هل سيصبح العراق في ذمة  التاريخ؟

قريبا:  كردستان و سنيستان وشيعستان

الترابط  الجدلي بين تحرير الذات من قهر الذات، و تحرير الذات من قهر الآخر

علاء الدين الأعرجي

 رسالتان تثيران مزيدا من القلق

تلقيت خلال الأيام الأخيرة رسالتين تثيران مزيدا من القلق. فقد عزّاني  أحد أقربائي بمقتل زوج ابنة أختي.  وكانت الأسرة قد هـُددت قبل ذلك عدة مرات لدفعها إلى النزوح إلى حي آخر. وقال إن العراقيين منهمكون  بقـتل بعضهم بعضا، إلى حد الإبادة الجماعية، وإن هناك تهجير جماعي بين المناطق. فالسنة يلزمون الشيعة على الرحيل إلى منطقة  أخرى أكثر شيعية وألا يتعرضون للويل والثبور، بل القتل كما حدث للمرحوم "أياد" زوج ابنة أختي، والعكس صحيح من الجانب الآخر. علما أن "أيادا" (القتيل) سنيّ وزوجته شيعية، وهناك الملايين من الأسر السنية- الشيعية، في العراق، الأمر الذي يدل على أن  هذه المسألة  لم تكن مطروحة أصلا. وسأوضح ذلك أدناه.   

كما تلقيت رسالة أخرى من أحد الأصدقاء ينبهني إلى خبر مأخوذ من بعض المواقع الأمريكية الرسمية، يكشف عن خريطة جديدة  لمنطقة الشرق الأوسط،  يتقسم بموجبها العراق إلى ثلاث بلدان: كردستان و سنيستان وشيعستان، فضلا عن تقسيم أو تغيير حدود بقية البلدان العربية والآسيوية في المنطقة. ونلاحظ أن أسماء البلدين الأخيرين في العراق  ترتبط بالطابع غير العربي والطائفي فقط، مما يلغي الهوية العربية للعراق  تماما.

هاتان  الرسالتان  أعادتا إلى ذهني ذكريات وأحداثا، بعيدة بمقياس الزمن، قريبة جدا وحبيبة بمقياس العقل والقلب، وجديرة بالعناية والفهم وأخذ العـِبر،  في هذه الظروف القاسية بالذات، ومن هذه الذكريات:      

مسألة السنة والشيعة لم تكن مطروحة قبل دخول الأمريكيين

في عام 1948، عندما كنت طالبا في المدرسة الثانوية المركزية في بغداد، اشتركت بنشاط في تنظيم إضرابات وخاطرت بقيادة تظاهرات صاخبة تدعو إلى شجب وإسقاط معاهدة بورت سموث"، بين بريطانيا والعراق، التي كانت ستحل محل معاهدة 1930.

 فعلى مدى عشرة  أيام  حامية ودامية،  من 17 كانون الثاني/ يناير حتى 27 منه( 1948)، تعرضنا  لضرب  الشرطة المبرح ولرصاص النظام "البائد"، خلال ثورة شعبية عارمة، سُجنتُ في أيامها الأخيرة، واستشهد خلالها العشرات من زملائي الطلاب العـُزّل ومن عامة الشعب، حتى أسقطنا تلك المعاهدة. وأذكر من هؤلاء الشهداء شمران العلوان وقيس الألوسي وجعفر مهدي الجواهري. ولهذه الأحداث وعواقبها، أهمية كبرى في الوقت الحاضر بالذات، لأنها تدل، بين أمور أخرى،  على أن مسألة السنة والشيعة لم تكن مطروحة في العراق أصلا، ولا من الأمور المُفكر بها.  في حين يقتتل السنة والشيعة اليوم، ويضحك  العدو، ولسان حاله يقول"يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ". كما يقول الشاعر العربي:

لا يدرك   الأعداء  من   جاهل            ما   يدرك الجاهل من نفسه

  والمفارقة الصارخة، الجديرة بالاعتبار، في أحداث وثبة الـ 48، هي أن رئيس الوزراء  العراقي، الذي حدثت بسببه هذه الثورة الشعبية العارمة، بعد أن وَقـّع  مسودة معاهدة "بورت سموث" مع بريطانيا، التي اعتبرها الشعب العراقي مجحفة ومذلِة، كان "صالح جبر" وهو شيعي، أسقطته وحكومته تلك الانتفاضة العظيمة، التي قادها الطلاب الشيعة والسنة على السواء.

