العمارة الإسلامية رسالة حضارية في حركة الزمن

نضير الخزرجي*

 شبكة النبأ: تزخر الكرة الأرضية بالكثير من المعالم والآثار، حاكية عن حضارات ومدنيات، ودالة على شخصيات وأقوام، سادوا ثم بادوا، أو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا أو شدادا، والبعض من هذه المعالم نبشت بها أيدي الزمن وتقلبات الأجواء والأنواء، والكثير منها خربتها أكف الناس، وما بقي منها توسدت بطن الأرض بعدما أصبح التراب والرمل دثارها، حتى قيض الله لها من المنقبين وعلماء الآثار من يرفع عنها رمالها وطينها، فتنفتح من جديد بوابة الزمن يقرأ الأحفاد عبر ألواحه ورقاقه ماضي الأجداد.

والأمة الحية والفاعلة هي التي تباهي الأمم الأخرى بما تملك من معالم وآثار متمادية في الزمن السحيق، فتدعوها الى مشاهدة ما تركت لها بناة حضارتهم ومدنياتهم في السلب والإيجاب، فحتى العار الذي تركته بعض الحكومات، فان الأمة الحية تحافظ على بعض معالمه تتركه لأجيالها تطلع عليه وتتعظ منه وحتى لا تكرره أو تجتر المقدمات نفسها لتنتهي بالنتائج الوخيمة نفسها، من قبيل ان تحافظ على معالم السجون السيئة الصيت وتتيح للناس وبخاصة طلبة المدارس الإطلاع على بعض الحقب الزمنية لتاريخ البلد، فالأمة الحية لا تخفي معالم الظالم من أبنائها كما تفعل بعض الحكومات التي ما إن سقطت حكومة وقامت أختها مكانها حتى أباحت لمعاول الهدم محو تاريخ فترة مظلمة دون ان تترك لهذا الشعب الوقوف على مظالم السابقين.

أما الأسوأ، هو أن يقوم البعض وبخاصة لدى عدد من الحكومات العربية والإسلامية بالقضاء على آثار ومعالم الأمة أو رجالاتها، ويبيحون لجهّالهم فعل ما يشاؤون، تحت دعاوى التوحيد وتنقية الدين من الشرك، مع ان الله دعا سكان أرضه الى السير في الأرض والإطلاع على حال الأمم السابقة خيرها وشرها، زينها وشرها، وأسوأ من كل هذا تخريب كل معلم من معالم دولة الإسلام الاولى وقادته وهم بناة حضارة الإسلام، ففي حين تنقب الأمم الحية عن تاريخ أجدادها يقوم البعض جهلا بسيطا أو جهلا مركبا بطمس معالم الأجداد من الأنبياء والأولياء والأصحاب.

ومن المعالم الإسلامية البارزة والتي حاول الطغاة محوها على مر التاريخ هو مرقد الإمام الحسين بن علي (ع) المستشهد في مدينة كربلاء المقدسة في الواحد والستين من الهجرة النبوية، وقد انبرى المحقق الدكتور محمد صادق الكرباسي في إبراز تفاصيله منذ أن لامس خد الإمام الحسين (ع) التراب وأقيم فوق جثمانه الطاهر قبرا وحتى يومنا هذا حيث المشهد الحسيني الكبير الذي يهز القلوب قبل أن يبهر الأبصار، نافضا عنه غبار التاريخ، مبرزا إليه حتى لا تطمس أتربة الزمن وتكلساته تفاصيله وجزئياته، وحيث تناول في الجزء الأول من كتاب "تاريخ المراقد" ما مر على المرقد الشريف خلال القرون الأربعة الأولى، فانه في الجزء الثاني من كتاب "تاريخ المراقد .. الحسين وأهل بيته وأنصاره"، الصادر عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 654 صفحة من القطع الوزيري، يواصل الشيخ الكرباسي تسجيل كل شاردة وواردة عن تاريخ المرقد الحسيني الشريف، وعن الأيادي البيضاء التي ساهمت في إعماره، أو الأيادي السوداء التي مارست فيه التخريب، وعن الرجال الذين تركوا خيرا لأخراهم، وعن الرجال الذين حملوا فوق أظهرهم حطب جهنم، ولعل أول ما تقع عليه عين القارئ، هو الحرص الشديد الذي يبديه المحقق الكرباسي في التثبت من المعلومة التاريخية ومقابلة المصادر المتعددة ببعضها للوصول الى الحقيقة.

