مستقبل المحافظين الجدد بأمريكا في مفترق تاريخي

اعداد/ صباح جاسم

شبكة النبأ: على خلفية الصراعات الانتخابية في امريكا وكذلك الخسائر البشرية والمالية في العراق، برز في الاونة الاخيرة تساؤل رئيسي مفاده هل الإخفاق الامريكي في العراق سيكون بداية لإنحسار الفكر المحافظ الجديد، وانتهاء تأثيره مع انتهاء فترتي بوش، ام انه على الرغم من التحديات التي يواجهها على المستويين الفكري والتطبيقي العملي سيظل فاعلاً ومؤثراً على الادارات الامريكية القادمة.

ففي الكثير من التحليلات الأكاديمية داخل وخارج الولايات المتحدة الأمريكية، بدأ الحديث عن نهاية عصر الأيديولوجيات في واشنطن، والتي بدأت تتصدر عناوين الصحف والمجلات واللقاءات، بل المنتديات والمؤتمرات الأكاديمية؛ ولذلك ذهب البعض إلى أن الإخفاق الأمريكي الذي مُنيت به الإدارة الأمريكية يُعد فشلاً في أفكار المحافظين الجدد، فقد كانت أفكار الأخير هي الأساس الذي قامت عليه السياسة الأمريكية في فتري بوش.

ولم يقتصر نقد أفكار المحافظين الجدد على منتقدين من خارج هذا التيار الفكري، بل كان هناك عدد من منتقدي تلك الأفكار من منظريه وقياداته، ولاسيما "فرانسيس فوكاياما" صاحب كتاب نهاية التاريخ، والذي انتقد السياسة الخارجية للإدارة الحالية، التي تعمد على أفكار المحافظين الجدد خلال الحرب الأمريكية على العراق، في كتابه "أمريكا علي مفترق الطرق .الديمقراطية والقوة وميراث المحافظين الجدد". بحسب موقع تقرير واشنطن.

وكذلك المستشار السابق في وزارة الدفاع الأمريكية ريتشارد بيرل، وأحد مروجي الحرب الأمريكية على العراق، وصاحب مخطط الحرب منذ أن كان عضوا ورئيسا لـ مجلس سياسات الدفاع، والذي أُطلق عليه لقب "أمير الظلام"، فيقول لمجلة فانيتي فير، الأمريكية الشهيرة، أن السياسة الأمريكية في العراق تحولت إلى كارثة، وأن الرئيس بوش مسئول عن هذا الإخفاق، وأنه لو علم ما سيحدث لما كان دعم الحرب الأمريكية على العراق. ويُضاف إلى صوت بيرل انتقاد في المجلة نفسها لـ كينث أديلمان، وهو أيضا من المحافظين الجدد، الذي تنبأ سابقاً بأن تلك الحرب ستكون سهلة جداً.

ولتفنيد تلك الأفكار والادعاءات والنداءات التي تصاعدت في الآونة الأخيرة، معلنةً انتهاء أفكار المحافظين الجدد، كتب جوشوا مورافيك "Joshua Muravchik" ـ الباحث بـ معهد المشروع الأمريكي "American Enterprise Institution"، أحد معاقل الفكر المحافظ الجديد، ومن المؤسسات البحثية التي تتبني أفكاره وتعبر عنه ـ، في مجلة "كومنتري" "Commentary" ـ المعبرة أيضا عن أفكار التيار المحافظ الجديد، والتي تصدر عن اللجنة اليهودية الأمريكية، وتعد من أشد مطبوعات اللجنة تشددا إزاء قضايا منطقة الشرق الأوسط، والمؤيدة لإسرائيل، والتي تهاجم أي فرد أو مؤسسة تنتقد إسرائيل والدعم الأمريكي المقدم لها ـ تحت عنوان، ماضي وحاضر ومستقبل المحافظين الجدد، "The Past, Present, and Future of Neo-Conservatism" في عددها لشهر أكتوبر الحالي.

المحافظين الجدد.. النشأة والتطوير

تناول الكاتب في مقالته نشأة الفكر المحافظ الجديد، والذي رأي أنه تيار فكري يعتنقه مجموعة من الكتاب والإعلاميين والسياسيين والأكاديميين، ذوي التوجهات والأهداف المتشابهة، ورغم صغر تلك المجموعة إلا أنها مؤثرة ونافذة في السياسة الأمريكية.

