في ذكرى استشهاده: دعوة لإقتفاء راهب بني هاشم

علي الطالقاني

 لاشك ان حياة العظماء والعلماء والأئمة الصالحين تزخر بكثير من المواقف العظيمة والكبيرة التي أمتازو بها عن غيرهم، من هنا كانت شخصية الامام موسى بن جعفرالكاظم عليه السلام حالة فريدة في الائمة، وكذلك باقي القيادات الإسلامية، فلم يشهد تاريخنا الاسلامي شخصية مثله، إمتلكت الشجاعة والاصرار والتحدي رغم كل المصاعب، من أجل إقامة حكم عادل بكل مايحمله من صفات حسنة في الأرض. حيث كان كالبدر المنير الذي يضيء من حوله، فنجد حتى اعداءه يعترفون بزهده وتقواه وعدله واعراضه عن الدنيا ومادياتها.

عانى الامام الكاظم (عليه السلام) من الخط التقليدي في المجتمعات الاسلامية منذ بدايات تحركه إبان عهد الخليفة العباسي المنصور، والمهدي بعد أبيه المنصور، ومع الخليفة الهادي وصولا لهارون الرشيد، وتعرض لضغوط عديدة حاولت عزله عن جماهيره وخلق حاجز بينه وبينها، لكنه مضى في طريقه بثبات، لأنه يؤمن تمام الايمان بالأمانة الكبيرة التي يحملها، وأنه صاحب رسالة سماوية لابد أن يؤديها مهما بلغ حجم التحديات.

وبالفعل شق الامام الكاظم طريقه وسط الاشواك والصعاب، ولم تشغله أية قضية جانبية عن قضيته الكبرى، مع أن هناك محاولات كثيرة كانت تحاك ضده لجره إلى نزاعات جانبية على أمل أن تعرقل انطلاقته الاصلاحية وتستوعب طاقاته بشؤون غير ذات أهمية، لكنه وبنظرته ذات الافق البعيد  التي يتميز بها في كل المواقف أحبط كل تلك المحاولات بحكمة وحنكة، وواصل مسيرته ومن ورائه كل من أحبه حتّى منّ الله عليه بالشهادة.

وبعد الانتصار الخالد الذي حققه في البلدان الاسلامية من نشر مختلف العلوم بذلت قوى الجهل والظلام جهودا خيالية لإسقاط الصحوة الإسلامية التي  كانت ترعى من قبله عليه السلام، لكن هذه الجهود كانت تتحطم على صخرة التلاحم الاسطوري بين الامة المجاهدة وبين قيادتها الواعية آنذاك المتمثلة في الإمام سلام الله عليه، حيث لجأت هذه القوى بعد أن واجهت فشل ذريع على مختلف الاصعدة ـ إلى محاولة استيعاب الحركة الإصلاحية من الداخل عن طريق العناصر المشبوهة والمتواطأة مع دوائر بني العباس، لكن وعي الإمام  ووعي النخبة من تلامذة الإمام أحبط كل تلك المحاولات،حينها لفظت الثورة الاصلاحية  العناصر الدخيلة من بنيتها واستطاعت ان تميز الخط الأصيل عن غيره. وهو أمر ما كان ليتم لولا المستوى العالي من الادراك والفهم  لمجريات الاحداث.

ثم عادت دوائراستعمار بني العباس من جديد إلى خطوة خطيرة تستهدف القضاء على معطيات حركة الإمام بشكل نهائي، وذلك عن طريق سجنه الذي دام ثمان سنوات ومنهم من قال اثنتي عشرة سنة قد قضاها في العباد فكان يصوم النهار ويقوم الليل وكان يقضي وقته في الصلاة والسجود والدعاء، ولم يضجر ولم يسأم من السجن واعتبر التفرّغ للعبادة من أعظم النعم، وكان يقول في دعائه اللهم انك تعلم اني كنت اسألك ان تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد.

كما سجن الإمام الكاظم عليه السلام أوّل مرة في عهد محمد المهدي العباسي. وسجن مرة أخرى في عهد موسى الهادي العباسي سنة و بضعة أشهر

و سجنه عليه السلام هارون الرشيد العباسي مدة طويلة عاش فيها في ظلمات السجون ينتقل من سجن إلى سجن إلى أن انتهى الأمر إلى سجن السندي بن شاهك، و لا ندري ما الذي لاقاه الإمام من عذاب حتى طلب سلام الله عليه من الله تعالى انهاء حياته الشريفة.

وأخيرا وضع جسد الإمام الكاظم عليه السلام على مفترق الطريق عند الجسر ببغداد ثلاثة أيام ينادى عليه هذا إمام الرافضة.  ليشترك في هذه الجريمة بعض وجهاء بني العباس والتنظيمات الاخرى التي خذلت الاسلام.  

