمييز بين الإسلام كواقع ديني يمارسه المسلمون بصرف النظر عن
عقائدهم السياسية والفلسفية، وبين الإسلام كواقع سياسي أي كتنظيمات
سياسية.
ويقتضي ثانياً عدم الخلط داخل الحركة الإسلامية السياسية نفسها بين
أطرافها وتياراتها المختلفة. فالعودة إلى الإسلام كمصدر ثابت لاستلهام
قيم الأخوة والإنسانية ظاهرة مستقلة كلياً عن استخدام بعض الحركات
السياسية له من أجل تدعيم مسيرتها نحو السلطة، فالسبب الأكبر في فساد
النظرية التي يطرح من خلالها اليوم موضوع الإسلام في المجتمع هو "
الاتفاق المضمر بين الإسلاميين المتطرفين وخصومهم على تجاهل واقع
الإسلام الديني في سبيل تجييره جميعاً لصالح المعركة السياسية كل طرف
لأهداف مختلفة، والتسليم بأن الإسلام القائم ليس إسلاماً صحيحاً والقفز
فوق الإسلام المعاش.
فرفض النظر إلى الإسلام " كتجربة " وخبرة جماعية وفردية كما تطور
وكما هو عليه بالفعل، والكشف عن معانيه وغاياته وأزماته الداخلية
أيضاً، أي رفض النظر إلى الإسلام الفعلي هو الموقف الوحيد القائم في
الساحة العربية. وهذا هم السبب الذي يفسر لماذا لم يكن من الممكن أن
يظهر في العالم العربي المعاصر والإسلامي منه خاصة محاولات جدية في
الدين والإصلاح الديني كما لم يظهر في العلم وفي الشق العلماني منه
أيضاً أي شكل من أشكال البحث العلمي فيما يتعلق بالإسلام كدين. واقتصر
الموضوع على المناقشات والتعليقات والتعقيبات والحوارات السياسية حول
القيم والأفكار فقط.
لكننا على صعيد تناولنا لبحث علاقة الدين بالسياسة لابّد من أن
نستحضر فكرة كتاب " علي عبد الرازق" – الإسلام وأصول الحكم – الصادر
عام 1924 فلأول مرة في تاريخ الفكر السياسي العربي ستطرح على بساط
البحث مشكلة دين الدولة.فقد كأن هناك دائماً توحد في الذهنية الفكرية
العربية كما أسلفنا القول، بين الدين والدولة. فشرعية الخلافة العربية
الإسلامية كانت مستمدة من الإسلام، أما " على عبد الرازق سيعطينا شرعية
جديدة- وهنا تبرز الفكرة التثويرية- فهو يقول ، أن لا يوجد نظام إسلامي
للحك وأن العلاقة بين السلطة الدينية والدنيوية هي ليست علاقة تكامل
ومحمد الرسول لم تكن له زعامة سياسية بل زعامة دينية وما كان سياسي إلا
بحكم الظرف الديني فقط وع وفاته انتهت الزعامة والزعامات التي جاءت
بعده هي زعامات من نوع جديد ، هي زعامات السلطة والحكومة. كما أنه يقول
أن الدين هو حالة فردية وليس حالة جماعية، وعليه فأن العرب من قبل لم
يتوحدوا سياسياً بل دينياً.
إذاً فكرة العلاقة بين الدين والسياسة في الفكر العربي فكرة طرقت
منذ فترة بعيدة حتى قبل علي عبد الرازق، فهناك من كأن يدعو إلى تنحية
الدين عن الدولة تعود " لعبد الله ابن المقفع " لكن بلغة مرمزة بكتابه
المعروف " كليلة ودمنة " فهو كتاب بالسياسة يروى على لسان الحيوانات.
وهنا مفكرين كثر تناولوا هذه العلاقة منهم المفكر العربي المعاصر "
طه حسين " في كتابه " في الأدب الجاهلي" حيث أخضع الأدب الجاهلي لمبدأ
الشك الديكارتي نتيجة لذلك ثار عليه الأزهر فهو بالتالي يمكنه أن يخضع
وأن يجعل الآخرين يفكروا بأن يخضعوا الآيات القرآنية وأحاديث الرسول
إلى الشك أيضاً.
زمن المفكرين أيضاً " نصر حامد أبو زيد " الذي طرح فكرة إمكأنية
تأويل وتفسير القرآن ليساير التطور وبأن تفسيره يختلف من عصر لآخر "
فالإسلام مرن " .[8]
السياسة الدينية الإسلامية الجديدة " الانبعاث الإسلامي المعاصر " :
هناك أسباب تكمن وراء ظهور هذه السياسة تشمل :
- التطورات الواسعة الحديثة في الرأسمالية" العولمة " التي زادت
الإنتاج الكلي ولكن بشكل غير متساوٍٍٍٍ حسب المنطقة والطبقة والعرق
واتسعت بالتالي فجوات توزيع الدخل وعدم ضمان العمل، الأمر الذي أدى إلى
تفاقم السخط " ضياع الهوية ".
- هذا السخط شجعه الركود الاقتصادي الذي أصاب أغلب مناطق العالم.
