لماذا يكتفي أكثرنا بنصف الحقيقة في معرفة القواصم الكبرى في
التاريخ النضالي لجزيرتنا ؟!..ربما لعلة موضوعية يرددها الكثير منا حين
يبحث عن مبرر مخلّص، فيميل إلى دعة القول: أن قواصم النضال تلك مرت
علينا مر السحاب بلا سجل يجمعها ولا دراسة متكاملة تتعقب حسناتها
وسيئاتها، وخبراتها وتجاربها.. أو أن خللا في الذات القيادية وضعفا في
مواصفات الزعامة ساهما الى حد مطلق في عزوف رواد ذلك التاريخ وزعاماته
عن مصارحة المجتمع ومكاشفته بشفافية من بعد كل هزيمة أو إخفاق سياسي
يلقونه، ولأجل ذلك تجلى لنا النضال الكبير منذ الخمسينات حتى انتفاضة
التسعينات في صور مثالية مقدِسة للذوات القيادية بلا ملحق مدون
لقواصمهم وزلاتهم ولو على نحو الإجمال؟!.
لماذا يتعدى الجميع وقائع المظاهرات والاعتقال إلى الاعتصام وتلقي
رصاصات الغدر، ثم إلى البيانات وطلب الحوار "للمرة الألف"، ثم إلى
العرائض والمبادرة، ثم يُغتصب الوعي حتى لم يعد لأحد بعد ذلك من حاجة
إلى تدوين طبائع رموز الصف الأول وأدائهم القيادي، ويُكتفى في الغالب
بإلقاء اللائمة على السلطة الحاكمة ودهائها السياسي والأمني من بعد كل
انتكاسة ؟!. ثم تمر الأمور علينا بسلام حتى تنخر آفة النسيان ذاكرة
الجميع وكأن شيئا لم يكن. وعندئذ لا يتوجب على الجميع إلا الاستعداد
للمشاركة في دورة سياسية جديدة تحمل معها كل الآمال بنفس وجوه
الانتكاسة النضالية الأولى وجهاتها ووسائلها ومنهجها الفكري والعملي في
جو مشحون بالإستقطاب والتنافر!
ها نحن بدأنا للتو نشهد بعض مظاهر النكسة: تبادل الاتهامات عن أخطاء
الأمس القيادية السياسية والاستراتيجية على شكل مواقف وخطب دينية أو
ثقافية أو سياسية تقليدية متباينة خجولة لا شجاعة فيها فضلا عن توزيع
صكوك البطولة على أناس وجهات دون آخرين، وكل طرف من أطراف هذه
الاتهامات والبطولات المستترة يجول بين مناطق البحرين ليعبر بين
أهاليها عن مواقف الضد الحذرة بطريق غير مباشرة. فمرة بالحصر فيقال: أن
كل ما هو ظاهر من مستوى في الحشد الجماهيري عند غيرنا ؛ لا يمثل كل
المرجعية. ومرة بالفوقية فيقال: أن هذا أو ذاك الطرف أو المشروع لم ينل
مباركتنا وتأييدنا لأنه يمثل اصطفاف منافس ومشروع إقصاء !. ومرة بالحق
المطلق فيقال: أن القبول بالأمر الواقع هو انهزامية عند مرجعياتنا
الدينية وان لنا الحق وحدنا في صنع النصر الجديد !. ومرة بالتحذير
فيقال: أن الأساس عندنا هو التصدي للمشروع السياسي وملفاته المعقدة،
وبهذا التصدي نصنع الحقيقة التي تتبعنا أثرها منذ قرنين ونصف تقريبا،
وأن الإنشغال عن هذا المشروع ببناء مقامات رموز البركة الدينية الشعبية
رواح إلى سراب وربما الى "فتحاوية" ضد "حماسية"!.
أظن أن هذه الحال هي بداية لانتساب قهري لدورة سياسية معقدة جدا
وقاصمة كانت واجبة الحدوث منذ ما قبل الإخفاق القيادي الكبير الذي
شهدته البلاد في مقابل مشروع الإصلاح سيئ الصيت، كما أظن أيضا بأن
مشروع استقطاب أطراف المعارضة ورموزها المغبونة في مثل هذا الوقت تحت
عنوان "لم الشمل وجمع الطاقات ورأب الصدع " هو سلوك تعويضي اتخذ من
الغموض اللفظي وسيلة لتوزيع الاتهامات على أطراف أخرى منافسة من عادتها
احتكار البعد القيادي بلا ثمن مجزي..وهو مشهد ظاهر من مشاهد الدورة
السياسية القاصمة التي ستكون ضحيتها الأولى أطراف المعارضة ذاتها
وبعامل ذاتي محض، وصورة مستحدثة عن صور التناوش البيني والمساجلة
التحتية بين رفاق الأمس وتراتبياتهم.