والمفارقة الأدهى والأعمق، التي لم تكن تعتبر كذلك في وقتها، بل كانت تعدّ  أمرا طبيعيا جدا، ولكنها اليوم جديرة بالتذكير والتأمل والتعلـّم والتفهم وأخذ العـِبر، إذا اعتبرنا: هي أن  الشاعر العراقي المعروف محمد مهدي الجواهري،  وهو من أسرة شيعية نجفية عريقة، دَبَّـجَ قصيدة عصماء،  تتكون من مائة بيت تقريبا، ليست في رثاء أخيه الشاب جعفر الذي استشهد برصاص النظام البائد، بقدر ما هي  في تكريم "الشهيد"، بوجه عام، كرمز للكفاح الوطني والقومي،  فضلا عن أنها كانت زاخرة بالتحريض الشديد على الثورة ضد  الحكام العرب الطغاة على شعوبهم، والعبيد للآخر، وبالهجاء الشديد لرئيس الوزراء الذي عقد تلك المعاهدة،  وهو شيعي أيضا، كما قلنا. والأهم اكثر، أن هذا الشاعر ( الشيعي) اختار،  أن يلقي هذه القصيدة، في احتفال جماهيري هائل، جرى له بهذه المناسبة، في أكبر جامع سُنيٍّ( جامع الحيدر خانة)،  يقع على "شارع الرشيد" وسط  العاصمة، حيث ضاقت ساحات المسجد الكبرى بتلك الجموع الغفيرة، فتوزعوا على الساحات المجاورة، ومنها ساحة الأمين سابقا (ساحة الرصافي فيما بعد)، والشوارع المحاذية التي وضعت فيها مكبرات الصوت. ولم يشعر الشيعة بأي غضاضة، لأنه لم يـُفضـّل أن يلقي قصيدته في مسجد  مرقد الإمام موسى الكاظم، في  حي "الكاظمية"، مثلا. كما لم يشعر السُنـَة، في وقتها، بأي فخر أو تميـَّز. فقد كانت هذه من الأمور غير المفكر بها أصلا. فهلا  نعتبر؟!

نعود إلى قصيدة الجواهري البليغة، التي علق عليها في إحدى مقابلاته مع الصديق الناقد محمد الجزائري:  فقال إنها" أفظع كل قصائدي وأشدهن لصوقا بذاكرتي... لا تبارحني لدراميتها العنيفة، وما دفعت من ثمن غال في سبيلها، وهي أكثر القصائد والأحداث شخوصا في ذاكرتي" ( من كتاب " ويكون التجاوز").  وأذكرها بقدر من التفصيل، لأنها، في مبناها ومغزاها، لم تكن تخاطبنا نحن الطلبة الثائرين العراقيين الذين تعرضوا لرصاص الحكومة فقط، بل تخاطب جميع الشعوب العربية الأخرى، وتحرضها على الثورة ضد حكامها الخونة أو العملاء،  كما تخاطب جميع الشعوب المستعبدة الأخرى التي تناضل في سبيل تحرير وطنها وعزته. 

يقول  الجواهري في مطلع القصيدة وفي بعض مقاطعها البارزة:

أتـَعْـلـَمُ   أمْ   أنتَ  لا  تـَعْـلـَــمُ؟         بأن  جـِراح  الضحايا   فـَم ُّ ؟

فـَـمّ ٌ  ليس    كالمدعي     قولـَة ً        وليــس     كآخـَرَ   يسترحم ُ 

يصيحُ  على المُدْقِعينَ  الجياع ِ         أريقوا   دماءَكـُمُ    تـُطعَـمـوا

ويهْـتـِفُ  بالنـَّفـــر  المُهطِعين         أهـيـنـوا  لِئــامُكمُ    تــُكـْـرَموا

( المهطعون: الذليلون)

                         *            *              *

أتعلمُ  أن  جـِراحَ  الشـهيـد             تـَظـَلُّ   عن الثأر ِ تـَسْـتـَـفِهـمُ

أتعلم  أن  جـِراحَ   الشهيـد              من الجوع  تـَهضِمُ ما  تـَلهمُ

تـَمُصُ  دما ً ثـمَّ  تبغي دما ً             وتبقى  تُـلِـحُّ    وتـَسْـتـَـطعِـم ُ

                         *          *           *

يقولون من هُـمْ  أولاءِ الرُعاع ُ       فأفـهـِمْهُمُ   بـِدَم ٍ  من    هـُـــمُّ 

وأفهـِمْهـُمُ   بــــــدم    أنـَهُــــم ْ        عَـبيْـدُك  إن  تـَدْعُهُـمْ  يَخدُموا    

وأنــَّكَ  أشرفُ  مــن  خيرهم         وكــعبـُك   من   خـدِّهِ  أكـــرمُ

 وهذا المقطع الأخير، الذي يخاطبنا نحن الطلبة وعامة أبناء الشعب الثائر، (الذين وصفهم بيان الحكومة بـ"الرعاع")، وخاصة الشهداء من أقراننا، وهو موجه ضد رئيس الوزراء، السابق ذكره، مع بطانته،  لاسيما الشطر الأخير، الذي لا يخفى معناه الهجائي العنيف على القارئ اللبيب.

