تتعدد المصادر المعرفية وتتنوع بتعدد الأفكار المنتجة والفاعلة
لتلك الصيغ الثقافية على المستوى الايديلوجي والمعرفي، ولتشكل
بالتراكم فيما بعد بناءً ثقافياً يتنوع بتنوع الأفكار المنتجة لها،
فالثقافة هي إدراك الفرد والمجتمع للعلوم والمعرفة في شتى مجالات
الحياة، فكلما ازداد الفرد وعياً بنواحي الحياة ازداد ثقافةً، والفرد
الحامل لتلك العلوم يسمى مثقفاً، ولكن هل كل فرد يحمل فكراً يدعى
مثقفاً؟
في حقيقة الأمر إن تعريف المثقف بشكل عام يعد من المشكلات، فقد
تعددت التعاريف بتعدد الأفكار المعّرفة لهذا المصطلح، وما شدني هو
تعريف (انطونيو كرامشي) الايطالي، والذي اعتمد على معايير جديدة تقوم
على الوظيفة والمكانة الاجتماعية التي يشغلها الفرد حيث قال (إن كل
إنسان مثقف ولكن ليس لكل إنسان في المجتمع وظيفة المثقف) فالمثقف وفق
هذا التعريف هو من يعمل ويتعامل بالفكر والعلم والمعرفة، كالفقيه
والعالم والباحث والكاتب فكل من يكون سلاحه فكره ولسانه رأيه فهو مثقف.
ولو أسقطنا كل تلك الأفكار على الفكر الإسلامي، ولننتزع منه تعريفاً
للمثقف، لرأينا أن هناك جو من القطيعة المستمرة بين ما يعرف بالمثقف
الديني والمؤسسة الدينية، وليقف المثقف في خضم ذلك وحيداً يحمل فكره
وقلمه ليبادل المؤسسة الدينية بالقطيعة المتبادلة، وليستمر مسلسل الجدل
الفكري المتصارع بين الفكرين إلى مالا نهاية.
إن المشكلة الأساسية بين الفكرين تتمثل بسيطرة المؤسسة الدينية على
الفكر الأحادي الفردي، فهي تعد نفسها المصدر الوحيد للثقافة الدينية،
وهي في حقيقة الأمر لم تعد تمثل الثقافة الدينية بشكل فردي كما تعتقد،
فقد حدث الانقسام من داخلها بظهور الفكر التجديدي، ولتصبح فيما بعد
المؤسسة الدينية بشقيها التقليدي والتجديدي، ولكن ظهور ما يعرف بتيار
المثقف الديني ما بينهما قد خلط الأوراق، فقد أصبح هذا التيار مستقل
دينياً يغايرها في طبيعة التفكير والمنهج والرؤى للدين، وراح يلعب
الدور البارز والحيوي في جدل الحياة السياسية، وخاض المعترك الفكري
والثقافي والمعرفي والسياسي انطلاقاً من فهمة الخاص للدين.
لقد خلق التيار التقليدي في المؤسسة الدينية جو من الانغلاق
الثقافي، أشبه بتحريم الولوج لعمق المباني المعرفية في الإسلام، فقد
جعلها حكراً على طبقة الفقهاء، معتبرا المجتمع مجتمع جاهل لا يمكنه
تفسير المصطلحات الفقهية العميقة، وهذا ما جعل المؤسسة الدينية تنظر
للمثقف الديني بأنه شخص طفيلي يدس انفه فيما لا يفقهه، وربما يدلل على
ذلك ما ذهب إليه ابن رشد (1126-1198) عندما أمر بالصمت حول المسائل
المحيرة، خاصة تلك المتعلقة بآيات قرآنية صعبة، وذلك رغم استخدامه
العقل والمناهج الفلسفية الأرسطية في تفسير القرآن، وقد أوضح أن هذا
النوع من المعرفة والتفسير المتقدمين موجه لحفنة من الخاصة، أما العامة
والمتكلمون فرأى أنهم عاجزون عن فهم أمور كتلك، ومن هنا ينشأ النزاع
الفكري، فكل من الفكرين يدعّي احتضانه للعلم والمعرفة الإسلامية، ويهمش
دور الآخر، مثل ما حدث في إيران عندما انتقد بعض العلماء آراء الدكتور
على شريعتي حول (خاتم النبوة) والوحي، ودور الأنبياء والإمامة بحجة أن
هذه الآراء خارجة عن الفكر الإسلامي وفيها نوع من الانحراف ولكن الشهيد
بهشتي في رده كان مدافعاً ويرى إن قراءاتهم لما كتبه شريعتي قراءة
خاطئة، وقد أورد نقده هذا في جمع من طلاب مدرسة حقاني الدينية في قم،
ويعتبر الدكتور شريعتي خير مثال على نموذج المثقف الديني والذي كان له
مشروعه الثقافي، ونقده للمؤسسة الدينية في بعض الأحيان، والالتقاء معها
في البعض الآخر، فالمثقف الديني وخصوصاً في إيران كان له دور فاعل
والدليل على ذلك ما ذكر عن الثورة الدستورية في عام 1906 (كانت سلاحاً
ذا حدين فتاوى العلماء وكتابات الصحف التجديدية).
