في منتصف أكتوبر 2002م, شاركت في ندوة دولية حول عبد الرحمن
الكواكبي, كانت بعنوان: (حركة الإصلاح في العصر الحديث: عبد الرحمن
الكواكبي نموذجاً) عقدت في العاصمة الأردنية عمان, بمناسبة الذكرى
المئوية الأولى لرحيل الكواكبي, قامت بتنظيمها خمس جهات رسمية وأهلية
تعنى بقضايا الفكر والثقافة, منها وزارة الثقافة الأردنية التي أدرجت
هذه الندوة في إطار أنشطتها الخاصة باختيار عمان العاصمة الثقافية
للعالم العربي لعام 2002 م.
حضر هذه الندوة نخبة من الباحثين والأكاديميين ومنهم حفيد الكواكبي
الأكبر القاضي السوري سعد زغلول الكواكبي الذي كتب السيرة الذاتية
الموثقة لجده الكواكبي في كتاب صدر عن مكتبة بيسان في بيروت بعنوان:
(عبد الرحمن الكواكبي السيرة الذاتية), وكان حضوره بمثابة اتصال بذاكرة
الكواكبي وبسيرته وتاريخه.
في هذه الندوة قدمت بحثاً بعنوان: (عبد الرحمن الكواكبي والإصلاح
الإسلامي), وقد أظهر حفيد الكواكبي إعجابه بهذا البحث, كما تحدث بذلك
إلى آخرين.
وختمت هذا البحث, بسؤال حرض على مناقشات من المشاركين والحاضرين,
والسؤال هو: إذا كان عصر ما بعد القرن التاسع عشر الميلادي ظهر فيه
كواكبي واحد, فإننا في عصر بحاجة إلى أكثر من كواكبي، فأين هو الكواكبي
في عصرنا؟
والحاجة إلى الكواكبي هي الحاجة إلى خطابه الإصلاحي، والى جرأته
وشجاعته وصوته العالي في وجه الاستبداد ومناهضته, فالخطاب الذي جاء به
الكواكبي كان على قدر كبير من الأهمية والفاعلية والتميز، وهو الخطاب
الذي ما زال حياً ونابضاً إلى هذا اليوم، وندرك بعمق ضرورة أن يكون هذا
الخطاب حاضراً ومتحركاً في حياتنا وعصرنا, وفي ذاكرة الأمة وفي وجدان
كل فرد فيها.
فقد اكتشف الكواكبي بعد ثلاثين عاماً من البحث, كاد يشمل كما يقول
كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم فيه الباحث عند النظرة الأولى، أنه
ظهر بأصل الداء أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق,
والكلام للكواكبي, أنه لم يظفر بشيء أو أن ذلك فرع لأصل, أو هو نتيجة
لا وسيلة, وقد تمحص عنده أن أصل الداء في عصره هو الاستبداد السياسي
ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية.
وحين يصف الكواكبي حاله, وهو يتحدث عن كيفية توصله إلى هذه النتيجة
يقول: طالما اتبعت نفسي في تحليلها وخاطرت بحياتي في درسها وتدقيقها,
وبذلك يعلمون أني ما وقفت على الرأي القائل بأن أصل الداء هو الاستبداد
السياسي, إلا بعد عناء طويل يرجح أني قد أصبت الغرض.
الكواكبي الذي توصل إلى هذا الرأي في أواخر القرن التاسع عشر
الميلادي, هو الرأي الذي نتوصل إليه بعد خاتمة قرن وبداية قرن جديد,
حيث ما زال الداء وعلة العلل هو الاستبداد بصوره كافة, وبالذات
الاستبداد السياسي. فالاستبداد الذي حاول الكواكبي مواجهته والتهويل
منه, والتحريض على مقاومته, وبعث الكراهية نحوه, هو أكثر ما تفشى في
الأمة بعد غيابه, لكننا ينقصنا الكواكبي الذي يرى نفسه في مواجهة
الاستبداد, مواجهة شاملة وجذرية, ويعتبرها معركتة الأولى وقضيته
الرئيسية, كما كانت هي قضية الكواكبي في عصره, القضية التي عرف بها
الكواكبي من بين كل المصلحين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي الحديث في
القرون الثلاثة الأخيرة, بحيث أصبح متلازماً الحديث عن الكواكبي
والحديث عن الاستبداد.
