مصطلحات نسوية: التنوير

التنوير: Enlightenment

شبكة النبأ: "عصر التنوير" مصطلح يستخدم لوصف فترة من العنفوان في الحركة الفلسفية والفكرية يمكن تأريخها من قيام الحرب الأهلية في إنجلترا عام 1688 وحتى اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789 وكان مفكرو هذه الفترة يعتقدون بأنهم خرجوا من "عصر مظلم" تسوده الخرافة والجهل إلى حقبة جديدة من العقلانية العلمية والتعقل والعدالة الاجتماعية. وأكد بعض الفلاسفة مثل جون لوك على أن المعرفة لا يمكن اكتسابها إلا عن طريق ملاحظة الظواهر الطبيعية، ولذلك رفض التمسك بالمصادر التقليدية للسلطة مثل الكتاب المقدس دون عرضها على العقل. كما أن بعض مؤلفات هذه الحقبة – مثل "العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو (1762) – أدت إلى طرح مفهوم الحرية المدنية الذي مهد الطريق فيما بعد لكل من الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية.

ولم تكن النسوية جزءاً من مشروع التنوير، إذ كانت آراؤها المتعلقة بالحقوق الفردية موجهة إلى الرجال إلى حد كبير، وإن كانت الثورة الفرنسية قد أفرزت بعض الداعيات النسويات الراديكاليات مثل ماري أوليمبي دي جورج التي استعانت بصراحة بخطاب التنوير في مقالتها المعنونة "إعلان حقوق النساء والمواطنين" (1791)، وقد أعدمت بالمقصلة في عهد روبسبيير بسبب تطرفها الخطير. إلا أن النسوية تدين بالفضل للأفكار التي ولدت في عهد التنوير، لأنه خلق نموذجاً للإصلاح الإنساني ألهم الموجة النسوية الأولى، وأثر تأثيراً مباشراً على بعض المفكرين الرواد في الحركة مثل جون ستيوارت ميل وماري ولستونكروفت.

متعلقات

عصر التنوير(1)

Enlightenment) مصطلح يشير إلى القرن الثامن عشر في الفلسفة الأوروبية وغالبا ما يعتبر جزءا من عصر أكبر يضم أيضا عصر العقلانية. المصطلح يشير إلى نشوء حركة ثقافية تاريخية دعيت بالتنوير والتي قامت بالدفاع عن العقلانية و مبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة (بدلا من الدين. رواد هذه الحركة كانوا يعتبرون مهمتهم قيادة العالم إلى التطور والتحديث وترك التقاليد الدينية والثقافية القديمة والأفكار اللاعقلانية ضمن فترة زمنية دعوها "بالعصور المظلمة".

شكلت هذه الحركة أساسا وإطارا للثورة الفرنسية ومن ثم للثورة الأمريكية وحركات التحرر في أمريكا اللاتينية واتفاقية 3 مايو في كومونولث بولوني-ليثواني. كما مهدت هذه الحركة بالتالي لنشوء الرأسمالية ومن ثم ظهور الالاشتراكية. بالمقابل تقارن هذه الفترة بالباروكية المتأخرة والعهود الكلاسيكية في الموسيقى, والعهد الكلاسيكي الجديد في الفنون كما شهدت بروز حركة توحيد العلوم التي تضمنت الإيجابية المنطقية.

أهم الفلاسفة والمفكين في عصر التنوير كان: فولتير وجان جاك روسو وديفيد هيوم وجميعهم قاموا بمهاجمة مؤسسات الكنيسة والدولة القائمة.

شهد القرن الثامن عشر أيضا صعود نجم الأفكار الفلسفية التجريبية, و تطبيقها على الاقتصاد السياسي والعلوم والحكومات كما كانت تطبق في الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء.

إذا اعتبرنا أن عصر التنوير عصرا قصيرا, عندها يجب أن نعتبره مسبوقا بعصر العقلانية وقبله بالنهضة والإصلاح. تلا عصر التنوير الرومانسية.

في تحرير مسألة التنوير(2)

لعلَّ من مقتضيات المنهج الذي ارتأينا اعتماده في هذه الدراسة، أن نسوقَ بين يدي الموضوع، الحديثَ في تحرير مسألة التنوير، قبلَ أن ننتقل إلى تَنَاوُل مفهوم التنوير في التصوّر الإسلامي، بما يقتضيه المقام من معالجة لشتى جوانبه، والخلوص إلى تبيان وجه الحق فيه.

أولاً : التنوير لغةً :

من حيث الدلالة اللغوية لمصطلح التنوير، جاء في لسان العرب لابن منظور، أن التنوير هو وقتُ إسفار الصبح، يقال قد نوَّر الصبح تنويراً، والتنوير : الإنارة، والتنوير : الإسفار. ويقال : صلَّى الفجر في التنوير.

وفي المعجم الوسيط، استنار : أضاء. ويقال : استنار الشعبُ : صار واعياً مثقفاً. وـــ به : استمدَّ شعاعَه. وـــ عليه : ظَفِرَ به وغَلَبَهُ. ونَوَّر اللهُ قلبَه : هداه إلى الحق والخير..

ويطلق اسم النور على الهداية كما في قوله تعالى { اللَّه وليّ الذين آمنوا يُخرجهم من الظلمات إلى النور}، أي الهداية { أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً }، أي هداية { اللَّه نور السمـوات والأرض}، أي هادي أهلها.

وجاء في كتاب الكليات : >النور هو الجوهرُ المضيء، والنورُ من جنس واحد، وهو النور بخلاف الظلمة ؛ إذ ما من جنسٍ من أجناس الأجرام، إلا وله ظل، وظُله الظلمة، وليس لكل جرم نور، وهذا كوحدة الهدي وتعدّد الضلال، لأن الهدي سواء كان المرادُ به الإيمان أو الدين، هو واحد، أما الأول فظاهر، وأما الثاني، فلأن الدين هو مجموعُ الأحكام الشرعية، والمجموعُ واحدٌ، والضلال متعدّدٌ على كلا التقديرين، أما على الأول، فلكثرة الاعتقادات الزائغة، وأما على الثاني، لانتفاء المجموع بانتفاء أحد الأجزاء، فيتعدّد الضلال بتعدّد الاِنتفاء .

وهذا كلام دقيق وتفصيل عميق لدلالة النور الذي منه يُشتق التنوير. ويثير الانتباه أن ما ذهب إليه الكفوي (تـ : 1094هـ/1683م) في كتاب الكليات، من أن النور واحد والظلمة تتعدّد، يَتَطَابَقُ مع ما جاء في القرآن الكريم من جمع الظلمة إلى الظلمات، وإفراد النور. كما سيتبيَّن لنا في موضعه.

وجاء في معجم ألفاظ القرآن الكريم، النور : المعارف والحقائقُ والدلائل التي تجلو الشك وتجلب اليقينَ في العقائد، وتنفي البلبلة والوسوسة، وعقائدَ الضلال. فليس النور أوهاماً وتخيُّلات، ولكنه حقائق ودلائل مقطوعٌ بصحتها وبسلامتها من الشك والريب، مبرأةٌ من العيوب. وهذا التعريف اللغويّ يحمل دلالةً فكريةً وثقافيةً لا ينبغي إغفالها في هذا السياق.

ثانياً : التنوير اصطلاحاً وفلسفةً :

ظهر مصطلح التنوير (ENLIGHTENMENT) في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا تعبيراً عن الفكر الليبرالي البورجوازي ذي النزعة الإنسانية العقلية والعلمية والتجريبية. ويتضمن هذا الفكر نزعةً ماديةً واضحةً بعد إقصاء اللاهوت، وذلك بإحلال الطبيعة والعقل بدلاً من الفكر الغيبي الثيولوجي والخرافي في تفسير ظواهر العالم ووضع قوانينه ..

والتنوير اتجاهٌ ثقافيٌّ ساد أوروبا في القرن الثامن عشر بتأثير طبقة من المثقفين من أمثال (فولتير)، و(ديدرو)، و(كوندورسيه)، و(هولباخ)، و(بيكاريا)، الذين أخذوا عن الفلاسفة العقليين، (ديكارت)، و(سبينوزا)، و(لايبنتس)، و(لوك)، والذين طبعوا القرنين السابع عشر والثامن عشر بطابعهم الثقافي، حتى أُطلق على هذه الفترة اسم عصر العقل (THE AGE OF REASON)، وكان التنوير نتاجه.

ويمكن بشكل عام، تقسيم أفكار التنوير في ثلاث مجموعات تحمل عناوين : (العقل، والطبيعة، والتقدم)، وتكوّن في مجموعها الفلسفةَ الطبيعية، والأخلاق الطبيعية، وأساسها العلم، وكان الإيمان به مطلقاً كالإيمان بالعقل ..

لقد نشأت فكرة التنوير، أول ما نشأت، في البيئة الأوروبية إلحاديةَ المنزع، فقد كانت روح التنوير إلحادية، بل وشديدة العداء للكنيسة وللسلطة متمثلة في الدولة، وللخرافة وللجهل والفقر، وغَالَى التنويريون في دعوتهم للعودة بالإنسان إلى الطبيعة ..

والتنوير في الفكر الأوروبي، يعنى التحرّر من التعاليم الموروثة التي تمَّ القبول بها على أساس سلطة ما، كما يعني إعادة صياغة الحياة على أساسٍ من النظر العقلي وإرادة العمل عن طريق العقل ..

ويمثّل التنوير حركةً عقليةً أوروبيةً رأت في العقل الوجودَ الحقيقيَّ للإنسان، وسعت إلى تحرير الحضارة من الوصاية الكنسية والنزعات الغيبية والخرافات، وآمنت بتقدم الإنسانية عن طريق البحث العلمي..

ويرجع الفضل إلى الفيلسوف الألماني (كانت)  في استخدام مصطلح التنوير كتعبير عن الحركةالعقلية التي بدأت في أوروبا في القرن السابع عشر وبلغت أوجها في القرن الثامن عشر، وقد امتدَّ تأثيره في الحضارة الأوروبية كلِّها، وفي الشعوب المتأثرة بالحضارة الأوروبية..

فالتنوير إذن، كمصطلح شائع في الحياة الفكرية، هو مصطلحٌ أوروبيٌّ النشأة والمضمون والإيحاءات، بل إنه عنوانٌ على نسق فكري سَادَ في مرحلة تاريخية من مراحل الفكر الأوروبي الحديث، حتى ليقال كثيراً، في تقسيم مراحل هذا الفكر : "عصر التنوير". وهذا المفكر من عصر التنوير. وهذا الفكر من أفكار (عصر التنوير)، أو ضد أفكار ذلك العصر ..