تاريخ امة

ربما يتبادر الى الذهن أن البحث خاص بعمارة المرقد الحسيني بوصفه من المعالم الإسلامية الشاخصة الذي يترجم نبوءة السيدة زينب بنت علي (ع) وهي تحدث شريكها في الأسر الكربلائي الإمام علي بن الحسين السجّاد (ع): (لقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة وهم معروفون من أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ولا يعفى رسمه، على مرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً وأمره إلا علوا)، ولكن تاريخ المرقد الحسيني بما أتى به الشيخ الكرباسي إنما يحدث عن تاريخ امة سكنت العراق وما جاوره، وما حل بها عبر القرون، بوصفها أمة تتنازعها الولاء مرة لأهل البيت (ع)، وأخرى للحاكم الذي يغيضه انصراف الناس عن مبتنياته السياسية أو المذهبية، فيطال اعتداؤه على الأمة اعتداءاً على مقدساتها وما تحب، ولذلك فان قراءة "تاريخ المراقد" هو في حقيقة الأمر قراءة لتاريخ امة تمركزت في العراق وتشظّت عبر البلدان الإسلامية، بكل تفاصيل حياتها من اجتماع واقتصاد وسياسة وثقافة وعلوم وغيره، وهي ما بين مد وجزر من شؤون حياتها اليومية، وبخاصة شرائح المجتمع المسلم التي توطنت واستوطنت مدينة كربلاء المقدسة.

وتاريخ المراقد في احد أوجهه سيرة ذاتية للشخصيات البارزة التي اتخذت من مدينة الحسين مسكنا أو مدفنا أو محلا للعلم، أو مرت عليها لائذة من ضنك الحياة ومخالب الظلمة، أو أنها غدت عليها معتدية، لاسيما وان المصنف يتابع دقائق الأمور باليوم والشهر والسنة، وبالتالي هو تطواف في عالم الحوادث وشخوصه، وقراءة متأنية في وقائع الأيام، مع تشخيص لما آل إليه كل قرن، وما حل على مدينة الحسين، ملخصا أوراق الزمن خريفها وربيعها بعبارات جزيلة ومفيدة تقدم عنها صورة عامة، فعلى سبيل المثال، فان الدكتور الكرباسي عندما يتحدث عن عموم مدينة الحسين والمرقد الشريف في القرن الخامس الهجري الذي ابتدأ به الجزء الثاني من "تاريخ المراقد" يشير الى انه: "ازدهرت كربلاء في عهد البويهيين ازدهاراً واسعا فنشطت فيها التجارة والصناعة والزراعة كما نشط الجانب العلمي والفكري والأدبي فبرع فيها الشعراء والعلماء والأدباء والمفكرون وتفوقت مركزيتها الدينية والعلمية". وعندما يتحدث عن كربلاء في عهد دولة الخروف الأبيض، يكتب: "وبقي الحائر في عهد سلطنة السلالة التركمانية آق قويونلو (دولة الخروف الأبيض) التي حكمت ما بين (874-914 هـ)على حاله إذ ليس لهذه الدولة من أعمال تستحق الذكر في كربلاء بل كان جل أعمالها محصورة في الحروب والسياسات العامة". وعلى هذا المنوال فقس. 

مروا من هنا

ما من شخصية عظم قدرها أو قلّ إلا وتشدها الرغبة الى زيارة المرقد الحسيني الشريف، ولذا فان "تاريخ المراقد"، ينبئك عن رجالات السياسة والعلم الذين مروا من كربلاء المقدسة، على مدى أربعة عشر قرنا، فبعضهم قدم فروض الطاعة والولاء لسيد شباب أهل الجنة فعمر المرقد الشريف وأغدق على خدمته وطلاب العلم، وبعض تاهت به الأصول والأصلاب فغدا معتديا، فعلى سبيل المثال:

في القرن الخامس الهجري زار كربلاء وطاف بالحرم الشريف: السلطان جلال الدولة البويهي (ت 435 هـ)، والسلطان ملكشاه السلجوقي (ت 485 هـ).