 وهكذا كنا نكافح بدمائنا، ليس فقط ضد الاستعمار البريطاني، بل ضد أذنابه من السلطة العراقية الحاكمة وخاصة نوري السعيد وصالح جبر وبعض أفراد الأسرة المالكة، ولاسيما الوصي على العرش عبد الإله، الذين كنا نعتبرهم  دُمى تتحرك بخيوط السفارة البريطانية، ونحن واثقون أننا نناضل في سبيل تحرير بلدنا من هذه الطغمة الفاسدة والتابعة، وتحرير أنفسنا من طغيانها وعسفها.

ولكن المفارقة الأصعب والأغرب، أننا لاحظنا بعد مرور نصف قرن أن الذين جاءوا  بعدهم  من الزعماء "الوطنيين المحرريين"، تحولوا إلى حكام مستبدين أشد قهرا وإرهابا، مما كان عليه أذناب الاستعمار، ليس في العراق وحسب بل في جميع البلدان العربية التي اندلعت فيها الثورات "المباركة". ومع ذلك تقبلنا الحكم الاستبدادي على مضض خضوعا لمبدأ " القبول بالقهر الذاتي للوصول إلى قهر الآخر". ولكن هزيمة الـ67 كشفت هشاشة النظم العربية الثورية وتخلفها، ليس على الصعيد العسكري وحسب بل على مختلف الصُعد  الحضارية البنيوية الأخرى. وانتهت حرب الـ 73  الظافرة بتحييد وتدجين أهم  دول المواجهة(مصر والأردن).(أنظر " النهضة والسقوط في الفكر المصري" غالي شكري).  

نعم، كان  الحكم الملكي البائد  قبل الثورة المباركة  فاسدا فعلا ولكن الذي جاء بعدها  أدهى وأمرّ، إلى حد أصبح معظم العراقيين يعتبر ذلك "العهد البائد"، بما فيه من عيوب، جنة الله في أرضه، بالمقارنة مع ما مرّ على هذا الشعب من مآس ونكبات وما يمر به اليوم من ويلات، قد تكون أدهى في المستقبل.  

والسؤال الكبير والصعب: لماذا حدث، وما يزال يحدث، ذلك؟ أي لماذا فشلت جميع تلك الانتفاضات والثورات أو الانقلابات الوطنية المخلصة، فوصلنا إلا الحد الذي أصبحنا فيه نترحم على عهودنا البائدة ؟ ربما نجيب عن ذلك على النحو التالي:

 التفاعل الجدلي  بين تحرير الذات من قهر الذات، وتحرير الذات من قهر الآخر

هناك مسألة أساسية تتعلق بالترابط الجدلي الوثيق بين "تحرير الذات من قهر ذاتها"، و"تحرير الذات من عسف الآخر". ولم  أعثر، حتى الآن، على مَنْ طرحها أصلا، ناهيك عن من عالجها جذريا وعلميا، على نحو كاف.  فعندما كنا وما نزال، نحن العرب نناضل في سبيل تحرير أرضنا، وتحقيق استقلالنا، لم نفكر، في ذات الوقت، بتحرير ذواتنا من  قهرها  الذاتي بتأثير" العقل المجتمعي"(شرحت أبعاده في كتابي" أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل"، دار كتابات، بيروت)،  الذي سيطر على أفكارنا وسلوكياتنا خلال فترة الـ14 قرنا الماضية بوجه خاص.  فنحن ما نزال عبيدا لهذا "العقل"، الذي تشكلت أهم خصائصه منذ ذلك الحين، على الأقل.

