شبكة النبأ: الفاصل
الحقيقي بين الهمجية وبين انسانية الانسان تكمن في حقيقة انجاز الانسان
لعمله والعمل هنا قد يكون فضفاضا في تفسيره ومعانيه لكنه بالمجمل يمثل
تلك الاعمال التي تخرج عن الذات بصفة خاصة اي ما يتصل بالمصلحة
الاجتماعية العامة والتي يقوم بها فرد او مجموعة من الناس على غرار ما
يقوم به الموظفون في دوائرهم الحكومية او العمال في البناء او
الزراعيون والصناع والمتعهدين والمقاولين والشرطة والقضاة ومن شابههم
حيث ان قضية عملهم في واقع الحال هو دينهم ومبدأهم ورسالتهم في الحياة
بكل ما تحمل هذه الرسالة من سمو وارتقاء ومبدأية وهي ميدان نضالهم كما
لو كانوا جنودا في الدفاع عن دينهم ونهجهم الاخلاقي وجمالهم المعنوي.
اما الهمجية والانتماء الى الذات على حساب العمل والانتقاص من
استحقاقات المجتمع والتباهي بعد ذلك بالمكتسبات المادية لأعلاء الشأن
الخاص انما هي عملية تعطير الجيف والمحتوى الآسن وطلاءه ببراق الزيف
والنكوص في المحتوى الى الرذيلة وعبادة الذات وهذا لعمري الاشراك
المفرط والعميق الذي يتمتع به كثير من افراد المجتمع وعندما نريد ان
نخفف الوطئه فنقول الخوض في التردي الاخلاقي والغرق في اللامعنى.
والحقيقة التي يجب ان تقال عن تطور الشعوب الاوربية وعن السبب في
ذلك التطور انما يرجع الى الاخلاص في العمل لدى الانسان الاوربي ومدى
تفانيه في الانجاز المتميز لأنه يعتقد على الدوام بانه لا يمارس العمل
من منطلق انه عمل وانما من منطلق انه يحقق هدفه الشخصي من خلال العمل
ولذا فقد انتج هذا التصرف قانون سرى على المجتمع برمته وانتج شخصيات
قانونية وسياسية فيما انتج العمل الشكلي في الاوطان العربية الى قوانين
فضفاضة وشخصيات راكسة وحكومات ظالمة شمولية اي بمعنى ان الطينة
الاجتماعية هي التي تفرز دائما طينة الدولة وقمة الدولة على السواء.
فالمجتمع يساهم الى حد كبير في انتاج حاكميه، ومن الظروف المريضة
التي مرت على العراق واستقراء لتاريخه منذ العهد العثماني نرى انه من
الطبيعي ان يتسنم دكتاتور كصدام حسين قمة الدولة العراقية لعقود
طويلة.
واستقراءا من الفترة التي تلت التغيير في العراق 2003 فانه يكون من
الطبيعي ان يستشري الفساد في الاجهزة الحكومية فيما كان الفساد في
العمل قد اودى بمبالغ كبيرة جدا من المال العام دون ان يترك اثرا في
التنمية الاقتصادية بشتى صنوفها وهذا ايضا من هاجس الانتماء الى الذات
الفردية كاخلاق سائدة في اعداد كبيرة من المجتمع العراقي.
وعلى هذا فان وجود حكومة تصل الى درجة معقولة من القبول تعد بعيدة
المنال في الوقت المنظور وهذ تؤيده الآية الكريمة التي تقول: ان الله
لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم.
فالعمل الجاد والمخلص الذي يبذله المرء انما يعد الفاصل بين ما يؤمن
به وما يرائيه من سلوك يدحض الادعاء وهو السقوط في بؤرة الزيف والدجل
فان كثير من الناس ما يعجبك قوله الا انه في الحقيقة هواء بل ويتعدى
ذلك الى الاساءة والحاق الضرر بالمجتمع وهذا ما رايناه في المتحصلات
العملية في المنجز التنموي او الاعمار في الخدمات التي رصدت لها مبالغ
كبيرة وكان نتيجتها زيادة امد الخراب من خلال هشاشة المنجز الاعماري في
تبليط الشوارع او الابنية وربما يسعنا القول عندما نقول ان البنية
التحتية للبلد العراقي كان مضيعة للمال العام دون ان تسجل اي طرق او
انجازات مخلصة في اغلب المشاريع الخدمية او المدارس التي رممت او شيدت
كذلك المجاري وشبكات الكهرباء.