في القرن السادس الهجري، ممن زارها: الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله (ت 555 هـ).

في القرن السابع الهجري، ممن زارها: الملك الناصر الأيوبي (ت 656 هـ)، والسلطان المغولي أرغون بن أباقا خان بن هولاكو (ت 690 هـ) وهو أول سلطان مغولي يعلن إسلامه. والسلطان المغولي محمود غازان بن أرغون (ت 703 هـ).

في القرن الثامن الهجري، ممن زارها: السلطان المغولي أولجياتو محمد خدابنده بن أرغون (ت 716 هـ)، وهو أول من استبصر بمذهب أهل البيت (ع) من سلاطين المغول. والسلطان أويس الجلائري الإيلخاني (ت 776 هـ).

في القرن التاسع الهجري، ممن زارها: الملك المغولي تيمورلنك (ت 808 هـ). والسلطان التركماني قره يوسف القره قويونلي (الخروف الأسود) (ت 839 هـ). والسلطان جهان بن قره يوسف القويونلي (ت 872 هـ).

في القرن العاشر الهجري، ممن زارها: الملك الصفوي إسماعيل الأول (ت 930 هـ). والملك الصفوي طهماسب الأول (ت 984 هـ). والسلطان العثماني سليمان القانوني (ت 974 هـ) الذي أخذته الرعشة عندما تراءى لعينيه على البعد المرقد الحسيني الشريف، فطوى ماشيا الى الحرم الشريف، ولما وصل المرقد الشريف جعل يترنم من بحر الطويل:

إذا نحن زُرناها وجدنا نسيمها ** يفوحُ لنا كالعَنبر المُتَنَفس

ونمشي حُفاةً في ثراها تأدُّباً ** ترى إننا نمشي بوادٍ مُقدس

ويرى المصنف ان سليمان القانوني: "كان همّه أن يقوم بأعمال إصلاحية أكثر مما قام به الملوك الصفوية لإمالة قلوب الشيعة إليه بعدما اضطهدهم أبوه السلطان سليم العثماني".

وفي القرن الحادي عشر، ممن زارها: السلطان الصفوي عباس الكبير (ت 1038 هـ)، الذي ترجل عن الموكب الملكي وذهب الى الحرم الشريف راجلا ودخل المرقد مهرولا. والسلطان صفي الدين الصفوي (ت 1052 هـ). والسلطان العثماني مراد الرابع (ت 1049 هـ).

وفي القرن الثاني عشر الهجري، ممن زارها: السلطان نادر الأفشاري (ت 1160 هـ).

وفي القرن الثالث عشر الهجري، ممن زارها: السلطان عين الدولة (ت 1229 هـ) من ملوك اوده في الهند، وعمل على تنظيم وضع كربلاء الأمني وتطبيب جراحات أهل المدينة التي نكبت في العام 1216 هـ بغزو العصابات الوهابية التي أعملت القتل في الأهالي حتى قتلوا نحو عشرين ألفا من سكان كربلاء، وخربوا الحرم الحسيني وسرقوا محتوياته، ونهبوا كل أموال الناس بوصفها غنائم! وتكرر الغزو الوهابي لمدينة كربلاء في الأعوام 1223 هـ، 1225 هـ، 1226 هـ، 1227 هـ. و1230 هـ، وفشلوا في الثانية والأخيرة.

وممن زار مدينة الحسين في هذا القرن تاسع سلاطين أوده في الهند السلطان منير الدولة اللكهنوي (ت 1258 هـ). والصدر الأعظم الميرزا شفيع خان (ت 1262 هـ) رئيس وزراء السلطان فتح علي القاجاري، وبعد موته دفن في الصحن الحسيني. والوالي العثماني مدحت باشا (ت 1330 هـ) الذي باع على الأهالي أراض أميرية في منطقتي العباسية الغربية والشرقية لتوسعة المدينة المقدسة. وزارها السطان ناصر الدين القاجاري (ت 1313 هـ) بدعوة رسمية من الحكومة العثمانية. 