مدخل الى التنوير الاوروبي(3)

يشكل كتاب هاشم صالح «مدخل الى التنوير الاوروبي» الذي صدر عن دار الطليعة ببيروت 2005، مساهمة نقدية جادة في حركة التنوير العربية لمناقشة هذه الاشكالية المعقدة في مواجهة ايديولوجيا الاصولية التي باتت تتحكم في الثقافة العربية في العالمين العربي والاسلامي ومحاولة رصدها وتفكيكها والكشف عن جذورها وعوامل نموها و تطورها.

ينشغل هاشم صالح منذ سنوات طويلة في موضوعة الفكر العربي ـ الاسلامي والفكر الاوروبي معا، الى جانب إسهاماته العديدة في ترجمة وتقديم فكر وفلسفة آركون النقدية الى اللغة العربي.

وكتاب «المدخل الى التنوير الاوروبي»، هو محاولة أخرى صالح يكشف بها عن مراحل تطور ظاهرة الاصولية وتطور ايديولوجيتها في العصور الوسطى في اوروبا، التي بدأت في ايطاليا مركز البابوية المسيحية، وكذلك في هولندا وانكلترا، مرورا بعصر النهضة، الذي شكل قطيعة ابستمولوجية كاملة مع العصور الوسطى التي قامت على استقلالية العقل وليس النقل وعلى قطيعة مع الفلسفة بالقياس الى الدين، وكذلك على الفهم العقلاني التنويري للدين.

كما قارن صالح بين التنوير الاوروبي، الذي استطاع تحقيق منجزات باهرة منذ الازمنة الحديثة التي أنتجت الحداثة الاوروبية، وبين التنوير العربي الاسلامي الذي ما يزال لم يتحقق بعد، حيث عاش العرب قطيعتين، الاولى مع الماضي، عندما ابدع العرب فكرا عقلانيا تمثل بحركة المعتزلة والفلسفة الاسلامية العقلانية، التي انتهت بتدهور الشروط الاجتماعية والاقتصادية وانحسار فلسفة ابن رشد وهزيمة العقلانية. والثانية مع الحداثة الاوروبية التي حققت نجاحا باهرا في مضمار التقدم الاجتماعي والمعرفة العلمية والتقنية والفلسفة العقلانية لعصر التنوير.

يتضمن الكتاب مقدمة وستة فصول تتمحور حول هيمنة العقل الاسطوري على الوعي التاريخي في العصور الوسطى في اوروبا وانبثاق الازمنة الحديثة مع عصر النهضة وحركات الاصلاح الديني وأنسنة الادب والفن والفلسفة والعلم، وذلك بفضل رواد النهضة الاوروبية الاوائل الذين واجهوا ممارسات الاصولية المسيحية وارهابهم وملاحقة التنويرين، ومصادرة كتبهم وإحراقها، وسوقهم مع اتباعهم الى محاكم التفتيش الجهنمية. وكان في مقدمتهم بيترارك وايراسموس وجيوردانو برونو وغيرهم.

ويبحث المؤلف في العلاقة بين العقل والايمان، وأثر الحضارة العربية الاسلامية على اوروبا، وذلك بفضل العلماء العرب الذين ترجموا كتب ارسطو وشرحوها وأدخلوا هامشا من العقلنة على الايمان، وكذلك ترجمة امهات الكتب العربية الى اللغة اللاتينية في الطب والفلك والفلسفة والرياضيات وغيرها.

كما يبحث صالح في تطور الوعي الاوروبي الذي أنتج القطيعة الابستمولوجية الكبرى مع الماضي بفعل رواد عصر التنوير الاوائل، امثال غاليلو وسبنيوزا وتورغو وفولتير، وغيرهم الذين ارسوا دعائم التنوير والتقدم الفكري والاجتماعي، موضحا مفهوم التنوير ومدلولاته المختلفة والصعوبات التي واجهت الحداثة الفرنسية خلال الصراع الذي احتدم بين التنويريين والاصوليين ودور ديكارت الريادي الذي كان اول من استخدم مصطلح التنوير في القرن السابع عشر بالمعنى الحديث.

غير ان مفهوم التنوير لم يتخذ شكله الفكري والنضالي الا في القرن الثامن عشر. وكان لفولتير دور هام في الدفاع عن قضايا الحق والعدالة والدعوة الى فهم الدين من منظور جديد يقوم على الحرية والتسامح والعمل من اجل الاخرين، ويخالف الفهم الاصولي المنغلق على نفسه الذي يقوم على التعصب والخوف والتكفير ونبذ الآخر المختلف.

ان الهدف الاساسي الذي يريد المؤلف الوصول اليه، هو ان معركة التحديث والتنوير العربية ـ الاسلامية، من الممكن ان تنجح اذا ما تغيرت الرؤى والمواقف القديمة من العلاقة بين الدين والمجتمع، وبين الدين والدولة، وذلك بتفكيك عقلية القرون الوسطى ونزع القدسية عنها. فهو يرى ان الوعي الاسلامي دخل في أزمة حادة مع ذاته، وهي أزمة رهيبة لم يشهد العالم الاسلامي مثلها من قبل، بدأت منذ احداث سبتمبر (ايلول) عام 2001، وعولمة الحركات الاصولية وما تبعها من احداث جسام. وهي في الحقيقة أزمة حداثة فكرية وفلسفية ومجتمعية لا تختلف في شيء عن الازمة التي مر بها الوعي المسيحي في اوروبا مع ذاته منذ ثلاثة قرون تقريبا. والفرق الوحيد بين حداثتهم وحداثة العرب والمسلمين، هو ان الاوروبيين كانوا قد نجحوا في معركتهم ضد الاصولية المسيحية وحسموها، في حين ما زال العرب والمسلمون يتخبطون فيها، وذلك لأنهم يريدون التوصل الى الحداثة بدون أن يدفعوا ثمنها، اي الابقاء على القديم كما هو من دون تغيير.

وقد بينت تجربة الحداثة في اوروبا ان الاصلاح الديني كان قد سبق الاصلاح السياسي واحتضنه وفتح الطريق أمامه، ولذلك فإن دعوة بعض المثقفين العرب، كما يقول صالح، الى إجراء إصلاحات سياسية بدون مواجهة الحركات الاصولية وايديولوجيتها لن يحقق التنوير الديني ولا يؤدي الى نتيجة تذكر. فما دام الفقيه القديم والاصولي الراديكالي مسيطرا على العقول، فلا يمكن تحقيق الوحدة الوطنية في بلدان متنوعة الاثنيات والاديان والطوائف. وسوف تستمر اشكالية التنوير والتحديث تطرح نفسها على العرب والمسلمين وبقوة اكبر بحيث لا يمكن الافلات منها. آملين مواصلة هذه الرحلة الهامة لحركة التنوير الاوروبية والعربية وتحقيق ما وعد به من تأسيس مشروع «علم الاصوليات المقارن» الذي نحن بأمس الحاجة اليه الآن لتصفية حساباتنا التاريخية مع تراثنا وكذلك مع واقعنا الملتبس.

قراءات في التنوير الألماني.. لماذا تقدمت أوروبا وتأخر غيرها؟(4)

كان شكيب ارسلان قد طرح سؤاله المشهور في القرن التاسع عشر او اوائل القرن العشرين: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وانا هنا اعكس هذا السؤال لكي اصل الى نفس النتيجة. ولا اعتقد ان المثقفين العرب قد اجابوا عن سؤال شكيب ارسلان في هذه اللحظة على الرغم من كل محاولات تجديد الفكر العربي، او نقد التراث، او مراجعة الماضي.. الخ. والسبب هو انه لكي نجيب عنه ينبغي ان نعرف سبب تقدم الغير وتأخر الذات في آن معا. وفي كلتا الحالتين لم ننجح في المهمة حتى الآن على الرغم من بعض المحاولات الجادة والمخلصة هنا او هناك.. واعتقد شخصيا ان سبب الفشل يعود ليس فقط الى عدم الجرأة الى الذهاب الى اعماق الاشياء، وانما الى عدم توافر الكفاءة العلمية والفلسفية للقيام بذلك. ولا ينبغي ان نخجل من الاعتراف بهذه الحقيقة، ومن العودة الى مقاعد الدراسة من جديد لكي نتعلم طريقة التفكير العلمي بكل مناهجها ومصطلحاتها وادواتها. فهي وحدها القادرة على تشخيص المرض العربي او الاسلامي الذي نعاني منه والذي يبدو انه يستعصي على التشخيص والعلاج حتى الآن. بل انه تفاقم في الآونة الاخيرة وبخاصة بعد تفجيرات 11 سبتمبر الارهابية وما تلاها من احداث وتفاعلات.

مهما يكن من أمر فإن استعراضي لتاريخ التنوير الاوروبي لا يهدف الى شيء آخر، ولا ابغي منه فقط فهم سرّ تقدم الآخرين وتفوقهم، وانما ايضا كيف تحمل المفكرون مسؤولياتهم في لحظة ما من لحظات التاريخ تجاه اممهم، وكيف نجحوا في تشخيص عللها وامراضها.

لم تكن حالة الامة الالمانية اقل سوءا من حالة الأمة العربية بعد انتهاء حرب الثلاثين عاما (1618 ـ 1648)، وهي الحرب الاهلية الرهيبة الي دمرت مدنها وقراها وقضت على مئات الالوف من سكانها. ومع ذلك فإن الفكر العقلاني او التنويري انبثق على اثر تلك الحرب او قل نهض على انقاضها. وقد يقولون لك: هذا تناقض غريب.. لا، ليس تناقضا. فالشعوب لا تفهم للأسف إلا بعد ان تدفع الثمن. وكذلك الافراد ايضا. كان ينبغي ان يسقط ملايين البشر في حرب مذهبية طاحنة لا تبقي ولا تذر لكي يتجرأ فلاسفة المانيا على طرح سؤال واحد على مقدساتهم: اي على اللاهوت المسيحي التقليدي الموروث أبا عن جد منذ مئات السنين!