والذي أجزم به أن الفكر الإسلامي المعاصر والأدب العربي الحديث لم
ينجز كتاباً في الاستبداد يتجاوز أو يماثل كتاب الكوكبي في طبائع
الاستبداد. الكتاب الذي ما زال يحتفظ بقيمته المعرفية ومرجعيته الفكرية
وبحيويته المعنوية والأدبية في حقله ومجاله, وهو يكشف عن مستوى الوعي
الرفيع الذي وصل إليه الكواكبي, والإدراك العميق في تحليل مشكلة الأمة.
كما يكشف عن جرأة وشجاعة واحساس بألم وكراهية شديدة للاستبداد. فهو
الكتاب الذي ينبغي أن يعرفه ويقرأه الجميع, وتدرس نصوصه في مناهج
التعليم, لأنه أفضل كتاب يعلم الأمة كراهية الاستبداد ومناهضته, ويقدم
أفضل تشريح لماهية الاستبداد وأصوله وعلائقه بالدين والعلم والمال
والأخلاق والتربية والترقي.
الاستبداد والنهضة علاقة علاقة
شرطية
ليس في الأمة اليوم آفة أعظم وأخطر من آفة الاستبداد, الآفة التي
طالما حاول الكواكبي قاصداً ومتعمداً أن يهوّل منها, ويبالغ في
توصيفها, ويعظم خطورتها, فتارةً يقول (الاستبداد أعظم بلاء لأنه وباء
دائم بالفتن, وجدب مستمر بتعطيل الأعمال حريق متواصل بالسلب والغصب,
وسيل جارف للعمران, وخوف يقطع القلوب, وظلام يعمي الأبصار, وألم لا
يفتر, وصائل لايرحم, وقصة سوء لا تنتهي) ويقول أيضاَ ( أن الاستبداد
داء أشد وطأة من الوباء, أكثر هولاً من الحريق, أعظم تخريباً من السيل,
أذل للنفوس من السؤال, داءٌُ إذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء
ينادي القضاء القضاء, والأرض تناجي ربها بكشف البلاء).
وكان يفترض أن يساهم هذا الكتاب في تطوير وتأكيد اهتمامات الفكر
الإسلامي المعاصر بقضية الاستبداد والاستبداد السياسي بوجه خاص, إلا أن
هذه الاهتمامات كانت محدودة جداً, لا تعادل هذه المشكلة وحجمها
وخطورتها, وبالشكل الذي يمكن أن يعد تراجعاً أمام معضلة, كان من
المفترض أن تستحوذ على أوسع الاهتمامات لأنها وكما وصفها الكواكبي أصل
الداء وعلة العلل. الأمر الذي يفسر لنا محدودية حضور الكواكبي وخطابه
الإصلاحي في الأدبيات الإسلامية المعاصرة, وهذا ما ينبغي أن يراجع
ويعاد النظر فيه.
ومن أجل تكوين المعرفة بخطاب الكواكبي علينا التعرف على ما يمكن أن
نصطلح عليه بفلسفة الكواكبي, والمقصود بهذه الفلسفة هو معرفة الناظم
المعرفي الكلي الذي يؤطر وينظم مجموع الأفكار والتصورات والمفاهيم التي
كوّنها الكواكبي وعبّر عنها هذا أولاً, وثانياً معرفة الحد الحقيقي
الذي يميز فكر الكواكبي عن غيره من المصلحين الذين عاصرهم بشكل خاص
كالسيد جمال الدين الأفغاني, والشيخ محمد عبده, والشيخ محمد رشيد رضا,
والميرزا محمد حسين النائيني وغيرهم.
ويمكننا أن نفهم فلسفة الكواكبي عن طريق كتابيه الشهيرين وهما
(طبائع الاستبداد) و(أم القرى) فالأول كتاب في الاستبداد, والثاني كتاب
في النهضة. وبذلك تكون فلسفة الكواكبي في هذه العلاقة بين الاستبداد
والنهضة, في حين أن فلسفة الأفغاني هي العلاقة بين الجامعة الإسلامية
والنهضة, وفلسفة عبده هي العلاقة بين الإصلاح الإسلامي والنهضة.
والعلاقة بين الاستبداد والنهضة هي علاقة بين الهدم والبناء, وهي
علاقة شرطية أيضاً فلا بد من معالجة الاستبداد لكي نتقدم نحو النهضة,
هذه هي الفلسفة التي بحاجة إلى أن تكون فاعلة في حياتنا ووجداننا, وفي
أدبياتنا وخطابتنا.
* باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات
المعاصرة
رئيس تحرير مجلة الكلمة.
http://www.almilad.org |