على الأعتاب قادة وملوك

وازدادت في القرن الرابع عشر الهجري زيارات القادة والساسة الى مدينة كربلاء المقدسة، لاسيما مع قيام حكومات كثيرة في أفريقيا وآسيا راحت دولها تخرج من ربقة الاستعمار او الانتداب تباعا. وممن زارها: الوالي العثماني الحاج حسن رفيق باشا الذي أودع في المرقد الحسيني الشريف شعرات الرسول الأعظم محمد (ص)، وأقيمت بالمناسبة الاحتفالات. والقنصل الألماني ببغداد فردريك روزن (ت 1935 م) الذي كتب في وصف المرقد الحسيني: "لم يسمح لنا بدخول مرقدي الحسين والعباس، والأخير مرقده في جامع واسع من القاشاني الأزرق، أما الأول فمن طراز مماثل ولكنه أجمل منه وتعلوه قبة من النحاس المطلي بالذهب، ولما نظرنا إليه في اليوم التالي من سطح بناية مجاورة، اضطررنا أن نضع على أعيننا نظارات سوداء لحمايتها من بريق القبة الذهبية".

ومن القادة العراقيين زارها الملك فيصل الأول بن الشريف حسين (ت 1352 هـ)، ومن بعده نجله الملك غازي (ت 1358 هـ)، ومن بعده حفيده الملك فيصل الثاني بن غازي (ت 1378 هـ). وزارها أول رئيس وزراء في العهد الجمهوري الزعيم عبد الكريم قاسم (ت 1383 هـ). وزارها الرئيس عبد السلام عارف (ت 1385 هـ)، ومن ثم شقيقه الرئيس عبد الرحمن عارف (ت 1428 هـ)، ومن ثم الرئيس احمد حسن البكر (ت 1402 هـ)، وزارها نائبه صدام حسين مسلط التكريتي (ت 1427 هـ) قبل ان يصبح رئيسا في تموز يوليو 1979م.

ويلاحظ ان معظم رؤساء اليمن في العهدين الملكي والجمهوري في شقيه الشمالي والجنوبي قبل الوحدة، قدموا الى مدينة كربلاء المقدسة وحظوا بزيارة الإمام الحسين (ع)، فقد وزارها آخر ملوك دولة الإمامة في اليمن سيف الإسلام احمد بن يحيى (ت 1382 هـ). ورئيس الجمهورية العربية اليمنية القاضي عبد الرحمن الأرياني (ت 1418 هـ). ورئيس اليمن الشمالي (سابقا) عبد الله السلال (ت 1414 هـ)، وزارها أول رئيس لليمن الجنوبي قحطان محمد الشعبي (ت 1402 هـ). ومن بعده الرئيس سالم ربيع علي (ت 1398 هـ).

ومن دول الخليج العربية زارها أمير البحرين الشيخ عيسى بن خليفة (ت 1420 هـ). وأمير قطر المعزول الشيخ خليفة آل ثاني المولود عام 1347 هـ. وأمير الكويت الشيخ عبد الله السالم الصباح (ت 1385 هـ). ومن بعده زارها خلفه الشيخ صباح السالم الصباح (ت 1397 هـ).

ومن القارة الأفريقية زارها الأمير عباس حلمي الثاني (ت 1363 هـ) خديوي مصر فيما بعد. والملك المغربي محمد الخامس الحسني (ت 1381 هـ). والرئيس الجزائري احمد بن بلّه المولود عام 1382 هـ، ومن بعده الرئيس هواري بومدين (ت 1398 هـ). والرئيس الموريتاني مختار ولد داده (ت 1424 هـ). والرئيس السوداني الأسبق محمد جعفر النميري المولود عام 1349 هـ. والرئيس الصومالي الأسبق محمد سياد بري (ت 1995م). والرئيس المالي موسى تراوري الذي أطيح به عام 1991م، ولازال حيا. وزارها الرئيس الغابوني عمر بونغو الذي لازال على سدة الحكم منذ العام 1967م.

ومن القادة الإيرانيين زارها آخر ملوك الدولة القاجارية السلطان أحمد بن محمد علي القاجاري (ت 1347 هـ). وزارها قائد الجيش الإيراني ومؤسس الدولة الپهلوية فيما بعد الشاه رضا خان (ت 1363 هـ). ومن بعد نجله محمد رضا الپهلوي (ت 1400 هـ) أثناء انقلاب رئيس الوزراء محمد مصدق (ت 1385 هـ). وزارها رئيس وزراء إيران عباس هويدا (ت 1400 هـ) أثناء التوقيع على معاهدة الجزائر مع العراق.

