مصطلحات اجتماعية: النخبة (النخب)

النخبة (النخب): Elite (s)

شبكة النبأ: هل يقتضي أن نكتب الكلمة بالمفرد أم بالجمع؟ لقد كان باريتو أحد علماء الاجتماع القلائل الذين اشاروا إلى استحالة الاختيار في هذا الصدد. إن مفهوم النخبة ينطوي في رأيه على تقدير للنجاح الذي يؤدي فيه الفاعلون الاجتماعيون نشاطاتهم. وبما أن التقدير يقوم على المقارنة وبما أننا لا نستطيع مقارنة إلا ما يكون قابلاً للمقارنة، لا يمكننا الحديث عن النخبة إلا في داخل أحد فروع النشاط: (لنضع إذن طبقة من الذين يتمتعون بالمؤشرات الأكثر ارتفاعاً في الفرع الذي يؤدون فيه نشاطهم ولنعط لهذه الطبقة اسم النخبة). ثمة إذن عدد من النخب بقدر ما يكون لدينا من فروع للنشاطات. ولكن، إلى جانب هذا المفهوم لتعددية النخب التي لا تختزل، يستعيد باريتو كذلك التناقض المكيافيلي بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة. وبالنسبة لعالم الاجتماع الإيطالي الكبير، توجد هكذا في آن واحد نخبة واحدة قائدة (بالمفرد) ونخبة عديدة غير قائدة (بالجمع).

يفضل مؤلفون آخرون أن يكتبوا الكلمة بالمفرد فقط وأن يتحدثوا عن (نخبة قائدة) مثل بوتومور أو "نخبة السلطة" مثل ميلز ومن أجل زيادة التعقيد في الأمور، يستعمل البعض كلمة "طبقة" حيث يفضل آخرون أن يستعملوا في المفهوم نفسه كلمة (النخبة). إن عبارات (النخبة القائدة) و"الطبقة القائدة" و"النخبة الحاكمة" و"الطبقة الحاكمة" هي مع ذلك عبارات قابلة غالباً للتبادل. أما فيما يتعلق بمفهوم "الطبقة المهيمنة" فإنه يوحي، فيما يتعدى التنوع (الظاهر) للنخب بوجود توافق في مصالحهم ومشاركة بين أعضائها وتعاون بين سلطة البعض ونفوذ البعض الآخر.

إن تصوّر باريتو هو الذي كان بالتأكيد، بسبب اهتمامه بعدم طمس التمايزات الجوهرية، الأكثر توافقاً مع الملاحظة. لقد استعاد سماتها الأساسية ريمون آرون في مقالة شهيرة له. ولكنها تتضمن كذلك بعض الغموض والصعوبات التي يقتضي التوقف عندها، أولاً، ليست صريحة تماماً حول المعايير التي تسمح بالتمييز بين أعضاء النخب ولا تشدد أبداً على غموض هذه المعايير: قد يكون ثمة تناقض بين حكم الأقران وحكم الجمهور. قد يتمتع أحد الفيزيائيين أو الاقتصاديين أو الأتنولوجيين باعتبار مهم لدى (لجمهور)، على الرغم من أن عمله قد يكون موضوعاً لأحكام مشككة من جهة أقرانه، ثانياً، يبدو مؤكداً أن مختلف فروع النشاط يتم تقييمها بشكل متفاوت وبالتالي ليست غير قابلة للقياس، على عكس ما يوحي به باريتو، وأياً يكن رأي إدغار بو، فإن لاعبي الدامة لا يتوصلون إلى الإيحاء بالرعب أمام الشهرة التي يثيرها لاعبو الشطرنج الكبار، إن أوفنباخ لا يحتل في تاريخ الموسيقى المكانة نفسها التي يحتلها موزار.

هذا الاعتراض الثاني يقود إلى سؤال مهم: هل يشير التقييم المتفاوت (لفروع النشاط) إلى وجود نظام مشترك للقيم؟ وثمة سؤال استطرادي هو: هل يمكن اعتبار نظام القيم المشترك هذا (إذا كان موجوداً) أنه الإثبات غير المباشر على وجود طبقة مهيمنة، لديها القدرة على فرض تراتبية القيم الخاصة بها على المجتمع بمجمله؟ إذا تساءلنا لماذا الدامة أقل قيمة من الشطرنج أو أوفنباخ أقل من موزار يبدو واضحاً أننا نستطيع إعادة هذه الفروقات إلى تراتبية معينة بين القيم العامة. تعتبر الدامة لعبة قائمة على الحيلة والسرعة واستبطان الضربات (الكلاسيكية) ذات العدد التام والمحدود. في حين أن الشطرنج تعتبر على العكس أنها تضع موضع العمل قدرة استنتاج وتوقع استثنائية. إذن ثمة حيلة من جهة وذكاء استنتاجي من جهة أخرى، وبما أن (الصفة) الثانية تقيّم غالباً بشكل أفضل من الأولى، فإن لاعب الشطرنج أكثر تقديراً من لاعب الدامة، الملاحظة صحيحة دون شك. ويقتضي بالتأكيد الأخذ بالحسبان لعنصر مؤسسي ألا وهو أن مباراة الشطرنج تنظم على المستوى العالمي وتستفيد من إعلانات وسائل الإعلام، ولكن ربما لم يكن هذا سوى نتيجة لذاك. إن بيتهوفن ذو قيمة أكبر من أوفنباخ، وذلك لأن الأول قد أوجد تركيبات صوتية وبنى إيقاعية جديدة، في حين أن الثاني نجح تماماً في نوع صغير وحسب. وهذه التحليلات التي قد يكون من الممكن تحديدها ومضاعفتها – علماً أنها تحليلات أولية – يبدو أنها تشير إلى إمكانية الكشف وراء تراتبية فروع النشاط عن نظام مشترك للقيم. وبما ان القيم لا تنتمي إلى نظام الطبيعة إنما إلى نظام الثقافة، ثمة إغراء كبير بأن نعتبرها نتاج "كيفي" وإن نعتبر وجود طبقة مهيمنة أساس هذه الكيفية، إن تفوق الأوبرا على الأوبريت، وبالتالي، إن كون مؤلف الأوبريت اياً تكن مكانته، لا يستطيع الطموح إلى مستوى الاحترام الذي يحظى به مؤلف الاوبرا، لا يستند إلى أي سبب ذاتي، فالموسيقى (الكبيرة) ليست إذن كبيرة إلا لأنها مفضلة من قبل قسم من الفاعلين الاجتماعيين الذين يستخدمونها كإشارة تميز. وفي النهاية، إن تراتبية الأعمال مثل تراتبية (فروع النشاط)، ليست سوى ترجمة لتراتبية جمهورها. وإن كون هذه التراتبية يتم إدراكها باعتبارها ذات صفة شاملة يدل في آن واحد على وجود قدرة الهيمنة من قبل إحدى (طبقات) المجتمع، وهي الطبقة المهيمنة.

يقتضي الاعتراف ببعض الفائدة لهذه النظرية، لقد جرى تعميمها بالتحديد من قبل بورديو وتلامذته، الذين يفضلون بصورة عامة، ضمن أفقهم الماركسي الجديد، تعبير الطبقة المهيمنة على تعبير النخبة. ولكن من المهم كذلك أن نرى حدوده الضيقة جداً. أولاً، يمكننا التساؤل عما إذا كانت (الطبقة المهيمنة) قادرة بالفعل على فرض التراضي على الطبقة المهيمن عليها: فمارغو ليست دوماً مقتنعة بتفوق فيدليو على لاتوسكا إن أفضليات الطبقة المهيمنة ليست قادرة دوماً على إقامة التراتبية بين النخب. فملاعب كرة المضرب (أفضل ارتياداً) بالتأكيد من سباق الدراجات. ولكن الفائز الأول في سباق الدراجات يمكن أن يكون مرشحاً لمركز الشهرة الكبيرة على غرار الفائز في كرة المضرب. إن هيتشكوك الذي لا يقل جمهوره عن جمهور ريني لا يعتبر وجهاً أقل أهمية. فالفيلم البوليسي لم يعد نوعاً متدنياً تماماً، ثمة اكتشاف مهم بيّن مؤخراً أن العمال الفرنسيين يميلون إلى الموز والبورجوازيين إلى نوع من الخس Endive لُعاعة، مع ذلك لم تضع أية خرافة اللعاعة بين أغذية الآلهة، وباختصار، يبدو أن ظاهرات مثل تطور وسائل الإعلام والفنون (الجماهيرية) مثل السينما والتقنيات السمعية – البصرية ورياضات الجماهير الخ.، ساهمت إلى حد كبير في تشويش سلم القيم التقليدية. ومن المؤكد أن النجاح لدى البورجوازية كان يعادل التقديس حتى مرحلة متقدمة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولكن بروز الثقافة (الجماهيرية) جعل التراتبية تبهت. فأولاد البورجوازية يفضلون أحياناً استيريكس على كورني.. إن تثبيت وجود (الطبقة المهيمنة) انطلاقاً من تراتبية الأمجاد وفروع النشاط يعتبر إذن مشروعاً قابلاً للنقاش من خلال وجهتي نظر. من جهة، إن لها سياقاً سفسطائياً (لا تتم "البرهنة" على وجود طبقة مهيمنة انطلاقاً من المراقبة وإنما انطلاقاً من مسيرة استنتاجية) ومن جهة أخرى، إن المقدمات المنطقية التي يقوم عليها الاستنتاج تتناقض مع اقتراح واقعي هو: أنه، إذا كانت توجد فعلاً (على مستوى الإدراك الجماعي) تراتبيات جزئية بين النشاطات وفروع النشاطات، يكون من المستحيل بالتأكيد الزعم بأن التراتبيات الخاصة بإحدى المجموعات تفرض نفسها على الأخرى. إن الواقعية التصويرية في الرسم (التي تطبق على الرسم أصول إعادة الإنتاج الأمنية للطبيعة، التي تعتبر شعبية، وتلغي التمييز بين الرسم وفن الصورة الشعبي)، وتقديس التاريخ الشعبي، والموسيقى التي توصف تحديداً بالبوب (التي ليست من أصول شعبية) ولكنها تطمح للاستناد على ثقافة موسيقية شعبية) يبدو أنها تدل على أن الطبقة المهيمنة ليست دوماً تلك التي نعتقد بوجودها، فيما يتعلق بتراتبية القيم. يمكننا بالإجمال أن نتساءل عما إذا كان تاطيف ظاهرات التفريع في المجتمعات الصناعية وتوسع التعليم، وبالتالي بروز ظاهرات مثل الثقافة (الجماهيرية) والرياضة (الجماهيرية) لا تعطي مجدداً حيوية جديدة لنظرية باريتو. من المستحيل إلا على مستوى محلي تثبيت تراتبية للأشكال ولفروع النشاط التي يعترف بها تقريباً من الجميع. ومن باب أولى، من المستحيل البرهنة على ان هذه التراتبية تتعلق بأفضليات (طبقة).

لنأت إلى المنقاشات الخاصة بالنخبة (أو بالنخب) القائدة، لقد قلنا إنه لو اتفق جميع علماء الاجتماع على أن يميزوا داخل النخبة (أو النخب) مجموعة ثانوية تتعلق بالقسم ذي النفوذ أو السلطة المباشرة على النظام الاجتماعي، من النخبة (أو النخب) فإنهم لا يتفقون على صفة المفرد أو الجمع لهذه المجموعة الثانوية. وتظهر كل الفروقات الأيديولوجية بين جميع الذين يتكلمون بالمفرد على النخبة القائدة. وبناء لبعض الصيغ الماركسية المألوفة، إن من يمسك بالسلطة هو الذي يمسك برأس المال، وبلغة أكثر حداثة، هم الفاعلون الاقتصاديون المتحكمون بمصير المؤسسات الرأسمالية الأكثر أهمية. ويعتبر آخرون أن من يقبض على السلطة (الحقيقية) هم مدراء الشركات المتعددة الجنسيات. ألم يقل ماركس نفسه، في تصريحاته حول هذه المسألة، إن الدولة الديمقراطية خاضعة لمصالح البورجوازية الرأسمالية؟ ويعتبر بعض دعاة الماركسية الجديدة أن الجهاز السياسي للمجتمعات الليبرالية خاضع لمصالح الرأسمالية الدولية. وتعتبر الليبرالية المألوفة، أن الدولة لديها القدرة على ممارسة وظيفة الحكم بين المصالح المتنافرة. فبناء لهذه الرؤية، يكون القابض الحقيقي على السلطة إذن هو الرجل السياسي، وهكذا يتفق الليبراليون العاديون والماركسيون العاديون على اكتشاف طبقة خاصة من الفاعلين الذين يكونون الأمناء (الحقيقيين) على السلطة، ضمن نظام الأدوار الاجتماعية المعقد. يمكننا إيجاز الموقفين اللذين أثيرا في الحديث عن آحادية مألوفة. ومن المهم التمييز بين الآحادية المألوفة وما يمكن تسميته بالآحادية العالمة. ففي هذه الصيغة الأخيرة ثمة اعتراف بتعددية النخب القائدة. ولكن يتم السعي في الوقت نفسه إلى البرهنة بأن مصالح مختلف (شرائح) الطبقة القائدة تكون متقاربة وأن هذه الشرائح لديها القدرة على إجراء اتفاقات على حساب الطبقة المقودة، مخصصة لتأمين تقدم مصالحهم. هذا الموقف مثلاً هو موقف ميلز. فميلز يعترض على الماركسية المبسطة التي تنكر كل سلطة حقيقية للسياسيين، كما يعترض على الليبرالية المبسطة التي تعتبر أن الإنسان الاقتصادي يكون خاضعاً للإنسان السياسي. ولكنه يريد أن يكون لشرائح نخبة السلطة التي يميزها (في حالة أمريكا خلال سنوات الخمسينيات: النخبة السياسية والنخبة الاقتصادية والنخبة العسكرية). على الرغم من الاحتكاكات التي يمكن أن تحصل بينها:

1- أن كون لها مصلحة مشتركة في المحافظة على (نظام) يؤمن مصالحها على السواء.

2- أن تكون لديها القدرة على التفاهم لكي تحافظ على وصايتها غير منقوصة على جماهير الخاضعين لها. إن إحدى صيغ الآحادية العالمة يقضي بملاحظة كون شرائح الطبقة القائدة، حتى ولو كانت قليلاً ما تتصل فيما بينها (ويقول لواندويسكي، يبدو أننا نادرا ما نرى رجل أعمال، ومن باب أولى عالم الأعمال، يوعز هاتفياً بأوامره إلى رجل سياسي، حول قضية محض سياسية). ليس لهم مصالح مشتركة وحسب ولكنهم يعتبرون أنفسهم منتمين إلى العالم نفسه. ودون أن يكون الاتصال ضرورياً، فالاتفاق والمشاركة يقومان إذن عفوياً. ينتج هذا الأثر عما يلي:

1- يوجد طبقة مهيمنة وطبقة مهيمن عليها.

2- يرسخ النظام الاجتماعي لدى أعضائه مفهوماً واضحاً ومميزاً عن انتمائهم الطبقي.

3- يكون هذا الترسيخ أسهل بمقدار ما يختار النظام الأعضاء المستقبلين أساساً في الطبقة المهيمنة وأعضاء الطبقة المهيمن عليها المستقبلة أساساً في الطبقة المهيمن عليها. وبما أن الانتماء الطبقي موروث إلى حد كبير ثم تؤكده العائلة والمدرسة، يكون الأفراد منذ طفولتهم متمتعين (بمجموعة من المراجع) تفرض نفسها عليهم وكأنها بديهية. لذلك يغني أعضاء الطبقة المهيمنة أنشودة الوحدة دون أن يكون ثمة حاجة إلى قائد للأوركسترا. وهكذا، لم تعد النظريات التآمرية للمجتمع ضرورية: إن العناصر الرئيسة للمجتمعية التي تؤدي إلى آثار تآمرية بين أعضاء الطبقة نفسها، تجعل التفاهم والتآمر ضروريين. وكما يرى بليز إن كون المصرفيين ورجال السياسة والقادة العسكريين والأساقفة لا يشكلون مجموعة ضغط منظمة، بدل أن يكون إشارة على الاستقلال الذاتي النسبي للنخب، هو على العكس، إشارة لا تخطئ على تصادمهم. وفي النهاية، يكفي (للبرهنة) على (النظرية) التي تثبت من أن المستوى التعليمي (وهو مؤشر استباقي على المجتمعية في هذه الطبقة أو تلك) لأعضاء (الطبقة المهيمنة) يميل، أياً تكن الشريحة المعنية من الطبقة المهيمنة، إلى أن يكون أعلى من المستوى التعليمي لمختلف شرائح الطبقة المهيمن عليها. هذا البرهان لا يظهرا أية صعوبة.

إن الصيغة الأمريكية (التي ابرزها مثلاً ميلز) وكذلك أيضاً الصيغة الفرنسية (التي أبرزها مثلاً بورديو ولواندويسكي عن الآحادية العالمة، يصطدمان باعتراضات أكيدة. ذلك أنه، إذا كان ميلز قد أشار إلى أن التصادم الذي يضعه بين شرائح النخبة كان، في جزء منه، ظرفياً، فإن زملاءه الفرنسيين جعلوا منه معطى بنيوياً. إن تطور المجتمعات الصناعية نحو التعقيد يميل بالتأكيد إلى الإلحاح على الذين يحتلون مراكز المسوؤلية بالحصول على تأهيل متزايد، ولكن فرصة في النجاح تتزايد إذا كان يستطيع كذلك أن يظهر قدرة حقيقية في تحليل الملفات التقنية، إن كون المدرسة الوطنية الإدارية (ENA) في فرنسا هي منجم يصنع فيه قسم مهم من (الشريحة القائدة في الطبقة المهيمنة) لا يرتبط بالتأكيد بالضرورة التاريخية. ولكنه يمثل الشكل الخاص المعتمد من قبل تطور عام في المجتمعات الصناعية. إن كون القدرة الاجتماعية المعترف بها لممارسة المسؤليات في مجالات مختلفة يتعلق أكثر فأكثر اليوم بشهادة رسمية، ربما كان يدل على ميل لدى الطبقة القائدة لتدعيم هيمنتها الاجتماعية المهنية والثقافية. ولكن الهيمنة الثقافية هي شأن، والمصالح الحرفية والأهواء هي شأن آخر. ولا يبدو أن الهيمنة الثقافية قادرة على أن تؤدي إلى الوعي الطبقي أكثر مما تؤدي هيمنة (المواقع في نظام الإنتاج).