ومع أن هناك  مظاهر وتجليات كثيرة لهذا "العقل المجتمعي"  ما تزال باقية تنخر في جسد المجتمع العربي الإسلامي المعاصر، مما أدى إلى تخلفه عن اللحاق بركب الحضارة العالمية المتفجرة، وبالتالي خضوعه وخنوعه لسيادة "الآخر"، وتجـَبـّره؛ غير أننا سنقتصر فقط على ذكر مظهرين يرتبطان بوثوق بالتاريخ العربي الإسلامي، الذي شكل بنية "العقل المجتمعي" العربي وهما"الحكم الاستبدادي والتعصب المذهبي":

أولا:  الحكم الاستبدادي، الذي تعرض له المجتمع الإسلامي العربي على مرّ العصور، وخاصة منذ نهاية الخلافة الراشدة، لم تتمكن الشعوب العربية التخلص منه حتى اليوم، على الرغم من جميع الانتفاضات والثورات، التي ما تكاد تنهي  مرحلة من مراحله حتى يسقط الشعب في مرحلة أخرى، قد تختلف في زعمائها  أو شكلها ووعودها، ولكنها تعود تلك الزعامات فتمارس الاستبداد بدرجات وأشكال وذرائع مختلفة. كما حدث تماما بعد الثورات(التي كنا نسميها مباركة)، في مصر والعراق والجزائر وسورية  وليبيا واليمن والسودان وغيرها. يقول هشام شرابي:" إن الذهنية الأبوية أول ما تتمثل في نزعتها السلطوية الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوبا لفرض رأيها فرضا"(النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، ص16). وهكذا شكلت الذهنية الأبوية جزءا مهما من "العقل المجتمعي" العربي، حسب مفهومنا. فأصبح  الحكم الاستبدادي   متأصلا في المجتمع العربي، يسعى إليه القائد بمختلف الحجج، وتقبله الرعية طائعة أو مرغمة، باعتباره قدرا محتوما، أو إذعانا للقول "المأثور" تاريخيا لدى رجال الدين المسلمين  الذين كانوا يبررون للرعية مشروعية حكم الخليفة الفاسق بقولهم: "من اشتدت شوكته وجبت طاعته". ويقول السيوطي، صاحب تاريخ الخلفاء أن الخليفة الأموي "يزيد بن عبد الملك"، أحضر أربعين شيخا فشهدوا له ما على الخليفة حساب ولا عذاب". وجدير بالذكر أن يزيد هذا قد اشتهر بحب الغناء والطرب ومعاقرة الراح، والعشق خصوصا لجارية أسمها "حبابة" (بتشديد الباء الأولى)، بل مات عشقا. علما أنه جاء بعد عمر بن عبد العزيز، الذي ملأ الدنيا عدلا وتقوى ولكنه لم يلبث في الحكم  إلا عامين وبضعة أشهر. ويمكن القول أن جميع الخلفاء الذين حكموا في أعقاب الخلافة الراشدة، التي بلغت ثلاثين عاما تقريبا، كانوا، باستثناء خلافة عمر بن عبد العزيز القصيرة، كانوا مستبدين بدرجات متفاوتة.      

 ثانيا: التعصب المذهبي: ابتداء من لحظة وفاة الرسول محمد(ص)،  ظهر الخلاف بين الصحابة على الأحقية في الخلافة.  ثم تكثــَف هذا الخلاف وتعقد واستشرى نتيجة استعار الصراع الدموي بين الأمويين والهاشميين، في أعقاب مقتل الخليفة عثمان،(وقائع الجمل وصفين وكربلاء). ومنذ ذلك الحين ظل هذا الصراع، الذي يـُطلق عليه" الفتنة الكبرى" (بتعبير طه حسين في كتابه بنفس العنوان)، قائما، يختفي آنا ً ويظهر آنا ً آخر. فسبب الكثير من المآسي وسفك الدماء، (انظر كتاب " مقاتل الطالبيين،لأبي الفرج الأصفهاني، وكتاب" سيد الشهداء، الحسين بن علي، لعباس محمود العقاد). ويطلق لفظ " الشيعة"على  الذين  يعتقدون بأحقية الهاشميين  (الإمام عليّ وذريته)، بالخلافة، بعد وفاة االرسول"ص"، والفئة المعارضة لهم "السُنـَّة ". المهم في الأمر أننا لم نتمكن حتى الآن من تحرير أو تنظيف عقولنا من مجريات تلك "الفتنة الكبرى"، وذلك لأننا كنا وما نزال، نواجهها بـ"عقل منفعل" بتأثير "العقل المجتمعي" السائد، الذي ظل مسيطرا على عقولنا كجماعات وأفراد منذ قرابة 14 قرنا، وذلك بدلا من أن نواجهها بـ" عقل حداثي فاعل"، يدرك ويستوعب مستلزمات اللحظة الحاضرة، وما تتطلبه من تكاتف جميع الجهود لمجابهة "الآخر"، الذي استغل تفرقنا وصراعنا هذا من أجل  السيطرة على  أرضنا  ومواردنا ومقدراتنا. ولئن أكره وأستنكر استخدام  تعبيري" السنة والشيعة"، أضطر إلى أن أوجه كلامي إلى الشيعة بأن يلتزموا  بالآية المُحكمة الآمرة" ولا تزر وازرة وزر أخرى"، ويتعظوا بالقول " عفا الله عما سلف". كما يجب على "السنة"، أن يقبلوا نتائج التصويت أو الانتخاب الحر والصحيح. ويجب على الزعيم المنتخب أن يكون رئيسا للجميع بدون أي تمييز بين المذاهب والأديان والاتجاهات السياسية.    