إضافة للحركات اليمينية الشعوبية " القوميات الصغيرة والسياسات الدينية
الممزوجة غالباًً بالقومية " الأصولية " في مناطق عديدة في العالم.
- الهجرة المتزايدة " لتحسين المعيشة " والتي تؤدي إلى توترات ناتجة
عن معاناة المهاجرين النفسية" الغربة " ومن السياسات الدينية المعادية
لهم في المهج، مما يؤدي إلي نشوء إيديولوجيات مضادة وتمركزها في الخارج
" الأصولية ".
- وهناك أسباب تتعلق بالتغيرات الحديثة في بنية العائلة، إضافة على
النمو الحضري والتعليم الذي سمح للناس أن يعبروا ويصبحوا أكثر
استقلالاً وشوقاً لإيجاد هويات جديدة يعبروا من خلالها عن سخطهم
بفاعلية أكبر. [9]
- تنامي المعارضة السياسية بموازاة أزمة الشرعية التي تعيشها الدولة
والسياسة العربية ولا تنبع هذه الأزمة من تفاقم نظم الاستبداد وتراجع
قدرات وإمكانيات الدولة القطرية نفسها على مواجهة الحاجات الاجتماعية
فقط، وإنما تنبع أيضاً من " المأزق التاريخي " لهذه الدولة نفسها الذي
يعود إلى أسباب عالمية منها:
1 – التجمعات والتكتلات الإقليمية، التي أصبحت وحدها فقط تستجيب
لاحتياجات تطور القوى المنتجة وتنظيم المبادلات الإنسانية الثقافية
والروحية.
2 – الشركات المعددة الجنسيات، التي لا تعترف بالحدود القطرية في
علاقاتها الإنتاجية مما أدى إلى إضعاف شرعية الحدود السياسية وألغت إلى
حد كبير مفهوم " السيادة القطرية المستقلة عن بقية الدول ".
- نمو الطالب اللا أخلاقية، وذلك في تنامي عناصر الحلل والسقوط
والتنكر للذات وانعدام الحس بالكرامة الآدمية وتوسع دائرة الاحتقار
المتبادل، وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية والبؤس الاجتماعي والتمييز شبه
العنصري والتنافس الحيواني على المكاسب المادية والاستهلاكية، والمناصب
على حساب أي نوع من المبادئ والقيم والمثل الإنسانية، هذا الأمر دفع
بمشاعر العودة إلى التوظيف في الدين وإحلاله محل السياسة المدنية أي
تحويل الرهان الأخلاقي إلى رهان رئيسي في المعركة السياسية. [10]
- أن جوهر نجاح الأصولية قائم علة ما تنكره عليها الحركات السياسية
الأخرى" أي توظيف هذه الحركة الإسلامية للثقافة والروح العربية
والإسلامية في المعركة السياسية وبالتالي تحويل " الإرث الجماعي العام
" إلى رصيد بنخبة اجتماعية مناوئة للنخبة القائمة، فإذا كأن هناك رفض
من قبل النخبة القائمة للأصولية فليس ذلك بسبب رفضها اقتسام السلطة أو
كرهها للدين، بل لأن الأصوليات أصبحت الآن في طريقها لأن تؤسس في
المجتمعات العربية ولأول مرة، وضعاً سياسياً داخلياً قائماً على وجود
نخبتين متميزتين كلياً" فهي تهدد الحزب الواحد ووحدة السلطة" وهذا يعني
وضع مسألة تداول السلطة موضع البحث لأول مرة في السياسات العربية
الحديثة في حين لم تكن المعارضة الكلاسيكية العاملة في إطار " النظم
العلمانية والوطنية " تلغي إمكانية اقتسام السلطة مع النخبة القائمة
والمشاركة معها.
ونلاحظ الآن تطوراً باتجاهين متعارضين معاً:
1 – من جهة – تصاعد قوة فكرة العلمانية في المجتمع كرد على الموقف
الديني المتطرف في العمل السياسي.
2 – ومن جهة ثانية – توظيف مكثف للقيم الدينية في العمل الاجتماعي-
ينعكس في تنامي الحركة الإسلامي.
مما يوضح أن هناك أزمة انتقال خاصة بالمجتمع الإسلامي في سياق هذا
التحول المجتمعي الحضاري الجديد.
وجهة نظر متبناة:
أن العلاقة بين الدين والسياسة في الفكر العربي لم تكن يوماً من
الأيام منفصلة بعضها عن بعض في عهد الرسول محمد وفي العهد الراشدي، لكن
ومنذ العهد الأموي بدا أن السلطان والدولة قفذت فوق الدين لتحتويه
ولتبعد الجانب الروحي للدين مقابل الجانب المادي.. واستمر الوضع حتى
عصر النهضة " القرن الثامن عشر " الذي طرح فكرة المواءمة والتوفيقية
بين الإسلام وتقاليد المدنية الغربية. ومع اتساع المد الإسلامي المعاصر
وظهور الحركات الإسلامية المعاصرة ظهرت فكرة القطيعة الفكرية والمادية
مع الغرب وحتى إبعاده حضارياً فلا حضارة غير الحضارة الإسلامية.. الأمر
الذي زاد الأمور تأزماً.
