لن انجر في هذه العجالة الى بحث حلية الانتحار او حرمته، لان ذلك
سيجرنا الى نقاشات غيبية محضة غادرناها مذ عرفنا انها عقيمة، مع علمنا
بان من يذهب من هذه الدنيا سيرى اعماله ذرة ذرة، خيرا فخيرا وشرا فشر
وان الله تعالى الذي وصف نفسه بانه شديد العقاب قد وصف نفسه بانه ارحم
الراحمين ايضا وان رحمته سبقت غضبه ووسعت كل شئ وانه كتب على نفسه
الرحمة.
فنحن نسمع بالانتحار والمنتحرين يوميا وفي جميع انحاء العالم،
والاسباب المؤدية الى الانتحار تتراوح بين كونها نفسية واجتماعية
ومالية وغرامية، وقد تختلف طريقة التنفيذ من حالة الى اخرى، فهناك من
يطلق رصاصة على راسه من مسدسه الشخصي وبعضهم يلجأ الى شنق نفسه او
بتناول السم او قص الوريد وبعضهم يحبذ ان يلقي نفسه من طابق علوي
ليرتطم بالارض، ومنهم من يلجأ الى صعق نفسه بالكهرباء، وهكذا تتعدد
الاسباب والانتحار واحد والنتيجة واحدة.
ان لكل حالة من حالات الانتحار خصوصياتها، ولسنا مخولين بان نقود
الناس الى الجنة او الى النار، كما لا اود ان اصنف الانتحار واعتبره
شجاعة فائقة او جبن فائق وهروب من الواقع، لان كل حالة مرهونة
بظروفها، غير اني اريد ان اشير الى حالات من الانتحار التي لا تؤذي الا
صاحبها مثل انتحار كاتب عراقي في سوريا مؤخرا، حيث ترك رسالة برأ فيها
الاخرين من دمه، وذهب الى ربه يحمل معه اسرارا مشوقة قد تكون في غاية
الحزن والاسى والاحباط والانكسار، فيما قام آخر وهو لاجئ افريقي
بالانتحار في دولة اوربية بعد ان اعلمته السلطات برفض طلبه وامكانية
ابعاده واعادته الى بلده ( المحبوب ) مع ولده الصغير، وبما ان الرجل
كان قد عمل المستحيل ليخرج من المدن المظلمة الى المدن المضيئة، ومن
الحواري الحزينة الى الاحياء البهيجة، ولم يرد ان يعود مرة اخرى
مصحوبا بالخيبة والفشل، وقد قرر الانتحار ليجبر السلطات على الاحتفاظ
بولده الصغير وتجنيبه الضياع والتشرد في بلده الاصلي، وهذا ماحدث
بالضبط حيث قررت السلطات (الرحيمة) منح اللجوء لولده الصغير بعد ان سجل
الرجل اسمى صور التضحية والايثار.
وفي حالة اخرى جرت في احدى نواحي كركوك عندما اقدم شاب على
الانتحار امام حشد من الناس احتجاجا على الانقطاع المستمر للكهرباء في
مدينة تقع قرب محطة ضخمة لتوليد الكهرباء، كما ذكرت الصحف ان شابا
يمنيا انتحر بعد عودته من الحج حيث قرر التخلص من حياته دون ان يحدث
اضرارا تذكر للاخرين، فغادر الحياة على طريقته كفصل اخير من قصته وهو
الفصل الاكثر اثارة.
ولكن شتان ما بين هؤلاء وبين الصنف الاخر من الانتحاريين الذين
ينأون بانفسهم عن المعسكرات والاعداء ويحبذون تفجير انفسهم ( الزكية )
امام الجامعات والاسواق الشعبية ومدارس الاطفال وداخل سرادقات مجالس
العزاء، او عند حشد من البنائين والعمال والكسبة او في مقهى او مطعم،
متقربين بذلك الى الله تعالى الذي حرم قتل النفس البشرية بلا سبب،
وستظل البشرية والمتخصصون في علم النفس والاجتماع والاقتصاد يجهلون
الاسباب التي تدعوا هؤلاء الاشقياء التعساء الى الموت مع قتل عدد اخر
من الابرياء في آن واحد، والى ان تهتدي الى تفسير عقلائي لما يحدث تظل
البشرية مهددة من قبل هؤلاء، ولا ندري من سيكون الضحية القادمة، وانا
لله وانا اليه راجعون. |