تلاشي الصراع المذهبي في العراق منذ ثورة العشرين، وأمريكا تعيد إحياءه

   وكعرب عراقيين، كنا منذ العشرينيات من القرن الماضي نمر بمرحلة ضمور ذلك الصراع، بل ربما تلاشيه تدريجيا أحيانا.  وتجلى  ذلك خصوصا خلال ثورة العشرين، (التي أشعلتها القبائل الشيعية بوجه خاص، وانضمت إليها القبائل السنية بفعالية شديدة). كما تجلى هذا التضامن والتعاون، بشكل واضح أيضا خلال ثورة / حركة رشيد عالي الكيلاني(السني)، في عام 1941،  الذي أيدها الشعب بجماهيره الشيعية والسنية على السواء. ومن الأدلة على ذلك أن والدي السيد صادق الأعرجي، الصحافي المجاهد والشاعر المعروف، الذي ينتسب إلى أسرة شيعية عريقة، ألقى قصيدة من إذاعة بغداد تمجد تلك الثورة وتدعو العراقيين جميعا إلى دعمها بأموالهم ودمائهم. وقد اعتقل بعد فشل الثورة جزاء على قصيده تلك. ومن مطلع هذه القصيدة:

 الحكم  للسيف ما لم  يحكم  القلم        والفصل بالكلم ِ  ما  لمْ   يفصل ِ  الكـَلـِمُ

فحكـِّم السيفَ لا ترضى  به  بدلا ً       إن جارَ  في حـُكمه ِ  أو أنصفَ الحـَكـَم ُ

 وتكرر هذا التضامن في وثبة 1948 وثورة 14 تموز 1958، بل لم تعد مسألة السنة والشيعة مطروحة أصلا.  ومع أن الحرب العراقية الإيرانية أذكت بعض المشاعر المذهبية لدى بعض الجماعات السنية المتعصبة أو ذات التفكير الضيق، ولكن اللافت للنظر أن الجيش العراقي  حارب ببسالة وإخلاص وتضحيات كبيرة،  ضد إيران، مع أن أكثريته الساحقة تتألف من الشيعة، مما يدل على أن الشعور القومي العربي الأصيل لدى العراقيين الشيعة يتجاوز كثيرا الانتماء  المذهبي أو الطائفي.    

ولكن حين قامت قوات التحالف  باجتياح العراق، يبدو أن المحتل عرف نقطة الضعف هذه، فقام بإحياء تلك الجذوة الخامدة في "العقل المجتمعي"، التي قد تؤدي إلى تقسيم العراق. وقد ظهرت معالم تلك الدلائل منذ اختيار أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، الذي تكون بناء على التشكيلة العرقية والطائفية المتنوعة للعراق. وذلك على الوجه التالي: 13شيعة، 5سنة، 5 أكراد، واحد كلدو آشوري،واحد تركماني.

وقد أدى هذا التقسيم، الذي تكرس فيما بعد، إلى إحياء النعرات الطائفية التي كانت نائمة في العقل المجتمعي، مما أسفر أخيرا عن قيام الحرب الطائفية المستعرة حاليا. ويقال، أن جهات أجنبية، عكفت على تأجيج هذه النعرات، بالقيام بأعمال إرهابية على المراكز الحساسة لكلا الطائفتين، مما ألهب الموقف. فأرجو أن يتنبه العراقيون خاصة والعرب عامة إلى ما يحاك لهم، وهم في نوم عميق أو في ضلال سحيق. وهذا يذكرني بأبيات من قصدية قالها الشيخ إبراهيم اليازجي منذ عام 1868، أوجهها إلى العراقيين خاصة والعرب عامة:

تنبهوا  واستفيقوا   أيها  العربُ         فقد  طمى  الخطب حتى غاصت الرُكبُ  

الله  أكبر،  ما  هذا  المنام   فقد         شكاكـــــمُ  المهدُ   واشـتـاقـتكـمُ    التـُربُ

فشمروا وانهضوا للأمر وابتدروا      من دهركم  فرصة  ضنتْ بهــــا  الحقبُ

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 20 تشرين الثاني/2007 - 9/ذوالقعدة/1428