ما نحن بحاجة إليه في اللحظة الراهنة للخروج من هذا المأزق الذي
أظهر لنا رواده خلاف ما كانوا يبطنون، ألا نقفز على حقيقة مهمة يجب أن
نعبر عنها بكل صراحة ومكاشفة تتمثل في: أن قيادة الأحداث الماضية قد
أخطأت الطريق والوسيلة حتى في اختيار صنف الفكر المشاع بين الناس،
وكانت النتيجة شاخصة في نكسة على الصعيدين: السياسي والتعاقدي، فلم
يتحقق البرلمان المنشود، واستفتي الناس على وثيقة قوضت كل أثر لتاريخنا
النضالي وأعطت للملك سلطة مماثلة لسلطة ولي الفقيه. وأمام هذه الحقيقة
نحن بحاجة إلى مشروع مصارحة ومكاشفة لتبيان الأسباب الذاتية لهذا الخطأ
التاريخي الخطير وتحديد جهة المسؤولية عن ارتكابه في وثيقة مدونة لكل
التفاصيل، على أن يتقدمها اعتذار للناس التي أبدت كامل استعداها
للتضحية في تلك اليوميات النضالية. وعندها لن يشك أحد في وعي الناس
وقدرتهم على استيعاب هذا الاعتذار وهذه التفاصيل. فالحدث تاريخي هام
ومُلك للناس جميعا.
وان من يظن أن مشروع المكاشفة والمصارحة سيتسبب عنه إحباط جماهيري
أو تمزق وتشرذم في الساحة فقد أخطأ الفكرة والتحليل.
أنا على يقين بأن واحدة من أهم مسببات تراجع مستوى عملنا السياسي،
تكمن في خلفياتنا التاريخية المشوهة عن أحداث لم يعترف قادتها بالقصور
الذاتي ولم يدونوا الحقائق في ذلك، لأنهم استضعفوا مجتمعهم واستكبروا
عليه تحت ذرائع مختلفة. واليوم يعيد الرموز السياسية الكرة ليستضعفون
في مقدمتها ذاكرة الناس وليتخطوا بذلك هم التقصير في أدائهم الزعامي.
فمن منا لم يقرأ في يوميات انتفاضة الهيئة التنفيذية العليا (هيئة
الاتحاد الوطني) ؟ وربما أكثرنا يبارك هذه الانتفاضة بعمى ولا يفوت
الاحتفاء بذكراها أسوة بالتجمع المعارض الكبير الذي تقيمه الجمعيات
السياسية ؟..من منا يعلم شيئا عن آلة الطباعة (أولومبيك) القاصم الأول
في وقائع أحداث الخمسينات؟!..وهل يمكن أن تشكل هذه الطابعة فاصلا
تاريخيا، له أن يحدد مصير الكثير من وقائعنا السياسية اليومية ؟!..
لولا الدجل الإعلامي القومي الكبير الذي خيم آنذاك على القراءة
السياسية لمسار (الهيئة التنفيذية العليا) وقيادتها لكانت طابعة
(أولمبيك) عنوانا محرضا على الاحتراز والحذر قبل ممارسة أي جدية نضالية
حركية مخلصة تتعاطى بصدق مع الذات والمحيط الشعبي سواء بسواء.
ربما يرى بعض قرائنا في هذه المقدمة عرضا دعائيا للطابعة (أولمبيك)
القديمة ونحن في معرض نقد مسألة الدعوة لحشد معارض جديد بلا شفافية
ومكاشفة لحق الناس في معرفة يوميات القصور في الأداء القيادي!.. لكنك
لو تجاوزت هذا الصنع الكتابي، وتجردت من هيمنة دجل الكتابة السياسية
القديمة التي سجلت وقائع (الهيئة التنفيذية) بشكل مثالي معكوس، وجمدت
عصبيتك للتيار العام بمختلف اتجاهاته "المقدسة" للحظات، وعُدت بذاكرتك
لأيام تلك الطابعة والقوانين الرسمية في استعمالاتها وأماكن حصرها
وعلاقة ذلك بنشاط الهيئة ومعارضيها ؛ ستتكشف لك صور نضالية تستحق
المتابعة، لا لحسن فيها بل لإثارة وجدل كبيرين استتبع فصولها. هذا إذا
ما كنت من رواد البحث عن الحقيقة قبل انطلاقك للمشاركة في أداء أي عمل
سياسي منقذ بعد هزائم الميثاق واضطرابات الانتماء للدستور القائم.