وزارها الملك الأفغاني محمد ظاهر شاه (ت 1428 هـ). ومن بعد صهره وابن عمه وأول رئيس أفغاني في العهد الجمهوري محمد داود خان (ت 1398 هـ). والرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو (ت 1390 هـ). والرئيس الغاني أحمد سكتوري (ت 1404 هـ). والرئيس المالديفي مأمون عبد القيوم المولود عام 1356 هـ. 

سجّل التاريخ

يشترك الرحالة مع عالم الآثار والمهندس المعماري، بقدرته على تصوير المعالم الأثرية، ناهيك عن الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبلد الذي يزوره، ويقع المستشرق والمؤرخ بين هؤلاء في تمكنهما من وصف وضع البلد من نواح عدة إما بالمعاينة الميدانية أو عبر الأبحاث. وقد وقعت كربلاء المقدسة والمشهد الحسيني المقدس تحت طائلة الوصف من قبل رحالة وعلماء آثار ومستشرقين من جنسيات مختلفة وعلى مدى القرون، وهم كثيرون، يكفي الإشارة الى بعضهم:

- زار كربلاء المقدسة في العام 727 هـ الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة محمد بن عبد الله الطنجي (ت 779 هـ) وكتب عنها: "ثم سافرنا الى مدينة كربلاء مشهد الحسين بن علي (ع) وهي مدينة صغيرة تحفها حدائق النخل ويسقيها ماء الفرات، والروضة المقدسة داخلها، وعليها مدرسة عظيمة وزاوية كريمة فيها الطعام للوارد والصادر وعلى باب الروضة الحُجّاب والقومة ولا يدخل احد إلا عن أذنهم فيُقبّل العتبة الشريفة وهي من الفضة وعلى الضريح قناديل الذهب والفضة وعلى الأبواب أستار الحرير".

- في العام 1131 هـ زارها الرحالة الحجازي عباس بن علي المكي (ت 1180 هـ)، ووصف المرقد الحسيني الشريف بقوله: "وأما ضريح سيدي الحسين (ع) فيه جملة قناديل من الورِق (الفضة) المرصع والعين (الذهب) والتحف ما يبهت العين من أنواع الجواهر الثمينة ما يساوي خراج مدينة وأغلب ذلك من ملوك العجم وعلى رأسه الشريف قنديل من الذهب الأحمر يبلغ وزنه منين (كل مَنٍّ 25 كيلو غراما) بل أكثر وقد عُقدت عليه قبة رفيعة السماك متصلة بالأفلاك وبناؤها عجيب، صنعه حكيم لبيب".

- في العام 1179 زارها الرحالة الألماني كارستن نيبور (Carsten Neibuhr) (ت 1231 هـ)، ووصف المرقد الشريف وما حوله بقوله: "إن أطراف الحضرة والصحن كانت مضاءة كلها، وكان لها بذلك منظر فريد في بابه نظراً للشبابيك الكثيرة التي كانت موجود فيها، وقد كان ذلك يكاد يكون غريبا في هذه البلاد التي يقل فيها زجاج النوافذ يومذاك، وأن الصحن يقوم في ساحة كبيرة تحيط بها من أطرافها الأربعة مساكن السادة والعلماء، وكان يوجد بين يدي الباب الكبرى – القبلة – شمعدان نحاسي ضخم يحمل عدداً من الأضوية على شاكلة ما كان موجوداً في مشهد الإمام علي".

- وفي العام 1327 زارتها الرحالة والمستشرقة البريطانية السيدة غيرتراد مارغريت لوثيان بيل والشهيرة بالمسز بيل (Gertrude Margaret Lowthian Bell) (ت 1345 هـ)، ومما كتبته عن المرقد المقدس: "كنت أقف فوق سطح دار من الدور المجاورة لأتفرج على الساحة المزينة بالقاشاني الجميل الفخم التي يقوم في وسطها الضريح المقدس ولا يسمح فيها إلا للمسلمين".