إن ما يتعرض له المثقف الديني من مشاكل، ترهق كاهله وتمنعه من
الاستمرار في طرح أفكاره، هي مشاكل نابعة من عدم فهم الآخر له، والشك
المستمر في كفاءته في المباحث الدينية، والنظر له بشكل دائم بأنه لا
يقدر على فك رموز هذه المباحث، ولكنه من جهة أخرى يحمل هموم المجتمع،
ومن الواجب عليه أن يركز فكره فيما يرتقي بهذا المجتمع ليغيره للأفضل،
ويعمل على اكتشاف مضامين الإسلام الاجتماعية، ويجب عليه أن يتصدى
للهجمة الشرسة على الإسلام، فيما يعرف بالغزو الثقافي للإسلام ،وعليه
أن ينقذ المجتمع بتحصينه من براثن الأعداء الذين يريدون ان يهدوا أركان
الإسلام بما يبثوه من فرقة بين طوائف الإسلام المحمدي الأصيل.
نحن بحاجة للمثقف الديني الشامل الذي يحمل الثقافة الشمولية، بل نحن
بأمس الحاجة للمثقف الشمولي أو الموسوعي الذي يذكّرنا بأولئك الفلاسفة
الكبار، الذين أحاطوا بالعلوم والمعارف، مما يعني ان المثقف الشمولي لا
ينتمي إلى حضارة معينة، ولا يصنف على ثقافة خاصة، ولا يتحدد بزمن محّدد
فهو نتاج الحضارات في عصور ازدهارها وتقدمها العلمي والحضاري.
نحن لسنا بصدد التوسع في تعريف المثقف الشامل الذي تعددت صوره بتعدد
المفكرين، فالبحث عن صوره تجعل الباحث تائهاً بين من يحده بالصورة
الأخلاقية، التي دافع عنها إدوارد سعيد في كتابه (صور المثقف) و أخر
يؤطره في صورة المثقف الذي ينتمي لحضارته العربية والإسلامية، كما شرح
ذلك محمد عابد الجابري في كتابه (المثقفون والحضارة العربية.. محنة ابن
حنبل ونكبة ابن رشد) أو من يجعل صورة المثقف عند هشام شرابي الذي ظل
يطالب المثقفين العرب بإعادة رسم علاقتهم بالغرب واكتشاف حداثة عربية
مستقلة، وذلك في كتاباته حول المثقفين العرب والغرب.
ومن كل تلك الصور أعتقد ان المثقف يتجلى بأحسن صوره فيما ذهب إليه
زكي الميلاد في كتابه (محنة المثقف الديني مع العصر) فهو المثقف الذي
يربط الثقافة بالدين، والنهضة بالدين والحداثة بالدين، فالدين لا يمنع
الإنسان من أن يكون مثقف.
نحن بحاجة للتقارب والحوار بين المثقف الديني والمؤسسة الدينية
التقليدية، التي تنظر للمثقف الديني على انه دخيل فيما بينها، ولن
يستطيع الدخول على ما اعتقد في عمق المؤسسة الدينية ما لم يتصف
بمواصفات المعرفة الدينية التي تؤهله لفك شفرات المباحث الدينية
العميقة، ولكن ما يجب ان تعرفه المؤسسة الدينية انه ليس كل من خبر وسبر
العمق الديني يستطيع حصر الثقافة الدينية تحت جناحيه، فإلى جانب
المعرفة الدينية هناك المعرفة الإنسانية، واعتقد ان المثقف الديني هو
المثقف الذي يجمع بين المعرفة الدينية والمعرفة الإنسانية، بين معارف
الوحي ومعارف العقل، بين علوم الدين وعلوم الدنيا، وعلى أساس ذلك يجب
على المثقف الديني ان يكون داعيا ايجابياً لمن ينتمون إلى الدين، ومن
ينتمون إلى الثقافة، كما ذهب لذلك زكي الميلاد في كتابه (الإسلام
والمدنية) فمن ينتمون إلى الدين، وهم المتمثلون في رجال أو علماء
الدين، فإن هذا المفهوم يدعوهم إلى الخروج عن الانغلاقيات الثقافية،
والانفتاح والتواصل مع العلوم والمعارف الحديثة والمعاصرة، ومن ينتمون
إلى الثقافة وهم المتمثلون في المثقفين ورجال الفكر، فإن هذا المفهوم
يدعوهم إلى الخروج عن الانغلاقات الدينية، والانفتاح والتواصل مع
العلوم والمعارف الدينية، والعمل على بناء نموذج يكون فيه المثقف
دينياً والديني مثقفاً، وهذا ما نحتاج إليه فعلياً، وغياب مثل هذا
النموذج هو الذي يعبر عن أزمتنا الثقافية الراهنة.
alaradimohd@hotmail.com |