متى ابتدأ التنوير فعلا في المانيا؟ في اواخر القرن السابع عشر على يد لايبنتز (1646 ـ 1716) اي بعد حرب الثلاثين عاما بالضبط. فالانسان لا يتحرك على ما يبدو إلا بعد ان تصل النار الى باب بيته.. عندئذ يأخذ في طرح الاسئلة: لماذا حصل ما حصل؟ لماذا مزق الكاثوليكيون والبروتستانتيون بعضهم البعض إربا إربا وهم ينتمون الى دين واحد، وكتاب واحد، ولغة واحدة؟ وهل هناك من طريقة اخرى لفهم الدين غير هذه الطريقة التقليدية المتعصبة التي ادت الى الكارثة؟

بدءا من تلك اللحظة انبثق التنوير كحركة تاريخية صاعدة ودخل في معركة شرسة وطويلة مع قوى الانغلاق والتزمت اللاهوتي المسيحي. وبعد ان حسمت اوروبا تلك المعركة مع ذاتها استطاعت ان تنطلق انطلاقة رائعة جعلتها تتفوق على جميع شعوب الارض بدون استثناء. صحيح ان التنوير الالماني لم يكن شعبيا في البداية. صحيح انه اقتصر على طبقة اساتذة الجامعات، والعلماء، وكبار الموظفين في الدولة، والناس المثقفين. صحيح ان عامة البشر ظلوا مرتبطين بالقس البروتستانتي، او بالكاهن الكاثوليكي وظلوا يتشربون تعاليمهما وكأنها نازلة من السماء.. ولكن عن طريق تعميم المدارس، والجامعات، والصحافة، وانتشار المعرفة بواسطة الكتاب المطبوع على نطاق واسع راح التنوير ينتشر تدريجيا حتى وصل الى شرائح واسعة من الشعب الالماني. ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن بقية الشعوب الاوروبية.

لا ريب في ان التنوير الالماني كان تابعا في مراحله الاولى للتنوير الفرنسي والتنوير الانكليزي. كان تلميذا للفلسفة الديكارتية من جهة، ثم لعلم نيوتن وفلسفة جون لوك من جهة اخرى. وقد اخذ من ديكارت وضوح المنهج، والشك، والتمحيص. كان يقول بما معناه: لا يمكن ان نقبل بصحة اي رأي او مقولة حتى لو كان صاحبها بابا روما ذاته او مارتن لوثر ذاته ان لم نضعها اولا على محك النقد والغربلة والتفحص العقلاني. نقول ذلك باعتبار ان بابا روما يمثل اكبر هيبة دينية بالنسبة للانسان الكاثوليكي، ومارتن لوثر اكبر هيبة دينية بالنسبة للانسان البروتستانتي. لم تعد هناك اي هيبة فوق هيبة العقل وبخاصة في ما يتعلق بالشؤون الدنيوية والسياسية والاجتماعية. واما علم نيوتن فقد اصبح النموذج الاعلى لكل معرفة دقيقة في عصر التنوير. ألم يكتشف نيوتن القوانين التي تمسك الكون؟ ألم يوضح لنا القوانين الابدية التي تتحكم بالمادة الفيزيائية والاجرام السماوية، وهل هناك من علم فوق علمه؟ على هذا النحو راحوا ينقلون منهجية نيوتن الى مجالات اخرى غير مجال الفلك والفيزياء. فبما انها اثبتت فعاليتها بشكل لا يدحض هنا، فلماذا لا تثبتها في مجال الفلسفة، او السياسة، او حتى الاخلاق والدين؟ بدءا من تلك اللحظة اصبح الفكر الاوروبي تابعا للفكر العلمي الفيزيائي الدقيق. ولا تزال هذه السمة تلاحقه حتى الآن. لا يمكن فصل الفلسفة عن تقدم العلم منذ ديكارت او كانط وحتى الآن. ولذلك قال بعضهم: لولا نيوتن لما كان كانط!

وقد يقول قائل: ولكن فلاسفة القرون الوسطى من امثال توما الاكويني وابن رشد والفارابي وسواهم كانوا عقلانيين ايضا. وقد حاولوا التوفيق بين فلسفة ارسطو والعقيدة الدينية. وهذا صحيح، ولكن عقلانيتهم كانت موجها اساسا باتجاه الحياة التأملية، معتبرة انها اعلى وأجلّ شأنا من الحياة الدنيوية، الارضية. كانت المعرفة الحقيقية بالنسبة لهم هي تلك المعرفة النظرية الهادفة الى فهم الحقيقة الابدية والالهية. وهذا لا يعني التقليل من اهميتهم وانجازاتهم التي كانت كبيرة بالنسبة لعصرهم. واما بدءا من عصر التنوير فإن العقلانية اصبحت تطبيقية، محسوسة، عملية. اصبحت موجهة نحو فهم الحياة الارضية، والواقع المادي وتركيبة المجتمع. اصبحت تهدف الى اصلاح العالم وتغييره، بل التحكم بالتاريخ عن طريق العقل البشري. وهنا يكمن الفرق بين عقلية القرون الوسطى، وعقلية الحداثة. والانتقال من هذه الى تلك هو الذي صنع مجد اوروبا. وبما ان المجتمعات العربية أو الاسلامية لا تستطيع حتى الآن ان تحقق هذه النقلة فإنها لا تزال تتخبط في ورطتها، في مشاكلها، في مأزقها. ولكن هذا التخبط بحد ذاته دليل على ان شيئا ما يعتمل في احشاء الداخل العربي ـ الاسلامي. هناك تخمرات وتفاعلات قد تؤدي الى الخلاص يوما ما، والى انبثاق طريق الخلاص والنجاة.

لقد فهم فلاسفة التنوير في المانيا بدءا من لايبنتز وانتهاء بهيغل مرورا بليسنغ وكانط وفيخته وسواهم عديدين، ان انقاذ المانيا من براثن التعصب والتطرف لا يمكن ان يتم إلا بعد توليد قراءة عقلانية او تنويرية لتراثهم الديني. وهذه القراءة التأويلية الجديدة ليست معادية للدين في جوهره، اي في روحانيته الصافية واخلاقيته المثالية وتعاليه، وانما هي معادية للتفسير المتعصب والظلامي للدين المسيحي. وراحوا يتهمون هذا التفسير بأنه السبب في كل مآسي المانيا وفواجعها، وذلك لأنه يؤلب الناس على بعضهم البعض ويبرر المجازر والقتل والارهاب. وبالتالي فقد آن الاوان للتخلص منه اذا ما ارادت المانيا الا تسقط في جحيم الحرب الاهلية مرة اخرى، اذا ما ارادت ان تلحق بركب الامم المستنيرة التي سبقتها على طريق العلم والعقل: أي الامة الانكليزية، ثم الأمة الفرنسية. وهذا ما حصل لاحقا عندما استطاعت المانيا ان تتجاوز محنتها وتضمد جراحها وتمشي على خط التطور والتقدم. ومن الذي فتح لها هذا الخط؟ انهم فلاسفتها الذين تحملوا مسؤوليتهم التاريخية امام شعوبهم وضحوا بطمأنينتهم الشخصية احيانا عندما قالوا لها الحقيقة بدون مواربة او خداع. نعم ان للمثقف دورا في نهضة شعبه او أمته. نعم ان دوره اهم من دور السياسي، او قل انه يسبقه ويضيء له الطريق على الاقل.  

الديمقراطية في سياق أفكار عصر التنوير(5)

تشهد بدايات الألفية الثالثة اتجاها متزايدا نحو الديمقراطية على المستوى العالمي، وبداية نقول: إنّ الديمقراطية المعاصرة اليوم أكثر تواضعا مما يعتقده البعض حولها أو ينسبه إليها أو يطالبها به. إنها منهج لاتخاذ القرارات العامة من قبل الملزمين بها، وهي منهج ضرورة يقتضيه التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وجماعاته، منهج يقوم على مبادئ ومؤسسات تمكّن الجماعة السياسية من إدارة أوجه الاختلاف في الآراء وتباين المصالح بشكل سلمي. وتمكّن الدولة، بالتالي، من السيطرة على مصادر العنف ومواجهة أسباب الفتن والحروب الأهلية. وتصل الديمقراطية المعاصرة إلى ذلك من خلال تقييد الممارسة الديمقراطية بدستور يراعي الشروط التي تتراضى عليها القوى الفاعلة في المجتمع، وتؤسس عليها الجماعة السياسية أكثرية كافية. وقد تمكنت الديمقراطية المعاصرة من ذلك عندما حررت منهجها في الحكم من الجمود، فتأصلت في مجتمعات مختلفة، من حيث الدين والتاريخ والثقافة.

وفي الخطاب العربي المعاصر تشغل الديمقراطية حيّزا مهما، حيث تختلف وجهات النظر، وتتعارض المفاهيم والمصطلحات، وتتنوع المقدمات والنتائج. وإزاء ذلك يبدو أنه من الضروري أن يعمل المرء على إعادة صياغة وترتيب أفكاره حول المسألة الديمقراطية، بما يمكّنه من فهم وتشخيص حاجات الواقع العربي ومتطلبات تقدمه، ومن ثم الانخراط بتغييره في اتجاه التكيّف الإيجابي مع معطيات وتحولات العالم المعاصر، وبما ينسجم مع المصالح العليا للأمة العربية.

وكي نفهم ما يجري حاليا حولنا ينبغي أن نعود إلى الوراء مائتي سنة لكي نتموضع في النقطة التي كان يتموضع فيها فلاسفة التنوير الأوروبي، فهم أيضا كانوا يفكرون بأحلام مشابهة لأحلامنا اليوم، هم أيضا كانت بلادهم تعمها الفوضى، والحروب الأهلية، والعصبيات الدينية أو المذهبية، وكان الفقر المدقع نصيب الأغلبية الكبرى من السكان، وكان الاستبداد السياسي مسلطا على رقابهم، وكذلك ملاحقة المفكرين العقلانيين والنقديين.

الأسس النظرية للحداثة ومكوّناتها

يشير مصطلح الحداثة‏‏ إلى مرحلة تاريخية طويلة نسبيا‏،‏ بدأت في أوروبا الغربية منذ أواخر القرن السادس عشر وتميزت في القرن السابع عشر بسلسلة من التغيّرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية‏،‏ وشملت بشكل متداخل ومتفاعل عمليا مجالات البحث والمعرفة العلميين والتطبيق التكنولوجي وأشكال ومؤسسات الحكم السياسية والمدنية والتشريعية والقانون والمعاملات التجارية، وذلك في إطار عمليات بناء الدول القومية وتزايد سلطاتها مع تزايد مساحات الحرية والمسؤولية الفردية أيضا‏.‏

وفي هذا السياق تكفي الإشارة إلى المحطات الفلسفية الأساسية في الفكر الغربي الحديث، التي هي فكر ديكارت الذي دشن نظريا عصر الحداثة، وفكر كانط الذي بلور نقديا ديناميكية الأنوار، وفكر هيغل الذي صاغ مفهوميا لحظة اكتمال الحداثة في نموذج الدولة القومية الحديثة.

إنّ الحداثة ليست ترفا فكريا، بل هي تطبيق منهجية عامة للتحليل وطريقة في التفكير، وهي لا تحضر وتغيب بحسب أنواع الأحداث أو علاقاتنا العاطفية بها. وعصر التنوير يحيل إلى هذه الظاهرة الفكرية، الواسعة الانتشار، التي عرفتها أوروبا في القرن الثامن عشر، حين تم التأكيد على أولوية الإنسان ودعم استقلاله وإرادته، ورفعه إلى مستوى يكون فيه مرجع سلوكه، والقاعدة المعيارية لممارسته الاجتماعية.