وقد قامت أفكار هذا التيار الفكري على اتجاهين أساسيين، الاتجاه الأول: ركز بصورة أساسية على القضايا المحلية، وتحديداً إعادة دراسة ومراجعة البرامج المجتمعية المتبعة منذ ستينيات القرن المنصرم، وقد عبرت عن هذا الاتجاه دورية "المصلحة العامة" "Public Interest" تحت قيادة "إفرينج كريستول" "Irnring Kristol"، وهو الشخصية المركزية التي تتزعم حالياً هذا التيار، فيلتف حوله مجموعة من المفكرين من تخصصات مختلفة كالاقتصاد، التاريخ، السياسة واللاهوت. والاتجاه الثاني: ركز على القضايا الدولية، والسياسة الخارجية والحرب الباردة، وقد عبرت عنه مجلة "كومنتري" تحت قيادة نورمان بودهيرتز "Norman Podhortz".

وركز الكاتب في جزء كبير من مقالته على رؤية المحافظين الجدد للاتحاد السوفيتي على أنه إمبراطورية الشر "Evil Empire"، وأنه يمثل تهديداً للهوية والتميز والمصالح الأمريكية. ولكن بعد انتهاء الحرب الباردة، وتفكك الكتلة الاشتراكية، وانهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، ثار تساؤل رئيسي حول دور المحافظين الجدد على الساحة السياسية الدولية في ظل غياب العدو والمنافس الرئيسي للولايات المتحدة، وهو ما جعل بودهيرتز يقول في منتصف التسعينيات (1996)، ان التيار المحافظ قد مات (انتهى)، وأن هذا الانتهاء لم يكن نتيجة هزيمة، ولكن كان نتيجة الانتصار والنجاح.

ولذا فعقب انتهاء الحرب الباردة، بدأ يتشكل نوع جديد من المحافظين، يُعلي من مكانة القيم والأخلاق، فانتقل الغضب والنقد من الاتحاد السوفيتي السابق إلى "صدام حسين" و"سلوبودان ميلوسوفيتش" تجاه أعمالهما العدوانية في الكويت والبوسنة على الترتيب. والتركيز على القوة الأمريكية والثقة فيها، والتشكيك في فاعلية العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية أو تدخل الأمم المتحدة، ومواجهه التحديات والمشكلات في مهدها قبل أن تأتي إلى الأراضي الأمريكية، وهو ما ترجمته إدارة بوش الابن في الضربات الإستباقية والإجهاضية.

ويضيف الكاتب بعدا أخر لأفكار التيار المحافظ الجديد، هو الإيمان بالديمقراطية وتعزيزها، والذي كان له بعدا في إدارة "ريجان"، ففي عام 1982 مزج ريجان بين قضية الديمقراطية وسياسته الخارجية في خطابه أمام البرلمان البريطاني، والذي أدي إلى إنشاء "اللجنة الوطنية للديمقراطية" "National Endowment For Democracy"

وتنصب أفكار المحافظين الجدد في الاعتقاد بأن الأمة الأمريكية هي أمه صاحبة رسالة، يجب إيصالها إلى غيرها من المجتمعات، وأن الولايات المتحدة يجب أن تتبوأ مكانة متفردة، تعكس تفوقها ومكانتها الدولية، وأن تحقيقها يقتضي مواجهة القوي المناوئة لكبح الميول العدوانية لدي الآخرين.

مدى تأثير المحافظين الجدد في السياسة الأمريكية

اتت أحداث الحادي عشر من سبتمبر بمثابة نقطة مفصلية في التاريخ الأمريكي، فقبل تلك الأحداث أعلن بوش أنه لن يُبدي اهتماما بالسياسة الخارجية والدولية، وأن واشنطن يجب عليها لعب دور مع أقل الالتزامات. ولكن بعد تلك الأحداث حدث تحول في فكر الإدارة الأمريكية، بحيث حدث التقاء خلال فتري حكم بوش بين نهجه وأفكار المحافظين الجدد. ولعل أهم مظاهر هذا الالتقاء، أن أصبحت السياسة الأمريكية أكثر اعتمادا على القوة في ظل مفهوم جديد لأمن القومي الأمريكي، يذهب إلى ما هو أبعد من الحدود الأمريكية؛ ليشمل أي تهديد مستقبلي أو محتمل للأمن والمصالح الأمريكية. ورفض التقيد بالأمم المتحدة والتحالفات والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ورفض المشاركة أو التوقيع على اتفاقيات ومعاهدات دولية ولاسيما برتوكول "كيوتو"، ناهيك عن التأييد غير المسبوق واللامتناهي لإسرائيل وممارساتها في الأراضي الفلسطينية.