- وفي العام 1328 هـ زارها الرحالة الهندي محمد هارون الزنكي پوري المتوفى بعد العام 1335 هـ، وبهره منظر تنوع جنسيات الزائرين، فكتب يقول: "إنهم من الأعراب والأعجام والأتراك والأكراد وأهل الهند والسند وأهل الصين والتتار، وأهل روسية ورومة وأهل أفريقيا وأمريكا وأهل يورپ (اوروبا) وآسيا، فإنهم يدخلون الى مقامه حزبا حزبا وقوما قوما وأفواجا أفواجا".

- وفي العام 1349 هـ زارها الرحالة المصري عبد الوهاب بن محمد عزام (ت 1378 هـ) ووصف حال الزائرين وهم يقيمون مجالس العزاء في ذكرى استشهاد الإمام علي (ع) في الواحد والعشرين من شهر رمضان المبارك، فيضيف: "وقد دخلنا المسجد فإذا هو يدوي بالقارئين والداعين فزرنا الضريح المبارك، ومنعنا جلال الموقف أن نسرح أبصارنا في جمال المكان وما يأخذ الأبصار من زينته وحليته ورُوائه..".

ومن الرحالة الذين زاروا كربلاء المقدسة ودونوا ملاحظاتهم حول عمارة المرقد الحسيني الشريف الرحالة التركي الأميرال سيدي علي بن حسين جلبي الذي زار المرقد الحسيني عام 961 هـ. ومنهم البحار والرحالة البرتغالي بيدرو تكسيرا (Pedro Teixeira) (ت 1640م) الذي أطلق على المدينة اسم "مشهد الحسين". ومنهم الرحالة الهندي التركي الأصل أبو طالب بن حاجي محمد بك خان الأصفهاني (ت 1221 هـ) الذي أورد في رحلته ما حل في المدينة المقدسة من خراب على أيدي عصابات الحركة الوهابية المسلحة. ومنهم الرحالة المنشئ البغدادي محمد بن احمد الحسيني الذي زارها في العام 1237 هـ. ومنهم الرحالة الفرنسية جان ديولافوا (Dieulafoy, Jane Henriette Magre) (ت 1916م). 

نظرات ميدانية

وربما كان المستشرق أكثر عمقا من الرحالة عند الوصف، لان الأخير ينقل مشاهداته في حين ان الأول ينقل مشاهداته مبنية على دراسات مسبقة أو دراسات ميدانية، ولذلك تأخذ دراسات المستشرقين قوتها في مجال البحث والتحقيق، وهناك عدد غير قليل من المستشرقين مروا على كربلاء ودونوا ملاحظتهم.

- في حدود العام 1267 هـ، زار المستشرق الألماني ثيودور نولدكه (Theodor Nöldeke) (ت 1930 هـ) كربلاء المقدسة وكتب في وصف الحرم الحسيني، وعندما يصل الى داخل الروضة الشريفة يضيف: "والروضة نفسها محاطة بأروقة معقودة يستطيع الزائرون الطواف حول المرقد من هذه الأروقة، وتعلوها قبة شاهقة تحيط بالمرقد على نصف دائري وفي وسط مركز قاعدته من الأسفل ضريح من الفضة..".

- وفي العام 1270 هـ وصف عالم الآثار الانكليزي وليام كنيت لوفتوس (William Kenett Loftus)، الخراب الذي تركه عدوان الوالي العثماني نجيب باشا (ت 1267 هـ) على مدينة كربلاء في العام 1258 هـ يوم عيد الأضحى، حيث دخل الوالي الحرم الحسيني وهو فوق جواده، كما أراق دماء الناس في الحرم العباسي، وأعمل القتل في الأطفال والنساء لأربع ساعات. يقول لوفتوس عن مشاهداته: "ان قبة الحسين (ع) وحدها مكسوة بالذهب في كربلاء وان إحدى المنارات الثلاث تبدو متداعية وتوشك على السقوط على اثر احتلال جنود نجيب باشا للمدينة وكان قد تعرضت المساجد الى الخراب والتدمير بصورة خطيرة، فظلت آثار القنابل والشظايا واضحة للعيان في قبابها".