واما إذا كنت من أبناء العصبية في حال ولفرط حبك وتقديسك لفلان
زعيم وولائك المطلق لجهتك بلا دراية ووعي سديدين ؛ ستصاب بالإعياء
النفسي، وربما بكى عليك الفيلسوف (ديكارت) لفرط شكك وعصفك الذهني وأنت
تتابع ماجريات واقع كنت تظن فيه جوهر الخير والأصالة كلها فعطلت ذهنك
وإرادتك إزائه ولم تعد بحاجة إلى طلب مقدمات في التقييم والمكاشفة
والمصارحة والشفافية والتقويم فكيف بالإصرار على طلب الاعتراف
بالتقصير، على الرغم من تكرار الكبوات السياسية القاتلة وتبعاتها
الاجتماعية الكارثية أمام ناظريك حتى إنك مازلت تشكو منها وتدعو ألا
تصل بك حالها إلى التفسخ الاجتماعي.
المعاصرون لمرحلة تشكيل الهيئة التنفيذية العليا يعرفون الكثير عن
التفاصيل النضالية لـطابعة (أولومبيك) هذه، ولكن بعضا من ماجرياتها
تكفي للحكم على هذا القاصم الكبير في وقائع السياسة النضالية لتاريخنا
المعاصر..هي طابعة شكلت منعطفا خطيرا في مرحلة نضال الخمسينات، ولأجلها
مازال بعض محققينا يعبثون بأوراق أولئك المضلََلون الذين اعتبروا (الهيئة
التنفيذية العليا) مثالا نضاليا يستحق كل إكبار وإجلال حتى أخذت بهم
يومياتها للسير على خطى هذه (الهيئة) وتجسيد معالمها في مراحل نضالنا
ووحدتنا الوطنية والسياسية والطائفية!، وربما ذهب البعض من السياسيين
والمثقفين المتابعين إلى القول: في (الهيئة) ضرورة تاريخية متعلقة
بمسيرتنا الراهنة ويتوجب علينا الآن الأخذ بها لإستخراج ميثاق شرف وطني
جديد جامع لكل أطراف المعارضة ومساهم في تخطي محنة اليوم من بعد
الاستجابة الخاطئة لدعوات الاستفتاء على ميثاق الحكومة الذي أعطى للملك
سلطة تعادل سلطة ولاية الفقيه!. وفات الجميع بأن (أولمبيك) لو مُحِصت
ودُرِست واستَخرج الدارسون منها العبر الأولى بكل شفافية قلب وصدق لسان
لأكلوا من بين أيديهم ومن تحت أرجلهم من نعم لا تحصى في الاجتماع
والسياسة، فمصادق (أولمبيك) تتكرر في كل مرحلة نضالية تمر بها جزيرتنا،
ولا من شاف ولا من درى!.
كانت الطابعة (أولمبيك) في تلك المرحلة حاضرة عند أطراف ثلاثة بشكل
علني بحكم وظائفهم الإدارية: حاكم البحرين، المستشار البريطاني بلجريف،
مكاتب محسن التاجر في المنامة. وكلها آلات مسجلة لدى دوائر الأمن وتخضع
لتفتيش أمني دقيق ورقابة صارمة مماثلة لرقابة الاسلحة عند وزارة
الداخلية!، ويحضر على أي مؤسسة أو جهة أو فرد استيراد آلات الطباعة من
الخارج، ويقف القانون متشددا أمام أي حادثة تكون الآلة الطابعة وسيلة
فيها. ولكن هذا الحضر أُختُرِق من قبل جهتين لدوافع سياسية تصب في
مصلحة الحاكم وبلغريف معا: قيادة الهيئة التنفيذية العليا التي
استغلتها في طباعة بياناتها التحريضية، ولجنة سرية مضادة لنشاط الهيئة
تم تأسيسها على يد عناصر مولها حاكم البحرين وأسس مقرها السري في منطقة
النعيم.
تعرضت (أولمبيك) اللجنة السرية المضادة للهيئة للتدمير الكلي بعد
حادث دراماتيكي مثير. فبعدما اكتشف أهالي منطقة النعيم صدور بيانات هذه
اللجنة من مقر لها في منطقتهم ؛ إقتحموه ودمروا محتوياته والقوا
بـ(أولمبيك) المسكينة على قارعة الطريق ليعبث أطفال النعيم بقطعها
المتناثرة، ثم سالت دماء عناصر اللجنة المضادة قبل أن يلوذوا بالفرار
إلى جنوسان والبلاد القديم، فخسر حاكم البحرين على اثر هذا الحدث طابعة
ثمينة كان سلمها للجنة ناصرته ووقفت ندا للهيئة وسياسة بلغريف معا من
دون أسف على مصير عناصر هذه اللجنة!. واما (أولمبيك) المعارضة
والمستخدمة لإصدار بيانات الهيئة التنفيذية العليا فكانت لغزا محيرا
عند متتبعي بيانات الهيئة وأنصارها، ووهما أو كذبا واختلاقا جليا كشفه
رواد أول انشقاق تعرضت له الهيئة بعد تشكيلها مباشرة. ولم يسمع أحد عن
مصير هذه الطابعة شيئا بعد تقويض دعائم الهيئة وترحيل قادتها إلى خارج
البحرين، لسبب مثير: لأنها كانت ملكا لبلغريف وليست خاصة لقادة
الهيئة!..فمن كان طرف التنسيق مع بلغريف: أهي مجموعة مسجد "المؤمن"
التي تزعمها السيد كمال الدين النعيمي أم المجموعة الأخرى التي دعت
المجموعة الأولى للاندماج في تجمع وطني موحد سمي لاحقا (الهيئة)؟.. لا
يعلم تفاصيل ذلك إلا المنشقون عن الهيئة لأن التدريب على الطباعة
واقتنائها كان من اختصاص بعضهم الوظيفي!!