هذا فضلا عن الحديث عن تعزيز الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، انطلاقا من قناعة مفادها أن هناك ارتباطاً بين النظام السياسي والثقافة المجتمعية والنظام التعليمي بمنطقة الشرق الأوسط وتفريخ الإرهاب، الذي أصاب الولايات المتحدة والعديد من المجتمعات الأوربية؛ ولذا كان لابد من القضاء على تلك البيئة المواتية للإرهاب سواء باستخدام القوة على غرار الحرب الأمريكية على العراق، والتي رأي فيها وزير الخارجية السابق "كولن باول" أن العراق بعد تلك الحرب سوف يكون واحة الديمقراطية، ورمح التغير في منطقة الشرق الأوسط. فضلاً عن، الوسائل السلمية كمبادرات الإصلاح والمعونات. فالإدارة الأمريكية انطلقت من قناعة مفادها أن هناك علاقة عكسية بين الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وقضية الإرهاب، بمعني أنه إذا أصبحت النظم العربية ديمقراطية، أصبحت على الجانب الأخر أقل تصديرا وإنتاجا للإرهابيين. والخبرة التاريخية والهجمات التي حدثت بعد الحادي عشر من سبتمبر دحضت جزءا كبيرا من تلك القناعة، بل قوضتها في الكثير من الأحيان.

وهو ما جعل كاتب المقال السابق الإشارة إليه، يذهب إلى رصد نجاح التيار المحافظ الجديد في تكوين حكومة ديمقراطية في أفغانستان، وتخلي "معمر القذافي" عن سعيه لامتلاك أسلحة دمار شامل، وأخيرا إسقاط "صدام حسين" بأقل خسائر في الأرواح، وذلك حسب "مورافيك".

ويرصد أيضا النجاحات الأمريكية في إخراج القوات السورية من لبنان بعد 30 عاما من الاحتلال السوري للبنان، حسب رأيه، وكذلك الانتخابات على مختلف المستويات في مصر، السعودية، الكويت، السلطة الفلسطينية، والعراق أيضا. والضغط على القيادات العربية للالتزام بتعزيز الديمقراطية، توسيع المشاركة السياسية، ترسيخ قيم الديمقراطية، المواطنة، وتمكين المرأة من لعب دور في كافة ميادين الحياة العامة.

ولكن في واقع الأمر أخفقت السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، ففي العراق زادت الخسائر الأمريكية المالية والبشرية، وأصبحت العراق حاليا على شفي حرب أهلية، كما أن سوريا حسب العديد من المسئولين الأمريكيين عادة إلى لعب دور على الساحة اللبنانية، وهو ما تكشف عنه الأحداث الأخيرة على الساحة اللبنانية، وفي أفغانستان عادت حركة طالبان بمساندة تنظيم القاعدة العالمي ـ المتهم من قبل الاستخبارات الأمريكية والغربية في ارتكاب أحداث سبتمبر والعديد من الهجمات الإرهابية التي شهدتها مدنا عربية وغربية ـ إلي القتال مرة أخري مع بداية الربيع (2007)، وتكبيد القوات الأمريكية وقوات التحالف هناك خسائر فادحة. كما نكثت القيادات العربية بتعهداتها بالإصلاح الديمقراطي، كما أخفقت واشنطن أيضا في وقف إيران عن مساعيها للعب دور على الساحة الشرق أوسطية، أو امتلاك قوي نووية.

والفشل الأمريكي على تلك المستويات يُعد فشلا في أفكار التيار المحافظ الجديد التي قامت عليها السياسة الأمريكية خلال فتري حكم بوش.

قيادات خارج السلطة

وهذا الإخفاق الأمريكي أدى إلى سقوط العديد من المؤيدين لأفكار المحافظين الجدد، والذين كانوا يمثلون الأركان الأساسية للإدارة الأمريكية كأوراق الخريف، في ظل تزايد السخط الشعبي والعالمي من سياسات الإدارة الحالية. ففي فبراير 2004 استقال ريتشارد بيرل من منصبه في مجلس سياسات الدفاع داخل البنتاجون، ودوجلاس فيث في يناير 2005 من منصبه كمساعد وزير الدفاع الأمريكي للشؤون السياسية، ولويس ليبي كبير موظفي مكتب نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني في أكتوبر 2005، بعد توجيه التهم له في قضية تسرب اسم احدى عميلات الاستخبارات الأمريكية فاليري بليم زوجة السفير الأمريكي السابق جوزيف ويلسون؛ انتقاما من زوجها الذي شكك في حصول العراق على يورانيوم من النيجر.