كما أنها أكثر من أن تكون نتاجا لمرحلة تاريخية منقضية‏،‏ وإنما هي أقرب لأن تكون برنامجا لم يكتمل بعد ولا يزال قادرا على أن يلعب دورا إيجابيا في المجتمعات المعاصرة‏.‏ فالحداثة تتضمن انفتاحا على مستقبل غير مغلق‏ وبلا نهاية، يتميز بإمكانية تحقيق التقدم المادي والاستقرار الاجتماعي والتحقق الذاتي‏.‏ على أنّ الحداثة كل لا يقبل القسمة، أو التجزئة، فلا يمكن أن نُقبل على الحداثة في المجال الاقتصادي والتقني ونهمل الحداثة في الفكر والسياسة. وقد يتخذ إنجاز المشروع الحداثي أساليب متنوعة في عالم الممارسة، ولكنّ الأهداف والأسس النظرية لم تتغير.

لقد ساهمت أفكار الموسوعيين/الانسكلوبيديين، في العلوم والمعارف والحركة السياسية، في بلورة الفكر الاجتماعي والفلسفي والتعبير عن موقف فكري واضح يؤكد على أنّ منبع الأفكار هو الواقع الاجتماعي بذاته وتأسيس دولة تنزل السلطة، بما فيها سلطة الأفكار، إلى المجال الشعبي.

وإلى جانب ذلك تفجرت الثورة الفلسفية على يد كانط، التي كانت تدشينا لفكر نقدي جديد كونت قطيعة معرفية مع ما سبقها من فلسفات. فلقد سعى كانط إلى تهيئة الأذهان لتغيير الأنظمة السياسية والثقافية والاجتماعية التي باتت لا تتلاءم مع روح العصر، وجعل من فكرة النقد والتقدم الإنساني وقدرة العقل البشري المحاور الرئيسة لتأسيس فلسفة تنويرية كانت الهدف الرئيسي الذي سعى عصر التنوير إلى تحقيقها.

عصر التنوير ومحدداته

كان فلاسفة التنوير يريدون إصلاح كل شيء: من السياسة، إلى الدين، إلى الأخلاق الاجتماعية، إلى الاقتصاد عن طريق تطوير العلم والتكنولوجيا. وكان القرن الثامن عشر هو أول عصر في التاريخ يبلور لنفسه برنامج عمل واضح المعالم من خلال كتابات الفلاسفة ومعاركهم الفكرية. ويبدو أن ديكارت (1596 - 1650) كان أول من استخدم مصطلح التنوير بالمعنى الحديث، فهو يتحدث مثلا عن النور الطبيعي، الذي يقصد به مجمل الحقائق التي يتوصل إليها الإنسان عن طريق استخدام العقل فقط.

ومهما يكن من أمر، فإنّ مصطلح التنوير راح يتخلص - تدريجيا - من الهالة الدينية المسيحية لكي يدل على عصر بأسره: عصر التحرر العقلي والفكري في القرن الثامن عشر، وعندئذ راح يتخذ شكل المشروع الفكري والنضالي الذي يريد تخليص البشرية من ظلمات العصور الوسطى وهيمنة رجال الكنيسة.

فما هو التنوير الذي أحدث انقلابا جذريا ومهما في الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي في أوروبا بداية؟

كتب كانط عام 1784 مقالا في مجلة "برلين الشهرية" تحت عنوان: ما هو التنوير؟

ومما قاله فيه: "التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو بسبب عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر... ويقع الذنب في هذا القصور على الإنسان نفسه عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار إلى العقل، وإنما إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام عقله بغير توجيه من إنسان آخر...".

ومما لا شك فيه أنّ هذا المعنى يعيد الاعتبار للإنسان بعد أن تم استلابه لقرون طويلة، إنه يعيد له قيمته ويحقق له إنسانيته، إنه شعار الحرية، في مستواها الأساسي، حرية الفكر، حرية العقل. إذ لا يمكن الحديث عن أي مستوى من الحرية دون تحقق هذا المستوى.

إنّ مفهوم القرن المستنير أو عصر الأنوار كان موجودا في النصف الأول من القرن الثامن عشر، ولكنه لم يتحول إلى قاعدة للتفكير إلا بعد نصفه الثاني، ويبدو أنّ سبب ذلك يعود إلى حدث فكري أساسي هو: صدور الأنسيكلوبيديا الشهيرة، أي الموسوعة التي أشرف عليها ديدرو (1713 ـ 1784). فهذا المشروع الفكري الكبير هو الذي جمع التنويريين حوله من شتى المشارب والاختصاصات، فالموسوعة ليست إلا تجميعا لمنجزات التنوير التي كانت قد حصلت طيلة نصف القرن الماضي.

وفي تلك الفترة، راح فولتير يبلور الفلسفة الجديدة للتاريخ، وهي فلسفة تقول بأنّ الجنس البشري سائر نحو التقدم والتحسن لا محالة، وأسس بذلك الفلسفة المتفائلة للتاريخ، الفلسفة التي تعطي ثقتها للطبيعة البشرية وتؤمن بطاقات الإنسان وقدرته على تحقيق المعجزات. فالحياة السياسية، ينبغي أن تصبح مستنيرة، أي تمشي على ضوء العقل، وكذلك الأمر في ما يخص الحياة المدنية في المجتمع، والنظام التعليمي، والتربوي، وحتى الزراعة، والصناعة، والدين، والأخلاق ...

إن ما يميز العصر الحديث، في حقل الأفكار السياسية، هو ظهور الفلسفة السياسية والنظريات الدستورية، التي أسست لوجود الدولة الديمقراطية. إذ أنّ المفكرين في هذا العصر أسسوا أنموذجا جديدا للنظام الاجتماعي، نستطيع أن نصنفه على أنه أنموذج التنظيم من خلال التعددية. لقد علّموا أنّ الحرية الفردية والتعددية، وهما متلازمان ونتاجات طبيعية، لن تكونا سببا للتفجر الاجتماعي والفوضى، بل شكلا راقيا لتنظيم العلاقات بين البشر. هذه الأسس الفكرية للنظام الاجتماعي هي التي سمحت بإنتاج وتشييد مؤسسات الدولة " دولة الحق والقانون " والنظام التعددي.

لقد شكل عصر التنوير قاعدة التفكير للحداثة كلها، إذ أنه الفضاء الذي يقوم على أربعة محددات:

1 - العقلانية، باعتبارها البحث المستمر في المعايير التي تقاس بها صحة الاستراتيجيات التي تصوغها الجماعات أو تسعى إلى صياغتها من أجل إحراز التقدم ومسايرة التاريخ، وتحسين مردودية الجهد الإنساني ورفع فعاليته.

2 - التاريخانية، أي أنّ الحداثة قامت على معقولية التحوّل، وأفضت إلى تصور حركي للمجتمع، يحدد مراحلا لنموه وتطوره، وهو نمو يخضع لمعيار التقدم.

3 - الحرية، كأرضية تعيّن شرعية السلطة، وتؤكد حق الإنسان في تقرير شؤونه المدنية، دون إكراه أو قيد.

4 - العلمانية، أي فصل السلطة السياسية عن المؤسسة الدينية، وفي مقابل ذلك الانطلاق من الإنسان كمفهوم مرجعي للممارسة النظرية والسلوك الأخلاقي والسياسي. وهي تجد مرتعها الخصب في إطار من الديمقراطية، التي تمارس عقلانيا وتنويريا، وذلك على نحو تغدو فيه الديمقراطية والعقلانية والتنوير أحد أوجه العلمانية وصيغة من صيغ التحفيز عليها. وعندما تطرح العلمانية، بمعنى عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية لمواطنيها وبحيث تكون المواطنة هي أساس العلاقة بين الدولة والمواطنة، فإنها أقرب لأن تكون مفهوما سياسيا، يشكل ضمانة أكيدة للمساواة ولتلاحم المجتمع، حيث تكون العلاقة بالوطن والدولة علاقة سياسية وليست علاقة دينية قد تحد من المساواة السياسية بين أصحاب الديانات والمذاهب المختلفة.

وفي الحقيقة أنتج عصر التنوير تيارات فكرية ومذاهب سياسية ونظريات فلسفية واجتماعية مختلفة، كان في مقدمتها فلسفة التاريخ وفلسفة القانون ونظريات العقد الاجتماعي وغيرها التي طبعت تاريخ الفكر الحديث.

ديناميكية مفهوم الديمقراطية

بغض النظر عن المعاني والتعريفات المتعددة لمفهوم الديمقراطية، فإنّ المفهوم يدور بصفة أساسية حول ثلاثة أبعاد رئيسية: توفير ضمانات احترام حقوق الإنسان، واحترام مبدأ تداول السلطة طبقا للإرادة الشعبية، والقبول بالتعدد السياسي والفكري. وفي ضوء هذه المبادئ فإنّ هناك العديد من الآليات والضوابط الإجرائية والتنظيمية لتطبيق الديمقراطية منها: القبول بالتعدد التنظيمي والمؤسسي في شكل أحزاب ونقابات وجمعيات..الخ، وتأكيد الفصل بين السلطات، وضمان استقلال القضاء، ومشاركة المواطنين في صنع القرار، والانتخابات النزيهة، وتوفير ضمانات الرقابة السياسية وحرية الصحافة، والفصل بين جهاز الدولة والحزب الحاكم.

لقد تطورت النظرية الديمقراطية علي يد الفيلسوف الإنكليزي جون لوك في القرن السابع عشر، ومتغيّرات ثورة كرمويل في إنكلترا، ثم على يد فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو في القرن الثامن عشر والتي توجتها الثورة الفرنسية في العام 1789، ثم على يد ديالكتيك هيغل في القرن التاسع عشر ومتغيّرات ألمانيا، ثم على يد ريمون آرون وسواه في القرن العشرين، متوجة تجاربها في مجتمعات غربية وشرقية مختلفة.

وإذا كانت الحداثة قد أنتجت، في مسارها العريض، حكم الديموقراطيّة السياسية بديلا عن حكم الاستبداد، فهذا التعميم لا يغني عن بعض التخصيص الضروري في هذا المجال. ذاك أنّ مبدأ فصل السلطات ربما كان أهم ما في الديموقراطية، بصفتها طريقة في التدبير السياسي والحاكمية. لا بل أنّ مونتسكيو رأى أنّ العلامة الفارقة للمستبد هي، بالضبط، أنه يدمج السلطات جميعا ويتولاها بنفسه.