- في العام 1398 هـ كتب المستشرق الفرنسي جاك بيرك (Jacques Berque) (ت 1995م) واصفا رحلته الى كربلاء المقدسة فيكتب: "وما أن تتطلع بنظرك حتى تتعدد الرموز: القبة المذهبة للإمام الحسين ترتفع الى حوالي 35 متراً وهي مرتبطة بقواعدها المربعة. هذه التشكيلة الرائعة من الدوائر المتداخلة بالزوايا الحادة التي تسمو ويرنو لها كل معمار يحاول ربط هذا العالم بالعالم الآخر .. هذه هي كربلاء في أيامنا هذه، مكان مبلل ببكاء الزوار المسلمين وغني بالقرابين .. ان كربلاء لا تحمل ذكرى الدم فحسب بل تحمل أيضا تكاتفا دنيويا جماعيا يتجدد من سنة لأخرى..".

وممن زار كربلاء ووصف المرقد الحسيني الشريف، العالم الجغرافي الإنكليزي جون اشر (John Ussher) الذي حط فيها في العام 1281 هـ. وممن زارها في العام 1309 هـ الرحالة وعالم الآثار الأميركي جون بيترز (John Punnett Peters) (ت 1921م). وزارها في مطلع القرن الرابع عشر الهجري المستشرق الفرنسي بارون كارا دي فوكس (Baron Carra de Vaux)، وزارها عالم الآثار الألماني ولتر اندرو (Walter Andrae) (ت 1956م).

وقد أحسن المؤرخ العراقي الدكتور جليل العطية صنعا بجمعه مشاهدات الرحالة والمستشرقين التي أوردها الدكتور الكرباسي في سلسلة مجلدات "تاريخ المراقد"، وأفردها في كتاب مستقل صدر هذا العام (2007م) وحمل عنوان "نظرة المستشرقين والرحالة الى الروضة الحسينية"، تاركا على صفحات الكتاب بصماته التحقيقية. 

الشعر ديوان العمارة

لم يخرج عن قوس الحقيقة من وصف الشعر العربي بأنه "ديوان العرب"، فهو يسجل وقائع الليالي وحوادث الأيام، وهذا بالضبط ما افرزه الشعر المنظوم في النهضة الحسينية، فقد تبارى الشعراء الى تقييد الوقائع أولا بأول، وفي مجال العمارة الإسلامية بعامة والمرقد الحسيني بخاصة، حفظ لنا الشعراء مراحل تطور عمارة الحرم الحسيني الشريف عبر القرون، من خلال المشاهدة العيانية أو القراءة التاريخية، فجاءت أبياتهم مقيدة بالتاريخ وبالأشخاص، مما سهّل على الباحث معرفة التفاصيل الخاصة بالمرقد الحسيني.

ومن جانب آخر، فان المرقد الحسيني الشريف حفظ للأجيال القصائد العصماء لفحول الشعراء، كما حفظت الكعبة المعلقات السبع، من خلال إقدام المعمارين والخطاطين المهرة على افراد القصائد الحسينية الجزيلة على واجهات المرقد الشريف وداخل أروقته وعلى أبوابه وفوق جدرانه، ما ينبيك عن عظيم العمارة الإسلامية في تطويع الكلمة المنظومة.

ولعل الشاعر والقاضي الشيخ محمد بن طاهر السماوي (ت 1371 هـ) يقف على رأس الشعراء الذين حفظت أرجوزته الشهيرة تاريخ كربلاء المقدسة خلال أربعة عشر قرنا وما حل على المرقد الحسيني من عمران أو عدوان، فعلى سبيل المثال يقيد الشاعر السماوي حدث هدم "مئذنة العبد" في الحرم الحسيني التي طالتها يد الجهل والظلم عام 1354 هـ عندما أقدم متصرف لواء كربلاء صالح بن علي جبر (ت 1377 هـ) بأمر من رئيس الوزراء العراقي ياسين حلمي بن سلمان الهاشمي (ت 1355 هـ) على هدم المئذنة التي بناها والي بغداد مرجان أمين الدين بن عبد الله أولجياتو (ت 774 هـ)، في العام 767 هـ، فينظم السماوي مبديا غضبه على هدم منارة عمرها ستة قرون:

وهُدِّمتْ مِنارةُ العَبْد فلَمْ ** يَبْقَ لها مِنْ أثرٍ ولا عَلَمْ

لِقَوْلهمْ بأنَّ عَظْمَها وَهَنْ ** في الأربعِ والخَمْسينِ مِنْ هذا الزَمَنْ

وقام احد الشعراء بترجمة مقطوعة من وزن الدوبيت للفقيه هادي بن علي الخراساني (ت 1368 هـ) يعبر فيها عن غضبه لجريمة هدم مئذنة العبد، في وقت يفترض في السلطة ان تحافظ عليه بوصفه تراث امة، وتعمل على صيانته كونه معلما وطنيا وإسلاميا، فينشد:

