استراتيجية الأمن القومي... بين النقد والتحليل

محمّد جواد سنبه

 من المؤلم حقاً أن يقوم منظّر (استراتيجيّة الأمن القومي)(العراقيّة)، بنشر إعلان متواصل، على الصفحات الأولى للصحف، يومي 23  و24/10/2007، يدعو فيه إلى أهمية (استراتيجية الأمن القومي)، ومدى فاعليتها وتأثيرها وانعكاساتها على حياة المواطنين.

 فمتى أصبح منظروا الاستراتيجيات القومية للشعوب، ينشرون اعلانات الترويج لبضاعتهم وباسمائهم في الصحف ؟؟. هل من المنطقي أن يقوم صاحب فكرة معينة، أو كتاب محدد، بنشر إعلان في الصحف باسمه، يدعو فيه إلى فكرته أو كتابه ؟؟!!. أليس من المفروض أنْ يكتب الغير، سواءاً كان إطراءاً أو نقداً أو تحليلاً، عن تلك الفكرة أو ذاك الكتاب، ليصبح الموضوع أكثر حجيّة وقوّة ؟؟. إنّها سابقة تاريخيّة ابتدعتها العقلية (الدعائيّة الديمقراطيّة) في العراق الجديد، التي لا تختلف عن سابقتها في العراق القديم (الدعائيّة الدكتاتوريّة) إلاّ بتغيّر الأسماء فقط.

ومن المبكي أنْ يختتم هذا (الإعلان الاستراتيجي) بالسطر التالي: (إنما يتوقف انجازها (يعني/استراتيجيّة الأمن القومي)، على درجة التلاحم العضوي بين المواطن والدولة في الاحتضان والتبني والحماية المتقابلة)(انتهى)، أنا شخصياً أطالب السيد مستشار الأمن القومي بتفسير لهذه الفقرة، وإلا فالأمر يعد استخفافاً بعقول العراقيين عامّة وعقول المثقفين خاصّة. أيّ تلاحم وأيّ احتضان وأيّ تبني للحماية المتقابلة تتحدثون عنه يا أصحاب السعادة. هل المقصود ردم الهوّة السحيقة، والفجوّة الكبيرة بين أصحاب السعادة وسكان (حي التنك/حي طارق والمعامل... مثلاً)، وإذا خانكم التعبير وكان قصدكم كذلك، فمن المسؤول عن هذا الوضع ؟؟. ثم أنّ هذا الإعلان بحدّ ذاته، يعظّم المسافة الفاصلة بين أصحاب المعالي والمواطن المحروم، بسبب الفيهقة الكلاميّة المتعاليّة، التي لا مبرر لها على الإطلاق، فالكلام (حسب فنّ القيادة الجماهيريّة الواعية)، يجب أنْ يكون على قدر استيعاب أبسط الناس.

من المفجع بحقّ، أنْ يتبنى البعض أفكاراً توهمه بأنّ جلَّ العراقيين، لا يميزون بين الناقة والجمل، الأمر الذي يوقعهم بواهمة ذهنيّة، توحي لهم بالتذاكي على الآخرين، والنظر إليهم بنظرة دونيّة تفرض استحمارهم سلفاً، مستمدين فرضياتهم الجبروتيّة تلك، من الممارسات التعسفيّة، التي كان يمارسها النظام الشمولي البائد، في تمرير اللامعقول، على الشعب العراقي (الفطن اللقن) كما يقول المثل العربي، عن طريق قتل الأجساد والأصوات والعقول معاً. بيّد أنّ مورثنا الشعبي يعطينا إشارات واضحة، عبر الأمثال الشعبيّة، تشير بأن العراقيين، ملتفتين لهذه النظرات الإستصغاريّة، منذ عهود قديمة ربّما تصل إلى ما قبل الإستعمار التركي بكثير، وقد تمتد جذورها إلى فترة تعسف الحكم الأموي. ومن هذه الشواهد:(العراقي يقرأ الممحي) أو (مفتح باللبن).

أردت من هذه المقدمة أنْ أوصل فكرة نباهة العراقي إلى الذين يتماهرون عليه (بطريقة التقاطيّة) ظلماًً وبهتاناً، فالعراقي لا تكاد أنْ تفوته سانحة أو بارحة، إلاّ وسجّل ملاحظاته عليها سلباً أو إيجاباً، لكن المسافة البعيدة التي تفصل المتعالين عن أبناء الشعب جعلتهم يقعون في مأزق عدم الفهم الدقيق لخصوصيات الشخصيّة العراقيّة. وإذا كان الفرد العراقي البسيط، يعيش في دوامة الصراع، الذي سببته له الكتل السياسيّة المتصارعة على السلطة، وجعلته يعزف عن المشاركة في الحدث، جرّاء حالة اليأس المريرة التي يمرّ بها، فإن المسؤوليّة الوطنيّة تحتم على الأشخاص المثقفين الواعين، التصدي لرفض أيّ فكرة تستغفل الناس، والسكوت عن هذا التوجه، يعتبر مشاركة في تمريرها على المجتمع.    