و من هنا يمكننا القول أن الفكرة الدينية ليست حكراً " ضمن
تأثيراتها الاجتماعية " على أحد فهي في مجال الجميع بلا استثناء سواءً
رغبنا أو لم نرغب فالمنظومة الموجودة في مجتمعنا هي منظومة دينية...
ولأن الدين أحد أهم مصادر القيم الاجتماعية التي يعيشها الأنسان
العربي، فلا يستطيع السياسي أن يمارس أفعاله خارج إطار المنظومة
الاجتماعية الدينية الموجودة. ولذلك، فالفكر العربي المعاصر يجب أن
بأخذ بعين الاعتبار العامل الديني لكن ضمن إطار فكرة " العقد الاجتماعي
السياسي" فإذا كنا قد فقدنا فرصة بناء الاجتماع المدني على الأخوة
الديني بسبب تغير اتجاه مشاعر الإيمان، كما فقدنا فرصة بنائه على
الفكرة الوطنية بسبب إجهاض الدولة الوطنية " إسلامياً وقومياً"، فعلى
أي مبدأ يمكن لنا أن نراهن لإعادة بناء اجتماعنا المدني؟! علنا أن ندرك
أنه لم نعد نملك أي مبدأ ثابت وفاعل وجامع، فجوهر وجودنا المدني الراهن
هو " التمزق والانقسام والتشتت " وهو أساس الأزمة التاريخية التي تخبط
فيها ولن نخرج منها إلا:
1 – بتوحيد العقيدة والعقائد ولكن فقط على أساس الاعتراف بالاختلاف.
2 – وذلك ببناء المؤسسات السياسية والمدنية التي نستطيع من خلالها
أن نحييد نزاعاتنا العقيدية والفكرية. ومن هنا تبرز " الدولة القانونية
" لا تجسيد لقيم معينة ليبرالية أو غيرها، وإنما كوسيلة إجرائية
مناسبة، وإلى جانبها لابد من الديمقراطية التي تبرز كمؤسسة عملية لا
كقيمة عقلية.
أن للدين فيما يقدمه لهذا الفريق أو ذاك من عناصر شرعية لخوض الصراع
اليومي على السلطة، دوراً أساسياً في بناء الأساسيات العميقة للاجتماع
المدني وفي المجتمعات العربية بشكل خاص لايزال الدين عامة والإسلام
خاصة المصدر الأول أن لم نقل الوحيد للقيم الرمزية والتاريخية
والأخلاقية التي يقوم عليها بناء المدنية والحس الحضاري فهو من هذه
الزاوية أهم مرتكز لهويتهم شاءوا أم أبوا.
.....................................................................
المراجع :
1 – أنظر، د.حسن حنفي، الدين والثقافة والسياسة في
الوطن العربي، ص 226- 227 .
2 – أنظر، أوليفيه روا، تجربة الإسلام السياسي،
ترجمة نصير مروه، ص 38- 39 .
3 – أنظر، برهأن غليون، نقد السياسة " الدولة والدين
" ص
5 – أنظر، روجيه غارودي ، الأصوليات المعاصرة
أسبابها ومظاهرها، تعريب د.خليل خليل، ص ( 75- 78 – 79 ) .
6 – أنظر، أوليفيه روا، تجربة الإسلام السياسي، مرجع
سابق، ص 35 – 121 .
7 – أنظر، برهأن غليون نقد السياسة.. مرجع سابق، ص
50 .
8 – اظر محاضرات ألقاها الدكتور سمير اسماعيل، أستاذ
الفكر السياسي في المعهد العالي للعلوم السياسية بدمشق، الفصل الثأني،
عام دراسي 1999 – 2000 .
9 - أنظر، نيكي آر.كدي، السياسات الدينية الجديدة
أيم ولماذا، مجلة النهج، عدد 59/ صيف 2000 ص 49 -
10- أنظر، برهأن غليون، نقد السياسة " الدولة والدين
" مرجع سابق.
........................................................................................
1- محمد السماك / المغربية
2- برهان غليون/ فضائية الجزيرة
3- تقرير - مصطفى كاظم / Arabic bbc.
4- مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
5- إبراهيم غرايبة/ فضائية الجزيرة
6- نواف القديمي/ جريدة الشرق الاوسط
7- شبكة امين
8- فائق الربيعي/ مركز النور
9- عرض: عدنان عباس سلطان/ شبكة النبأ المعلوماتية
10- د. حسن حنفى / موقع اهل القران
11- مركز دراسات الشرق الاوسط
12- محمد عبد الجبار/ جريدة الزمان العراقية
13- عبد الحليم فضل الله/ جريدة الاخبار اللبنانية
14- موقع مستقبليات
15- أحمد السعداوي/ شبكة الزوراء الاعلامية
16- هيلينا كوبان / جريدة الاتحاد الاماراتية
17- سمير محمود ناصر/ مركز الدراسات والابحاث
العلمانية في العالم العربي |