إنّ فصل السلطات، في شكله الحديث، هو ما عُرف أساسا عبر كتابات مونتسكيو، خصوصا "روح القوانين"، ومؤدّى نظرية الفصل تلك أن ثمة ثلاث سلطات ينبغي ألا تتداخل في ما بينها لدى ممارستها الحكم، هي التشريعية والتنفيذية والقضائية: الأولى، تصوغ السياسة وتنفذها بوصفها قانونا. والثانية، تتولى تطبيقها وتنفيذها في الحيّز العملي. والثالثة، تفضُّ النزاعات طبقا للقانون وتبعا لمعايير العدالة.

وعليه، ليست الديمقراطية هدفا بحد ذاته، وإنما هي وسيلة يتمكن من خلالها الشعب من اتخاذ مواقفه البناءة، بما يجعله أكثر قدرة على الإبداع والإنتاج والتشارك، عوض أن يكون أداة للمباركة والتصفيق والتصديق على قرارات الحكام الفرديين. وليست الديمقراطية أيضا مفهوما غربيا ضيقا ومن شأن تبنيها الوقوع في التبعية للغرب والخضوع لوصاياه، إنها أكثر تواضعا مما يعتقده البعض حولها أو ينسبه إليها أويطالبها به، فهي أبعد من أن تكون عقيدة شاملة، وهي أقل من أن تكون نظاما اقتصاديا - اجتماعيا له مضمون عقائدي ثابت.

إنّ الديمقراطية المعاصرة، كما ذكرنا سابقا، منهج لاتخاذ القرارات العامة من قبل الملزمين بها، وهي منهج ضرورة يقتضيه التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وجماعاته، منهج يقوم على مبادئ ومؤسسات تمكّن الجماعة السياسية من إدارة أوجه الاختلاف في الآراء وتباين المصالح بشكل سلمي، وتمكّن الدولة، بالتالي، من السيطرة على مصادر العنف ومواجهة أسباب الفتن والحروب الأهلية. وتصل الديمقراطية المعاصرة إلى ذلك من خلال تقييد الممارسة الديمقراطية بدستور يراعي الشروط التي تتراضى عليها القوى الفاعلة في المجتمع، وتؤسس عليها الجماعة السياسية أكثرية كافية. وقد تمكنت الديمقراطية المعاصرة من ذلك عندما حررت منهجها في الحكم من الجمود، فتأصلت في مجتمعات مختلفة، من حيث الدين والتاريخ والثقافة. كما تمكنت من ذلك عندما نفت عن نفسها شبهة العقيدة التي ينسبها البعض إليها من خلال ملاحظة المضمون العقائدي للممارسة الديمقراطية في مجتمعات تسود فيها أصلا تلك العقائد. وتمكنت الديمقراطية المعاصرة، من خلال تحرير نفسها من صفة الجمود، ونفي شبهة العقيدة، أن تصبح منهاجا عمليا وواقعيا يأخذ عقائد وقيم المجتمعات المختلفة في الاعتبار، ويراعي مرحلة الممارسة الديمقراطية، والنتائج المطلوب تحقيقها من نظام الحكم الديمقراطي. إنّ الديمقراطية المعاصرة منهج يبدع الحلول ويكيّف المؤسسات دون إخلال بالمبادئ الديمقراطية أو تعطيل المؤسسات الدستورية التي لا تقوم للممارسة الديمقراطية قائمة دون مراعاتها والعمل بها.

ومن أجل الفهم المسؤول لمعاني الديمقراطية والإدراك الواعي لمتطلباتها ونقاط القوة والضعف فيها نستدرك فنقول إنّ خطرين يحدقان بها: أولهما، إعطاؤها تعريفا جامعا مانعا، يؤدي إلى اعتقالها، ويمنع تطورها ونموها ومن ثم إلى قتلها، كما حصل مع قيم إنسانية أخرى. وثانيهما، عدم الاتفاق على معايير أساسية لتحديد ماهيتها ومتطلبات تحقيقها لذلك، نقول: إنّ الديمقراطية هي شكل ممارسة الحرية في المجتمع والدولة، انطلاقا من أنّ الإنسان/الشعب هو محور العالم ومقياس القيم، باعتباره صانع تاريخه وسيد مصيره. فالشعب هو مصدر السلطة ومالكها، يمارسها من خلال هيئاته النيابية. والدستور هو عقد اجتماعي يمثل أساس الشرعية ويتطلب حمايته من أية انتهاكات تهدد الصفة المدنية الديمقراطية للدولة.

وفي هذا السياق، فإننا نميّز بين ثلاثة مستويات للديمقراطية: أولها، ينحصر في مجرد إقامة المؤسسات الديمقراطية، المتمثلة في المجالس النيابية والأحزاب وغير ذلك من هياكل المجتمع المدني والاكتفاء بإقامة ذلك "الديكور" الديمقراطي، الذي يوفر الشكل دون المضمون. وثانيها، يتمثل في أداء الوظيفة الديمقراطية عبر المشاركة والمساءلة الحقيقيتين، لأننا تعلمنا من تجارب عدة، خصوصا في عالمنا العربي، أنه من الممكن أن تقوم المؤسسات الديمقراطية، فتنشأ أحزاب وتُشَكَّلُ مجالس نيابية ويُفسح المجال لهامش من التعبير من خلال صحف المعارضة، ومع ذلك كله لا يتحقق الأداء الديمقراطي. إنه من الممكن أن تقام جميع الهياكل المطلوبة بينما تعطّل الوظيفة تماما، فلا تتوافر المشاركة في القرار السياسي، ولا يتاح لممثلي الأمة حق مساءلة السلطة التنفيذية.

وثالثها، ينصبُّ على شيوع القيم الديمقراطية، وأهمها قيمة التسامح السياسي وتداول السلطة واحترام حقوق الإنسان، لأنه من الممكن أن تقوم الهياكل وتؤدى الوظيفة، بينما يفتقد المجتمع تلك القيم التي لا تستقر إلا بمضي الوقت واستمرار الممارسة وتوافر الأنموذج الذي يرسخ القيم الديمقراطية والسلوك الحضاري بين أبناء المجتمع.

لقد أضحت الديمقراطية مطلبا إنسانيا - رغم مصدرها الغربي - ونزعة تحررية من شأنها، إذا توافرت شروطها الذاتية والموضوعية، أن تمكّن الشعوب من تحقيق استقلالها التاريخي، والتعبير عن قدراتها الحية.

إنّ إعادة بناء مفهوم الدولة داخل الفكر السياسي المعاصر، منظورا إليها من زاوية كونها حقلا يعكس تناقضات البنية الاجتماعية وتوازنات القوى فيها، سمحت بإعادة تمثّل مسألة الديمقراطية والنضال الديمقراطي، كما أخرجت الحركات التقدمية من عزلتها لاضطرارية أو الاختيارية عن الساحة الجماهيرية، ودفعتها إلى الخروج بالعمل السياسي من دائرته السرية المطلقة إلى الدائرة الجماهيرية الأوسع، وأنقذت التفكير السياسي من مصطلحات القاموس العسكري، كما قلصّت من مظاهر ممارسة السياسة بمنطق الحرب.

نحو نسق عربي ديمقراطي

تتميز الثقافة السياسية العربية، لدى أغلب الفاعلين السياسيين، بأنها تحتقر التنوير والفكر الحر، وتبرر الاعتقال والنفي والتشريد والقتل، وتعمل على إشاعة روح الخوف والترهيب لإضعاف دور المثقفين "ضمير الأمة"، فيتحول بعض منهم إلى مسوخ تضرب على كل دف، وتنفخ في كل مزمار. ومن أجل تجديد الثقافة السياسية العربية يمكن الإشارة إلى أهم القواعد والمبادئ:

(1) - اعتبار ساحة الفعل السياسي مفتوحة دوما على قوى ومجموعات ذات تصورات فكرية ومشارب سياسية متباينة، الأمر الذي يفرض على الممارس السياسي اعتماد قدر كبير من المرونة في التعامل مع الشأن السياسي تمكّنه من القدرة على التكيّف مع معطيات الواقع المتحول.

(2) - ضرورة التزام الخطاب العقلاني والواقعي في العمل السياسي، لما يتيحه ذلك من إمكانية الإحاطة بالواقع الشامل والتعرف على العوامل المؤثرة في سيرورة تطوره. إذ أنّ الواقعية والعقلانية تقتضيان تقديرا دقيقا للإمكانيات الفعلية للذات التي تتوخى الفعل والتغيير في وضع سياسي ما، ذلك أنّ تضخيم تلك الإمكانيات يترتب عليه رسم خطط وبرامج للممارسة مكلفة إنسانيا وفاشلة عمليا، وفي ذلك هدر للطاقات في معارك مجانية أو غير متكافئة قد تنتهي إلى كارثة محققة.

(3) - اعتماد ثقافة الحوار، انتصارا لفكرة أو دفاعا عن موقف وحماية لمصلحة خاصة أو عامة. وفي سياق ذلك ينبغي الحرص على عدم اعتماد الأساليب المتطرفة في التعاطي مع قضايا الخلاف، فقد تسيء الحدة المفرطة في الجدل السياسي بين المواقف المتعارضة إلى القضية موضوع الحوار، إذا لم تعرف الأطراف المتحاورة كيف ومتى تترك للمارسة هامشا يسمح باختبار مختلف الآراء والأطروحات وتمييز الصائب منها عن الخاطئ.

(4) - الاستعداد الواضح لتمكين الأجيال الشابة من تحمل مسؤولية قيادة العمل السياسي، باعتبار ذلك شرطا أساسيا من شروط تجديد شباب الأمة.     

ما هو التنوير؟(6)

التنوير هو مخرج البشر من قصورهم الاختياري. القصور هو عدم استخدام العقل بدون الخضوع إلى سلطة أخرى.

هذا القصور البشري هو ذنب البشر نفسهم و لكن أسبابه لا تكمن في خلل في العقل إنما في شجاعة اتخاذ القرار باستخدام العقل بدون الخضوع لسلطة ما.

"كن شجاعاًَ في استخدام عقلك" هو عنوان التنوير.

الكسل و الجبن (الخوف) هم الأسباب التي تدعي قسما كبيرا من البشر إلى البقاء على خضوعهم طوال حياتهم رغم أنهم قاموا بتحرير الطبيعة من كل سلطة غريبة (آلهة). و هذا ما يجعلهم قابلين للخضوع للغير.