من المؤكد أنه توجد مجتمعات تهيمن عليها فئة قائدة، في هذه الحالة، تكفي الولادة لتحدد ما إذا كان فرد معين ينتمي إلى النخبة، وبالتالي سيكون له تأثير بدرجة متنوعة على هذا الجانب أو ذاك من الحياة الاجتماعية. إن كون المجتمعات الصناعية تعطي دوراً مهماً للشهادة الرسمية بالمؤهلات، مضافاً إلى كون الوصول إلى الشهادة الرسمية متفاوت حسب الولادة، لا يكفي بالتأكيد للاستنتاج بأن هذه المجتمعات تخضع لفئة قائدة.

ثمة كذلك مجتمعات خاضعة لطبقة قائدة يكون الاختيار فيها مفتوحاً، ولكنها تمارس رقابة (فعالة إلى حد ما) على الجوانب الأكثر أهمية في الحياة الاحتماعية، ولكن وجود الطبقة المسيطرة بهذا المعنى يفترض:

1- درجة قوية من المركزية السياسية.

2- وقدرة الطبقة القائدة على تحديد تمتع مجموعات المصالح بجملتها (بحق المشاركة) أو، بصورة أدق، خلق الشروط التي تجعل مجموعات المصالح هذه ترى مصلحتها الأولية في الاهتمام برضى الطبقة القائدة.

من الصحيح أن النخب، على المستوى العمومي الأقصى، يمكن اعتبارها متعاونة في قيادة النظم الاجتماعية، لقد تم إبراز هذه النقطة من قبل سان سيمون منذ عام 1870: فالعلماء والمنظمون والكهنة يتعاونون في عمل المجتمع، وقد استعادها مانهايم في تمييزه بين نخب القيادة والتنظيم والنخب المنتشرة التي تعالج القضايا الروحية والثقافية والخلقية. كما استعادها أيضاً برسونز ومن بعده سوزان كللر: إن الوظائف الأربعة للنظرية البرسونزية تحدد أربعة أنماط من النخب تؤمن قيادة الأنظمة الاجتماعية. ومن الممكن فعلياً أن يكون ماركيوز أو هابرماس قد ساهما في (تكامل) المجتمع الأمريكي والمجتمع الألماني بتعبيرهم عن حاجات ثقافية جديدة، وهكذا فقد اديا خدمة جليلة للنخب السياسية في بلديهما، ولكن صعوبات هذا المفهوم الوظيفي بديهية جداً وقد وضعت تكراراً إلى حد لم يعد من الضروري معه التشديد عليها. إن الآحادية العالمة لميلز وأتباعه تستعيد جوهرياً النظرية الوظيفية (تعاون شرائح النخبة في المحافظة على النظام) ولكنها تتميز عنها بإدخالها للفرضية الإضافية القائلة بأن للشرائح المختلفة للنخبة مصلحة في المحافظة على النظام لأنه يضعها في موقع الهيمنة، ولكن لسوء حظ النظرية ليس نادراً ملاحظة النزاعات بين شرائح النخبة القائدة. إن الوظيفية في شكلها الكلاسيكي كما في شكلها الماركسي الجديد، لا يمكنها بالتأكيد التعود على فكرة النزاعات الاجتماعية، وعندما طبقت على مسالة النخب، ناسبة للجميع إرادة خدمة (النظام) أدى بها ذلك إلى إهمال أحد وجوهها الجوهرية، وهو وجه الخصومة بين النخب وشرائح النخب، الذي شدد عليه بحق التقليد المكيافيلي، في المجتمعات الصناعية الليبرالية، حيث حرية الكلمة منتشرة أكثر من انتشارها في أي شكل آخر معروف من المجتمعات، تعتبر شبكة النخب أكثر تعقيداً وتنافراً من أي وقت مضى. فالمقاول السياسي أو الثقافي والصحفي الذي يقدم دفاعاً ماهراً (أي دفاعاً يقوده باسم المصلحة العامة) عن المصالح الخاصة لهذه المجموعة أو تلك، يمكنه أن يصل بين ليلة وضحاها إلى الوجاهة أي إلى (النخبة) وبما ان مصالح هذه المجموعة لديها الفرص للاصطدام بمصالح مجموعات أخرى (سيدافع عنها كذلك مقاولون سياسيون أو ثقافيون)، فلا بد أن ينجم عن ذلك خصومة حتمية ونزاعات حتمية، إن (التجانس الثقافي) لمحامي المجموعات المختلفة لا يساهم في التوفيق بينها طالما أن بينها بوصة من التناقض، ففي المجتمعات الصناعية كما في أنماط المجتمعات الأخرى، إن طرائق اختيار النخب، واللياقة والموارد التي يقتضي توفرها لتأمين فرص الوصول إلى النخب وتجزئة أن تجانس النخب، تتعلق كلها (بالبنية الاجتماعية) وكذلك بعناصر ظرفية، وبناء للمناخ الدولي، يبدو أن النخب في المجتمعات الصناعية تتبلور بشكل المجتمع العسكري – الصناعي، والمجتمع الاقتصادي – الصناعي أو إذا كان المناخ السائد هو مناخ (الأزمات الحضارية) فبمجتمع ثقافي – سياسي. كانت سلطة الموظفين الكبار في الصين الكلاسيكية تستند إلى الثقافة والملكية العقارية، أما في النموذج – المثالي المعروض من قبل ويتفوجل عن (الاستبدادية الشرقية) تمتلك السلطة نخبة إدارية، في الحالتين ينبغي أن تفسر طريقة الاختيار واللياقة وتجانس النخب انطلاقاً من خصائص النظام الاجتماعي المعني. ويكون الأمر كذلك في حالة المجتمعات الصناعية. لا يمكننا أن نأمل بإنتاج نظرية مناسبة للنخب في هذه المجتمعات إذا فسرناها باعتبارها أنظمة لا تختلف درجة تعقيدها عن المجتمعات الزراعية.

متعلقات

النخب العربية لا تراهن على مجتمعاتها(1)

لم تكن النخب العربية فاقدة للرهان على مجتمعاتها كما هي الحال اليوم. فقد أجلت هذه النخب ولازالت تؤجل كل ما يتعلق بتحريك الأوضاع الراكدة تحت أقدام النخب والعائلات الحاكمة من أجل تبني مشروع واضح لإخراج الدولة المعاصرة العربية الهشة أخراجها من براثن السلطة ومن فمها أيضا حيث استطاعت أن تبتلع هذه السلطة كل وظائف الدولة وأجهزتها ومغانمها وقدرتها على توزيع الثروة الاجتماعية بطريقة تضمن لها استمرارية الإنتاج السلطوي للمجتمع والدولة معا! لأنه بدون المجتمع والدولة لا تجد هذه السلطة أرضا وبشرا تحكمهم. وهذا الموضوع هو الذي يجعل في ظل أوضاع عالمية وأقليمية وعلى مدار أكثر من ستة عقود من الزمن أن تصبح السلطة هي الدولة وهي المجتمع ( الاستثناء في ذلك كانت منذ البدء دول الخليج ) فالليبرالية الاقتصادية هي التي كانت سائدة ومازالت واعتمدت النخب الخليجية في هذه المصادرة على العائد النفطي. وهذا ما نلمسه الآن في دول الخليج من وجود لنويات مجتمع مدني فعلي، ولايكفي القول للتدليل على ما نقوله أن الإعلام العربي عموما بات خليجيا فقط لأن الأخوة في الخليج يمتلكون النفط! فهذا سبب غير كاف والدليل أيضا والدامغ: أن القذافي يمتلك موردا لايقل شأنا بل أكثر مما تملكه بعض دول الخليج ومع ذلك نجد أن علاقة النخب الليبية بالإعلام تكاد تكون شبه معدومة ماعدا دعمها لصحيفة أو أثنتين. والدليل الآخر أن معظم وسائل الإعلام الخليجية هي قطاع خاص وإن كان للسلطات هنالك دورا رئيسيا لكنه ليس كليا كحال الإعلام في سورية وليبيا والعراق صدام سابقا. ولازالت هذه النخب التي وقعت فريسة لبراثن التبادل البيني بين النخب العربية الحاكمة. التبادل البيني في تنميط المجتمعات العربية عموما وفي تبادل المصالح والنفوذ والكراهية في أحيان كثيرة. لنلاحظ مثلا أن النخب في البلاد العربية الكثير منها يراهن على سلطة مثل السلطة السورية لاستمرار مشروع ما يسمى الممانعة للغرب. كما كان الحال من قبل رهانا على صدام حسين. وهذه النخب رغم كل الخراب لم تحاول أن تقوم بمراجعة ذاتية ونقدية لما كانت تحمله من أيديولوجيات. سقط صدام اتجهوا إلى الأسد بعد أن طردنا القذافي شر طردة من ملكوت مشروعه المقاوم والممانع. والآن يتجهون نحو حماس والمقاومة العراقية ـ التي تنضح بالإرهاب وتنضح بأجندات السلطات الأقليمية الأكثر عداءا للإنسان العربي وحقوقه. وما فعلته حماس في معركتها لتحرير فلسطين من الفلسطينين جعل هؤلاء في حالة ارتباك حقيقي. ولكن هنالك جاهزية سياسية وأيديولوجية ونفسية تجعلنا دوما نرمي بأعباءنا على الغرب عموما والأمريكي خصوصا. فلو نظرنا جديا للوحة النخب العربية لوجدناها في غالبيتها تراهن على الخارج! على سبيل المثال النخب السورية كانت تراهن على السوفييت ثم انقسمت حيال هذا الأمر ومنها من كان يراهن على مصر الناصرية، ومنهم من كان يراهن على صدام ومن ثم على المقاومة الفلسطينية: والآن تراهن هذه النخب على المقاومة العراقية والفلسطينية وممانعة السلطة السورية لمشروع الشرق الأوسط الأمريكي. وإذا كانت هنالك بعض النخب التي تراهن على الأمركة ولازالت رغم كل ماحدث فهي تعتمد في قراءتها على أن المجتمعات العربية قد اضمحلت فيها أية روح للمقاومة لهذه السلطات المتغولة: وهذا صحيح ولكن أولويات هذه النخب التي تسمى ليبرالية باتت هي أولويات داخلية: تغيير النخب الحاكمة. وهذه الأولوية صحيحة تماما من وجهة نظري في بعض البلدان في المنطقة. ولكن هذه النخب الضعيفة التواجد لم تستطع في الحقيقة أن تكون على قدر من المسؤولية التي يتطلبها موقفها من قراءة عولمية للتاريخ، والذي لا يعود إلى الخلف وليس مطلوب منها الدفاع عن السلوك الأمريكي في السراء والضراء. والمثال الأكثر سطوعا الآن ما يجري في لبنان:

إن مطلب الأكثرية واضح هو الاستقلال عن النظام الأمني السوري اللبناني! والقوى التي تمانع هذا الأمر أيضا واضحة ومع ذلك لازلت تجد هذه النخب تسارع للبحث عن كل شاردة وواردة من شأنها إجهاض المطلب اللبناني في الخروج من دائرة نفوذ النخب الأمنية السورية. وسأضرب مثالا ربما يبدو خارج السياق:

السيد وليد جنبلاط عندما كان صديقا للسلطة في سورية لم تتعرض له هذه النخب بالنقد قياسا بما يتعرض له الآن. وفي الإجمال نستطيع القول:

إن النخب الحاكمة تراهن في ديمومتها على علاقتها مع الخارج. والنخب المعارضة أيضا كذلك الأمر كل منها له خارج يراهن عليه:

نخب تراهن على خارج عربي أو إقليمي، ونخب تراهن على خارج غربي عولمي، ونخب تراهن على خارج غربي مناهض للعولمة. إنها مشكلة المجتمعات المفوتة في الحقيقة. وألأحداث التي تجري في المنطقة توحي بما لايقبل الجدل بأن الاستعداد للعنف هو وليد هذا التفويت والغياب عن تقرير المصير بوسائل حضارية. العقلانية غائبة عن المجتمعات العربية. العقلانية بما هي ممكنات العصر وروحه.

والغرب في أولوياته لازال هنالك تبعات لعلاقة ذات ديمومة مع النخب الحاكمة دون الأخذ بعين الاعتبار مجمل سلوك هذه النخب إزاء قضايا حقوق الإنسان ودولة القانون والمؤسسات. إن الغرب في بعض مصالحه يسمح لهذه النخب بأن تعيد توزيع ثروة المجتمعات المفوتة بطريقة غير قانونية وغير مشروعة ولا تعود بالنفع على مجتمعاتنا في الحقيقة. فقد أصبحت اللوحة النخبوية مزرية: علمانيون يدافعون عن الإرهاب في العراق وفلسطين! قوميون عرب يدافعون عن الأجندة الإيرانية. والكثير من أجزاء وعناصر هذه اللوحة يشير إلى نتيجة واحدة:

المجتمعات المفوتة لا تنتج سوى نخب مفوتة.

الحالة الإسلامية وتشكّل النخب(2)

ثمة فارق كبير وهائل بين حجم التأثير الإسلامي ومساحته في المجتمعات وأوساط الشباب والطبقات الوسطى وبين وجوده في الطبقات الاجتماعية الغنية والقيادية ومؤسساتها، من شركات ومدارس وصحف ومجلات وأسواق وأندية وأحياء سكنية، أما مؤسسات ونخب الحكم والقيادة السياسية والبيروقراطية في الدول والمجتمعات فتكاد تكون منتمية إلى مجتمع آخر أو تبدو وكأنها هبطت على البلاد التي تحكمها وتقودها من كوكب آخر.

بقلم إبراهيم غرايبة

ما زالت الحالة اليسارية والقومية على رغم انحسارها تشكل مساحة واسعة في القيادات والنخب الاجتماعية والسياسية والثقافية وحتى في الأوساط والمؤسسات الحاكمة والمحافظة الليبرالية فإن بقايا اليساريين وفلولهم يشكلون نسبة كبيرة في قيادتها وصوغ رؤيتها وسياساتها، ولكن الحالة الإسلامية لم تسهم حتى اللحظة كما يبدو في التقدير الأولي والملاحظة العامة في تشكيل النخب والقيادات وفي صوغ الأفكار والثقافة والفن والإعلام.

ثمة فارق كبير وهائل بين حجم التأثير الإسلامي ومساحته في المجتمعات وأوساط الشباب والطبقات الوسطى وبين وجوده في الطبقات الاجتماعية الغنية والقيادية ومؤسساتها، من شركات ومدارس وصحف ومجلات وأسواق وأندية وأحياء سكنية، أما مؤسسات ونخب الحكم والقيادة السياسية والبيروقراطية في الدول والمجتمعات فتكاد تكون منتمية إلى مجتمع آخر أو تبدو وكأنها هبطت على البلاد التي تحكمها وتقودها من كوكب آخر.

هل يجرى استبعاد محكم وقاس للإسلاميين من المؤسسات القيادية والنخب والتي تكون بطبيعتها مغلقة يصعب الانضمام إليها إلا وفق قواعد متشددة من القرابة والمصالح، وهل سيتحول هذا الاستبعاد إلى صراع بين المجتمعات وبين تحالف من النخب السياسية والاقتصادية؟ وهل ستتشكل نخب وقيادات إسلامية جديدة في مواجهة النخب والحكومات المغلقة؟ وهل ستأخذ هذه المواجهة طابع الصراع السياسي وربما ثورات اجتماعية تعبر عن مصالح وصراع القوى والطبقات؟ وهل تعبر الحالة الإسلامية الجديدة بتحولها إلى ظاهرة مجتمعية شاملة عن تطلعات وأفكار المجتمعات والتي تشعر بالحرمان والتهميش، فمن الملاحظ أن القيادات الإسلامية بدأت تزحف إلى المواقع والمؤسسات التي تتشكل بالانتخاب والتي تحولت إلى مؤسسات مهمشة سياسياً وإن كانت تعبر عن تجمعات مهنية واجتماعية وسياسية كبيرة.

حتى المجالس النيابية المنتخبة بدأت هي الأخرى تتحول إلى مؤسسات اجتماعية تعبر عن مطالب المجتمعات والمناطق أكثر مما هي مؤسسات تشريعية وسياسية، بل إنها على رغم فاعليتها الاجتماعية والشعبية بدأت تمضي إلى فلك التهميش أو تتحول إلى المواجهة الاجتماعية مع النخب والحكومات.

وما يشجع على الاستنتاج بتنامي الفجوة وتوقع الصراع الشامل الأقرب إلى الثورة، أن التهميش الرسمي للمؤسسات التي يقودها الإسلاميون، مثل البرلمانات والنقابات والبلديات والجمعيات الخيرية، ليس صراعاً مع المؤسسات بذاتها أو لذاتها، فهي تحظى بالرعاية والإغداق عندما تقودها النخب السياسية والاقتصادية الأنيقة والمغلقة إياها، وتتحول النقابة إياها إلى معسكر اجتماعي وسياسي معزول عندما تنتخب قيادة إسلامية.