في القريب من مطلع شهر تشرين الأوّل من هذا العام، أعلن السيد مستشار الأمن القومي العراقي أمام عدسات الفضائيات، عن ولادة (استراتيجية الأمن القومي العراقي 2007- 2010)، لكني لم أعثر على هذه الوثيقة، لغرض الاطلاع على تفاصيلها، إلاّ في الإسبوع الأوّل من نفس الشهر، وعلى صفحة موقع (صوت العراق). فعكفت على قراءتها بشكل دقيق، بغية تحليلها واستنباط المفيد منها، لغرض الكتابة فيه ونشره، لتعميم الفائدة على الآخرين. غير أنّي وجدت نفسي في آخر المطاف، مثقلاً باحباط شديد، تمنيّت لو أنّي لم أسمع عنها شيئاً البتّة، وتمنيت كذلك، أن لا يُوَطِئَ مقدمتها السيد رئيس الوزراء المحترم، صاحب الخطاب المصقع، واللسان المبدع، والبيان الممتع، لأسباب تطعن في: 1. بنية صياغة النصّ. 2. قانونية النصّ. 3. فاعليّة النصّ. 4. علميّة النصّ. 5. مرجعيّة النص. وسأتناول بالنقد والتحليل هذه الفقرات بالتعاقب، مبتدئاً في هذه الحلقة من البحث، بالفقرة الأولى:

1. بنية صياغة النصّ:

إنّ منشئ أو منشئي النصّ المكتوب لـ(إستراتيجيّة الأمن القومي)، ليسوا من الأكاديمين أو الباحثين في الشؤون الاستراتيجيّة، لسبب موضوعي هو: خلوها من أيّة افكار (سَوقيّة)، تخص قضايا التعبئة الكبرى أو الشاملة والتي تسمى حديثاً (استراتيجية). والملفت للنظر (حسب قناعتي) أنَّ استراتيجيّة الأمن القومي، قام بكتابتها منشئ أو أكثر، من اشخاص لم يقرأوا بالمرة أيّ مصدر علمي مختص بموضوع الاستراتيجية. وأحب أن أوجّه أنظار أولئك المتفذلكين، إلى الرواد الذين كتبوا في هذا العلم والفن، علّهم يحصلوا على المصادر التي تثري معارفهم في هذا المجال، ويبدءوا بكتابة استراتيجية جديدة أكثر نضجاً و واقعية و فاعلية. ومن أولئك الرواد العباقرة، رائد السَوّق العسكري الصيني(صن تزو/صاحب كتاب (فن الحرب)/عاش في الفترة 475 - 221 ق.م)، الذي أفاد منه (ماو تسي تونغ)، فائدة عظيمة في رسم استراتيجية الصين الشيوعيّة). التطور الحاصل في فكر السَوق العسكري منذ زمن (فردريك الكبير/ ملك بروسيا /1763-1756م)، إلى سَوق (نابليون بونابرت/1789-1815م). استاذ علم السَوق البروسي الجنرال(كارل فون كلاوسفيتز/1780- 1831م). و(انطوان جوفيني/ أحد ضباط نابليون بونابرت/1779-1869م/صاحب كتاب/ ملخص فن الحرب/الذي دُرِّس في كليات الاركان الفرنسية لفترة طويلة/صاحب نظرية السيطرة على البحار تعني السيطرة على الدول). و(المارشال البروسي هلموت فون مولتكه/1800-1891م). والأمريكي (الفريد ماهان/1840-1914م). و(الجنرال الإيطالي جيو ليو دوهي/1869-1930م/صاحب إستراتيجية السيطرة على الجو لا على البحار سرّ التفوق الإستراتيجي على الجيوش). و(ليدل هارت /صاحب استراتيجية التقرب غير المباشر). وكذلك الاطلاع على استراتيجية (الحرب الإسرائيليّة الخاطفة)، واستراتيجية حرب النجوم التي اعتمدت في زمن الرئيس الأمريكي ريغان).

إنّ قارئ ورقات (استراتيجية الأمن القومي)، يلاحظ ببساطة متناهية إسلوب (اللف والدوران) حول الفكرة الواحدة، لاستنباط أكثر من صياغة إنشائيّة، ودرجها كفقرة تضاف إلى الفقرات السابقة. لذا نلحظ بكل وضوح، تكرار الفكرة الواحدة في أكثر من موضع، ولكن بصياغات إنشائيّة مختلفة. وجدير بالذكر ان عدد أوراق (استراتيجية الأمن القومي)، تسع وعشرون صفحة، منها أربع صفحات فهرس المحتويات، أي ما يعادل 13% من مجموع صفحاتها فهرسة. وملاحظة أخرى لماذا لم يعمل منظروا (استراتيجية الأمن القومي) بمبدأ (الشفافية) الذي ورد أكثر من مرّة في النصّ، ويبيّنوا على الأقل اختصاصات فريق العمل الذي ساهم في صناعة هذه الاستراتيجية الفريدة، ليتسنى للمواطنين العراقيين الاطمئنان إليهم ؟؟. ولماذا الاقتصار على المناصب التي منحت لهم، فلربما هذه المناصب منحت للبعض منهم، على حين غرة وبغفلة القانون (كما حصل في زمن سفير الاحتلال الأمريكي (بول برايمر)، حيث تقلد بعض الاشخاص، رتباً عسكرية عالية، وشارات الأركان وهم لم يكملوا الدراسة المتوسطة بعد ؟؟!!. إذا كان نشر اسماء صنّاع الأمن القومي العراقي، يلحق الضرر بالمصالح القومية للأمة العراقية، فعلى العراق السلام !!!.          

في الحلقة الثانية سأتناول إن شاء الله تعالى بحث بقية الموضوع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 11 تشرين الثاني/2007 - 30/شوال/1428