لاشك بان الموظفون ورجال الشرطة والمشتغلون في الماكنة الادارية
والعاملون العاديون في البناء او الزراعة هم افراد من المجتمع ويشكلون
السواد الاعظم من البنية الاجتماعية وهم من يسبغ الخطاب السوي اذ كانوا
اسوياء ويسبغون الخطاب السيء ان كانوا غير ذلك وهذا ليس ناتج برأيي من
عدم الفهم انما هو بنتيجة الانتماء للذات وهو انتماء واعي بدرجة كبيرة
وإلا بماذا نفسر ان الناس طيعون امام القوة واسوياء امام سلطة القانون
القوية ومتحضرون بدرجة كبيرة امام النظام الغاشم؟.
العربي او العراقي عندما يذهب الى دولة اجنبية لا تبذل تلك الدولة
جهدا في تثقيفه او تدريبه لكننا نراه ربما اكثر التزاما من مواطني تلك
الدولة وقد يرقى الى المستوى المثالي فيها وهذا عكس طبيعته عندما يعود
الى البلد الاصل وكأنما يمتلك جهازين يتحكمان في سلوكه.
هذا الازدواج ايضا يمارسه بين مواطنيه فهو يدعي الفضيلة ويقوم
بالطقوس الدينية الا انه يعزل بين ايمانه والمبدأئية وبين العمل وكانما
العمل لا علاقة له بالدين فعندما يشمر اردانه وهو يقول يا فتاح يارزاق
قد اعلن بهذه الجملة انقطاعه عن كل ما يتصل بالاخلاق الدينية التي
يدعيها وتبدأ رحلته المليئة بالغش ومسابقة الناس بالحق والباطل حتى
ينتهي وقت العمل ثم تبدأ رحلة الايمان النورية!!!.
في وقت ما ربما في الستينات من القرن الماضي مررت على العامل
البريطاني وهو يقوم بصف اسلاك التلفون وهو احد عمال شركة بريطانية كانت
تعهدت بمد وربط الهواتف في بغداد، كانت ايام تموز، وهو مقرفص في الحفرة
يكاد ان ينتهي من ربط مجموعة قليلة من الاسلاك وتحت هاجس الرقة
العراقية الغير مبالية الضيقة الأفق قلت له ان يربط المتبقي على طريقة
لوي الاسلاك على بعضها دون ان يلحمها فهي تؤدي الى الاتصال وتاتي
بالنتيجة نفسها.. نصحته بذلك ليتخلص من الحرارة المحرقة وهو ينز عرقا.
قال: ربما بعد عشرين عاما سوف يعطل اللوي الذي نصحتني فيه لكن الناس
قد يقولون ان العامل البريطاني كذا وكذا لم ينجز عمله بالشكل الذي
يتوازي مع بريطانيا!!.
لكنني ارى ان اجمل مفارقة ان يقول العربي او العراقي افتراضا وقد
لوى الأسلاك دون ان يلحمها فانصحه باللحيم لانه ضامن على الاستمرار
فسيقول:
ربما يظل صالحا لمدة عشرين شهرا فيقول الناس ان العربي او العراقي
انجز شيئا غير متواز مع سمعة بلاده!!.
عندما يسود فساد العمل فانه ينتج سلطة فوقية فاسدة وهي نتيجة منطقية
في الحياة فالزرع بعده الحصاد والزيف يليه الكساد وهذا غير من يزرع
سنبلة او شجرة او عريشة عنب او محبة في قلوب الناس او وردة على طريق
السابلة فهو ان فعل ذلك وفعل غيره حتى يتشكل بهم الخطاب الجماعي فان
لهم البشرى في دولة عادلة وحاكم مغرم بزرع المحبة والورود. |