ستقسم هذه السياسة مع الزمن المجتمعات والمؤسسات والنخب والقيادات، وبدلاً من أن يكون الصراع والتنافس بين الإسلاميين والعلمانيين على سبيل المثال، فإنه سيكون بين النقابات والبرلمانات والبلديات المنتخبة وبين الحكومات والشركات ورؤوس الأموال المتحالفة معها، وبدلاً من أن يكون تنافساً واختلافاً بين البرامج والأفكار، فإنه سيكون اجتماعياً وطبقياً وجغرافياً، ويتخذ طابعاً عنيفاً وثوروياً، أو على الأقل سيكون مشحوناً بالمرارة العميقة والإقصاء وغياب الحوار.

والأمثلة التي تؤيد هذه الفكرة كثيرة ومتعددة، وعلى رغم أن الأمثلة قد تضلل الفهم وتحرف مسار التفكير ومنهجه، ولكنها ستبقى حالة يجب أن تدرس وتحلل، وإن لم تصلح لإدراجها في سياق نتائج اجتماعية واقتصادية كبرى، ففي الأردن على سبيل المثال، وهي حالة يمكن ملاحظتها أيضاً في مصر وربما اليمن بل تعميمها في الدول العربية التي تجرى فيها انتخابات نيابية وبلدية ونقابية، بدأت العملية السياسية والقيادية تكسر القواعد التقليدية والمتراكمة في فرز واختيار القيادات والنخب، فكانت البلديات والنقابات قاعدة لاختيار النواب وتقديمهم، وكان النواب قاعدة لتشكيل الحكومات والقيادات السياسية، لكن طبقة الوزراء والقادة السياسيين والإداريين في الأردن اليوم تتشكل خارج هذا السياق، معاكسة اتجاهها العام والسابق على مدى عقود من الزمن، لتقوم على مجموعات جديدة غير معروفة تقريباً، فلا يكاد المواطنون اليوم يعرفون اسم وزير أو مسئول، ولا يعرف حتى الإعلاميون والمتابعون للشأن العام سيرة وظيفية أو تاريخية للقادة الجدد.

وهكذا، فإن النخب المتحكمة تغير على نحو خطير قواعد اللعبة والتنافس السياسي لتحولها إلى صراع قاس ومدمر قد لا يرحم جميع أطرافه، فالانتخابات العامة التي تجرى على نحو متكرر لم تعد تنشئ حياة سياسية تقليدية وراسخة، ولا تساهم في صوغ المشهد السياسي ولا في تحديد وجهة السياسات المستقبلية وتشكيل الحكومات والقيادات إلا بمقدار هامشي ضئيل، ولم تعد تقليداً راسخاً ومرجعية ثابتة في السياسة والإدارة والتنمية، لا تغير كثيراً في تركيبة النخب السياسية والاجتماعية، ولا في صوغ السياسات العامة.

والبرلمان لم يعد يساهم إلا بقدر محدود في تشكيل الحكومات وصعود القادة السياسيين والوزراء، ولا يجد معظم المسئولين وقادة النخب من الوزراء ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات وكبار الموظفين ومديري الشركات ورجال الأعمال والتجار فرصة في النجاح في الانتخابات النيابية، ولا تنتظم هذه الشبكة من النخب السياسية والاقتصادية في أحزاب سياسية تسعى إلى المشاركة في الانتخابات النيابية، ولا تجد فرصتها في تعزيز وجودها في السلطة والنفوذ بتشكيل أحزاب سياسية والمشاركة في الانتخابات النيابية كما في معظم دول العالم.

هذا الخواء السياسي المحير يحتاج إلى وقفة طويلة، فهو ليس بنيوياً راسخاً، ولا يشكل جزءاً من التركيبة الجينية والفطرية في المجتمع، بدليل الحياة السياسية التي تشكلت في أواسط الخمسينات وبين عامي 1989م — 1993م، ولم يعد مقبولاً رده ببساطة ونمطية إلى ضعف الإقبال على الأحزاب والانتخابات والمشاركة العامة، بل إن هذا التفسير النمطي يبدو معداً بتكرار وشمول إعلامي، يؤكد مقولة تبرير الانفراد بالتأثير والموارد، وترك الغالبية الساحقة، تتلهى بالانتخابات والديمقراطية.

وأظهرت مجريات صعود حماس وتشكيلها للحكومة الفلسطينية كثيرا من المؤشرات، فالحالة الجديدة التي يجب الالتفات إليها هي انتقال الحركات الإسلامية من كونها جماعات اجتماعية إلى قيادة وتشكيل النخب السياسية والاقتصادية وبداية النهاية للطبقات السياسية والاجتماعية التي شكلت الدول الحديثة وقادت الاستقلال، مثل فتح وجبهة التحرير الجزائرية وثورة 23 يوليو وحزب البعث والحزب الاشتراكي اليمني وحزب المؤتمر اليمني والحزب الوطني الحاكم في مصر.

فلم يكن نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية مجرد استبدال حزب حاكم بحزب حاكم آخر، ولكنه يعني إعادة صياغة وتفكيك وتركيب شبكة عميقة وراسخة من الهوية والبرامج والمؤسسات والموارد والعلاقات والمواقف، بل وإعادة تعريف الشرعية الفلسطينية المستمدة من منظمة التحرير الفلسطينية منذ حوالي نصف قرن، لتنشأ شرعية جديدة وفكرة وطنية جامعة للفلسطينيين تكون بديلة للفكرة القائمة، وهي صدمة كبرى لا تقف حدودها ومجالاتها عند الشعب الفلسطيني، ولكنها تمتد إلى إسرائيل والدول العربية المؤثرة في الساحة الفلسطينية، والمتداخلة شؤونها ومصالحها ومواقفها بالساحة الفلسطينية، تداخلا لا يمكن الفكاك منه، وتشمل أيضا الحالة الدولية الأمريكية والأوروبية وما حولها، مثل تركيا وإيران.

ولذلك فإن وصف ما جرى على الساحة الفلسطينية بصعود حماس إلى الحكم لا يمكن تلخيصه بضرورة تسليم الحكم والسلطة من حكومة سابقة إلى حكومة منتخبة جديدة، ولكنه في حقيقته وجوهره ثورة كبرى بلا سلاح سوف تغير كل شيء حتى لو ورثت حماس فتح موافقة ومواصلة التزاماتها وعلاقاتها السابقة.

وليس لدي أوهام أو أفكار وآمال كبيرة حول المشاركة السياسية للحركة الإسلامية، ولكن القيمة العظمى لمشاركتها هي في إطلاق الديمقراطية السياسية والاجتماعية لتطور المجتمعات خياراتها، ولأن المجتمعات ستبقى متوقفة حتى تصل الحركة الإسلامية إلى الحكم، ولن تقبل بتجاوز هذه المسألة لتشارك بالفعل وبجدية في العملية السياسية متجاهلة نداء الغرب والنخب واشتراطاتها باستبعاد الحركة الإسلامية ديمقراطيا.

النخب المعارضة في مصر وهؤلاء الأطفال الذين نعاقبهم(3)

مشهد من حي شعبي في القاهرة

من بين الحبر الأسود المسكوب فوق ورق الصحف، وهتافات القضاة والصحافيين ضد الضرب والحبس، من بين الدم الأحمر المراق في العراق وفلسطين ولبنان، توقفت عند خبر صغير عن طفل يموت، في القوصية بأسيوط، أثناء عملية ختان. لم ينتبه أحد الى هذا الخبر المنشور، وتساءلت: أليس الدم هو الدم وموت الأطفال هو الموت، بالمشرط أو بالحرب؟ أليس موت الأطفال في قرية مصرية، مثل موت الأطفال في ساحة القتال؟ وخبر آخر عن طفلة في السادسة يضربها أبوها حتى الموت، لأنها خرجت لتلعب أمام البيت مع الأطفال!

هل هناك علاقة بين قوى المعارضة السياسية في مصر وبين موت طفل في القوصية بأسيوط أثناء عملية ختان؟ أو موت طفلة ضربها أبوها في نزلة السمان؟

من تجربتي الحياتية خلال العقود الثلاثة الماضية يمكنني القول ان غالبية القوى المعارضة السياسية المصرية، على رغم كفاحها المستمر وإخلاصها لأهدافها ومبادئها، لم يكن لها التأثير ولا الفعالية التي تمكنها من أن تصلح نظام الحكم أو تقضي على الفساد، أو تدفع نحو مزيد من العدل الاقتصادي أو الاجتماعي الذي يقلل الفوارق بين الطبقات أو بين الرجال والنساء أو بين الكبار والأطفال، أو يؤدي الى مزيد من الحرية أو الديموقراطية الحقيقية، أو التخلص من الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية.

لماذا؟؟

أهم أسباب فشل غالبية القوة السياسية المعارضة في مصر:

1 – انها اقرب الى أصحاب السلطة والنفوذ والمال منها الى جموع الشعب نساء ورجالاً وشباباً وأطفالاً. ولهذا، فإن نقدها لا يستمر طويلاً، احتجاجها وغضبها يزولان سريعاً، ما ان يلقى اليهم بالفتات من الديموقراطية أو التعديلات الجزئية، للقانون أو بند من الدستور، حتى يهللوا ويكبروا ويرسلوا البرقيات شاكرين اللفتة الكريمة.

مثال واحد من معركة المعارضة المصرية الأخيرة ضد المادة المستحدثة في قانون الصحافة والتي تقضي بالحبس أو الغرامة لأي صحافي أو كاتب يشكك في الذمة المالية لأي مسؤول.

هذه المادة التي تحمي الفساد فعلاً بحيث لا يمكن أحداً أن يتساءل عن مصدر ثروة أحد أو يحاول تطبيق قانون من أين لك هذا؟

ليس سهلاً على المرء في بلادنا أن يعرف المعارض للحكم والمؤيد له، وكان مشهد عجيب في البرلمان المصري حين صفق نواب الحكومة والمعارضة لقرار الرئيس بالغاء فقرة حبس الصحافيين، وتبارى الجميع في اللهج بآيات المدح.

من دون ادراك لبقية القرار أو رؤية الفخ المفتوح الذي يحول شكل العقاب من دخول السجن الى عقاب آخر يبدو أخف، وإن كان أشد وطأة، لأن دخول السجن أخف من دفع غرامة مالية تصل الى 40 ألف جنيه مصري ولا تقل عن 15 ألف جنيه، خصوصاً للمعارضين الكادحين من الطبقة الوسطى المنقرضة أو الذائبة في الطبقة الدنيا.

وقعت غالبية فصائل المعارضة المصرية في الفخ لأنها متسرعة في قراراتها ولأنها تقف على الحافة، ذلك الموقف البين بين، الذي يمكنها من انتهاز أية فرصة للقفز على مقاليد الامور في الحكم أو المعارضة.

2- المشكلة الثانية هي غياب الوعي لدى غالبية النخب المعارضة وانشغالها بأمور السياسة اليومية عن أمور الفكر ورفع الوعي لنفسها وللرأي العام المصري.

ان انخفاض الوعي العام في بلادنا ليس الا نتيجة انخفاض الوعي لدى النخب التي تلعب دوراً رئيساً في تشكيل الرأي العام لدى الجماهير نساء ورجالاً وشباباً وأطفالاً(...).

3- المشكلة الثالثة هي العجز عن الرؤية الشاملة الكلية للمجتمع بنسائه ورجاله وشبابه وأطفاله، أو العجز عن ربط المشاكل السياسية بالمشاكل الاجتماعية، العجز عن ربط الحياة العامة بالحياة الشخصية الخاصة في البيت.

وهل يمكن أن تكون ديموقراطية حقيقة من دون نصف المجتمع من النساء؟ هل تكون ديموقراطية تحت قبة البرلمان وديكتاتورية في البيوت والمدارس والاحزاب؟

هل يصبح الرجل ديموقراطياً فجأة بخروجه من بيته الى البرلمان؟

أليست الديموقراطية هي السلوك اليومي وفي كل مكان؟

كيف تتجاهل المعارضة المصرية بطش الآباء بأطفالهم ونسائهم تحت اسم التأديب؟

كيف يتم التغاضي عن عذابات الملايين من الاطفال وأمهاتهم بخاصة المحرومين من الشرف ولقمة العيش ومن الوعي والتعليم؟

لقد تم اختزال المجتمع المصري الى قلة غالبيتهم رجال كهول يملكون قوة الحكم أو قوة المعارضة والكتابة في الصحف والتظاهر أو الاضراب، الى جانب السلطة الأبوية المطلقة في البيت.

لقد انشغل المجتمع المصري في الشهور الاخيرة بمشكلة القضاة ومشكلة الصحافيين، ومع أهمية هذه القضايا الا انها تطغى على القضايا الاخرى التي تمس حياة الملايين نساء ورجالاً وأطفالاً،

هذه القلة المحظوظة من طبقة القضاة والصحافيين تستطيع دائماً بقوة نفوذها أن تفرض مطالبها على الشعب كله وعلى الحكومة.

وهناك مثل يقول الطفل الاعلى صراخاً يوضع على الثدي ليرضع قبل غيره من الاطفال الساكتين.

معظم الشعب المصري من هؤلاء الساكتين الذين لا صوت لهم ولا حول ولا قوة ولا قدرة على الكتابة في الصحف او الصراخ في الفضائيات والإذاعات وليس لهم نواد قوية مثل نادي القضاة او نقابات ذات نفوذ مثل نقابة الصحافيين يمكن ان تقلق النظام الحاكم.

في قاع المجتمع المصري يرقد ملايين الأطفال المضروبين بقسوة الأب او المحرومين من شرف اسم الأب او من الطعام الكافي او السكن الصحي او التعليم أو الأمان، او المعرضين لمخاطر عمليات الختان واستئصال جزء من لحمهم الحي في الأيام الأولى من العمر.

وترقد في القاع ايضاً بنات وأمهات صغيرات يتعرضن للاغتصاب الجنسي والإنساني ويتحملن وحدهن وزر التنفيس عن الإحباط والفشل واليأس والحرمان الجنسي لملايين الرجال والشبان.

تعجز غالبية النخب المعارضة المصرية على مدى العقود عن إدراك مشاكل هذه الغالبية الساكتة العاجزة عن التعبير، والتي ان عبرت تم زجرها لأنها تتكلم في امور حساسة تندرج تحت الجنس او الدين.

لقد هللت المعارضة الحكومية وغير الحكومية للطفلة «آلاء» التي تبارت الأقلام في الكتابة عنها لأن مشكلتها شقت طريقها الى الرئيس عبر الصحافة فمنحها اللفتة الكريمة، وانحلت مشكلتها في سرعة البرق، كأنما عثرت وهي تنبش التراب على خاتم سليمان فقال لها: شبيك لبيك انا بين ايديك؟

تلعب هذه النخبة المصرية المعارضة دوراً في خفض الوعي لدى الأطفال ذكوراً وإناثاً، وخلع البطولة الزائفة على أي واحد منهم يصل الى خاتم سليمان.

لماذا تعجز النخب المعارضة في بلادنا عن اعتبار مشاكل الأطفال وأمهاتهم مهمة مثل مشاكل القضاة والصحافيين؟ وعدد الأطفال وأمهاتهم المظلومين بالملايين المحرومين من لقمة العيش أو الشرف أو كليهما، خلاف الضحايا منهم لعمليات استئصال اجزاء من لحمهم.

في مصر مليونا طفل وطفلة ضحايا الفساد الأخلاقي السائد بين الآباء الذكور من امثال الأب النذل في قصيدة نزار قباني، الذي يعطي نفسه حق المتعة الجنسية من دون تحمل المسؤولية تجاه طفله الناتج من هذه المتعة.

هؤلاء الأطفال غير الشرفاء غير الشرعيين، الذين نعاقبهم وحدهم او مع امهاتهم البائسات، المغتصبات بالقوة او بالخداع، ولا نقدر على عقاب آبائهم الأقوياء ذوي المكانة او ذوي العضلات.

لماذا يعتبر حق مئات القضاة او بضعة آلاف من الصحافيين في الحرية اهم من حق ملايين الأطفال في الحياة والشرف والطعام والتعليم والصحة واكتمال اجزاء الجسد؟

هل لأنهم ليس لهم قوة القضاة والصحافيين السياسية على رغم انهم اكثر عدداً؟ بالملايين؟

أهي فلسفة القوة التي تحكم عقول المعارضة كما تحكم عقول الحكومة؟

هل يمكن هذه النخب المعارضة ان تسعى لتنظيم هؤلاء الأطفال ليصبحوا قوة سياسية منظمة مثل نقابة الصحافيين او نادي القضاة؟

وقد اصبح هذا السؤال وارداً:

لماذا لا يكون في بلادنا تنظيم سياسي من الأطفال مثل تنظيمات الرجال والنساء والشباب؟

من دون تنظيمات الأطفال لن تهتم المعارضة أو الحكومة بمشاكلهم لأن الحقوق لا تمنح بل تؤخذ وهذا يسري على الصغار مثل الكبار. 