 أجل وأن يستكمل هذا المخطط الرهيب حلقاته بحثت أجهزة حكومة بني العباس عن غطاء ديني ليكون البديل للإمام الكاظم عليه السلام. وبعد دراسة الأجواء العامة في البلدان الاسلامية وقع الاختيار أخيرا على هارون الرشيد.  

لقد راهنت قوى الدولة العباسية على ذلك القائد  المسمى "الرشيد"  ظناً منهم بأن القاعدة الواسعة من مريديه ستقف وراءه في ساعة الصفر المرتقبة، وعند ذاك سوف تتم عملية التحول في شكل الحركة الاصلاحية وستعود الأمور إلى سابق عهدها قبل ظهور الإمام الكاظم عليه السلام.

لكن قبل أن تحين ساعة الصفر أدركت الجماهير وبعناية الله سبحانه ما يدبّر ضدها في الخفاء، فتم اكتشاف المخطط الاستكباري، وسرعان ما تساقطت رموزه أمام محبي الامام. وخلافاً لما توقعه الاستكبار، فإن الذي راهن عليه، سقط على المستوى الشعبي منذ اللحظة التي كشف فيها عن تورطه في هذا المخطط وخرج محبي الإمام ليعلنوا بكل وضوح موقفهم الرافض للرشيد ، وخصوصا بعد استشهاد الإمام  وكان في مقدمته أتباعه ومقلدوه الذين توهم الاستكبار أنهم سيقفون إلى جانبه، لكنهم بعد أن عرفوا حقيقة موقفه تخلوا عنه، لأن الأمة وفي مرحلة الوعي التي صنعتها مرجعية الامام الكاظم عليه السلام كانت تريد من يواجه الاستكبار ومن يتصدى بجدارة وقوة لحرب الكفر العباسي ضد الإسلام في المعركة الحضارية الشاملة. 

وهكذا استطاعت الجماهير المخلصة من أتباع أهل البيت عليهم السلام  أن يلحقوا هزيمة أخرى معنوية وتاريخية لحكومة بني العباس وأن يؤكدوا التحامهم بأئمتهم الواعين المجاهدين الذين أرادوا بناء المجتمع الاسلامي الصالح والدولة الإسلامية التي تجسد حكم الله في الأرض. 

إن انتصار الامام الكاظم بشهادته خلق مرحلة جديدة من الوعي الاسلامي، فقد صنع عليه السلام  تياراً ثورياً واعياً يواجه القوى الاستكبارية  ويجاهد من اجل اقامة حكم الله في الارض، وهو حلم كاد أن يموت في النفوس بعد الاحباطات المتكررة التي تعرضت لها تلك الفترة. 

لقد استطاع الامام عليه السلام ان يستوعب الامة بمختلف طبقاتها لأنه آمن بأنها القادرة على صنع مصيرها الذي تريد، اذا توفرت لها القيادة التي تبعث فيها روح الثورة والعطاء، وتعيد ثقتها إلى نفسها. ولأنه أخلص لها كل الاخلاص فكانت آلام كل فرد منها هي آلامه وهمومه.. لم يعش الإمام الكاظم عليه السلام  يوماً واحداً بعيدا عن أمته ، كان معهم دائما يحملهم في قلبه هماً واملاً  لم يكن عليه السلام يتعامل مع القيادات الاخرى على انها امتياز خاص يعزله عن مجتمعه، بل تعامل معها على انها مسؤولية كبيرة لابد ان ينهض بأعبائها على اكمل وجه، فكان الأمام بكل مايحمله هذا المعنى الذي يرسم الطريق ويسير فيه في المقدمة. 

لقد تعرفت الامة على إمامها المعصوم عن قرب، فليس هناك أي حاجزبينهما، سوى السجن كان معها اينما كان .. ومعها وهو المنفى .. لم تبعده المسافات الجغرافية عنها لأنها في قلبه ولأنه في قلبها. 

هذه العلاقة الرائعة بين الإمام وشيعته، جعلته لايجد أي مشكلة في طريقه الطويل مهما كانت الصعاب والتحديات، كما جعلت جماهيره لاتجد أي صعوبة في السير وراءه لأنها ادركت جيدا أنه يسيربها إلى حيث يريد الإسلام. 

لقد اختط الامام الكاظم عليه السلام هذا النهج في حياته مع الامة منذ البداية، فلحقت به الجماهير بثقة واخلاص في كل المواقع الإسلامية التي آمنت بنهج أهل البيت عليهم السلام في طريق تحكيم الإسلام في الحياة. لقد صنع الوعي والتحدي والوضوح، لذلك لم يأبه بما يتقوله المتقولون .. ولم تأبه قواعده الصابرة بكل الإساءات والحملات المغرضة، لأن الوعي كان أكبر من أن تنهيه همسات القاعدين. 