انه شيء مريح أن يكون المرء خاضعا: لو كان عندي كتاب يملك عقلا من أجلي ، لو كان عندي من يملك ضميرا عوضا عني، لو كان عندي طبيبا يضع لي خطة الطعام الصحية ... الخ. في هذه الحالة لن أحتاج أن أُتعب نفسي. لن أكون بحاجة لأن أفكر عندما يكون هناك من يقوم بأعمالي الاقتصادية و أنا املك من المال ما استطيع أن ادفع له. هذه هي الخطوة الأساسية إلى الخضوع لدى الكثير من البشر (بينهم أيضا الجنس الجميل جدا) و كذلك فإن من يُخضع لهم (أصحاب السلطة) يكثرون من الصعوبات التي تواجه البشر العاديين و كذلك هم يحملون على عاتقهم عبء مراقبة الخاضعين. بعد أن جعل أصحاب السلطة في البداية ماشيتهم البيتية (أتباعهم) غبية ومن ثم حرسوها بشكل جيد حتى لا تحاول هذه المخلوقات الهادئة أن تخطو أي خطوة خارج عربة القيود التي هي سجنهم فإنهم يشيرون و يظهرون المخاطر التي تنتظرهم إذا حاولوا الخطو بمفردهم. و لكن هذه المخاطر ليست كبيرة لأنهم الخاضعين سيسقطون بضع مرات و لكنهم في النهاية سيتعلمون المشي و لكن مثال واحد من هذه السقطات سيجعلهم خائفين و سيرعبهم من محاولات أخرى.

لذلك سيكون صعبا جدا لكل شخص بمفرده أن يخرج عن الخضوع الذي أصبح صفة طبيعية له حتى انه تعلم أن يحب هذا الخضوع و أصبح عاجزا عن استخدام عقله لأن هذا الاستخدام لم يُسمح له. القوانين و الأنظمة التي هي أصلا أدوات استخدام عقلاني أصبحت قيودا من اجل استمرارية الخضوع و القصور. من يرمي هذه القيود سيصبح كمن يريد أن يجتاز خندقا صغيرا بقفزة صغيرة ستكون مرتبكة لأنه لم يتعود الحركة الحرة. و لذلك استطاع حتى الآن القليل من البشر، عبر إعمال عقلهم بشكل صحيح، الخروج من الخضوع و القصور و تعلم المشي الصحيح.

لكن هناك الإمكانية أن يستطيع الجمهور تنوير نفسه بنفسه عندما تتُرك له الحرية. لأنه سيوجد بعض المفكرين بين أعضاء الجمهور الذين بعد أن يحرروا أنفسهم من العبودية و الخضوع سينشرون أفكار التحرر و التفكير الحر بين بقية الأفراد. طبعا سيكون هناك بعض الصعوبات و خاصة إذا كان الأفراد المتنورون سابقا من أعضاء الطبقة المتسلطة فأنهم سيتعرضون لصعوبات الأحكام المسبقة. و لذلك لا يمكن أن يتحرر و يتنور الشعب إلا بشكل بطيء.عبر الثورة يمكن أن يتحقق تغيير في المواقف الشخصية و لكن لا يمكن أن يتحقق تغيير أو إصلاح في طريقة التفكير فالذي سيحدث هو وضع أحكام مسبقة جديدة تربط الجمهور و الشعب كما كانت تربطه الأحكام المسبقة الزائلة.

الآن، عندما يُطرح السؤال: هل نعيش الآن في عصر متنور؟ يكون الجواب : لا. و لكننا نعيش في عصر يحدث فيه التنوير.و لكن و كما هي الأمور حاليا فإن التفكير في القضايا الدينية بالعقل فقط و بدون أي سلطة خارجية لم تتحقق بعد و لكن الطريق مفتوح من أجل إعمال العقل بحرية و من أجل الخروج من الخضوع.

لا يُحتاج من أجل هذا التنوير سوى الحرية و بشكل خاص الحرية في استخدام العقل و لكني أسمع من كل الاتجاهات: الضابط يقول: لا تفكروا لئلا أقضي عليكم، موظف المالية يقول: لا تفكروا لئلا تدفعوا، الكاهن يقول: لا تفكروا، إنما آمنوا. شخص واحد فقط (كانت يقصد هنا صاحب السلطة في كونيغسبيرغ) في هذا العالم يقول: فكروا كما و بما تريدون و لكن عليكم الطاعة. في كل هذه المواقف توجد قيود لهذه الحرية و لكن أي هذه العوائق و الحواجز مفيدة و أيها سيئة؟

كانت يجيب و يقول أن الاستخدام العام للعقل (أي في كل المجالات) يجب أن يكون حرا و هو الذي يمكن أن يأتي بالتنوير إلى البشر و لكن يمكن تحديد الاستخدام الخاص بشكل لا يضر فيه مع الاستخدام العام.

أعني بالاستخدام العام للعقل حرية أن يقول المفكرون ما يريدون أمام الجمهور و القراء. أمام الاستخدام الخاص للعقل فأعني به من يعملون في الوظائف المدنية لأن هذه القضايا التي تهم الصالح العام يجب أن يكون لها نظام معين و يجب أن يسير الموظفين عليها لئلا يتهدم هذا البنيان المدني و لذلك يجب أن يمتنع هذا الشخص طالما هو تحت ستار هذا العمل من التفكير و يجب عليه الطاعة و التنفيذ فقط و لكن عندما يكون خارج العمل أي عندما يكون مواطنا عاديا يحق له التفكير. فعلى سبيل المثال لا يحق للجندي أو الضابط في الجيش أن يعصى الأوامر و لكن و في الوقت ذاته عندما يكون خارج الخدمة يحق لهذا الشخص أن يبدي رأيه بكل حرية بالجيش و بكل ما يتعلق بمهنته. و هذا ينطبق أيضا على جميع المهن الأخرى كموظف كنسي أو مدرس أو أي شيء آخر. طالما هذا الموظف في عمله يجب أن يقوم بعمله كما تملي عليه القوانين و يكون استخدامه هنا للعقل و للتفكير استخداما شخصيا له قيوده و ضوابطه و عندما يكون خارج العمل يكون مالكا لكل الحريات و يكون استخدامه للعقل و للتفكير استخداما عاما حرا.

صاحب السلطة الذي لا يضع من واجبه أن يجبر الناس في قضايا الدين على اتخاذ موقف معين إنما يترك لهم الحرية الكاملة في ذلك هو صاحب سلطة متنور و يستحق شكر و حمد البشر حاليا و في المستقبل. تحت سلطته يمكن للمفكرين و الفلاسفة أن يقوموا بواجبهم و بعملهم بشكل حر. روح الحرية تنتشر في كل مكان حتى حيث تعترضها الحواجز من قبل سلطات قليلة الفهم.

لقد وضع كانت مركز و أساس التنوير ، أي في خروج البشر عن الخضوع الذين هم سببه، في قضايا الدين لأن أصحاب السلطة لا يستخدمون قضايا الفن و العلم من أجل تثبيت خضوع أتباعهم. فالتحرر الأساسي و التنوير الحق يحدث عند التحرر و التنوير في قضايا الدين.

أصحاب السلطة الذين يسمحون لأتباعهم ، بدون أن يروا في ذلك خطرا على قوانينهم، إعمال عقولهم كما يريدون و بالتالي تطوير أفكارهم بحرية حتى لو كان في ذلك نقداً للقوانين الحالية يستحقون الاحترام.

من كتابات ايمانويل كانت التي كتبها في العام 1784 في كونيغسبرغ التي كانت تابعة آنذاك لبروسيا و نشرها في الصحيفة البرلينية الشهرية.

التنوير وخرافة النخبة؟(7)

ثمة قناعة عند عدد لا بأس فيه من المفكرين العرب (حسن حنفي، جلال أمين، جمال البنا، محمد عابد الجابري..) أن رايات التنوير الخفَّاقة التي رفعها أيضاً عدد كبير من المثقفين والمتنورين، من شبلي شميل ويعقوب صروف إلى فؤاد زكريا وجابر عصفور، كانت رايات ايديولوجية محكومة بإرادة الايديولوجيا وبسطوة الآلهة الزائفة على حد تعبير أحدهم، ومضمرة بأهداف سياسية وأشياء أخرى يفصح عنها الخطاب التنويري دون الحاجة إلى البحث عن المسكوت عنه داخل هذا الخطاب. فالتنوير يقع على الضد من الإظلام هذا ما يقوله الباحث السوري أحمد برقاوي في بحث له بعنوان (ما التنوير) والذي يستعيد فيه صدى التساؤل الجوهري الذي طرحه كنط منذ عدة قرون، إنه يريد للتنوير أن يقع على الضد من قوى الإظلام التي هي قوى أصولية إسلامية تقف كحجر عثرة في طريق المتنورين وفي وجه دولة التنوير كما يحاول أن يقنعنا خطاب التنوير الذي ينهل من الايديولوجيا المتخشبة، وهذا ما يراه حسن حنفي وجلال أمين وآخرون.

في بحث له عن (التنوير والتثوير) ضمن كتابه (في الثقافة السياسية) يرى حسن حنفي الذي هو مثال للخلط الثقافي وتزييف المعايير كما يكتب جمال البنا اعتماداً على علي حرب (انظر كتابه: كلا ثم كلا، دار الفكر الإسلامي بالقاهرة) والذي يدعو له بالإنابة والتوبة (إننا لم نفقد الأمل في أن يتوب ويثوب كما يكتب البنا)، أقول يرى حنفي أن المقصود بالتنوير هو الهجوم على الحركات الإسلامية باعتبارها داعية للإظلام، وأن القصد منه القيام ب(عملية غسل دماغ) للثقافة الوطنية من التيارات الإسلامية، وهذا ما يؤكده أيضاً جلال أحمد أمين في دراسة له عن (مفهوم التنوير: نظرة نقدية لتيار أساسي من تيارات الثقافة العربية المعاصرة) ضمن كتاب (قضايا التنوير والنهضة، مركز دراسات الوحدة العربية،1999)، فهو يرى أن المراد بالتنوير الآن هو التصدي لما يسمى ب(الأصولية الإسلامية). وهذا ما يراه أيضاً الباحث الموريتاني السيد ولد أباه الذي يرى أن شعارات التنوير الخالدة عن الحداثة والمدنية والعصرية وصفت على الضد من الأصالة الإسلامية. وهذا ليس بالمستغرب من دعاة التنوير المتمركسين الذين وجدوا في التصورات الماركسوية العماد النظري لإشكالية التنوير العربي في السنوات الثلاثين الأخيرة، ووجدوا فيها المنهج المكتمل المفقود وأيديولوجيا الكفاح ذات الطاقة التعبوية التي تكفل لهم القضاء على رواسب الماضي وقيمه التقليدية كما دعانا العروي وياسين الحافظ والكثيرون من دعاة الأيديولوجيا التقدمية العربية الذين لم يتصوروا الحداثة إلا على حساب المجتمع العربي بتدميره ثم بعثه من جديد. بذلك كانت الحداثة عن حق حليفاً لمجتمع النخبة كما يذهب إلى ذلك برهان غليون في كتابه (مجتمع النخبة،1986).