النخب العربية وأسئلة النهضة(4)

لقد مضى أكثر من قرن على بداية عصر النهضة وتصدي النخب العربية لطرح مشاريعهم وتصوراتهم المختلفة حول الإصلاح وسبل تغير وتطوير البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمعات العربية المتسمة بالركود والجمود والتخلف مما فرض طرح سؤال الهوية، من نحن ولماذا تخلفنا (العرب) ولماذا تقدم الآخرون (الغرب)؟ وما هي السبل للخروج من وهدة التخلف وشرنقة التأخر والتبعية؟ إزاء هذه الأسئلة والتساؤلات تباينت الإجابات التي طرحتها النخب العربية على اختلاف مشاربها ونحلها الفكرية والسياسية وتعدد منحدراتها الاجتماعية غير أنها انتظمت جميعا ضمن إطار المشروع النهضوي العام. فهناك من ركز على موضوع الإصلاح والتجديد الديني وضرورة مواءمته مع العصر ومتطلبات التطور والتقدم وبما يحافظ على الخصوصية الدينية والثقافية، نذكر منهم الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والطهطاوي والكواكبي وابن باديس والثعالبي ومنهم من ركز على ضرورة التحديث الفكري والثقافي والسياسي مثل طه حسين وأحمد لطفي السيد كما ظهر من اهتم وتصدى للبعد الاجتماعي ولقضايا المرأة مثل شبلي شميل وسلامة موسى وقاسم أمين. إذن في تضاعيف ومحتوى ذلك المشروع النهضوي جرى طرح مفهوم هوية الإنسان العربي وحريته وشروط تحقيق مستلزمات الاستقلال والوحدة العربية والتقدم والعدالة ومع  هذه العوامل والأوضاع بمجملها شكلت الأرضية الملائمة لظهور حركات الإسلام السياسي التي اختزلت الحلول من خلال رفعها لشعار "الإسلام هو الحلب تبلور المكونات والمشاريع الأساسية لعصر النهضة والمتمثلة في التيارات الليبرالية والإسلامية والقومية والاشتراكية فإنها أسهمت بدرجات ومستويات مختلفة في صياغة مرحلة تاريخية هامة في تطور البلدان والمجتمعات العربية تحققت خلالها انجازات وطنية وقومية ملموسة غير أن المشروع النهضوي سرعان ما أجهض ووصل إلىطريق مسدود من جراء سياسات وممارسات الدولة العربية الحديثة التي فشلت في رهانات التحرر والحرية والوحدة والعدالة واتسمت بالتسلط والاستبداد والديكتاتورية والفساد وأصبحت عاملاً كابحاً ومعرقلاً لمسيرة التطور والتقدم، ومن النتائج المباشرة لذلك تعمق الأزمة الهيكلية الشاملة على كافة المستويات والتي أدت إلى تفكيك وتشظي البلدان والمجتمعات العربية إلى ما قبل الدولة الوطنية حيث بدأت تطفو على السطح الهويات والانتماءات الفرعية التقليدية الإثنية والقبلية والدينية والطائفية والمناطقية. لقد تعددت وتنوعت الإجابات في تحديد أسباب فشل المشروع النهضوي فهناك من يعزو ذلك إلى غياب العوامل الموضوعية للتغير والمتمثل في ضعف وتخلف وتشوه البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي منع وأضعف تبلور الطبقات والفئات الاجتماعية بعلاقاتها الإنتاجية والاجتماعية الحديثة التي تشكل البنية التحتية لأي تغير وتطور وبالتالي فإن بنية المجتمع العربي التي تسودها العلاقات الأبوية وعلاقات إنتاجية اجتماعية متخلفة ظلت عاملاً معرقلاً للتغير الاجتماعي في حين تعزو أطروحة أخرى السبب إلى فشل مشروع الإصلاح في غرس مفاهيمه في تربة اجتماعية متخلفة تسودها دينية شعبية تتسم بالمشافهة والخرافة والأساطير وبالتالي فإن المجتمعات العربية فشلت في تحقيق وانجاز الإصلاح الفكري الثقافي (التنوير والعقلانية والعلم) وهو ما أنجزته أوروبا والغرب عموماً كمقدمة لولوجها عصر الإنتاج الحديث والثورة الصناعية وبناء الدولة العصرية (دولة القانون والمؤسسات) وبات واضحاً بأن الدولة العربية الحديثة قد فشلت فشلاً ذريعاً في خلق مستلزمات الإصلاح الفكري الثقافي والتنمية الشاملة وبناء دولة كل المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات وبالتالي لم يتحقق أي من الشعارات الكبرى التي طرحتها التيارات والنخب العربية المختلفة ولم يغير من حقيقة فشلها اتكاؤها على مشجب العامل الخارجي المتمثل في المؤامرات والضغوط التي تعرضت لها البلدان العربية من قبل الاستعمار والإمبريالية والصهيونية ورغم أهمية هذا الدور إلا أنه لم يشكل العامل الحاسم للمسار المدمر الذي أوصل المجتمعات العربية إلى حالة الضعف والانهيار والأزمة الشاملة. هذه العوامل والأوضاع بمجملها شكلت الأرضية الملائمة لظهور حركات الإسلام السياسي التي اختزلت الحلول من خلال رفعها لشعار "الإسلام هو الحل" غير أنها في الحقيقة مثلت نتاجاً وتمظهراً.

اليسار والانتخابات وعزلة النخب(5)

ليس الفعل الثقافي في بلادنا رائجا من حيث المبدأ على الإطلاق. إنه فعل موسمي بامتياز. وكما في حالة الانتخابات التشريعية الأخيرة، يتصيد المثقف لحظته الفريدة من بين آلاف الطرائد التي لن يتمكن منها أبدا. فكرت في الكم الهائل من الوكالات والصحف والفضائيات التي صبت "جام شبقها" على انتخابات الشعب الفلسطيني الغلبان. أياً ما يكن اسم الوكالة فالسؤال هو السؤال دائما حول "حماس" وتطرفها وفرصها..الخ والمثقف هو المثقف دائما مهما اختلفت الأسماء، فهو ينهل من أرقامه دون أن يرتوي، ويمارس تحليلاته التي تعيد توصيف الواقع لا بشكل يتجاوز ما يفعله سائق التاكسي وحلاق القرية، لكن بلغة مطعمة ببعض الإنجليزية وأحيانا ببعض الملغزات العربية.

لم أستطع مقاومة الإغراء عندما سألتني مذيعة الفضائية الجميلة فهي لن تقوم بسؤالي كل يوم، هو موسم سينفرط عقده مع قريب، لذلك كان علي أن أتكلم ببطء ما أمكن لكن دون أن يبدو أنني لا أملك الإجابة على السؤال الذي قد يكون صعبا بالفعل، لكن لدي القدرات الاستثنائية والموهبة الفذة للإجابة عليه. رحت في تبسط وحنو فرضه واقعها الأنثوي، وجمالها الباذخ أبين كيف أنه على الرغم من تعاطف جزء كبير من الناس مع حركة المقاومة الإسلامية، بل وتعاطفي الشخصي معها فإن ذلك في الواقع لا يعني أنها ستفوز في الانتخابات. لا شك أنها قوة يجب أن يحسب لها ألف حساب، لكن الأرقام (هكذا يدخل سحر فيثاغورس ليذهب بما تبقى من عقل الجمهور الذي لا يفقه الكثير عن حالة الأرقام والطب والسياسة في بلادنا التعسة) الأرقام دون لبس تعطي "حماس" أقل من الفوز بكثير. ليس مرة أو مرتين أو... في كل مرة يا سيدتي المذيعة الحسناء، في كل مرة نجري استطلاعا علميا وفق أفضل الأسس العلمية المتبعة في بلاد الأنكل سام بالذات -وربما بتمويل من مراكزه البحثية أو من سفارته ليس مهما على أية حال اسم ممول الاستطلاع الذي ما كنا سنتنكب عبء إجرائه لولا سيل التمويل- في كل مرة "حماس" لا تربح والفارق واضح بينها وبين فتح، وعلى المتضرر اللجوء الى الانتخابات التي ستكشف كل شيء.

أحد قراء الحدث الانتخابي البارزين كان في غاية الذكاء وحسن التصرف عندما صرح في اليوم التالي في ندوة لمناقشة ما جرى أن ما نقوله هو في الواقع "كلام خطأ قد يكون عرضة للصواب". كان ذلك قياساً على فضيحة التحليلات التي تهافت المثقفون على تقديمها بلون واحد ومن دون طعم على موائد الفضائيات التي تهافتوا على تهافتها فكان ما كان. لكن "فورة" التواضع تلك لن تستمر طويلا بطبيعة الحال. ونحن لن نمل من تمثيل الدور الذي نمثل مهما ارتكبنا من حماقات. وربما أن ذلك سر المأساة، فالممثل لن يكون أكثر من ذلك مهما فعل؛ ونحن لن نصنع الحدث في كل الأحوال. وبينما يقوم هؤلاء ببناء الوقائع ويقوم أولئك بوضع دواليب في مسيرة عربة الحدث، فإننا نصرخ طوال الوقت: أنظر إلى الذي يجري، أنظر إلى الذي يحدث. ترى لماذا فشل أداء المراقب- المثقف بهذا الشكل السافر الذي يعلن بشكل صريح واستفزازي أن أدوات المثقف لا تفيد في شيء أبدا وأن من الأفضل له أن يغادر المسرح إن كان لديه بقايا من حمرة الخجل.

لكي أواصل لعبة المثقف في فبركة الحلول ببعض الاصطلاحات السريعة والمنمقة فإنني أؤكد أن السر يكمن في استلاب المثقفين أمام لغة الأرقام من ناحية وعزلة تحليلاتهم الانطباعية عن الجماهير وهمومها من ناحية أخرى. يرتكز هذين العمودين الذي يقوم عليهما كل "العلم" في قراءة الانتخابات السابقة على قاعدة مهتزة من مثقفي اليسار وفلوله. ولكي أستعجل النهاية الحزينة فإنني أقدم بالقول إن اليسار نفسه لم يحصل على شيء من الغنيمة. حتى أنه لم يستطع أن يأخذ الجلد والأحشاء الذي يعطى في العادة للخادم أو الجار الفقير. لقد حصل على أقل القليل ربما تقديرا لتدريبه مثقفين غير أكفاء للقيام بمهام التحليل التي لا تتباهى بها القوة السياسة الحية، أعني بالطبع "حماس" و"فتح".

لعل فشل تحليلات المثقف هي انعكاس لفشل الخط الذي خرجه ودربه على امتداد سنين طويلة تتجاوز بكثير عمر حركتي "فتح" و"حماس" الجديدتين بالقياس. وإذا كان الانفصال عميقا الى هذا الحد بين اليسار والجماهير على الرغم من تنطحه لحمل هموم الجماهير وقضاياها فإن علينا أن لا نتوقع من محللين مدربين في ذات المدرسة (مع إدراكنا أنهم يقدمون خدماتهم خارج حدود اليسار، ولكن تلك قصة أخرى لا تنفي النسب العائلي بل لعلها في بعض الأحيان تقوم بتأكيده) لا نتوقع منهم أبدا النجاح في قراءة الواقع الذي فشلوا في الانخراط فيه أيما فشل. كيف يتم تحقيق الاتصال بما يجري في العقل الجمعي الفلسطيني؟ أولاً عبر توزيع استبانة يطلب من الناس إجابتها: عينة عشوائية ..الخ مع المحافظة على الموضوعية.. لكن ذلك لا ينجح. لماذا لا ينجح؟ سنة 1968 انفجرت فرنسا وأوروبا كلها في انتفاضة طلابية مذهلة. لم يكن علم الاستطلاعات ولا علم النفس الجمعي ولا علم لاجتماع السياسي ولا أحد على وجه التقريب قد توقع ما حصل في قلب البلاد المتعالمة، أعني أوروبا بالذات: مركز الدنيا الحديثة. في عملي في التدريس أقوم بصياغة الأسئلة بأبسط ما يمكن من الطرق، يدهشني على الرغم من التدريب الطويل الذي أجريه لطلبتي في مدى أربعة شهور أنهم في النهاية يقدمون ليس إجابات مختلفة ولكن أشكالا من "الفهوم" المتباينة للأسئلة المطروحة. عالم الاستطلاعات الوضعي الفلسطيني يبالغ في تثمين البضاعة التي في حوزته والتي لا تنجح كثيرا في بلاد الأصل. يضيف إلى ذلك خطيئة أخرى هي أنه يستعين ببقايا تراثه الماركسي الذي يعارض الوضعية على طول الخط. والنتيجة هجين من الطرق الوضعية والجدلية لا يستقيم حاله أبدا، ويستفز عظام أرسطو في قبره طالبة من النخب الفلسطينية أن تراعي حرمة مبدأ عدم التناقض على الأقل إذا كانت لا تستطيع مراعاة قضايا أكثر تعقيداً مثل صعوبات البحث في السياسة وما تتطلبه من عمق بصيرة وقدرة هائلة على تجاوز الذاتية ومشكلة القيمة واستحالة ممارسة البحث التجريبي بمعناه الراسخ في العلوم الطبيعية. لكن النخب المنشغلة حتى أعمق أعماقها بتسويغ هزيمتها التي فاقت خسائر الأحزاب المغلوبة ليس لديها آذان تسمع أو عيون تبصر.

 الدكتورة نهلة الشهال: العطب الأساسي في جميع أوضاعنا هو: خيانة النخب بالاستقالة أو الانزواء أو الالتحاق.(6)

 ٭ ما يقال اليوم وأنت وسط المشهد السياسي/ الاجتماعي العربي والدولي هي ترديد مقولة ؛ أننا نحيا ما بين الفوضى والكارثة. هل هناك يا ترى وقاية ما من هذا المنزلق الذي نذهب إليه جميعا؟

- صحيح أن أوضاعنا في المنطقة العربية سيئة جدا ومن جميع الميادين، لكن في النهاية، وهذا أقرار لواقع وهو ليس جوابا. من أجل هذا، أنا مؤمنة بأهمية امتلاك روح المبادرة على مستويين الأول، مستوى المسؤولية الفردية ولكل واحد، وعلى مستوى المؤسسات. التحدي الأكبر في منطقتنا اليوم ؛ هو عدم الاستسلام لليأس، ثانيا، هو استعادة روح المبادرة بطريقة خلاقة وجماعية، ولذلك إنني متحمسة للعمل بمبادرة الإصلاح العربي ففيها خاصية أساسية هي نجاح بإقامة تقاطع حول موضوعات محددة وجوهرية ما بين أبرز المراكز البحثية في المنطقة العربية. شعار المبادرة أنا شخصيا متمسكة به كثيرا وهو يقول: إعقال - إدراك- الذات هي سلطة بحد ذاتها. وهذه بالضرورة عملية تمتلك قدرا من نقد الذات بطريقة بناءة، وبهذا المعنى لا توجد وقاية بوصفتها الجاهزة ولكن هناك عملية صراعية.

٭ تماما، وهذا يقودنا أن نرى السياسة وهي تبدو مختصرة في موضوع الأمن، بدءا من الولايات المتحدة وانتهاء بعالمنا العربي؟

- أولا بالعالم كله هناك وجهة عالمية تقودها الولايات المتحدة لتسييد مفهوم يجابه المشكلات الاجتماعية على اختلافها بمنطق أمني، حيث يبدأ بوش بما يعتبره مواجهة الإرهاب بتعميم الحرب. فماذا يتبقى ومشكلات الهجرة في أوروبا ومسائل الضمانات الاجتماعية الآن كلها تقدم لها حلول ذات طابع أمني، هذا هو المآزق فهذه المشكلات لا تحل عن طريق الأمن. أما في العالم العربي فالمنحى الأمني الذي ساد في العقود الثلاثة الأخيرة أو أبعد قليلا هو الذي أوصلنا إلى الكارثة لأنه أفقر وسحق المجتمع وحول هذه المجتمعات إلى مجتمعات منهكة. ليس الفقر هو الذي ينهك المجتمع ولكن قتل حيوية المجتمع بالقمع والقهر والظلم.

٭ أنت باحثة ومناضلة وتشتغلين بالسياسة. أولا، هل صحيح القول أن فلانا يشتغل سياسة؟

- يوجد مفهوم شائع عن السياسة يحصرها بالأخصائيين بها فقط، في الوقت أن السياسة هي كل شيء. كلنا نشتغل سياسة. المستقيل الذي يسير بجوار الحائط ويردد: يا ربي السترة، هذا موقف سياسي كامل، هو يشتغل سياسة لكن نتائج شغله هي عدم الاهتمام بقضايا مجتمعه العامة. انه نموذج يترك المجال للرداءة أن تهيمن على مفاصل المجتمع. أجل، أنا أشتغل بالسياسة مثل كل البشر، وأنا واعية أنني أشتغل بالسياسة ومختارة هذا الموقف.

٭ من يتابعك يا نهلة في مفاصل تجربتك النضالية من منظمة العمل الشيوعي التي تنتظر في أحد الأيام تدوينها كشاهدة على مرحلة شديدة الالتباس، وناشطة في القضايا العربية الملتهبة، الفلسطينية والعراقية، حقوق الإنسان، ضد توحش العولمة وضد أشياء كثيرة، هل بمقدور المرء أن يكون ضدا لكنه يعمل مع ومن أجل....؟

- أنا شخصيا يمكن بسبب عائلتي المناضلة أصلا، نما لدي نوع من الحساسية العالية ضد العدمية. الضد وحده هو موقف عدمي وأنا أعتبره خطيرا وهو موجود في جميع الاتجاهات الفكرية من اليسار واليمين. أعتقد أن الضد أو المع ومن أجل الخ، يكتملون سويا. لا أقدر على فصل أحدهما عن الآخر وهذه هي سمة الحياة. أنا مناضلة من أجل وضد، ولكني مدركة لمقدار الإخفاقات والصعوبات والعقبات، وأحيانا الاستحالة التي تواجه الذي أعمل من أجله، الإدراك لا يمنعني من الدخول بالمعركة فانا على يقين من مقولة أو حكمة: لو خليت لقلبت. بمعنى، من الضروري الحفاظ على نموذج ما أعتقده صحيحا فكرا وسلوكا ومبدأ، حتى لو كنت أعرف أن شروط نجاحه غير متوفرة في هذه اللحظة.

٭ ترى بماذا تذكرك هذه الحقبة التي نحياها والتي تتحكم بها الرقابة والأمن، بصمات الاصابع ورصد سحنات الوجوه كأنها لا تبدو ضد المجرمين والإرهابيين، وإنما هي ضد الأجانب. هذه الإجراءات يعمل بها الآن في أوروبا أيضا بعد اميركا؟

- هذه مكارثية جديدة والفظيع فيها أنها لم تعد محصورة بالولايات المتحدة، وإنما تحولت إلى منظومة عالمية. لدي شعور بأنها سوف تطول لأن زمن المكارثية الأول كانت هناك أمور واضحة ومعسكر يقابل آخر، الآن باتت جميع التحركات توصم بالإرهاب بما فيها التحركات الاجتماعية.