لقد استطاع الكاظم عليه السلام ان يرسم صورة الإمام الذي تحتاجه الأمة في مرحلتها التي تخوض فيها اخطر التحديات من قبل أعداء الإسلام، وهي صورة لم تكن موجودة في الفترة الذي ابتدأها بين العلماء الذين عاصروه، فكانت بعض الاوساط تمارس حملاتها التضليلية في الخفاء خوفاً من غضبة الجمهور الواعي، ولأنها لايحلو لها الصيد إلا في الماء العكر، وتركهم الامام يتهامسون ويضللون في الاقبية المظلمة، فيما كان قدس سره يزمجر بوجه قوى الكفر والظلال ويتحدى القوى المعادية للإسلام تحت ضوء الشمس. 

إن الامام الكاظم عليه السلام حقق الاصلاح الأكبر في العالم الاسلامي، وفرض فكرته الاصلاحية على الواقع ، دون أن يأبه بردود الفعل المضادة، وتلك هي القيمة الحقيقية للمشروع الاصلاحي، وتلك هي الصفة الأساسية للمصلح، فليس هناك ما يضعف العزم عنده مادامت الرؤية واضحة، وهذا ماجعل الامة تلتف حوله، لأنها وجدت فيه القائد الواثق من نفسه وبمشروعه وأمته، فمنحته كل الثقة والولاء.

أبعاد من حياة الإمام الكاظم عليه السلام

النقطة الأولى : علاقة الإمام ببقية العلماء

ساهم الإمام جعفر الصادق عليه السلام في فتح المجال العملي والمعرفي في  زمانه , مما استدعى ان  يستقطب الكثير من طلبة العلوم الدينية من كافة أنحاء الدولة الإسلامية وقد سجلت مدرست ابيه الصادق عليه السلام  أكثر من أربعة ألاف طالب علم, أستطاع الإمام الكاظم ان يرعاها ويدير شؤونها لانها مدرسة خرجت ثلة مؤمنة أستطاعت ان تنشر العلوم في مختلف البلدان، ولما توفي الإمام الصادق عليه السلام نجد أن الإمام الكاظم عليه السلام ركز على هذه النخبة من العلماء , فتعامل معهم وفق منحنيات ثلاثة:

1- الاهتمام بهذه الشريحة المخلصة من خلال تزويدهم بالعلوم والمعارف.

2- رفع مستواهم العلمي والأخلاقي والإيماني فقد خصهم عليه السلام بأحاديث دون غيرهم , ولذا نجد بعض الروايات تقول : قال لبعض شيعته  والمقصود بهم أولئك الثلة الصادقة المؤمنة وهي النخبة العلمائية , فأغدق عليهم من الأحاديث ما يطورهم أخلاقيًا وسلوكيًا وإيمانًا .

3- حث الإمام عليه السلام بعض أصحابه لخدمة الإسلام بما يتوافق تخصص كل واحد منهم , فتجده يوجه هشام بن الحكم رضوان الله عليه إلى الخوض في مسائل العقيدة الإسلامية لتخصصه في هذا الجانب , ويدفع علي بن يقطين بالاحسان إلى المحتاجين والفقراء لتمكنه من قضاء حوائجهم بحسب وظيفته الحساسة في جهاز الدولة , ويرشد البعض الآخر للتكلم في الجانب الفقهي وهكذا .

النقطة الثانية : علاقة الإمام بالأمة الأسلامية

ركزالإمام الكاظم عليه السلام على الجانب التربوي والتعليمي لأبناء الأمة الإسلامية والتي تتركز على تفعيل محاور ثلاثة :

1- المحور الإيماني .

2- المحور الأخلاقي .

3- المحور السلوكي .

فهاهو الإمام يقدم النصيحة لـ "بشر الحافي" الذي يسمع الغناء وتنبعث من بيته أصوات ألآت الطرب, فينبهه الإمام عليه السلام ويقومه إيمانيًا وأخلاقيًا وسلوكيًا. وهاهو يتعامل مع العمري الذي يسبه ويشتمه بالتي هي احسن وقضاء حاجته فيربيه فيقومه هو الآخر, وهاهو يتفقد الفقراء والمحتاجين ليرفع من مستواهم المعيشي ويحسنه حتى قال البعض من أهل بيته: عجبت لمن وصلته صرة موسى ويشتكي القلة.

النقطة الثالثة: علاقة الإمام والخلفاء

إن الإمام الكاظم عليه السلام , أبدى معارضة شديدة في وجه حكومة بني العباس على تعدد الخلفاء في زمانه, فكان موقفه لا يختلف عن آبائه وأجداده الطاهرين في المواجهة لما يفعله الظالمون تجاه الأمة الاسلامية, فكان عليه السلام يتحمل الأذى والظلم في سبيل ان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, ولم يتوانى لحظة واحدة عن هذا الأمر حتى رُمي عليه السلام في السجن وفي ظلم الطوامير ومع ذلك البلاء وتلك المحنة لا زال يغدق عطاءً ونماءً حيث يقول:

(الهي إني سألتك أن تفرغني لعبادتك ففعلت).

شبكة النبأ المعلوماتية- الجمعة 10 آب/2007 -26/رجب/1428