من وجهة نظر حسن حنفي أن صياغة التنوير تمت بالأساس وفقاً للنموذج السلف، أي النموذج الأوربي، فقد بقي هذا النموذج مثالاً للقياس وليس للاستئناس كما يذهب إلى ذلك الجابري في فضحه لعيوب الخطاب العربي المعاصر، الذي كانت شيمته دائماً البحث عن الطريق من خارج الغابة، وهذا ما يؤكده جلال أمين وجمال البنا، فلم يرتبط التنوير بالأساس بجذوره في التراث القديم فتحول إلى تغريب، ولم تنفع الماركسوية اللاحقة في انتشاله من هوة التغريب، بالرغم من أن المتنورين اللاحقين أرادوا أن يحموا أنفسهم من تهمة التغريب باعتمادهم الماركسية، وبذلك استمرت ما سماها جلال أمين ب(الجرعة المؤسفة من التغريب) والتي جعلت من التنوير (تنويراً ممعناً في استغرابه) على حد تعبير جلال أمين.

لا يكتفي حسن حنفي بنقد نزعة التغريب عند المتنورين، بل يعيب عليهم نزعة الاستئصال والاستبعاد والإقصاء وليس الفهم وتبادل الآراء والأخذ والعطاء مع الخصوم، وهذا ما يؤكده جلال أمين وجمال البنا في نقدهما للأوثان النظرية عند المتنوررين، فمن وجهة نظر جلال أمين أن النصوصية الوثوقية تمهر خطابات المتنورين العرب الذين جعلوا من خطاباتهم عن الحرية والتقدم أناشيد ونصباً للعبادة، وبذلك يكونوا قد وقعوا في شراك فقهاء التقليد وكأننا بصدد نصوص مقدسة.

على مسار تاريخي طويل، بقي التنوير حليفاً لمجتمع النخبة، وأسيراً لتصوراتها عن التقدم وحتمية الحداثة، التي ارتدت طابعاً ايديولوجياً هو ناتج إرادة الايديولوجيا التي تحكمت في خطابات النخبة المثقفة وفي ايديولوجيا الأحزاب التقدمية التي جعلت من الوطن سجناً عقائدياً ومن النخبة شرطة للعقائد الحداثوية والإيديولوجيا المستوردة، وفي كل الأحوال لم نخرج بحزم من منطق الخلوة الثقافية بيننا وبين الغرب المتنور أو الذي يقاس التنوير عليه كما يدعو غسان سلامة إلى ذلك (انظر كتابه من الارتباك إلى الفعل: التحولات العالمية وآثارها العربية، دار النهار، 2003).

في رأيي أننا معنيون بالإجابة على التساؤل الذي طرحه جابر عصفور: لماذا انتكس التنوير؟ ولكننا نميل إلى الإجابة التي تذهب إلى الاتجاه المعاكس لرؤية عصفور، فقد انتكس التنوير لعلة في المتنورين، لنقل لعلة في النخبة المتنورة؟ وهذا ما جعل من التنوير ليس مجرد (طرفة برجوازية) كما كان يقول ماركس، بل (طرفة نخبة) لم تستبن الرشد حتى ضحى الغد، كما قال شاعرنا!

التنوير‏..‏ وغياب الهويه(8)

في قضيه التنوير يجب ان نفرق بين ثلاثه مواقف علي المستوي الفكري والثقافي هناك فرق بين التفاعل الثقافي‏..‏ والنقل الثقافي‏..‏ والغزو الثقافي ان التفاعل الثقافي حوار بين ثقافتين علي ارض واحده واهم ما في هذا الحوار ان يكون متكافئا من حيث التاثير والتاثر بحيث لا يستبيح احدهما الاخر او يجور عليه‏..‏

اما النقل الثقافي‏..‏ ان اجلس امام الاخر لكي يلقنني ما يريد ابتداء بالسياسه وانتهاء بالفكر مرورا علي النقل الاعمي لكل مظاهر السلوك دون وعي او اختيار او تفكير‏.‏

اما الغزو الثقافي‏..‏ فهو ان يكون الهدف الوحيد للرساله الثقافيه هدفا سياسيا صريحا وواضحا ولا خلاف عليه حتي وان تخفي في ثياب ثقافيه مبهره‏..‏ ان المشكله الاساسيه الان ان هذه المواقف الثلاثه تتداخل احيانا في بعضها بحيث يصعب الفصل بينها‏..‏ ولكن في ظل ارتفاع درجه الوعي الفكري والسياسي لا ينبغي ابدا ان تغيب عنا هذه الوجوه لان المسافه بينها بعيده جدا وان كانت احيانا تبدو قريبه‏.‏

ان التفاعل بين ثقافتين هو ارقي درجات الحوار بين الحضارات الانسانيه‏..‏ وهناك ثقافات استطاعت ان تعيش وان تستوعب الاخر وتتاثر به وتوثر فيه‏..‏ ولعل النموذج الواضح في التاريخ هو فتره الحكم الاسلامي للاندلس وذلك التقارب الذي شهدته هذه المنطقه من العالم بين الثقافه العربيه الاسلاميه والثقافه اللاتينيه في اوروبا‏.‏

لقد اثمر هذا التفاعل الخلاق صوره جديده للحضاره الانسانيه في الطب والعلوم والاداب والفنون‏..‏ وكانت جميعها شواهد حيه علي ان الثقافات يمكن ان تشارك في دعم مسيره الانسان وان اختلفت منابعها‏..‏

هناك تجربه اخري رائعه شهدتها الهند وهي دوله لها جذورها الحضاريه والثقافيه والانسانيه ولكنها استطاعت ان تحافظ علي خصوصيتها‏.‏ ولعل افكار غاندي التي كانت يوما ما اول مسمار في نعش الامبراطوريه الانجليزيه كانت تاكيدا حيا لمعني الهويه‏..‏ شعب يمتنع تماما عن استخدام اي شيء من صنع المحتل‏..‏ وكان هذا اكبر اضراب في تاريخ الانسانيه يقوم به شعب كامل ضد دوله مستعمره‏.‏

عندما حصل طاغور شاعر الهند العظيم علي جائزه نوبل في الاداب في عام‏1913‏ علي رائعته الشعريه جيتنجالي شهد العالم مناظره بين طاغور واينشتين هزت العالم كله‏..‏ كانت المناظره بين روح الهند ممثله في شاعرها‏..‏ وماديه الغرب ممثله في ابرز واكبر علمائها‏..‏ يومها قال طاغور لاينشتين‏..‏ ان الحضاره الماديه سوف تخسر كل شيء اذا فقدت روحها وان البشريه كلها ستصبح مهدده بالفناء في ظل جسد بلا روح وعندما تصبح الحضاره بلا قلب فانها تفقد اهم مقومات الحياه‏.‏

وهذه الروح هي التي بقيت في الشعب الهندي رغم كل الانجازات العلميه والحضاريه التي استوعبها‏..‏ مازالت السينما والموسيقي والعادات والعبادات هنديه رغم عشرات القنابل النوويه التي تنام في اعماق الاراضي الهنديه‏..‏

هذا هو التفاعل الحقيقي بين الثقافات منذ بقيت الهند بعقائدها وتراثها ودياناتها رغم انها الان من اكثر بلاد العالم انتاجا للتكنولوجيا الحديثه بالتعاون مع الغرب‏.‏

ولكن البعض يتصور ان النقل الثقافي يكفينا وان ترجمه روايه او كتاب او نشر قصه جنسيه هو افضل وسائل التنوير‏..‏ والمشكله ان دورنا حتي الان مازال مقصورا علي استخدام وسائل الحضاره دون ان نشارك في صنعها‏..‏ عندما انبهرت اجيال سبقت بفكر جان جاك روسو وفوليتر حول قضايا الحريه وحقوق الانسان واراده الشعوب كان ذلك انبهارا ايجابيا واعيا وكان تنويرا حقيقيا لانه حرك العقول واثار الافكار والمشاعر‏.‏

وعندما انبهرت هذه الاجيال بمدارس جديده في النقد الادبي كما حدث مع طه حسين‏..‏ او في الفن التشكيلي كما حدث مع مختار‏..‏ او في فن جديد اسمه المسرح مع توفيق الحكيم‏..‏ او فن وليد اسمه الروايه مع هيكل باشا ونجيب محفوظ‏..‏ او في دخول فنون جديده مثل السينما‏..‏ كان هذا ايضا تنويرا حقيقيا‏..‏ فقد كتب هولاء مسرحا مصريا‏..‏ وقدموا سينما مصريه‏..‏ وتماثيل تحمل سمات الوطن الذي عاشوا فيه‏.‏

ولكن عندما يتصور البعض ان التنوير الان هو الكتابه بلغه الجسد كما يسميها اصحابها او الاعتداء علي قدسيه العقائد واهانتها والتطاول علي الخالق سبحانه‏..‏ او ترويج نماذج سلوكيه ساقطه او السخريه من رموزنا او رص نثر هزيل قبيح يطلقون عليه قصيده النثر‏..‏ او استخدام كل اساليب العجاجه والاسفاف في الكتابه تحت دعوي الابداع‏..‏ او اعطاء جوائز الدوله لنكرات لاتستحقها وحجبها عن رموز الثقافه الحقيقيه او التشكيك في كل جذورنا الثقافيه والفكريه والحضاريه وامتهانها‏..‏ ان هذا خطا في فهم معني كلمه تنوير ان امتهان القيم الحقيقيه للثقافه العربيه تحت دعاوي التنوير اكبر خطيئه في حق التنوير نفسه‏.‏

وهنا يمكن ان نقترب من اسوا انواع العلاقات بين الثقافات وهو الغزو الثقافي لانه يحمل في حقيقته مطامع سياسيه ويعود بنا الي عصور مضت حاولت السياسه ان تخفي وجهها الحقيقي خلف مطامع ومصالح كانت هي الهدف والغايه وان تخفت في الثقافه والفكر‏.‏

ولهذا فان اسوا مايمكن ان تتعرض له ثقافات الشعوب الان هو تلك اللعبه التي تحمل اسم التنوير‏..‏ وتخفي اغراضا سياسيه مشبوهه او تصبح ادوات هدم وتخريب لمقومات الشعوب في الفكر والسلوك والعقائد‏..‏