٭ بعد جميع المراحل الثورية الراديكالية التي خضتيها في حياتك النضالية، أنت الآن نائبة مديرة مبادرة الإصلاح العربي. اليوم الجميع ينادي بالإصلاح، نخبا وأحزابا ودولا ومؤسسات مدنية. ترى اذا كان بمقدورنا أن نضع سلم الأولويات في الإصلاح، من ماذا نبدأ؟ من الهرم أم من القاعدة، هذه القاعدة الكلاسيكية، هل بمقدور الإصلاح السياسي تغيير التراتبية هذه أيضا؟

- أعتقد أن العطب الأساسي هو الذي اسميه أنا ؛ خيانة النخب: الذي حدث أن بعد الهزائم المتكررة، 1967 بالنسبة لجيلنا، هي عنوان الهزيمة، ردة فعل النخب كانت أما بالاستقالة والانزواء أو الالتحاق بالسلطات القائمة بدون مساءلة والتحول إلى منّظرين ومبررين لسلوكيات هذه الأنظمة بكل المجالات، وهذا الذي اسميه خيانة النخب. بالنسبة إليّ، وحدة من المسائل الأساسية جدا هي أن تستعيد النخب مسؤوليتها. هذا الذي اسميه بداية الإصلاح. اذا لم يكن لدينا مشروع نستند إلى رؤيته ويصور للخلاص من الوضع الحالي. أول شيء يمكن للجواب على هذا السؤال حول مسألة التراتبية؛ هي أن توضع قوانين حتى لو كان يجري الاعتداء عليها. يجب وضع قوانين في القضاء، في الانتخاب، يجب أن تكون هناك مرجعية قانونية لكل شيء. هذا هو المدخل لمقاومة الاعتباطية.

٭ قد يتولد سؤال خام يقول، لا تزال هناك عقليات تصل إلى مديات كبيرة، ترى في أية مقاربات مع مؤسسات البحث في الولايات المتحدة على الخصوص، ما هي الإ لابتلاعنا وفرضهم علينا ما يرغبون فرضه. أي بين تلك النخب وقطاعات كبيرة ومتنوعة سوف يتوقف الحوار طويلا وربما نصاب بالخرس أو يهاجم أصحاب هذا المشروع الخ؟

- مبادرة الإصلاح العربي هي إطار تنسيقي بين عشرة مراكز أبحاث عربية منتشرة من الخليج إلى المحيط، من المغرب إلى المملكة العربية السعودية ونحن بصدد فتح مراكز أخرى لكي يتم الاتصال مع بلدان لم تنتم بعد إلى المبادرة ومقياس النجاح هو مقدار ما تنجح هذه المراكز في العمل معا حول برنامج تضعه هي. نحن نعتبر المراكز الخمسة، أربعة أوربية وواحد أمريكي هي مراكز إسناد إداري ولنشر ما نبغي نحن نشره أو إذاعته. لا يجوز الخوف من هيمنة تلك المراكز أو غيرها علينا لأنه في الأخير هذه تجربة تجمع خلاصة أحسن ما هو موجود في المنطقة من مراكز بحثية. ومفترض نحن من الوعي بحيث نكون على علم بغاياتنا وبوظيفة ما نقوم به.

٭ كثرة الحديث عن الديمقراطية لكن بدون ديمقراطيين، وأفضل مثال هو الولايات المتحدة وعموم أحزابنا التي لا تطيق الآخر، تفضل الاقصاء والالغاء قبل أن تسمعه لكي توافق عليه. لذلك نرى الأنظمة تكفر بها والمعارضة تقدسها طالما هي في المعارضة؟

-    لا يوجد شيء أو فكرة اسمها الديمقراطية بالمطلق. الديمقراطية الفرنسية مثلا بنيت على أسس المواطنة والاندماج والانصهار والمبادىء الجمهورية بينما الديمقراطية البريطانية بنيت على فكرة الحريات العامة. يمكن التعريف الوحيد للديمقراطية هو الاعتراف بالآخر. أعتراف بحدودك الخاصة بك وقبولك بما يسمى في السياسة ب التداول، أي السلطة تنتقل. وهذا يصح على جميع السلطات وليست على السياسية فقط.

دراسة موضوعية حول تعاطي النخب العربية مع الحقبة النازية(7)

لا يزال موقف مفتي القدس أمين الحسيني وسعيه إلى الحصول على دعم هتلر ضد الاستعمار البريطاني مهيمناً على صورة تعاطي العرب مع الحقبة النازية. دارسة حديثة تثبت عدم صحة هذه الرؤية ووجود أصوات عربية نقدية معادية للنازية.

 يحتوي المجلد الصادر عن "مركز الشرق المعاصر" في برلين على عشر مقالات علمية مطولة تنطلق من أسئلة مختلفة تعالج علاقة الدول العربية المعقدة مع الحقبة النازية في ألمانيا، والتي يتم التعاطي معها غالباً بشكل تبسيطي. وتضع غالبية مقالات هذا المجلد موقف الرأي العام في دول عربية مختلفة من الأيديولوجية النازية والفاشية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي في بؤرة اهتمامها، علاوة على دورها الناشط خلال وقائع الحرب العالمية الثانية. وفضلاً عن ذلك فهى تتطرق بعض مواضيع المجلد إلى التوظيف الراهن لهذه التجارب التاريخية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وفي بعض الدول العربية.

وفي كلمة المجلد الختامية، التي تمثل في الوقت نفسه كلمة رثاء لروح الناشر غيرهارد هوب، يتم إقتباس عبارته التالية:"نحن نعرف معرفة حقة أن الحياة كانت ولا تزال ثرية ومعقدة، وهو ما يجعل تعاطينا معها ليس بالأمر السهل." هذا المجلد الذي يحمل إسم "جهل بالتاريخ؟" يأخذ على عاتقه التعاطي البناء مع هذه الوصية من خلال توضيحه للحقيقة التي مفادها أنه لم يتبلور موقف عربي معين تجاه الأيدولوجية النازية والحروب التي تسببت في وقوعها، بل على العكس من ذلك تميزت ردود الفعل في الدول العربية بالتباين. كما أنه لا يمكن في هذا السياق تأكيد صحة الرأي النمطي المنتشر الذي يدّعى أن العرب تعاطفوا مع النازيين وفقاً لمبدأ "عدو عدوي صديقي"، وخاصة إذا قمنا برؤية هذه الظاهرة بشكل دقيق.

 رفض عربي للفاشية النازية

 المؤرخ الإسرائيلي المختص في تاريخ الشرق الأوسط إسرائيل غرشوني يعالج في مقالته العلمية الوضع في مصر في بداية الثلاثينيات عن طريق تحليله لمواضيع مجلة "الهلال" واسعة الإنتشار، والتي كانت بمثابة منتدى للمفكرين، وطبقة المدن الوسطى المثقفة. فمن جهتها عبرت مجلة "الهلال" آنذاك عن قلقها من تكون بنية شمولية (توتاليتارية) في ألمانيا، وعن رفضها القاطع لكل أشكال التممييز العنصري. وحتى في فلسطين يمكن ملاحظة وجود أصوات نقدية بهذا الخصوص، وإن لم تكن تتمتع بقوة مجلة "الهلال" المصرية. كما يقدم بيتر فين أدلة على وجود أصوات فاعلة في الرأي العام الفلسطيني تعاملت بصورة نقدية مع أطروحات النازيين. وبالرغم من ذلك فإن هذه الأصولت لم تؤخذ بالحسبان نظراً لهيمنة ظلال مفتي القدس أمين الحسيني وصديق النازيين على الصورة العامة المنتشرة عن تعاطي الفلسطينيين مع الحقبة النازية الألمانية.

 تفاوت في الآراء

 كما طرحت مقالات الباحثين الألمان والمغربيين والإسرائيليين، التي يحتويها هذا المجلد بين طيات صفحاته في دراسات منفصلة تنوع العالم العربي على بساط البحث. وخلصت إلى أنه لم تكن هناك فروقات متباينة بين الدول العربية فحسب، بل أيضاً إلى وجود آراء متعددة حول ظاهرة العداء للسامية والحرب العالمية الثانية داخل كل مجتمع عربي. كما أنه من الصعب الحصول على الدراسات التي يشملها هذا المجلد نظراً لأنها تقوم على دراسة معمقة للمصادر الأولية، علاوة على أنها مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بجرائم إبادة يهود أوروبا. ومن هذا المنطلق فهى لم تحظ بإهتمام الرأي العام العربي.

 الهولوكوست حقيقة تاريخية

من جانبه يقدم غيرهاد هوب أدلة علمية دقيقة على أن النازيين قاموا بإحتجاز وقتل معتقلين عرب . وعلى الرغم من أن عدد المعتقلين العرب كان صغيراً، مقارنة بالضحايا الآخرين، إلا أن كل ضحية عربية موثقة بحد ذاتها تنفي فرضية إنكار الهولوكوست التي يلاحظ المرء وجودها في العالم العرب. وفي هذا الإطار يمكن للجنود المغاربة الذين حاربوا في صفوف الجيش الفرنسي سرد وقائع المعاملة العنصرية التي عانوا منها في المعتقلات النازية بعد وقوعها في الأسر.

 توظيف المحرقة لخدمة أهداف سياسية

 وفي إطار هذا المجلد تلقي مقالتان علميتان الضوء على عواقب الحرب، وإبادة اليهود وتداعياتها المباشرة على العوامل المكونة للهوية في منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى إمكانية توظيفها الإيديولوجي في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ومن جهتها تلقي الباحثة كارين يوغريست الضوء على أهمية "الشواه" اليهودية (الهولوكوست)، والنكبة الفلسطينية للإسرائيليين والفلسطينيين بصفتهما كوارث قومية، كما أنها تظهر أن سياسة إحياء ذكرى معاناة الشعبين المتبعة الآن تشكل ركيزة أساسية لهذا الصراع المستمر حتى الآن. وفضلاً عن ذلك تقلل مقالة غوتس نودبروخ عن النقاشات الراهنة حول الحقبة النازية في مصر الأمل في التوصل إلى حل سلمي لهذا الصراع.

 يجمع هذا المجلد بين طيات صفحاته مقالات علمية هامة سهلة القراءة تعالج موضوعاً إعتُبر من المحرمات في العالم العربي في العقود الخمسة الأخيرة، علاوة على إساءة استعماله لأغراض أيديولوجية. وللمرة الأولى تتاح الفرصة لدراسة مصادر عربية أولية وتوفير مدخل موضوعي إلى الحقائق التاريخية المتعلقة بأكثر فصول التاريخ البشري إشكالية وبشاعة. كما يدعو هذا المجلد المميز إلى مواصلة مناقشة ودراسة هذا الموضوع بشكل موضوعي ومنصف. 

لحظة حرية: مأزق النخب القديمـة(8)

اثناء زيارته لمحافظة حضرموت اواخر شهر مايو المنصرم شدد فخامة الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية على ضرورة امتلاك ناصية المعرفة العلمية كشرط لتجاوز فجوة التخلف و  مواجهة تحديات الحقبة الراهنة من عصرنا الذي يموج بمنجزات ثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات.

والحال ان ما جاء على لسان فخامته اثناء زيارته لبعض جامعات محافظة حضرموت لم يكن مفاجئا، ولم يصدرعن فراغ، كما انه لم يكن كلاما للاستهلاك بحسب تعليقات بعض صحف المعارضة ومواقعها الأليكترونية، إذ دشنت حكومة المؤتمر الشعبي العام برئاسة الأستاذ عبد القادر باجمال ــ  قبل عامين تقريبا ًــ  المرحلة الأولى من مشروع طموح تبناه ووضع خطوطه الرئيسية فخامة الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية  يهدف إلى تعميم استخدام الحاسوب الآلي، وتيسير اقتنائه من خلال إعفائه من الرسوم الجمركية، وبيعه على أقساط سهلة الدفع، وتوفير خدمات الانترنت مجاناً للطلاب والشباب، وسائر الفئات والشرائح الاجتماعية الأخرى، وصولاً إلى تهيئة المجتمع المدني للدخول إلى فضاء المعلومات والاندماج في العالم الجديد.

ربما يكون هذا المشروع قد تأخر قليلاً، قياساً ببعض البلدان العربية لأسباب موضوعية لكن البدء بتنفيذه وظهور نتائجه الايجابية على نحو ما لمسناه طوال العامين الماضيين يجسد إدراك القيادة السياسية لأهمية وضرورة التفاعل مع معطيات عصر المعلومات والاندماج فيه بأسرع وقتٍ ممكن.

الثابت أنّ تكنولوجيا المعلومات تفاعلت على نحوٍ مثير للدهشة مع  غيرها من المعطيات المادية والمعرفية التي أفرزتها تكنولوجيا الصناعة والزراعة والطب والدواء والنقل والمواصلات والفنون والتعليم والإعلام، ثمّ فتحت بعد ذلك أفقاً واسعاً لولادة شبكة معقدة من العَلاقات البنيوية بين مختلف الفئات الاجتماعية والمهنية والمنظومات السياسية والاقتصادية، وتوليد قدرات معرفية جديدة تساعد على إعادة اكتشاف عالم الواقع، وتعميق معرفتنا بهذا العالم وبذاتنا وبغيرنا، وتنمية قدراتنا الذهنية، وتسريع عملية اكتساب الخبرات وكسر احتكار النخب الثقافية والسياسية القديمة للمعرفة.

لا ريب في أنّ التعامل مع هذه المعطيات يقتضي تخليص النخب الثقافية والسياسية القديمة من عزلتها الرهيبة عن متغيرات العصر المتسارعة وحقائقه الجديدة غير المسبوقة، وإعادة بناء الجهاز المفاهيمي لمختلف التيارات الفكرية والسياسية بما يؤهلها لتجديد طريقة فهمها للعالم وتصويب مواقفها السياسية من أحداثه ووقائعه ومتغيراته.

لا يجوز إنكار ما أحدثته تكنولوجيا الاتصال والمعلومات من تحولاتٍ جذرية في مفهوم الثقافة وبُنيتها ووظائفها، بما في ذلك انعكاس هذه التحولات على المثقف نفسه. ومما له دلالة عميقة أن يتزامن ظهور معطيات ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال في نهاية العقد الاخير من القرن العشرين المنصرم مع سقوط الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية الدولية بمختلف أطيافها، جنبا ً الى جنب مع فشل المشاريع القومية، وانتكاسة المشروع الراديكالي المشترك للحركات الإسلامية المتطرفة والمعتدلة في آن واحد  نتيجة فشلها في قراءة التاريخ ومعرفة إشكاليات عَلاقتها بالواقع المحلي والبيئة العالمية، بالاضافة إلى انعدام المبادرة والقدرة على الفعل من لدن كافة التيارات السياسية والفكرية التي رفعت خلال النصف الثاني من القرن العشرين شعارات الاشتراكية والوحدة العربية والتنمية المستقلة والدولة الإسلامية.

لا ريب في ان هذه الأحداث والمتغيرات تشير الى أنّ المجتمعات البشرية لا تتشكل من خلال الأيديولوجيا أو السياسة أو الاقتصاد بمعزلٍ عن مفاعيل الحراك المتبادل بين الأفراد والجماعات والمؤسسات من جهةٍ، وبين الواقع المحلي والبيئة العالمية من جهةٍ أخرى.. وبوسعنا القول إنّ تكنولوجيا المعلومات تنطوي على حوافز هائلة لتعظيم دور هذه المفاعيل بفضل سيولتها ومرونتها وقدرتها السريعة على إحداث عمليات تغيير ذات أبعاد جذرية خلال وقتٍ قصير في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية، الأمر الذي يؤثر على بُنية المجتمع الإنساني بصورة مباشرة.

 ثمّة من يصف القرون الأربعة الماضية منذ انطلاقة الثورة الصناعية الأولى والثانية والثالثة، بعصر الحداثة فيما يتم وصف ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي تزامنت مع ولادة الألفية الميلادية الثالثة بعصر ما بعد الحداثة.. ولئن كانت تكنولوجيا الصناعة قد أفرزت الدولة القومية والاقتصاد الرأسمالي والاستعمار وأسواق المال وحروب الإبادة الجماعية على امتداد القرون الأربعة الماضية، فمن غير المستبعد أن يتغير شكل ومحتوى المجتمع البشري تحت تأثير تكنولوجيا المعلومات، خصوصاً في البلدان النامية والفقيرة.

في هذا السياق خلص التقرير السنوي لليونسكو لعام 2000م إلى التأكيد على أنّ الخيال السياسي والاجتماعي في مجتمعات البلدان النامية والفقيرة يتسم بالخمول والاغتراب عن التحولات العميقة التي تحدث على الصعيد الواقعي في البلدان المتقدمة بتأثير الخيال العلمي، وهو ما يفسر جانباً من أسباب تخلف المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية في مجتمعات البلدان النامية والفقيرة، واغترابها عن المخرجات الثقافية لثورة العلم والتكنولوجيا، التي تتجسد في غياب ــ او تغييب ــ  البُعد الثقافي عن مظاهر الحداثة السطحية في حياة هذه المجتمعات، الامر الذي يستوجب   ضرورة إعادة صياغة العَلاقة بين الإنسان والمجتمع والعالم، على أساس المعايير الحديثة لثقافة المعلومات، وبما يؤمن التفاعل الحي مع عالم الفضاء المعرفي والاندماج فيه، وامتلاك المبادرة والقدرة على اتخاذ القرارات وبلورة الخيارات.

