ادراكنا...  يوجه سلوكنا

الدكتور اسعد الامارة

 اعتقد ان مدخل دراسة الادراك والسلوك يعد من الموضوعات المهمة في حياة الانسان المتخصص والانسان غير المتخصص في دراسة العمليات المعرفية التي تجري بداخل "دماغ الانسان" ولا نستطيع فصل هذه العمليات عن بعضها ويقول الدكتور(انور الشرقاوي) ان العمليات المعرفية كالانتباه والادراك،والذاكرة، والتفكير، انما هي عمليات على متصل Continuum  من النشاط المعرفي الذي يمارسه الافراد في مواقف الحياة المختلفة، وهي التي تتحول الى سلوك يمارسه اي منا.

 وهي في الحقيقة مجموعة افتراضات اساسية مهمة ليست مجرد ناتج فوري للمثير بقدر ما هي معالجات داخل الدماغ لاية مواقف حياتية. ولو عرفنا الادراك لوجدنا انه محاولة لتفسير المعلومات التي تصل الى الدماغ كما يقول "اندرسون" ويتفق "ليندري ونورمان" مع اندرسون بقولهما: انه تعديل للانطباعات الحسية عن المثيرات الخارجية من اجل تفسيرها وفهمها. لذا يرى علماء النفس ان الادراك عملية مبنية على اساس معالجة المثيرات من اعلى الى اسفل على وفق المعرفة والخبرات السابقة والدافعية.

اذن يمكن القول ان الادراك هو  عملية تفكيرية عليا مرتبطة بالبنى المعرفية لدى الفرد ومتأثرة بميوله وقدراته المختلفة ورغم ذلك فان عملية الادراك لا تحدث باستقلالية عن الاحساس الا في حالة ما يعرف بالادراك فوق الحسي.

اما السلوك فهو مجموعة الحوادث الجارية في حياتنا اليومية من حيث اننا نعيش في بيئة خاصة بنا ونلتقي بوساطتها مع الاخرين، هؤلاء الاخرين مماثلين لنا في الاداء وفي التعامل وفي التفاعل الاجتماعي، حيث نتفاعل مع الناس المحيطين بنا نؤثر فيهم ويؤثرون فينا، ويقول د.سيد خير الله ان للسلوك وجهين  وهما:

•       السلوك الخارجي او الظاهري.. والذي يمكن ملاحظته موضوعيا مثل النشاط الحركي والتعبير اللفظي الذي يقوم به الفرد وتعبيرات الوجه التي تصاحب بعض الانفعالات.

•       السلوك الباطني كالتفكير والتذكر والادراك والتخيل وغيرها، التي لا نستطيع ملاحظتها مباشرة وانما نستدل على حدوثها عن طريق ملاحظة نتائجها.

اننا حينما نقول ان الظواهر النفسية في كل حياتنا هي ظواهر معرفية لا نبتعد عن الحقيقة ولا نتجنى على  ما  يجري  داخل ادمغتنا، لان كل العمليات النفسية لها اساليب معرفية ترتبط بعمل الدماغ وما يجري فيه وهي الوان من الاداء لدى الافراد يفضل البعض ان يعالج هذا الموضوع بطريقة تختلف عن الفرد الاخر، وباسلوب يتميز به، من حيث ادراكه للموقف الحياتي او طريقة تربية ابناءه او كيفية تعامله مع زوجته او اصدقاءه او اقرباءه او حتى طريقة تعبده واداءه لشعائره الدينية، فليس من المعقول ان يكون البشر نسخة واحدة، بل خلق الله الامم والشعوب من اعراق مختلفة ومن اصول متنوعة لكي يتقاربوا او يتعارفوا او يتصارعوا من اجل اهداف آمنوا بها، هذه الاهداف ربما كانت سياسية او انسانية سامية او دينية متعصبة او مطامع في اراضي الغير او ثرواتهم، او قد تتقارب الشعوب فيما بينها  ليتزاوجوا ويتفاعلوا بينهم.

لذا طرق تفكير الناس والامم والشعوب  تختلف بحسب تكوبنهم النفسي وعاداتهم، وحسب نشاتهم واسلوب تكونهم، فعندما نقول ان فلانا من الناس يمتلك اسلوبا في طريقة التعامل يختلف عن غيره، هو صحيح تماما، لانه يمتلك سمات تميزه عن غيره من الاخرين، وهذه الفروق تصح ايضا بين الاخوة حتى وان كانوا تؤام متطابقة، فكيف هو الحال اذا كانوا من اجناس واعراق مختلفة. هذه الاختلافات هي  اختلافات في طريقة ادراك الموقف، وكيفية التعامل معه، خصوصا اذا كان الموقف خارجي "اعني وجود مثير خارجي استدعى الفرد ان يعالجه لغرض التكيف مع البيئة"، ونود ان نضيف هنا  معلومة بهذا الصدد وهي ان الناس تفترض ان الادراك يعكس تماما الحقيقة بدقة، ولكن الادراك ليس بمرآة. 

 فأولا الحواس البشرية لا تستجيب الى كثير من المظاهر التي تحيط  بنا. والدليل على ذلك  ان بعض الحواس لدى بعض الحيوانات اقوى بكثير من الانسان كما هو الحال حاسة الشم  لدى الكلاب، او ادراك سماع الاصوات ذات الطبقات العالية التي يسمعها الخفاش.

