شبكة النبأ: الطبيعة التكوينية
الاساسية لدى الانسان استغراق ومواصلة، لأشباع الذات بشتى السبل
الممكنة، وهو شأن الحيوانات والنباتات ايضا، فالحيوان تنصب جل جهوده
منذ حياته الاولى الى الهلاك في اشباع الحاجة التي يحسها على الدوام،
فيما تكون النباتات يهيمن بعضها على البعض الآخر استحواذا على الغذاء
والضوء والمساحة، واذن فان حالة الانا هي السائدة كناموس حياتي تكويني،
يساهم في غايته باستمرار حياة الاجناس، وهو بالتالي يمهد لتطورها من
خلال الصراع، الذي ينتج بالمحصلة نوعا من التطور والموائمة مع الظروف
الطبيعية، اي بما يسمى الارتقاء ضمن التهيئة الربانية وبمساحتها
المقدرة.
والانسان يخرج جانبه المتفرد عن العالم الحيواني بكونه عقلا، والعقل
ذكريات وتجارب، فميوله موزعة بين الماضي والحاضر والمستقبل، لكن تلك
الميول تحيا على قاعدة الارادة لولوج اليوم القادم.
والطبيعة الاجتماعية لها الجانب الثقيل في تشكيل الاماني لدى
الافراد، بحيث تغدو تلك الاماني مقبولة بدرجة ما في نظر المجتمع، اي
القبولية النسبية في صنف من المجتمع، كان يكون التاجر مع التجار
والصانع مع الصناع والاقطاعي مع إقطاع آخر، وان تكون هذه الاماني
المتحققة في الحاضر او المستقبل مبررة اخلاقيا، بحسب المفهوم الاخلاقي
السائد، بغض النظر من كونها مزيفة او تقترب من الاصالة للمفهوم
الاخلاقي بدرجة ما.
الانسان من خلال ذلك، وعبر تجاربه في تحقيق الذات المدبّر، ظهرت
لديه افكار وطرق وتاويلات في استغلال اخيه الانسان، وباشر ببناء ذاته
الدونية على مأساة الافراد الضعفاء من الذين تنقصهم مستلزمات القوة،
والله سبحانه وتعالى لم ولن يترك البشر سدى دون ان ينير لهم درب
الحياة، فقد توالت على بني البشر الرسالات السماوية والرسل والانبياء،
فتكونت عبر ذلك المرجعية الاخلاقية والانسانية، وليس غريبا من ان يقال
بان الدين هو الاخلاق! ذلك لان الدين هو الاصل في تشكل الاخلاق، وهو
ايضا المرجع والنبع الحقيقي لها على مر الزمان.
ولكن هل حسم الصراع وانتفى الاستغلال، وارتجع كل الناس الى سلوك
الاخلاق الفاضلة التي ارادها الله سبحانه وتعالى؟.
ان الخطين المتضادين سيبقيان الى آخر الزمان، حيث ان الصراع هو سمة
من سمات الحياة مذ ان اغوى الشيطان آدم توالت تلك الخروقات الاخلاقية،
مرورا بحادثة قابيل وهابيل، واطلالة واسعة على تاريخ الانسانية الحافل
بالويلات والمصائب والصراع الدامي بين بنو البشر ترينا اصالة الصراع في
الطبيعة البشرية.
والفساد وان لم يكن صراعا مباشرا بين الناس إلا انه يعبر عن التضاد
بين الفرد ورغبته في الاستحواذ وبين ارادة ومصلحة المجموع الاجتماعي،
اي بمعنى الصراع السلبي غير المسلح، والذي يخضع الى التبريرات والكذب
والتدليس والمراوغة والحيل والنصب والاحتيال والاستغلال.
اي انه سرقة مدبّرة تحت العين الاجتماعية، والتي غالبا ما تقع في
اطار القانون وفي ظلاله المعتمة واروقته ومتاهاته غير الواضحة، مثل
فساد الموظفون العامون في قطاع الدولة ، او في القطاع الخاص، والاعمال
الحرة بكل انواعها وتصنيفاتها.
الفساد اذن عودة من السفح الى حضيض الوادي الاخلاقي، اي انه عودة من
البشرية باتجاه الدونية الحيوانية وفق ناموسها وغرائزها وتدافعها على
الكلأ.
النظام في هذه النقطة التي يصلها الافراد الدونيون الفاسدون، نظام
غير اخلاقي، وهو مغاير لما ينبغي ان يكون، سواء في نطاق ذات الفرد، او
في العائلة، او في المحيط الاجتماعي، فيعيش هذا الفرد في جسد المجتمع،
مثل مرض بطئ ياكل في النمط الاخلاقي الاصيل، ليحوله الى نمط مهلك
للمجتمع، ومعطل للدولة، باعتبارها عاملة بالجهد الاجتماعي، اي بالقيمة
المادية التي ينتجها المجتمع برمته، او بما يسمى المال العام الذي تاكل
به ارضة الفساد بشراهة.
الفساد اذن نمط من السلوك، يغاير في طبيعته الاصالة الاخلاقية
الدينية، والرسالات المتعاقبة التي اسست لها على مر العصور والحقب،
والفساد ارتكاس مهين للانسان، بكونه ينزل مختارا الى مصاف الحيوانية،
وانتهاج منهجها الغريزي، ولن يكون سوى الجسد المجرد هو الوحيد الذي
يوحي بالصلة الزائفة مع بنو البشر.
ذلك لأن الانسان عقل يترجم الاخلاق الى سلوك ورسالة ناصعة وصادقة
للمستقبل اي للاجيال المتابعة والمتتابعة في اليوم القادم.
والفساد يتنوع في كل المجالات الحياتية، منها السلوك الاجتماعي،
والذوقي، والبيئي، والوظيفي، والفكري، والاسري، والتربوي، والنسق
الشكلي الدال على العمق المعنوي بوجه عام.
وهو بعد ذلك لا يتجزا وينفصل عن المفهوم الايماني لمبدأ الدين،
باعتبار الانسان خليفة الارض ،وهو الحامل لهذه الامانة العظيمة،
والرسالة الجليلة، وهو الممنوح من اجلها جوهرة العقل. |