من نافل القول إنّ النخب المثقفة والسياسية القديمة اكتسبت مشروعيتها خلال القرن الماضي من انسلاخها عن بيئة الأمية الأبجدية والثقافية.. وعلى تربة هذا الانسلاخ مارست هذه النخب وظائفها (الدعوية والدعائية) بصرف النظر عن فشل المشاريع والأفكار التي دعت إليها وتولت مهمة حراستها .. بيد أنّ المعايير الخاصة بالأمية الثقافية والسياسية تغيرت اليوم، حيث يتوقف الانتساب إلى ثقافة المعلوماتية – وهي غير نخبوية بطبيعتها – على محو أمية التعامل مع الكمبيوتر ونظم المعلومات، ومحو أمية الشكل والرمز وأمية الثقافة العلمية.. وهو ما يوحي بأفول عصر النخب المثقفة القديمة التي كانت تشتغل على الأيديولوجية والخطابة  والتعبئة والتحريض!

لم يعد خافياً أنّ النخب المثقفة سواء أكانت دينية أو قومية أو ليبرالية أو يسارية او يمينية، تصدّت على مدى مائة عام لأسئلة النهضة وصدمة الحداثة الأولى ولم تتمكن من بلورة إجابات حاسمة على إشكالياتها وتناقضاتها، ثم بلغت ذروة مأزقها في نهاية القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين لتواجه أسئلة صدمة ما بعد الحداثة الثانية، وتحديات عصر العولمة وثورة المعلومات دون أن تتمكن من الإجابة على أسئلة الصدمة الأولى.

والحال أنّ تحولات عصر العولمة ومعطيات ثورة المعلومات طالتا الثقافة – وبالتالي فاعليها وهم المثقفون – حيث يتشكل عالم جديد بطريقة غير مسبوقة، بالتزامن مع ولادة ثقافة إنسانية جديدة بطريقة مختلفة، فيما تتغير عَلاقة الإنسان بعالم الحقيقة الواقعي انطلاقاً من التغيير الحاصل في معايير الأمية والمعرفة، وما يترتب على ذلك من ضرورة إعادة صياغة العَلاقة بين دور فاعلي الثقافة وسائر الفاعلين الاجتماعيين في المجتمع.

وعليه بوسعنا القول ان دعوة الرئيس في حضرموت  قبل اسبوعين الى  ضرورة تمكين الشباب من امتلاك ناصية المعارف العلمية والتكنولوجية الحديثة، لا يمكن فصله عن الابعاد الاستراتيجية للمشروع الذي بادر إليه فخامته قبل سنتين عندما وجه الحكومة لتعميم وتيسير فرص استخدام الكمبيوتر وتوفير خدمات الانترنت بالمجان، ومن واجبنا ــ استنادا الى ذلك ــ  أن نطرح عدداً من الأسئلة التي تتعلق بمستقبل النخب المثقفة القديمة التي كانت ومازالت فاعلاً أساسياً في مختلف الأزمات والإخفاقات الناجمة عن فشل وتعثر المشاريع السياسية والفكرية القديمة، وتتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن المأزق العربي الراهن والذي وصل إلى أخطر مراحله  (( حيث تشعر القوى الحية في هذه الأمة العربية بأنّها ولدت لتهزم، وولدت لتخسر، وولدت لتكتشف أنّ حساباتها تنتهي في معظم الأحيان إلى سلسلة من المغامرات القاتلة والمراهنات الخاسرة، ثم تدرك بعدها أنّ الوضع العربي لم يتهيأ لتحديات الحضارة الحديثة، ولم يتهيأ لمواجهة صراع الإرادات والقوى مع دول العالم، ولم يتهيأ بأسباب العلم وإدارة الأزمات)) بحسب ما كتبه المفكر الكويتي شفيق ناظم الغبراء في  صحيفة «الحياة» اللندنية قبل اكثر من ثلاث سنوات بتاريح 29 يناير 2003م .

يقيناً أنّ النخب المثقفة القديمة في العالم العربي آلت إلى وضعٍ مأساوي من العجز والإفلاس، بموازاة الدور الذي توخت إنجازه من خلال قيادة المجتمع وتبني مشاريع النهضة والتحديث.. واللافت للنظر أنّ هذه النخب استقرت على أفكارٍ قديمة ومشاريع بالية، واكتفت بدور شرطي الحراسة، لتلك الأفكار، وتصر في الوقت نفسه على الدوغمائية في التعاطي مع الجهاز المفاهيمي لتلك الأفكار والمشاريع وما ينطوي عليه هذا الدور من خطاب شعاراتي شعبوي و تحريضي و دعوي، متجاهلةً حقيقة أنّ المثقفين لا يصنعون عالم السياسة والاقتصاد في هذه الحقبة من عصرنا الراهن بواسطة الأيديولوجية والنظريات السياسية، بقدر ما يصنعه فاعلون اجتماعيون آخرون مثل العلماء في المختبرات والمعامل ورجال الأعمال في الأسواق، ومهندسو البرمجيات ولاعبو الكرة ونجوم الغناء وحواريو الفضائيات الجادة  وقادة المصارف والمؤسسات الإعلامية الخ.

لم يُعد بوسع النخب المثقفة تنصيب نفسها لممارسة الوصاية على الثورة والحرية والحقيقة والدين والعقل.. ولا يحتاج المرء إلى جهدٍ كي يقتنع بأنّ هذه النخب فشلت في كل مشاريع التغيير التي بشرت بها وسعت إليها وغرقت في أوهامها، وعزلت نفسها عن العالم بعد أن داهمتها الصدمات والمفاجآت والهزائم!!.

قد يكون هذا الاستنتاج قاسيا ً ومؤلما ً، لكن الجهر به  يستمد ضرورته واهميته من المأزق الذي وصلت اليه النخب المثقفة القديمة  بعد ان تكلست وعجزت عن إنتاج المعرفة بالإنسان والمجتمع والعالم.. وما من شكٍ في أنّ هذا العجز يعود إلى حقيقة أنّ مشكلة هذه النخب المثقفة القديمة لم تكن مع الإنسان أو المجتمع أو العالم، بل مع أفكارها.. فمهمة المثقف تتحدد في الاشتغال على الأفكار واجتراح طرائق جديدة للتفكير، وإنتاج أدوات تحليل معرفية تتيح إنتاج أفكار واقعية وفاعلة وقابلة للتطبيق..!

وحين يصل المثقفون إلى مأزق حادٍ، بسبب عجز الأفكار عن إنتاج المعرفة بالواقع، تفشل تبعاً لذلك العجز كافة المشاريع التي تصاغ على أساس تلك الأفكار.. وهي نتيجة طبيعية ما كانت لتحدث لولا انتقال المثقف من وظيفة الاشتغال بالتفكير وإنتاج الأفكار إلى الاشتغال في مهنة الدعاية وحراسة الأوهام و تسويق الشعارات الشعبوية والوعود الجاهزة  والمطلقة .

النخب العربية:

غياب التجانس وهجرة العقول(9)

يتناول بيرتيس مع ثسعة باحثين آخرين وضع النخبة في ثمانية دول عربية. كتاب صادر أخيرا عن "مجموعة بحوث الشرق الأوسط" في مؤسسة العلم والسياسة في برلين يتناول طبيعة النخب السياسية في العالم العربي والتغييرات التي شهدتها في العقود الماضية.

مع مطلع الألفية تبدلت القيادات في العالم العربي، كما يؤكد فولكر بيرتيس. وينجلي هذا بوضوح بعد وفاة أربعة من الرؤساء العرب، كما يرى مدير "مجموعة بحوث الشرق الأوسط" في مؤسسة العلم والسياسة في برلين، مشيراً بذلك إلى الملك حسين في الأردن، والملك الحسن الثاني في المغرب، والأمير عيسى في البحرين، والرئيس حافظ الأسد في سورية.

هذا وقد تنحى عن الساحة السياسية في نفس الفترة إضافة لهؤلاء، كل من الرئيس العراقي صدام حسين، ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات.

وإذا ما نظرنا إلى هذه المنطقة، سنجد أنه يوجد بالفعل تبدُّل في الأجيال المتربعة على رأس هرم السلطة. وسنلاحظ تحديداً أن الجيل الذي ولِدَ ما بين عامي 1927 و 1937 يُسلم صولجان الحاكم لمن بعده.

ما يخص الخلَف، يرافق هذا التبدل قفزة في الأجيال، فهم ولِدوا في الخمسينات من القرن الماضي أي أنهم أصغر بجيلين ممن سبقهم. وتنعكس آثار هذا التبديل في رأس الهرم على كل طبقاته.

النخب السياسية ذات الصلة

يضع بيرتيس مع المؤلفين التسعة المشاركين، عند عرضهم حالات ثمانية بلدان "النخبة السياسية ذات الصلة" في المركز. وتضم النخبة بحسب هؤلاء، كل الذين لديهم موقع سياسي مؤثر، والذين يتخذون القرارات الإستراتيجية أو يحددون المقاييس والقيم في الخطاب الوطني.

تبعاً لتمهيد بيرتيس يضاف أيضاً إلى هؤلاء، النخبة التي تتشكل لفترة زمنية محدودة، وتقوم بدور وظيفي، ولها دور مؤثر في أجهزة السلطة السياسية والقرار.

بالتأكيد يمكن للقارئ أن يسجل إعتراضه على منطلقات الكتاب. والإعتراض الأول سيطال عبارة "النخب السياسية ذات الصلة". فمن أي منظور تصاغ هذه العبارة؟ لا نجد إجابة على ذلك.

مع أنه من الممكن أن يُرى الأمر من موقع الأنظمة الحاكمة، أو موقع المعارضة البرلمانية أو غير البرلمانية، أو من موقع مجموعات في الدول المجاورة، الصديقة أو حتى العدوة، أو القوى التي تقلب هذا النظام أو ذاك من خارج المنطقة العربية.

النخب وغياب الفعل

ما سبق يكفي للتدليل على صعوبة التحديد الدقيق للأهمية الفعلية للنخبة ذات الصلة. أما الإعتراض الثاني فمن الممكن توجيهه ضد دور ووظيفة النخبة من حيث المبدأ.

وإذا ما القينا النظر على الربيع العربي ببداياته الديمقراطية في العراق، ولبنان، ومصر وفي شبه الجزيرة العربية، يظهر وكأن النخبة لا تملك الصوت المُقَرِّر ولا هي صاحبة الفعل الحاسم. أليست لعبة التبادل بين شخصيات بمفردها وشرائح عريضة، هي التي تصنع التاريخ هناك؟

يتوجه الإعتراض الثالث، إلى منطلقات الكتاب وأساس فكرة النخبة، إذ أن الأبحاث التقليدية التي تتناول النخبة في الغرب، كانت قد تأسست عبر مئات السنين على تطورٍ مستمدٍ من داخل وعبر ديناميكية ذاتية.

جذور التطور في الغرب عضوية. أما في المنطقة العربية فينتج منذ 1800 نقيض ذلك تماماً: تطورٌ موجهٌ من خارج وغير عضوي، ونخبة غير متجانسة، متعددة الأشكال والألوان كالفسيفساء الإجتماعية التي تشكل مجتمعاتها.

غياب التجانس وهجرة العقول

هذه النخبة سُحبت من ناحية عبر هجرة العقول نحو الغرب، وخاضت من ناحية أخرى عدة تشكُلات إجتماعية، أكان ذلك في الجيش العلماني، أو أثناء التحصيل العلمي في الغرب وأوروبا الشرقية.

كثيراً ما كان تأثير هذه النخبة ذات الأطياف المتعددة على القيادة السياسية ضعيفاً. ما سمح للأفراد مالكي السلطة بالتعسف في حكمهم، وهذا ما أشاط بدوره غضب المعارضة، الإسلاميون منهم على وجه الخصوص.

يعي فولكر بيرتيس ذلك جيداً، لكنه يشير إلى عوامل من نوع التحدُّر، والبنية، والموقع، والأجيال والمنظور. لكن منطلقاته تبقى بالمجمل غير دقيقة منهجياً.

لا يسعه على الأخص أن يبرهن بوضوح، ما هي الإستنتاجات المميزة التي يمكن أن تُفصِّلها أو تدحضها دراسات الحالات.

دراسة تبادل السلطة

يتناول الفصل الأول ثلاث دول تم تبادل السلطة فيها. آندريه بانك وأوليفر شلومبرغر يبحثان حالة الأردن، سلوى زرهوني المغرب، وفولكر بيرتيس سورية.

أما الفصل الثاني فيتناول الحالات التي يقف فيها الخلَف على قاب قوسين من السلطة. يبحث جمال عبد الناصر (باحث مصري مقيم في برلين) حالة مصر، وإيريس غلوزيماير العربية السعودية. بينما يبحث الفصل الثالث في مسألة إستدامة النظام والنخبة، حيث تتناول إيزابيل فيرينفلس الجزائر، وشتيفين إردليه تونس.

ويعالج الفصل الرابع تبديل النخبة تحت نير السطوة الخارجية. فتتناول رلى الحسيني لبنان، وهانس يواخيم رابه المناطق الفلسطينية. بينما يستخلص فولكر بيرتيس النتائج في الفصل السادس.

المراجع تستدعي الإنتباه بسبب غياب عناوين الكتب العربية –على عكس دراسات الحالات-، كما لو أنه لا وجود لنقاش حول النخب العربية، ولا لتقارير إستراتيجية عربية ودراسات منفردة.

ويبدو أن بعض التحليلات التي تخص دول منفردة قد منيت بالنجاح. فتميزت التحليلات التي تخص كل من المغرب ومصر والجزائر نوعياً. أما إستنتاجات بيرتيس فتتصف بالعمومية ولا تستخلص معارف جديدة من دراسات الحالات. رغم ذلك بإمكان هذه الدراسات أن تعطي النقاش المعني بخصوصيات النخبة العربية دفعات مثمرة. 

اسقاطات المعلوماتية المعاصرة علي النخب العربية(10)

تواجه النخب الفكرية العربية الكثير من الاشكالات المعاصرة كانعكاس للتطورات العالمية المعاشة في المرحلة الراهنة من تاريخ التطور البشري. واذا كانت النخب تميل الي الاستقلالية الفكرية وتعزيز الشخصية المستقلة خاصة ضمن مراحل التصادم الفكري بين العقائد والأفكار، فان انحسار الصراع وسيادة قيم فكرية نابعة من تيار واحد، قد فرض شروطاً جديدة علي هؤلاء أصبح معها الدفاع عن قيم الاستقلالية أمرا في غاية الصعوبة والتعقيد.

ان من أصعب طقوس المرحلة الراهنة هي حالة الفروض النازلة حتي ما تقاطعت مع المبادئ والقيم المؤسسة للبناء الفكري الشاملة لشخصية أفراد النخبة، ففي هكذا حالة لا بد من التأكيد ان السلوك والتصرف سيكون تحت حالة نزاع بين أوامر أو قرارات واجبة التنفيذ من قبل المقرر السياسي وبين بناء فكري قيمي يفرض نمط سلوك النخبة المتلقية للأوامر، وهنا لا يمكن التنبؤ بسلوك توافقي منسجم مع القرار بل ربما يتصادم باعتباره لا يلتقي ومجموعة القيم الموعزة لنمط السلوك وهذا ما يمكن ان يكون أكثر احتمالية حتي ما تعلق بالقيم الروحية التي تفرض علي المؤمن بها الالتزام بطقوسها وعدم اقتراف ما يمكن ان يتقاطع معها.

ان هذه الاشكالية تبدو أكثر عمقا واحتمالية في أوساط النخب العربية بكل أنواعها واختصاصاتها بسبب تعدد الدوائر القيمية المحددة لسلوك هذه النخب. نحن اليوم علي عتبة ألفية جديدة لا نعلم الي أي مدي يمكن ان تتطور لان كل افاق التراث البشري وتراكماته مفتوحة امامها. المشكلة الجوهرية في قضية النخب العربية انها نتاج حضارات متعددة ومتنوعة اختلط فيها القديم بالحديث فأفرزت سلسلة من المباني الفكرية اصطدمت بواقع ميداني مناقض لمعظم أهدافها وتمنياتها. وهذا ما خلق لها حالة انفصام لا تتقبل الواقع وترفض الخضوع لمنطق المتسيد الذي أطبق شبكته الفكرية عبر نتاج التكنولوجيا. ربما يكون من السهل علي من تشرب منهج قيم السيد المتسيد التعايش مع الزمن الراهن وطقوسه لانه جزء في الآلة الرهيبة التي تدور عجلة الاحداث العالمية بعد ان حددت اهدافها بدقة متناهية لا تخرج بالنتيجة عن الانا في حلقة النخب المقررة والمخططة. الاشكالية هنا في نخب الفكر المضاد التي أخذت علي حين غفلة من الزمن لتجد ذاتها في حالة صراع لا مرد له قد يكون كذلك الصراع الذي ساد بين البشرية والطبيعة في مراحل التاريخ الأولي. ولتبسيط هذه المعادلة الفكرية نعود الي علاقات التفاعل الاجتماعي في المجتمع العربي، فمن تربي مؤمناً بمجموعة القيم التي تحدد الاطار العام لفكر العولمة وآلياته، وهي بالأساس قيم البناء الرأسمالي العالمي الذي تطور تطوراً طبيعياً في خضم النخب البرجوازية، مثل هؤلاء لم يتعرضوا لوضع القيم النقيضة. بل قد أصبحوا سلاح الانتشار والتغلغل في مختلف مجتمعات البشرية. ان الطامة الكبري سقطت فوق رؤوس دعاة الفكر المضاد سواء أكان اشتراكياً أم شيوعياً قومياً أم وطنياً مستقلاً. كل هؤلاء استشعروا خضوعهم لمنطق الصراع وتناقضاته. فباتوا جزءا من دوامة تلف وتدور بهم دون من ان تعطيهم فسحة من الوقت لتأمل منطق الأشياء المعاصرة واستشراف الوسائل الفكرية المجدية لتكييف منطقهم بما ينسجم واتجاه الحدث. وما يزيد مأزق هذه النخب ان عموم الأوضاع العربية علي المستويين المالي والتنموي باتت تعاني من شحة وعوز ما دفع الواقع الاجتماعي الي أسفل فانفصم الفكر عن الواقع الذي خضع لمنطق الصراع مع الفقر والعوز مما زاد مأزق النخب العربية التي انبثقت عن سلاسل فكرية ترتب اصلا في ذات البيئة التي أسست للفكر البرجوازي الذي تطور الي صيغة الرأسمالية المحلية فالعالمية التي انطلقت بدورها لرسم معالم العولمة المعاصرة. ان المأزق أكبر مما يمكن معالجته بوسائل الدفاع التقليدي خاصة ان حالة اللحظة الراهنة لفكر العولمة تتسم بالتفوق والسرعة التي لم يعد بالامكان لجمها، حتي من قبل النخب المقررة والمنفذة لمنهج العولمة نفسه، فكيف لنا ان نتصور ان كل نخب فكر الحداثة العربية قادرة علي اعادة طرح ذاتها كبديل مناسب ما لم يتم تكييف جذورها الفكرية بما يتلاءم وأصول التراث الفكري العربي ونبعه الذي اعطاه السيادة والشمولية في المجتمع العربي، بالاضافة الي توظيف وسائل العولمة لتحقيق هذه النقلة التي لن تتحقق بمقاييس اداء لا ترتقي الي مستوي أداء الفكر المستبد عالميا. فلا يمكن اليوم الدخول في معركة يستخدم خصمك فيها كل تقنيات المعلوماتية والصواريخ العابرة للشعارات الموجهة بالليزر في حين تدخل انت معتمدا علي حد السيف وقوة الجسد. وانطلاقا من هذه البديهية المعاصرة فان حراس القيم والفكر التراثي لا بد لهم من الزج بفكرهم وسط سوق يصف فلاسفة العمل الانساني فيه بكونه في عصر التبادل الألكتروني سيعرف ليس بانتمائه الي عرق أو أصول أو طوائف أو أحزاب، أو معتقد، انما سيعرف من حيث اختصاصه ومجال عمله بوصفه فاعلاً اجتماعياً في قطاع من قطاعات الانتاج أو في حقل من حقوله.