ثانيا، يدرك الانسان احيانا مثيرات غير موجودة، والامثلة كثيرة  منها ان حالة المرض والتعب والملل واستخدام العقاقير يمكنان الانسان من تحويل مجموعات  سريعة من الصور الثابتة الى صور متحركة (شريط سينمائي) وتجعله ينتبه الى الشعاع الخافت (الصور اللاحقة) بعد ان يحدق في الضوء الباهر القوي.

ثالثا،يعتمد الادراك البشري بشكل كبير على الدوافع،والخبرات السابقة والتوقعات المحتملة.

نود ان نؤكد ان هذه الدراسات النفسية البحتة، هي دراسات تختلف تماما عن الدراسات الفسيولوجية لعمل الدماغ او طريقة التفكير، فالبعض  يعتقد ان العمليات المعرفية تقدم على اساس من الوقائع والاحداث الجسمية في الجهاز العصبي والدماغ  وهي ليست كذلك تماما بل نستفيد من معطيات التحليل الفسيولوجي الا ان اهتمام هذا التخصص يقوم على اساس البحوث والنظريات غير الفسيولوجية بالكامل.

ان ما يصدر من الانسان من سلوك له دلالة ومعنى حتى وان صعب تفسيره، ويؤمن علماء النفس ان كل سلوك لابد وان يكون وراءه دافع، فالطالب في المدرسة لديه دافع للتعلم، وطالب الجامعة لديه ايضا دافع، والانسان العادي حينما يؤدي عملا ايضا يكمن وراء عمله هذا،  دافع  ولكن سؤالنا:

كيف يدرك الفرد هذا الدافع ويحوله الى سلوك ؟

ترى الدراسات النفسية ان السلوك الادراكي غير قابل للملاحظة المباشرة ولابد من الاستدلال عليه من ردود افعال الناس او من خلال التقرير الذاتي مثل اللفظ او الكتابة او الايماءات الوجهية او الانفعال او حتى الصمت الذي يبديه الفرد، فحينما يهز زميلك رأسه خلال حديثك معه ليدلل على الفهم اوالاستماع اليك مع انه في الواقع صامت قد يفكر بشئ آخر لا علاقة له بما تتحدث عنه وهو يدلل على انه ادرك ما تعني، او حينما تتكلم معك زوجتك وانت ذهبت بعيدا في التفكير في موضوع آخر، فان ما يحدث هو التشتت الادراكي، وهو يعني انك تستمع اليها وبنفس الوقت تفكر بموضوع آخر، هذه القدرة يمتلكها الدماغ ويمكن ان يستخدمها الناس اذا اجادوا اتقانها، ولو انها تتعب الدماغ الى حد ما،   ويحدث عادة حينما يريد الانسان ادراك مثيرين في آن واحد، قد ينجح او ربما لا ينجح، اذ يعتمد الموقف على قوة احد المثيرين وشدته،  لذا فان الدلالات لا يمكن رصدها بدقة، ولكن يقول علماء النفس يتبع الادراك دائما الاحساس والانتباه، حيث يعتمد الادراك على حاسة واحدة او اكثر حسب الموقف، فحينما تسوق سيارة وانت مستغرق في التركيز وبنفس الوقت  تستمع الى خبر مهم  في  الراديو او الى اغنية جميلة تثيرك،  تدرك المثير الاكثر تأثيرا من غيره  رغم تباين خبرات الناس في هذه العمليات وطريقة الادراك ومعالجة الموقف في اللحظة التي يشعر بها الفرد ومعرفة  حجم ما ادركه وقوته.

وهناك الادراك الاجتماعي الذي يؤكد على محاولة فهم دوافع سلوك الاخرين في المواقف الاجتماعية وبنفس الوقت التعرف على الاسباب الحقيقية التي تدفعهم للتصرف بهذه الطريقة او تلك، واستطاع علماء النفس ايضا التعرف على الاخرين مباشرة من خلال طريقة طرح الاسئلة او اسلوب حديثهم عن موضوع معين او معرفة اتجاهاتهم نحو قضية ما او موضوع حساس يهم الجميع.

ان الادراك يشمل انشطة معرفية عديدة في حياة الفرد ويدخل الوعي ودرجته ضمن هذه الانشطة  ايضا في التاثير على الادراك وكذلك الذاكرة التي تدخل ايضا  في الادراك من عدة نواح لا سيما ان الحواس لها القدرة على اختزان المعلومات التي تصلها لفترة عبر عملية الادراك، ولا ننسى ان اللغة لها تأثير فعال في المعرفة وفي صياغة الادراك بطريق غير مباشر. وهكذا نستطيع القول ان العمليات المعرفية متشابكة مع بعضها البعض، وتناولنا فقط جانب واحد من عملية الادراك بمستوياته البسيطة، ولم نتناول الادراك البصري عند الاطفال حديثي الولادة او عند الحيوانات حديثة الولادة، فضلا عن الدراسات الاخرى عن التكيف الادراكي، والتشوه الادراكي، والادراك البصري، والادراك السمعي، وكيف يعاني  مرضى العقل من اختلال في اداء هذه الوظائف المهمة.

* استاذ جامعي وباحث سيكولوجي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 14 آب/2007 -30/رجب/1428