مِئذنةٌ في صَحْنِ المُصطفى ** كأنَّها غُصنٌ بَدا مِنْ طوبى

يحسبُها العارفُ مِنْ معشوقِهِ ** أنمُلةُ هام بها مَشْبوبا

قد هدَّمتها عبثاً أيدي الخنا ** يُجزون نارَ الهوْنِ والتعْذيبا

ومن الشعراء عبد الباقي بن سلمان العمري (ت 1279 هـ)، حيث يصف الهلال المنصوب على قبة المرقد الحسيني الشريف، فينشد من الطويل:

على قُبة السبط إذ آنبرى ** هلالٌ حكى الكف الخضيب ولا بِدَعا

على عَقبيه الليلُ أدبرَ ناكصاً ** وأعطى قفاهُ باتَ يشبِعُه صَفَعا

وهناك عدد من الشعراء تقيدت أشعارهم في جدران المرقد الشريف، منهم الشاعر الشهير محسن أبو الحب الكبير (ت 1305 هـ)، حيث خطت إحدى قصائده الشهيرة على القاشاني بخط فارسي بديع، وهي من البسيط ومطلعها:

الله أكبرُ ماذا الحادثُ الجَللْ ** لقد تزلزلَ سهلُ  الأرض والجبلُ

ما هذه الزفرات الصاعدات أسى ** كأنا سُعَلٌ تُرمى بها شُعَلُ

ومن الشعراء القاضي محمد هادي الصدر (ت 1385 هـ)، حيث ثبّتت فوق باب الحر أبياته التالية من مجزوء الكامل:

أحظيرةَ القُدس التي ** فيها أمانُ الخافقينْ

حَسْبُ المَفاخِرِ أن تكو ** ني مَهْبَطَ الروحِ الأمينْ

لَكِ بابْ حِطة وهو با ** بُ اللهِ للحقِ المُبينْ

عَنَتِ الحياةُ له بنســ ** ـبته إلى رأس الحُسينْ

وكانت إبداعات الشعراء والخطاطين والفنانين والمعماريين في شموخ عمارة الحرم الحسيني الشريف الذين وردت أسماؤهم في سلسلة "تاريخ المراقد" للمحقق الكرباسي، محل إلهام واهتمام الباحث العراقي الأستاذ سعيد هادي الصفار الذي عمل على تخليد هذه الأسماء اللامعة في كتاب مستقل صدر في العام (2006م) وحمل عنوان: "الروضة الحسينية وإسهامات المبدعين الجليلة". 

مشروع أمة في رجل

وختم الكتاب بمجموعة فهارس لا يستغني عنها القارئ والباحث والمحقق، مع قراءة نقدية باللغة الإيطالية بقلم مدير قسم الدراسات الشرقية (Dipartimento di Orientalistica) في جامعة تورينو الإيطالية (Università di Torino) البروفيسور فابريزيو أنجلو بيناكيتي (Fabrizio Angelo Pennacchietti) المولود في مدينة تورين (Turin) الإيطالية في العام 1938م، هاله ما قرأه في الكتاب من معلومات تاريخية مبوبة بصورة علمية ومحققة، ووجد ان كتاب "تاريخ المراقد" في جزئه الثاني الذي يمثل واحداً من نحو ستمائة مجلد، قد أتى بالشيء الكثير، وعنده: "إن هذا المؤلَّف يقدم جزءا من بحث ذي جوانب عدة بلغت من الاتساع والشمول، بحيث لا يكاد المرء يصدق أن مثل هذا المشروع قد خطط له أًصلا من قبل شخص واحد وحسب"، وخلص في نهاية قراءته ان الدكتور محمد صادق محمد الكرباسي في هذا المجلد: "تفرع فيه وتمكن منه بمثل هذا الامتداد والاستفاضة". 

* إعلامي وباحث عراقي

الرأي الآخر للدراسات – لندن

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 30 أيلول/2007 -17/رمضان/1428