بمعني آخر ان عصر ما بعد الدولة الذي نعيشه في بقاع واسعة من العالم اليوم لن يعود ليحصر منهله الفكري واخر اسوار مُسيجة تسمي بحدود الدولة وكل ما تحمله من مسببات وجودها انما هو عالمي شامل يسعي الي ما لا نهاية تقررها مراحل ثقافة متخصصة متسارعة بسرعة المبتكرات والاكتشافات العلمية والتكنولوجية الراهنة والمستقبلية. علي أساس هذه المعادلة التي تؤطر نمط الحياة المعاصرة والممهدة للألفية الثالثة، فان صيغ الأداء اليومي الراهنة تتعدي مفهوم الدولة والسيادة، مما يستلزم تكييف هذين المفهومين لينسجما مع المستوي الراهن للتطور الفكري في اطار العلاقات البشرية وانطلاقا من هذه الحقيقة يمكننا ان نؤكد بأننا لا نعيش نهاية التاريخ لان العولمة هي الوليد التاريخي لهيمنة الرأسمالية كما يريد ان يفرضها علينا فرنسيس فوكوياما. كما ان العالم لا يعيش صراع الحضارات بدلاً من معادلات (الصراع التقليدية كصراع الطبقات أو الشمال أو الجنوب أو الفقراء والاغنياء) كما يحلو لصاموئيل هامنتغتون وصفه. ان ما ذهب اليه فوكوياما وهنتنغتون ما هو الا توظيف الملامح لبلورة فكرة مسبقة تقتضي انفراد الرأسمالية كنتيجة حتمية لكن بالمقابل هنالك ملامح مقابلة تؤكد ان صيغ الصراع واثبات الوجود اتخذت طابعا مغايرا لذلك الذي ساد في ظل القطبية الثنائية ابان الحرب الباردة، اذ اثبت الصراع الطبقي ذاتيته علي نحو واضح ابان فترة انعقاد مؤتمر منظمة التجارة العالمية في سياتل حيث وقفت منظمات انسانية وفكرية داخل الولايات المتحدة نفسها ضد اتجاهات المؤتمر وهي مؤسسات ولدت في رحم الرأسمالية مما يفيد بأن الصراع الطبقي والفكري ما زال قائما بعد ان تلون بصبغة مناسبة للمرحلة الراهنة من تاريخ الصراع، وما حدث في سياتل امتد الي جنيف حيث مقر منظمة التجارة العالمية في اشارة واضحة توضح ان الفكر المضاد ما زال حاضرا. اما القول بنهاية التاريخ فهذه فلسفة باطنية تهلل لفكرة مسبقة تقضي بحتمية انتصار الرأسمالية لكنها تتناسي ان عالم الفكر منذ الازل لم يكن اليمين واليسار أو الشيوعية والرأسمالية بل كان هنالك دائما الفكر الكوني الذي علم البشرية مضامين الفكر وطقوس الحياة وهو المصدر الأساسي لكل أنواع الفكر الذي لن يلتقي بأي حال من الأحوال مع مقولة نهاية التاريخ بالمعني الذي ذهب اليه فوكوياما. فاذا كنا اليوم نستشعر ملامح لعصر مرحلة ما بعد الدولة وانكماش مفهوم السيادة، فهذا لا يعني نهاية التاريخ، انما هو بداية مرحلة جديدة فرضها التطور العلمي المعاصر في تقنية المعلومات والاتصالات التي دخلت جوانب الحياة المعاصرة كافة وفرضت انفجاراً معلوماتيا اعطي الغلبة للفكر الذي ابدع في مجال المعلوماتية فكانت الرأسمالية المتفوقة والمبدعة في مجال المعرفة المعلوماتية والرقمية، كمن يدخل معركة بهجوم مباغت مستندا الي خطة محكمة وتفوق معلوماتي فيحقق انتصارات متتالية مستفيدا من الفجوة لمقياس التطور العلمي في ادامة عامل التفوق والغلبة.

ان هذه الحقيقة التي ايقظت التحجر الايديولوجي والفكري ستكون هنا عامل دفع وتحفيز لابداع مقابل يوظف ذات الوسائل المتسيدة في عصر المعلوماتية للهجوم المقابل. وهنا ستكون الرأسمالية امام خيار واحد لا بديل له وهو ادامة الفجوة التقنية التي تسمح لها بامتلاك وسائل تجديد ذاتها لادامة عامل المباغتة. الا ان مثل هذا الخيار لن يكون مطلقا لأن تكييف المعلوماتية لتحقيق اغراض ايديولوجية مناقضة سيكون امرا قائما ومحتملا. ومثالا علي هذه الظاهرة يمكن ان يقرأ عبر العلاقات الامريكية ــ الصينية، فكلا البلدين يشعر بتهديد الآخر ولا يستهين بقدراته. ولان الموضوع الأساسي للتناقض الفكري حاضر في هذا الجانب فان معادلة التفوق العلمي والمعلوماتي تبقي سلاحا يتحارب به كلا البلدين ضمن تفاصيل العلاقات الثنائية بينهما، وهذا ما كشفت عنه الولايات المتحدة عام 1999 عندما أكدت وجود تسريب معلوماتي نووي من مختبراتها العلمية لصالح الصين.

ان سر العلاقات البشرية قائم علي التناقض، ولا يمكن لهذا التناقض ان يزول من الساحة لأن زوال التناقض يعني توقف التاريخ، وهذا ما لا يقع ضمن اطار المعرفة البشرية لكونه يدخل في حسابات ما وراء الطبيعة التي لم يخلق العقل البشري لاكتشافها أو اختراقها مهما كانت مراحل التراكم العلمي والعقلي والافتراضي الذي وصل اليه، وقد تكون هنالك تخمينات مقاربة لحقائق الكون لكنها بجميع الاحوال لن تتطابق مع أسرار ما وراء الطبيعة. وفي ظل هذا الثابت الكوني فان التناقض وجدله يبقي قائما طالما استمرت الحياة وتواصل الزمن وهذا ما يفرض تلون الصراع وتكيفه في ضوء معطيات العصر والمرحلة الزمنية التي تؤطره. لقد فتحت ثورة المعلوماتية المجال لتحرير الناس من سلطات الدول ووصاية النخب السياسية المتسيدة، وهذا الاتجاه سرعان ما التفت عليه النخب السياسية باطلاق يدها بتوظيف المعلوماتية لصالح أهدافها وهنا يبرز دور النخب العربية بمختلف أطيافها وتخصصاتها في فرض ذاتها ووجودها عبر الاستفادة من الثورة العلمية والمعلوماتية لتطوير امكانياتها وافاقها المستقبلية في اطار المحافظة علي ادمية البشر. بمعني آخر ان مسار نمو وتصاعد ثقل النخب العربية لن يكون يسيرا وهي مطالبة بايجاد معادلة ذاتية تكييف المعلوماتية لترصين وجودها كنخب مؤهلة لقيادة البلاد العربية بالمستوي الذي ينسجم وسمات المرحلة التي يحددها مستوي التطور التقني والمعلوماتي، بالاضافة الي تحقيق حالة التوازن بين الممكن والمعقول في اطار التراث والقيم الاجتماعية من جهة والاطار العام الذي تطلقه النخب السياسية باعتبارها كياناً قائماً لا يمكن الغاؤه، ولا بد من التعايش معه. انها معادلة في غاية التعقيد وليست سهلة التطبيق لكنها تبقي البديل المناسب نسبيا لخيار هجرة العقول والكفاءات والمفكرين. التي بدأت الكثير من الدول المتقدمة تعد العدة لتسهيل اجراءات استقبالها وتسهيل عملية ادماجها في مجتمعاتها لكونها ذات جدوي اقتصادية واجتماعية وعلمية تزيد من الرصيد الوطني لهذه الدول وتؤهله لمواكبة حركة المعلوماتية والعلم التي فرضت اتجاهات العولمة، لقد كان طبيعيا في ظل بداية مرحلة ما بعد الدولة ان تتعقد علاقات التفاعل ووظيفة الاداء بين النخب العربية ودولها مما فتح أعرض بوابة لهجرة العقول في التاريخ العربي المعاصر.

ان المرحلة الراهنة التي عرضنا جانبا من سماتها فيما تقدم تحتم أساسيات جدلية للعلاقات بين السلطة والمجتمع في الدول العربية، فمسألة الرمز، وأهلية فئة سياسية دون أخري، واحقية نظام سياسي علي حساب بقية الشرائح السياسية لم تعد قابلة للاستمرار في زمن باتت كل يومياته تؤكد بدء تاريخ ما بعد الدولة. من هنا أقول ان علاقات التفاعل بين السلطات العربية والنخب العربية بأطيافها كافة لا بد ان تقوم علي معادلة ناتج تفاعل الآراء في فضاء فكري قائم علي أساس آدمية البشر وحقوقه. علي ان يكون حساب القوة للمجتمع العربي منطلقا من مجموع الدوائر الأساسية لمقاييس القوة المعاصرة وفي مقدمتها القدرة علي توظيف المعلوماتية لخدمة الاداء الاجتماعي برمته، وليس علي أساس ان من ملك السلاح والرجال حق له اخضاع وتوجيه العباد. ان استمرار معادلة وظائف الدولة العربية القديمة لا تصلح لادارة الانسان العربي المعاصر لانها باتت خارج حدود الزمن، واذا ما استمرت علي حالها التي هي عليه اليوم فهذا يعني مزيدا من التراجع والتخلف في آفاق الحياة المعاصرة كافة. عندها لن يكون مفيدا وجود سلطة أو حكومة تحكم أرضاً وتدير شعباً جاهلاً، لان مثل هذه الدولة ستحكم علي ذاتها بالزوال بعد ان حتمت علي نفسها السير بعكس حركة التاريخ. واذا كانت حكومة ما تسير بهذا الاتجاه عن قصد أو غير قصد فان مسؤولية النخب العربية تبرز هنا لتصحيح المسار وضبطه باتجاه المسارات المعاصرة.

بقي ان أقول ان أية حتمية سلبية في المستقبل العربي تعكس فشل النخب العربية في استشراف آفاق التعامل السياسي والاجتماعي في زمن المعلوماتية. ومع الأخذ بالاعتبار مجموعة الضغوط السياسية المسلطة علي النخب العربية، فهذا لا يعفي النخب العربية من المبادرة لانقاذ ذاتها ومجتمعها ونظامها السياسي القائم، فان لم تفعل فانها بالتأكيد تكون قد فقدت اللقب وباتت جزءاً مساهماً في السير عكس حركة التاريخ.

عصر النخب المهنية(11)

ربما استطيع القول إنني أفهم في تشكل النخب المهنية داخل المجتمع أكثر بكثير من النخب السياسية لكوني في الأصل معمارياً مهنياً بالدرجة الأولى على انني مؤمن ان "هيمنة النخبة" تتبع الآليات نفسها وتواجه المصاعب الاجتماعية نفسها خصوصاً في مجتمعنا ذي النسيج القبلي الحساس

(1)

الذي يصنع نخبه المهنية والاجتماعية بشكل معقد ومن خلال ممارسات اجتماعية قد لا يتوقعها بعضهم لكنها ممارسات حقيقية تمارس بشكل غير علني، وتساهم في بناء النخب المهنية التي تشكل النسيج الاجتماعي بشكل عام.

كما يجب أن اؤكد هنا أن النخب المهنية في بلادنا هي نوع من الرابطة العضوية بين مجموعة من المهنيين الذين تربطهم "مصالح خاصة" يمنح من خلالها كل منهم الآخر مزايا ودعم مباشر وغير مباشر يجعلهم جميعا على سقف العمل المهني من دون النظر إلى الانجازات الحقيقية وإن كان كل من أعضاء هذه النخبة يملك الحد الأدنى من المهارات التي تؤهله للبقاء ضمن هذه النخبة.

الأمر الآخر وهو الأهم أن اساس هذه النخبة أو لنقل النخب المهنية (لأنه تتفرق احيانا النخبة المهنية إلى نخب مناطقية) هي الرابطة القبلية بدرجة أقل والرابطة المناطقية بدرجة أكبر. يبقى الانتماء المهني في هذه الحالة هو مجرد مفتاح للدخول للنخبة المهنية التي قد يصعد فيها بعضهم بسرعة بينما يبقى بعضهم الآخر هامشيا وثانويا مهما فعل. الإشكالية الحقيقة في النخب المهنية في المملكة هي تهميش الكفاءات لكون فكرة الانجاز غير مهمة أصلا في مسألة ارتقاء سلم النخب المهنية وهي إشكالية أضعفت ومازالت تضعف العمل المهني بشكل عام. على المستوى الشخصي سوف أتحدث في هذا لمقال عن "النخب المعمارية" من الناحية المهنية البحته لكوني انتمي لهذه المهنة التي لها ارتباطات عميقة بالمجتمع وهو الأمر الذي يشجعني دائما على القول إن مهنة العمارة يمكن أن تكون مثالا حيا لكل ما يدور داخل مجتمعنا، خصوصا بعد ان تبين لي من دراسة نشرتها قبل سنوات عن التأثير القبلي والأسري في تطور المكاتب المعمارية بشكل خاص.

(2)

أحد الأسئلة المهمة التي لم أجد لها جوابا منذ أن بدأت أتعلم العمارة هو: لماذ وكيف يظهر بعض المعماريين "الكبار" بينما لا يظهر آخرون وهم يضاهونهم في المقدرة وربما يتفوقون عليهم؟ هذا السؤال المؤرق لم استطع الاجابة عنه كونه يفترض قراءة متأنية لكثير من السير الذاتية للمعماريين في منطقتنا العربية، وأؤكد هنا على المنطقة العربية لكونها منطقة لا تخضع لمعايير القياس المتعارف عليها، فهي منطقة تخرج على النص أكثر مما توافق معه، يصعب عليها اتباع "سيناريو" بعينه، فهناك دائما تعديل وإضافة وتجاوز وإعادة تأليف لكل المشاهد، فهي مشاهد يمكن أن نتوقعها عندما تحدث فقط. ويبدو أن هذه الفوضى العارمة التي رسختها "ثقافة الشلة" العربية جعلت من العمارة ومهنتها أقل بكثير مما هو متوقع منها ولم تفرز عبر كل هذه السنوات إلا سوق معمارية هزيلة يتحكم فيها الرديء وتفتقر لحضور "الثقافة المعمارية" و"الحس الجمالي"، ولم تبن عبر كل هذه التجربة الطويلة أي حضور اقتصادي يذكر. وتحولت بذلك العمارة إلى مهنة "متشرذمة" لا تنظمها رؤى موحدة ولا تجمع بين العاملين فيها ثقافة واضحة، مهنة "تائهة" في وسط إداري ومجتمعي "مترد". من خلال هذه الصورة "السوداء" تظهر النخب المعمارية في العالم العربي كنخب مصالح يبدو عليها الاهتمام التجاري أكثر بكثير من الهم الفكري على عكس كل النخب المعمارية في العالم التي تتشكل على اساس ثقافي نقدي يضمن الحد الادني من التوازن الثقافي الجمالي في المجتمع. استطيع أن احيل القارئ العزيز إلى كل المدن العربية المعاصرة ليقرأ تأثير النخب المعمارية على عمارة المدينة وحسها الجمالي وسوف تجعله هذه الاحالة يشعر بأن النخب المهنية في منطقتنا هي نخب مصالح لا نخب مفكرة.

