شط العرب الصغير نهر آخر اغتالته الحروب

كاظم فنجان الحمامي

 انه نهر آخر اغتالته الحروب, وراح ضحية الزمن والمعارك الطاحنة والآفات والإهمال.  كان يحمل مياهه العذبة إلى قرى (البوارين), و(الخرنوبية), و(عتبة), و (الدعيجي), و(الصالحية), و (الحسيبية), و (كوت السيد). ويضج بالنشاط والحيوية بجوار شقيقه الأكبر شط العرب, وينساب بمحاذاته. وهو اقصر وأرشق وأجمل واهدأ منه, ولا طاقة له على استيعاب السفن الكبيرة. فاختار أن يغفو بجانبه, ويتوارى خلف الجزر الثلاثة المتسقة على حافة الممر الملاحي, والتي تبدأ من الشمال إلى الجنوب بجزيرة (العجيراوية), ثم جزيرة (الطويلة), وأخيرا جزيرة (الشمشومية)..

وجميع هذه الجزر تقع شرق شط العرب, في المنطقة المحصورة بين الخورة وجزيرة أم الخصاصيف (أم الرصاص)..

ولشط العرب الصغير مدخل شمالي, ينحصر بين جزيرة العجيراوية وقرية (الصالحية), التي شيد على ضفافها أول مقر لإدارة الموانئ العراقية عام 1919. ومدخل آخر يقع عند مقتربات ضفاف (شلهة الأغوات)..

 إن من يتجول في شط العرب الصغير تتجلى له مناظره البهيجة المزدانة بغابات أشجار النخيل. ويرى المتجول في أريافه كأنه يتنزه في بستان جميل المنظر. حيث تتفجر المياه العذبة بين الحقول الخضراء. وتمرح الأسماك الملونة في مياه الجداول والغدران, في عالم مائي فريد يعج بأسماك الشانك والحمري والشبوط والكطان والبياح والبني. بينما تختال القوارب والأبلام في قلب النهر. ويمارس الإوز العراقي احتفالاته بحركات بهلوانية , تصاحبها زغاريد متناغمة مع أصوات الأمواج الخفيفة المنبعثة من تلاطم الماء في عرض النهر..

وتكتسي ربوع وواحات شط العرب الصغير بمظلة خضراء مشبعة بالندى, ومزينة بفسيفساء الطيف الضوئي الحالم. ولا يستطيع المتجول في تلك الواحات أن يقاوم سحرها الطبيعي.. كانت الواحات زاخرة بعرائش العنب المتشابكة مع سعف النخيل وعذوقه المتدلية بقناديل رطب الخستاوي, والبريم والقنطار والليلوي والبرحي. فتتقاطع مع أغصان اشجار التين والبمبر والنبق البمباوي وشجيرات الرمان والمانجو (الهمبة), في نسيج مدهش مطرز بتشابكات الأغصان الطرية البارعة الروعة. تتسلل من خلالها خيوط الشمس الذهبية, فتنعكس على جبهة النهر وتزداد توهجا وبريقا. وتتقافز فوقها العصافير والبلابل الجميلة والطيور الداجنة, وتعطرها الأزهار البرية بأريجها الفواح, في تركيبة عجيبة من نفحات ملكة الليل ورائحة الرازقي الذكية, وشذى الجوري, والأقحوان الممزوج بعبق حبوب اللقاح. وتداعبها النسائم العذبة في هبوب رومانسي منعش..

ولعل ابرز ما تتميز به قرى شط العرب الصغير هي طيبة أهلها, وابتسامتهم الريفية المفعمة بالمحبة, ودماثة أخلاقهم, وبساطتهم الفطرية, وسخاء كرمهم, وسهولة التعامل معهم..

وتتفرع من شط العرب الصغير مجموعة كبيرة من الأنهار والجداول. أشهرها ( نهر جاسم ). ذلك النهر الذي ارتبط اسمه بأعنف المعارك الهجومية في التاريخ الحديث. ووقعت على ضفافه في العام 1987 أشرس المواجهات الحربية, وأكثرها دموية. فتحول إلى نسخة دنيوية من جهنم الحمراء, بحممها المستعرة بالنيران, وشظاياها المرعبة, التي تلتهم البشر والحجر فتصرخ (هل من مزيد)..

وتحولت ضواحي نهر شط العرب الصغير إلى ساحات مفتوحة لكل أنواع المعارك الساحقة, والغارات الحربية الكاسحة. وسرقت عذرية تلك الرياض والمزارع والحقول لسنوات طويلة. فاجتثت اشجار النخيل من عروقها, وغرقت في مستنقعات الدم. وحلت محلها السواتر الترابية, والمواقع الإسمنتية المحصنة, والتعزيزات الهندسية الهجومية والدفاعية. وجففت الأنهار, وجرفت البساتين, وهجرها السكان بعد أن زلزلت الأرض تحت أقدامهم, ولاذوا بالفرار فزعا وروعا. وأخليت القرى تماما منذ انطلاق الشرارة الأولى في العام 1980, وتلتها سلسلة متلاحقة من المعارك البركانية المتوحشة. التي عصفت بالمنطقة برمتها, وأحالتها إلى هشيم محترق. وقلبت عاليها سافلها.

ونال نهر شط العرب الصغير قسطا كبيرا من الدمار. بعد أن اغتالته الحرب الضروس. ومزقته قنابل المدفعية الثقيلة. وخنقته المعابر الترابية التي أقيمت فوقه. وامتلأت أعماقه بالدبابات والعجلات العسكرية المحطمة. فتقطعت أوصاله. وتغيرت ملامحه. واجتاحه الخراب الشامل. وتوقفت مياهه عن الجريان منذ عام 1980 ولغاية الآن.

وصارت تلك الرياض في تداعيات الذاكرة, واختفت الربوع الجميلة في دفاتر النسيان. ودفن شط العرب الصغير تحت الركام والردم. وسجل في عداد الأنهار الموتى. لكنه ما زال مزروعا في قلوب أهله وخالدا في ذاكرتهم.. وكتبت على قبره هذه الأبيات الشعرية المحرَفة (*) من قصيدة السياب:

عيناك غابتا نخيل ٍ دونما سحَرْ 

والغابتان دونما ثمرْ

عيناك لا تبتسمان

من حجرْ !

قد عادتا ، والشط جف ّ

والنخيل ُ في ضفافه انتحرْ

والشرفتان نامتا في الظلامْ

لن ترقص الأضواء كالأقمار كالنجوم كالحمامْ

جميعهم قد هاجروا

وارتحل النهَرْ

(*) – حرفت قصيدة (أنشودة المطر) من قبل الشاعر خلدون جاويد, مع الاعتذار للشاعر الكبير بدر شاكر السياب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 5 تشرين الثاني/2007 - 24/شوال/1428