بالإضافة إلى جون بولتون مندوب الولايات المتحدة بالأمم المتحدة، وبول وولفويتز الرئيس السابق للبنك الدولي، الذي رشحه بوش لهذا المنصب رغم المعارضة الشديدة للأعضاء الأوروبيين في البنك، على خلفية تورطه في فضيحة ترقية صديقته وإعطائها مرتب خيالي. وجاي جارنر وبول بريمر اللذان حكما العراق بعد سقوط الحكومة العراقية عقب الحرب الأمريكية على العراق.

وعقب هزيمة الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس (نوفمبر 2006)؛ بعد هيمنة دامت لـ (12) عاماً، تخلصت الإدارة الأمريكية من مهندس الحرب على العراق وأفغانستان دونالد رامسفيلد؛ لإخفاق المشروع الأمريكي في العراق وأفغانستان. وكانت الصدمة الأكبر، هي استقالة مستشار بوش للشؤون السياسية ومهندس حملتيه الانتخابيتين وأقرب مستشاريه كارل روف. ورغم تلك الاستقالات يظل هناك قطبين من المؤيدين والمؤمنين بأفكار المحافظين الجدد، وهما وزيرة الخارجية كونداليزا رايس، ونائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني.

مستقبل المحافظين الجدد

من خلال تناولنا السابق، يمكن القول أن المحافظين الجدد ليسوا قوة سياسية في ذاتها، بقدر استقوائهم بالظروف السياسية التي هيأت لهم القدرة على التأثر ولعب دور في السياسة الأمريكية. فتأثيرهم يقوي ويضعف وفقا للظروف الداخلية، وطبيعة المصالح والتحديات التي تواجه الولايات المتحدة. فهذا التصاعد في النفوذ يمكن إرجاعه بصورة أساسية إلى قدرة قيادتهم على استثمار أحداث سبتمبر، ووصول بوش إلى الحكم وتبنيه جزءا كبير من أفكارهم وأجندتهم، وهو ما مكن المحافظين الجدد من إرساء قواعد ثابتة في السياسة الأمريكية قد تستمر لسنوات حتى لو خسر الجمهوريين الانتخابات القادمة.

وما يدعم من فرص الاستمرار أن المحافظين الجدد تيار فكري لا يمكن تقويضه إلا بأفكار مناهضة له (فلا يفل الحديد إلا الحديد)، وخلال السنوات الست الأخيرة دعم المحافظون الجدد أفكارا اكتسبت رواجا واسعا في واشنطن، تأتي في مقدمتها الإيمان بأن الولايات المتحدة أمامها فرص غير مسبوقة لإعادة صياغة النظام العالم بعد غياب الاتحاد السوفيتي، وأن الفراغ الناتج عن هذا الغياب لابد أن تملأه واشنطن، وأن الشعب الأمريكي شعب خير ديمقراطي غير استعماري يريد مساعدة العالم النامي للحاق بالعالم المتقدم والمتمثل في واشنطن.

وللمحافظين الجدد مؤسسات بحثية ومفكرين وكتاب يُعبرون عن أفكارهم بصورة واسعة، والتي يستطيعون من خلالها أن يضفوا الشرعية على مشروعهم الأيديولوجي، وتكون مراكزهم البحثية والإعلامية نقطة الانطلاق للترويج لأفكارهم في الداخل والخارج.

ولذلك يتوقع أن يستمر تأثير المحافظين الجدد في السياسة الأمريكية فأفكارهم لا تزال حالة ثقافية وإعلامية وبحثية لها جذورها وتحالفاتها؛ مما يجعلهم قادرين على الاستمرار والتجديد والتأثير والضغط. ولكن في واقع الأمر يقل هذا التأثير في السنوات القادمة عن مثيله خلال السنوات الأولي لحكم بوش؛ نظرا لإخفاق المشروع الأمريكي في العراق، وأن الحركة المعادية للولايات المتحدة آخذة في الازدياد، ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط ولكن في المجتمعات الأوروبية وهو ما تكشف عنه استطلاعات الرأي التي ظهرت مؤخرا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 22 تشرين الاول/2007 - 10/شوال/1428