(3)

في الحقيقة أن كل الذي نراه يؤرقنا هو في الوقت نفسه يفرض علينا فروضاً معرفية أكاديمية تستوجب البحث والتقصي عن هذه الظاهرة "الغريبة" التي يمكن أن نصف بها حالة العمارة العربية المعاصرة. ونحن نصفها بالغرابة؛ لأننا لا نجد مسوغاً لكل هذا "التفكك" التي هي عليه. على أنه لابد أن هناك اسباب كامنة لم نستطع ان نراها أدت إلى الوضع الذي عليه عمارتنا ومهنتها. ومع ذلك فنحن لاندعي هنا أننا سوف نكشف عن هذه الاسباب لكننا نريد فقط أن ندق ناقوس الخطر وندعو المهتمين بالعمارة وبعلم الاجتماع العربي أن يبحثوا في هذه الظاهرة التي اعتقد انها تتكرر في أغلب المهن وليس فقط في مهنة العمارة. فمن الإشكاليات التي اكتشفتها بعد ذلك هي مسألة "المعماريين الكبار"، فقد تأكد لي ان ما كنت اعتقد انهم معماريين كبار ما هم إلا تجار كبار فهم ابعد ما يكون عن الفن والحس المعماريين، ويعيش بيننا كثير منهم، فهؤلاء يستغلون جهل المجتمع بالعمارة وفنونها ويمررون أفكارهم السطحية والقشرية التي يتم اكتشافها وإخفاقها بعد ذلك ولكن بعد فوات الأوان. لقد أصبحت المسألة بالنسبة إلي أكثر وضوحا عندما تأكد لى أن هؤلاء ليسوا إلا فريقاً من "المحظوظين" الذين اسعفتهم الظروف كي ينضموا إلى "شلة" ما مكنتهم من أن يكونوا "كبارا" من دون عمق حقيقي يمنحهم أحقية هذا "الكبر". ويظهر لي أن المسألة تعود بنا إلى العقل العربي "العشائري" "الشللي"، الذي تحكمه صلة القرابة والصداقة على أي جودة مهما كانت. فتركيبتنا "الذهنية" تعودت على المجاملة وأن "كل شيء يمكن إصلاحه" من دون أن نبذل جهداً في التغيير أو الإصلاح، ويبدو أننا ننتظر من يغير عنا ويصلح لنا أمورنا، وكأننا مصابون بالشلل.

(4)

لقد شجعني هذا الاحساس على البحث في مسألة "النخبة"، التي تشكلت في مهنة العمارة في المجتمع العربي وهل هي نخبة حقيقية أم أنها كانت "تركيبة أسرية" أو "عشائرية" أكثر منها نخبة مهنية مثقفة تملك الارادة والفعل وحاولت التغيير. وقلت في نفسي سوف ابدأ من المعماري المعروف حسن فتحي، فهو من بيئة ارستقراطية فتحت له الأبواب كي يكون قريبا من متخذي القرار إلا أنه أصبح معماريا معروفا لأنه يستحق هذا (رغم قناعتي الشخصية بأنه مفكر أكثر من مصمم)، على أني سألت نفسي وقلت لو أنه لم يكن قريبا من متخذي القرار ولو لم تتح له هذه الفرص هل سيكون معروفا؟ ثم أني قلت كم معماري كان في مثل المكان الذي فيه حسن فتحي ولم يظهر للوجود؟ كما أنه قد يكون هناك من هم في مثل مقدرة حسن فتحي ولم تتح لهم الفرصة للظهور. وتبين لي أن تشكل "النخبة في العمارة" قد تلعب فيه "الفرصة"، إلا ان الفرصة وحدها لا تصنع معماريا عظيما، وهي الحالة التي تنطبق على حسن فتحي، إذ إن الفرصة وحدها لم تصنع فكر حسن فتحي. ومع ذلك لا نستطيع أن ننكر أن هناك من المعماريين الموهوبين الذين لم تتح لهم الفرصة فظلوا في الظل طوال حياتهم ولم يتعرف إلى أعمالهم أحد.

إذن هناك عدة عوامل يمكن أن تصنع ما يمكن أن نسميهم "النخبة"، لكن هناك ما يمكن أن نطلق عليها "النخبة المزيفة" أو "إدعاء" الانتماء إلى نخبة العمارة، وفي اعتقادي أن هذه ظاهرة عربية يمكن مشاهدتها بسهولة، إذ يوجد بيننا نخب مزيفة كثيرة منها بعض النخب المعمارية، كما أننا بيئة يسهل فيها إدعاء الانتماء للنخبة، خصوصا في ظل غياب النقد والمناخ الفكري الشفاف الذي يستطيع إفراز الغث من السمين والتفريق بين من له عمل يشفع له الانتماء إلى نخبة ما أو أنه مجرد مدع. ولعل أحداً ما يسأل لماذا نحتاج أن يكون هناك نخب معمارية في مجتمعنا العربي، ويمكن أن أجيب عن هذا السؤال في عبارة واحدة هي حاجتنا إلى "القدوة"، فالعمارة، مهنة "توارثية" مثل كل المهن العريقة، إي أنها تتوارث من جيل إلى جيل والخبرات التي تتطور تتراكم ويتوارثها المعماريون الشباب، ووجود نخب معمارية يعني أن هناك جيلاً من الرواد يستحقون أن يكون لهم اتباع ومريدون. فإذا كانت النخبة مزيفة أو مدعية، فيعني ذلك أننا نرسخ السطحية والزيف المهني، وهو ما حدث بشكل كبير في عمارتنا العربية المعاصرة. كما أن تكون النخب المجتمعية هو ظاهرة طبيعية وأذكر أنني كلما زرت بلدا ودعيت إلى حفل ما تظهر النخبة المعمارية تعرف بعضها بعضاً وتشترك في هموم ومصالح تمس المهنة لكنها تختلط بشدة بالسياسة والمجتمع والهم الاقتصادي العام وهو ما حدث عندما كنت في الباكستان قبل عدة أسابيع فقد كنا في بيت احد المعماريين الباكستانيين في كراتشي واجتمعت النخبة المعمارية في تلك المدينة وكان حديثهم مركزا في السياسة والاقتصاد لكونهما الموضوعان الأكثر تأثيرا في العمارة.

(5)

لا انكر هنا أنه ينقصنا الكثير من الدراسات لفهم مجتمعاتنا فالذي يظهر لي أننا لا نرغب في رؤية مشاكلنا امامنا، لذلك فإن البحث في كيفية تشكل "النخب" المعمارية في العالم العربي بحاجة إلى دراسة متأنية وهذا المقال ما هو إلا إطلالة على هذه الظاهرة المعقدة والمتشابكة. فعلماء الاجتماع يرون أن المجتمع بكافة أطيافه وتشكيلاته تحكمه نخب ذات تفاوت طبقي. ويرى (ميلز) أن هناك مؤسسات وتنظيمات في المجتمع مرتبه على أساس التدرج الهرمي للمكانة وتتكون "النخبة" من الذين يشغلون مراكز عليا في هذه المنظمات. ويبدو أننا لو حاولنا فهم النخب المعمارية العربية على ضوء هذا التعريف لن نستطيع تحديد هذه النخبة بأي شكل من الأشكال، إذ إن الظاهرة تبدو فردية و"شللية" أكثر منها تنظيمات واضحة. ولعل هذا قد يقودنا إلى إنكار وجود نخب معمارية فعلية، خصوصا إذا ما عرفنا أن وجود نخبة ما يفترض وجود صراع حول الصعود في طبقات هذه النخبة، وفي حالة مهنة العمارة يبدو الأمر مختلفا، إذ إن النخب المعمارية قد تكون في كثير من الأحيان مجرد انعكاس للنخب الاجتماعية والسياسية الموجودة في المجتمع أو أنها تعيش على هامشها وتتغذي عليها.

(6)

نستطيع هنا مناقشة فكرتين مهمتين تخصان تطور النخب في المجتمع، الأولى هي "دورة النخبة"، والمقصود هنا هو كيف يمكن أن تحتل نخبة ما مكان نخبة أخرى، فمثلا هناك بعض المعماريين الصغار ينجحون مع الوقت في احتلال مكانة مهنية مرموقة تمكنهم من إيجاد مكان لأنفسهم في الطبقة المعمارية المهيمنة، ويمكن ملاحظة ذلك خلال الثلاثة العقود الأخيرة في مناطق مختلفة في العالم العربي وفي السعودية على وجه الخصوص. اما الفكرة الثانية فتخص "اهمية النخبة"، ففي حالة العمارة تبدو النخب المعمارية ثانوية جدا وليس لها دور حقيقي، وهو ما يؤكده عالم الاجتماع "شومبيتر"، الذي قال "إن وضع كل طبقة داخل البناء الاجتماعي العام يتوقف على الأهمية المخلوعة على وظيفة هذا الوضع من ناحية، وعلى درجة نجاح الطبقة في إداء هذه الوظيفة من ناحية أخرى" (نقلا عن النخب السعودية: دراسة في التحولات الاجتماعية والإخفاقات، للدكتور محمد بن صنيتان).

وفي اعتقادي أن الوضع الهامشي للنخب المعمارية في العالم العربي ناتج عن عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي تعيشه المنطقة، ففي ظل هذه الظروف لا نتوقع أن تنشأ نخب مهنية ذات تأثير في المجتمع. والذي يظهر لي هو أن مهنة العمارة في العالم العربي مثيرة للجدل، غير مفهومة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، متداخلة بشكل كبير مع التوازنات المتعددة للمصالح التي عادة ما تحكم أي بيئة عمل. فكرة التوازنات هنا تجعلنا نبحث عن رؤية تشريحية لمجتمع مهنة العمارة سواء بين المعماريين أو أولئلك المستفيدين من المهنة. التوازنات هنا تعني مجموعة من التكتلات الاقتصادية أو المهنية، وربما تعني وجود اتفاق ضمني يجمع مجموعة من الناس حول تغليب مصلحة أشخاص معينين لأسباب عدة. فالاخفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها المنطقة أوجدت نخباً مهنية "انتهازية"، بعيدة جدا عن أخلاق المهنة وما تفرضه من تنافس شريف، خصوصا أن حالة الفوضى الادارية المتفشية في إداراتنا الحكومية والخاصة صارت تغذي "ثقافة الانتهاز والاستغلال" وأصبح من يريد أن يكون في أعلى سلم النخبة المعمارية "المزيفة" عليه أن يكون أولا ضمن منظومة اجتماعية تمهد له صعود هذا السلم، وهذا من دون شك ليس من دون ثمن، فالمسألة هنا هي توازن للمصالح، بين الَمفيد والمستفيد.

(7)

أذكر مرة أن أكاديمياً من إحدى الجامعات السعودية ذكر أن مهنة العمارة في المملكة تحكمها "شلة" فإما أن تكون داخل هذه الشلة وتصبح معماريا معروفا وإما خارجها فلا أحد يذكرك. هذه الشلة كما يرى صاحبنا، صنعت من نفسها نخبة معمارية استطاعت من خلالها أن تحصل على العديد من المشاريع الكبيرة والمؤثرة في المملكة، ويؤكد أن من خصائص هذه "الشلة" أنهم في الأغلب كانوا يشكلون دفعة دراسية ومناطقية (جهوية) واحدة درست وتخرجت بعضها مع بعض داخل المملكة وخارجها وتوزعت على مناصب في الدولة أو العمل الأكاديمي أو ممارسة العمل المعماري المهني وصارت يساند بعضها بعضاً من أجل أثبات الوجود. وسواء أكان هذا التحليل صحيحا أم مبالغاً فيه فالملاحظ أن هذه "الشلة" لم تستطع تشكيل نخبة معمارية متميزة ولم تستطع مع كل الفرص التي أتيحت لها أن تصنع معماريين "كباراً" بل تجار كبار، وهو أمر متوقع في ظل هذا الاحتكار للعمل المعماري وثقافة "إنصر أخاك ظالما أو مظلوما". كما أنها لم تستطع أن تقنع القطاع الخاص بتميزها وقيمتها الفكرية وصارت تنهار بعد ذلك تحت ضربات التنافس الصاعد وانفتاح السوق. على أن هذه النخبة "المصطنعة" استطاعت ان ترسخ مناخاً معمارياً سلبياً لم يطلق أجيالاً من المعماريين المفكرين، بل حبسهم في خندق واحد هو "ثقافة اقتناص الفرص". في اعتقادي أن هذه الظاهرة "النخبوية" مجازا تستحق الدراسة ولعل هذا ما سنقوم به في المستقبل القريب.

ما بين النخب والشارع علاقة غامضة تشوش على (الأنا) و(الآخر)(12)

أيهما يقود العلاقة ويوجهها بين العرب والغرب.. النخب السياسية وسلطاتها أم الثقافة العامة المتوارثة والمتطبعة بالأحداث وما يمكن ارجاع نسبها الي آراء الشارع وقناعاته..؟

انحسار دور النخب في المجتمعات العربية وتقوقعه داخل أسيجة سياسية مختارة أو مفروضة فسح المجال لما يمكن وصفه بالمنقولات التلقائية المشحونة بالعاطفة الفطرية والخاضعة لمراكز توجيه غير مباشرة وربما مخفية عن قصد ومغطاة سياسياً ودينياً وتقاليدياً فضلاً عن مراكز التوجه والشحن الظاهرة بهالة رمزية.

وبات من السهولة ظهور أعراض التسيس والاحتواء السياسي علي أي جماعة عرقية أو دينية أو ما في داخلهما من جزئيات وانقسامات، وأصبح الحال كمن يحمل مرضاً وتظهر أعراضه للآخرين من دون أن يكون قد وعي علي نفسه وأدركه مقدار اصابته أو خطورتها.

وفي السنوات الأخيرة لم يعد للنخب السياسية في البلاد العربية كلها قدرة علي التأثير الجماعي في الشارع، في حين برزت قوي تستمد أسباب وجودها وامكاناتها من العوامل الفطرية التي تسود النفس الانسانية الخاضعة للموروث الديني والتقاليدي والمحصور بأفكار صغيرة وقليلة متداولة في ظل وضع نفسي خاص ومختوم بطابع تاريخي.

ازاء حالة من الاضطراب الفكري التي تعتمر الشارع العربي يكون من الصعب ايجاد مسارات واضحة لقيادة رؤية العلاقة بين العرب والآخر، حيث تدور معارك فكرية شرسة يظهر فيها الضعف العربي أمام الآلية الاعلامية الغربية المتفوقة، والضعف العربي هو جزء من ذلك التشتت في الرؤية التي لم تستطع النخب صناعتها لوهن الصلة بينها وبين ما اصطلح عليه بالشارع، فالشارع تلقائي يبحث عن الآني واليومي والحماسي والنخب منقسمة بين انتماء اجتماعي وبيئي من جهة، وبين انتماء للبني الفوقية في الهرم السياسي الموجه للسلطات القائدة في المجتمع.

إذا لم تتم تسوية من نوع ما بين النخب والشارع وهي تسوية بنية داخلية وليست تسوية صفقات سياسية فانَّ العرب غير قادرين علي ايجاد علاقة ذات مرتكز فكري واضح مع الغرب. فالمظهر الذي يقرّب العلاقات قد يراه بعضهم علي انه سبب لتقهقر وتذبذب البني.

النخب مؤهلة في تكوينها الذاتي لكنها غير مؤهلة في آليات انتشارها ووسائل ذلك الانتشار في المجتمع. وهذه اشكالية موضوعية وعلاقاتية وسلطوية أيضاً، الأمر الذي يجعل كل شيء معرضاً للاهتزاز في أية لحظة.

ثمة هدف يصل بين نقطتين لا بدَّ من تحديده أولاً، وهو كيف تكون العلاقة وكيف تنبني عوامل التثقيف لإدامة تلك العلاقة قبل الشروع بها واطلاق أهدافها العامة..

صوت الشارع حين يبدو أعلي يبتلع حالة من الاستقرار الفكري أرستها النخب عبر تطورها التاريخي، والسؤال الصعب هو لماذا يضعف السند التاريخي للتطور القيمي النخبوي علي مواجهة تسلسل تاريخي أيضاً يذكي الحماسة المنفلتة لدي الشارع غالباً. تلك الاشكالية يدفع الغرب ثمنها حيث يسعي الي مزيد من الفهم لواقع عربي مضطرب وخاضع للتشويش السياسي والديني، ومن ثم تدفع السلطات المختلفة (سياسية ودينية وشخصية) إلي رمي الكرة في ملعب السواد العام من الناس الخاضع لتأثير (مبرمج) من آليات قوي النفوذ في مجتمع لم يصل به مستوي التعليم العادي أو العالي أو المستوي الانتاجي الي حالة التأهيل لضمان عدم تداعي البني من الداخل وتوحيد المواقف علي مشتركات فكرية عامة تقود الي شاطئ الأمان بدلاً من الضياع بين أمواج متضاربة تجعل وسيلة الانقاذ بعيدة والأمل مفقوداً.

........................................................................

المصادر/

1- غسان المفلح /موقع الخضر المصري

 2- مجلة العصر

 3- نوال السعداوي/  الحياة اللندنية

 4- أ. نجيب الخنيزي/ صحيفة عكاظ السعودية

 5- ناجح شاهين/ موقع امين

 6- حاورتها - عالية ممدوح/ جريدة الرياض السعودية

 7- الاذاعة الالمانية

 8- احمد الحبيشي/ صحيفة 26 سبتمبر اليمنية

 9- فولفغانغ غ. شفانيتس / ترجمة يوسف حجازي/ موقع  قنطرة

 10- خالد الخيرو/ صحيفة الزمان العراقية

 11- د. مشاري بن عبدالله النعيم/ جريدة الرياض السعودية

 12- د. فاتح عبد السلام/ جريدة (الزمان) العراقية

 13- المعجم النقدي لعلم الاجتماع/ بودون بوريكو

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 12 أيلول/2007 -29/شعبان/1428