كان دور (أولمبيك) الهيئة التنفيذية محل شكوك عدد من العناصر
القيادية لمجموعة مسجد "المؤمن" كانت انشقت عن الهيئة بعدما اكتشفت بأن
مجموعة مسجد "المؤمن" بزعامة السيد علي كمال الدين النعيمي قد استدرجت
في وحدة وطنية موهومة بزعامة سرية لبلغريف!. ثم صرح المنشقون على السيد
النعيمي بأن بعض قياديي الهيئة الجدد الوافدين على مجموعة مسجد
"المؤمن" في مشروع الوحدة الوطنية يؤدون نشاطات إعلامية مشبوهة
بالتعاون مع بلغريف وأن الطابعة (أولمبيك) كانت خاصته ولم تكن الهيئة
تمتلك طابعة مستقلة مطلقا.
وهكذا..أدار الحاكم وبلغريف معا اللعبة.. أحدهما تزعم القيادة
الخلفية للهيئة ومشروعها الوطني بينما تزعم الآخر القيادة الخلفية
للجنة الإعلامية المضادة للهيئة في مقر النعيم، فصفق الناس للاولى
وانخرطوا في أدائها المعارض، ولاكموا عناصر الثانية ودمروا مكتبهم
ومقرهم. ثم كانت الضحية الكبرى طابعة (أولمبيك) في "الهجمة الشرسة"
لأهالي النعيم، واما الانتصار فكان حليف طابعة بلغريف التي أدت دورها
بسلام في المنامة !!..ثم تنطلي علينا الوقائع ونجتمع على هدى الهيئة
ونغض الطرف عن أخطائها القيادية وقواصمها القاتلة، ونجعل من يومياتها
مبررا مقدسا قاطعا على مشروع المساءلة الجماهيرية طريق التحقق بعد دور
الإخفاق في أحداثنا ووقائعنا الماضية لتأتي الأجيال من بعدنا ممجِدة
ومقدِسة لا محققة ولا باحثة ولا مقيمة ولا مقومة لكل أداء سياسي زعامي.
وتأسيسا على ذلك كله، ومع احترامي وتقديري للدور المستجد في ترويج
مشروع "لم الشمل المعارض" و"رأب الصدع " الذي تزعمه الأستاذ عبد الوهاب
حسين الذي أعرف فيه إرادة صلبة لمواصلة مسير التغيير برغم عواصف
تراتبية في الزعامة صعبة الاختراق - أدعو الأستاذ ومن خلفه جميع
الأطراف المشاركة في هذا الحوار وهذه المبادرة، إلى الحذر من مشروع
"طابعة" جديد أولا، ثم أطالب الأستاذ ومجموعات المشاركة ثانيا بتبني
مشروع مصارحة ومكاشفة بشفافية متكاملة لتقييم الأداء القيادي والزعامي
للأحداث الماضية بشكل مفصل ومدون، ومن ثم تحديد جهة المسؤولية عن هذا
الأداء الكارثي أمام الناس قبل أي دور تقويمي بمشروع مصالحة ولم شمل
ورأب صدع. هذا إذا ما كان الجميع متقبل لنص دستور 1973م الذي "يؤكد على
أن الشعب مصدر السلطات جميعا" والجميع مسؤول أمامه، وفيما إذا كان
الجمع كله قد شهد الواقع وصدق لعبة الميثاق ودستوره الجديد اللذين جعلا
من الشعب مسؤولا أمام الملك وأخرجا الملك عن أي دور تعاقدي، فنحن الآن
متعاقدون مع الملك من طرف واحد فقط على هيئة دساتير ما بعد القرون
الوسطى في أوروبا ونحن هائمون لا ندري ولا نعلم بأي لون من الطابعات
طبع الميثاق ودستوره!! |