المرونة والحنكة السياسية التي يتمتع بها الرئيس العراقي السيد
جلال طالباني، لم تسعفه في تجنب غضب العروبيين من كتاب ورواد فضائيات،
كما لم تسعفه جنسيته العراقية، ولا تعلقه بالعاصمة بغداد، ولا انتمائه
الثقافي العربي ولا حتى عشقه للجواهري، فقد اطلق الرفاق العنان
لالسنتهم واقلامهم للتنديد والرفض والاحتجاج والاعتراض على شغل سيادته
لمنصب رئيس الجمهورية، منذ لحظة انتخابه الى يومنا هذا.
اخر ما سمعته على احدى الفضائيات العربية، كان قول احدهم " كيف يحكم
كردي عراق المأمون والمنصور عراق الحضارة والعروبة ؟" واخر ما قرأت في
الشأن نفسه، كان ما توصل اليه كاتب عراقي من اكتشاف مدهش وعبقري، يقر
فيه " بفشل جلال الطالباني في أن يكون رئيسا لكل العراقيين بسبب ولائه
القومي الكردي".
في الحقيقة، وبدون لف او دوران، اجد نفسي وللمرة الاولى، متعاطفاً
مع القومجيين العرب فيما ذهبوا اليه، فمن الصعب نسيان الماضي القريب
بطرفة عين، والقبول برئيس جديد للعراق لايشبه رئيسهم القديم، فالسابق
كان بطلاً قومياً عروبياً من الدرجة الاولى، يحمل السيف العربي ويلبس
العقال يوماً، وفي اليوم الذي يليه يظهر بقبعة الكوبوي ويغزو شقيقة
عربية مجاورة لاحتلالها ونهبها، معهم الحق كل الحق الرفاق ان يرفضوا
جلال الطالباني كرئيس جديد للعراق، فرئيسهم كان محارباً شرساً
وعدوانياً على كل الجبهات، وكان الاكثر بطشاً على وجه البصيرة، ولم يكن
يرف له جفن وهو يقيم المشانق في طول البلاد وعرضها دون رقيب اوحسيب،
اما رئيسهم الحالي المنتخب "مام جلال"، فعلى العكس تماماً، هو رجل
مسالم يعرف عنه دبلوماسيته ودماثة خلقه، والانكى من هذا وذاك انه من
دعاة الغاء عقوبة الاعدام.
ما حدث ويحدث في العراق، تحول هائل لا يتحمله العقلاء المعتدلين
فكيف نلوم المتعصبين القوميين، انها حالة عسيرة الفهم والهضم، ولا
غرابة في رفض البعض لرئيس منتخب ديمقراطياً، فهم لم يعتادوا على مدى
عقود، الا على الانقلابات والرئيس القائد، ومعهم الحق ان يرفضوا رئاسة
كردي للعراق العربي، فالعراق كان لوناً واحداً بالضبط كزعيمهم الاوحد،
ومقاييسهم في الحكم على الرؤساء والقادة كانت وماتزال سادية خالصة،
فبحكم العادة والارث السياسي والثقافي الشمولي وبحكم الزمن تأصل فيهم
نزعة تقمص دور الضحية المولع بالجلاد.
ما لايدركه البعض، ان ترأس كردي لدولة العراق يعتبر واحداً من اقوى
وافضل الضمانات ترسيخاً لوحدة العراق، في المقابل، الاعتراضات العنصرية
للقومجيين العرب على الرئاسة الكردية والتفريق بين العراقيين في الحقوق
والواجبات، والمطالبة بحصر المناصب العليا في الدولة على قومية معينة
دون اخرى، تعتبر من اكثر الدعوات خطورة لتقسيم العراق وتفتيته.
على الرغم من الظروف الصعبة والقاسية التي يمر بها العراق، نجد
الرئيس العراقي السيد جلال الطالباني يمارس دوره التوافقي بين الفرقاء
العراقيين على افضل وجه، وربما يكون الرجل هو الامثل والافضل بين
اقرانه، ليضرب به المثل على التعايش الكردي العربي.
انتخاب ومن ثم تولي رئيس كردي لمنصب الرئاسة في العراق، حقيقة
ديمقراطية يشكر عليها اولاً واخيراً، الاغلبية الصامتة من الشعب
العراقي واصحاب الاصبع الازرق الشجعان، اما "طرطرة" البعض من الكتاب،
وجعجعة البعض من ابطال الفضائيات، فهي ان دلت على شيئ، فهي تدل على
حالة البغض والكراهية المزمنة لدى اصحاب ايام زمان، وهم في الحقيقة لا
يستحقون الرد الا بكلمتين لا ثالث لهما، ونقولها على طريقة رئيسهم
السابق، وليحقد الحاقدون.
* كاتب سوري
d.mehma@hotmail.com |