ورغم ان الاتحاد السوفيتي رحل في ظروف غامضه‏..‏ ورغم ان الحرب البارده بين القطبين الكبيرين قد انتهت الي هيمنه امريكيه كامله علي شئون العالم‏..‏ فان بقيه الدول مازالت تبحث عن مصالحها وادوارها حتي في ظل وجود القوه الكبري‏..‏ ولان القوه الكبري وجه بلا ثقافه فان دول الثقافات التقليديه في العالم تحاول ان تجد لنفسها دورا سياسيا تحت مظله الثقافه‏..‏ هذا ماتفعله فرنسا من خلال اللوبي الفرانكفوني‏..‏ وماتفعله انجلترا من خلال بيوت الثقافه الانجليزيه‏..‏ وهو ايضا ماتفعله ايطاليا تحت مسميات كثيره ابتداء بترميم الاثار وانتهاء بالفنون وربما كانت ماساه اللغه العربيه في الجزائر اكبر ازمه عاشتها دوله بسبب التداخل الشديد بين الغزو السياسي والغزو الثقافي‏.‏

ولاشك ان هذه الدول تحمي مصالحها فمازالت فرنسا علي سبيل المثال تحاول حمايه اللغه الفرنسيه علي ارض الجزائر وهي حريصه علي ذلك وهذا هدف سياسي يتخفي في وجه ثقافي‏..‏ وان كان من حق الجزائر بل من واجبها ان تحمي هويتها الثقافيه ممثله في لغتها وثقافتها ودينها‏.‏

ولهذا يجب ان نكون علي وعي بهذا كله‏..‏ والا نفرط بسهوله في مقوماتنا الفكريه والثقافيه لانها اخر مابقي لنا‏..‏ ويجب ايضا ان نكون علي وعي بكل جوانب اللعبه علي مستواها السياسي والثقافي معا‏..‏

اذا كانت رساله التنوير هدفها التفاعل والحوار بين ثقافتين فهذا يتطلب اولا ان ننمي قدراتنا علي الحوار‏..‏ وان نوفر مناخ الحريه في الفكر والسياسه بما يضمن لنا النديه في المشاركه من حيث التاثير والتاثر في وقت واحد‏..‏

وهذا يتطلب ايضا ان نحمي جذورنا وتاريخنا ومقومات وجودنا فاذا كان الحوار مع الاخر مطلوبا فان النقل مرفوض‏..‏ والغزو الان لا ياتي بالجيوش ولكنه ياتي مع الهواء والماء والدواء والساندوتشات وبنطلونات الجينز وكتابات الجسد واغاني مادونا وافلام ستالوني ومايكل جاكسون وناطحات السحاب القبيحه والابراج المشوهه‏..‏ ومجموعه من المروجين الذين تخصصوا في بيع السلع الرديئه من حمله الاقلام والمباخر ان ما يحدث عندنا الان باسم الابداع والتنوير امتهان بكل مقومات الابداع‏..‏ واعتداء علي كل رساله نبيله يسعي اليها التنوير‏.‏

اننا نريد تنوير رفاعه الطهطاوي وطه حسين والحكيم وهيكل ولطفي السيد ومختار وعبدالوهاب وسلامه موسي‏..‏ وقاسم امين ولويس عوض حتي وان اختلفنا احيانا مع جوانب الشطط عند بعضهم‏..‏ ان اخطر ما في هذا الجيل انه يمثل مرحله الانبهار الواعي بقضيه التنوير‏..‏ وكانت ثقافه هذا الجيل واستيعابه لتاريخه وجذور حضارته اكبر من ان نتركه فريسه سهله للانبهار الاعمي‏..‏ ولهذا كانت انجازات هذا الجيل اكبر اضافه للحياه الثقافيه والسياسيه في عالمنا العربي وليس في مصر وحدها‏..‏

ولكن مواكب التنوير الان لم تستوعب تراث امتها‏..‏ ولم تدرك عمق جذورها الحقيقيه لانها طحالب هشه تسلقت علي وجه الارض دون ان يكون لها امتداد في عمق هذا الوطن‏..‏ انها نباتات مستنسخه في علب بلوريه لم تحرقها حراره الشمس‏..‏ ولم تلفحها نسمات الصيف الحارقه ولم تشرب مياه النيل‏.‏

انها لمبات فوسفوريه سرعان ما تضيء وتخبو‏..‏

من هنا يمكن ان نضع اقدامنا علي الطريق الذي نريد‏..‏ ان قضيه التنوير غايه في الاهميه لانها تعني المستقبل‏..‏ وتعني التطور في الفكر والروي‏..‏ وتعني ايضا حريه الابداع وحقوق الانسان‏..‏ لقد ارتبطت في جوانبها السياسيه والثقافيه باشياء عظيمه في تاريخ البشر‏..‏ ونحن احوج مانكون لجوانبها الايجابيه‏.‏

نريد التنوير الذي يشعر الانسان بادميته وحقه في الحياه الكريمه وان يفكر دون خوف من سلطان او رقيب‏..‏

نريد الحريه السياسيه التي تتمثل في ديمقراطيه حقيقيه للشعب يكون فيها صاحب الكلمه والقرار‏.‏

نريد ان نحمي جذورنا وتاريخنا وهويتنا بحيث ناخذ من الاخر ما يناسبنا ويكون من حقنا ان نرفضه اذا تخفي وراء قناع مزيف سواء كان سياسيا او ايدلوجيا او حتي تكنولوجيا‏.‏

ومن هنا فاننا وبنفس درجه حماسنا للتنوير‏..‏ نرفضه رفضا كاملا اذا كان هدفه تغييب وعينا‏..‏ وتدمير هويتنا‏..‏ وتشويه مقوماتنا ومقدساتنا‏..‏

فاهلا بمواكب التنوير الواعي الامين‏..‏ والف لا‏..‏ لمواكب التنويرالاعمي المغرض‏.‏

ولا ينبغي ان تتحول قضيه التنوير الي معارك وتصفيات فكريه لان اهم ما يميز رواد التنوير الحقيقي هو رحابه الفكر واتساع الروي وشموليتها واحترام لغه الحوار‏..‏ وحينما تفقد مواكب التنوير هذه السمات فانها تتحول الي مواكب صخب وضجيج فارغ بل انها تصبح نوعا من الارهاب الاعمي باسم الفكر‏.‏

اننا في حاجه الي دعاه التنوير الحقيقي‏..‏ ولسنا في حاجه الي سماسره الافكار المبرمجه‏..‏ وكتائب الاستقطاب السياسي من اصحاب المصالح‏..‏

وليكن التنوير هدفا ورساله سعيا الي تاكيد الهويه‏..‏ وتاصيل الجذور‏..‏ وزياده الوعي والتفاعل البناء مع الثقافات الاخري تاثرا وتاثيرا‏.‏

التنوير والإرهاب الفكري(9)

من العبث الاعتقاد بأن التنوير - من حيث هو الانتشار الواسع والمؤثر لاستخدام العقل الحر والمنطق العلمي في مجمل السيرورة الاجتماعية وفي طرق التحليل واتخاذ القرارات سواءً على مستوى الفرد أو على المستوى الجمعي - يأخذ مساراً مستقيماً ومنساباً دون عوائق قبل أن يسود سيادة مطلقة. وحتى انتشار دين الإسلام، وقد كان التنوير جوهره، لقي من المعارضة القرشية ما لقي. ومن المحزن والباعث على التأمل في الوقت ذاته أن المسلمين بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى سرعان ما استسلموا لما ألفوه من أعراف اجتماعية وقبلية جامدة حاربت التنوير ورجعت به إلى الوراء.

في مجتمعاتنا العربية اليوم العديد من الظواهر المؤلمة والتي تشي بشكل سافر عن ضعف في تجذر التنوير في أذهاننا وبالتالي في سلوكياتنا. فمن أبسط المظاهر المجتمعية كانتشار الاعتقاد في المشعوذين،مروراً بمظاهر أكبر خطورة كتفشي الطائفية والعشائرية، وانتهاءً بانغلاق يحجر مجرد الاعتراف بإنسانية الآخر فضلاً عن القبول به، تتكالب الوقائع لتبقي مجتمعاتنا في مؤخرة الركب في الإسهام الحضاري لعمارة الأرض والاحتفاء بالإنسان، رغم ما يحضنا عليه ديننا الحنيف بل ويأمرنا به. والمحصلة الطبيعية لانحسار التنوير هي سيادة النظرات الأحادية والأيديولوجيات المغلقة من جهة، والإنكار(الظاهر منه والباطن) لمبدأ شرعية الاختلاف من جهة ثانية.

خلال يوم واحد استوقفتني ثلاثة أخبار متباينة، إلا أنها جميعاً تشي بالمسار المتعرج الذي يسير فيه التنوير في المجتمع. الخبر الأول هو حجب منتدى "عدسات عربية" المتخصص في التصوير الفوتوغرافي حين فوجئ أعضاء ومشرفو المنتدى مؤخراً، ودون سابق إنذار،بعبارة "الوصول إلى هذه الصفحة غير مسموح". والخبر الثاني هو إغلاق الصالون الثقافي للدكتور علي الرباعي في الباحة، وهو صالون ثقافي خاص كغيره من الصالونات الأدبية المنتشرة في طول البلاد وعرضها يجتمع فيه الأدباء والمثقفون من أبناء المنطقة لمناقشة أمور الفكر والثقافة بكل وضوح وصراحة وبأسمائهم وشخصياتهم الحقيقية بعيداً عن السرية والتكتم والتجييش الجماهيري. أما الخبر الثالث فهو تصدي بعض الموجهات التربويات للفتوى، حيث صدعن بفتوى يحرمن ويمنعن التمثيل على مسرح الطالبات في إحدى المدارس في مدينة الرياض، مما أدى إلى إيقاف العرض وإغلاق ستارة المسرح الخشبي الصغير وإنهاء المسرحية وخروج الطالبات قبل إنهاء المشهد التمثيلي الذي كان موضوعه العنف الأسري ضد الأطفال. الطريف في الخبر الأخير هذا هو أن الحجة التي استخدمتها الموجهات لإيقاف العرض هي أن إحدى الطالبات كانت تلبس ثوباً وغترة! أي أنها كانت تتشبه بالرجال! ولا يشفع أن ارتداء اللباس هذا ليس ارتداء في سياق الحياة بل في سياق المسرح! وكأننا نقول إن الممثل الذي يقوم بمشهد قتل على خشبة المسرح يستوجب القصاص! هذا غيض من فيض مما يواجهنا يومياً من آراء وممارسات يحاول أصحابها فرضها لا بقوة الإقناع والمنطق بل بقوة الإكراه وفرض الرأي الواحد استناداً إلى رؤية تقليدية منغلقة قائمة على الرأي المتشدد في الحكم على الأمور.

تشير هذه الحوادث المتفرقة والتي وإن بدت صغيرة أو بسيطة بالنظر إلى القضايا الكبرى المؤثرة في تقدم المجتمع وفي مسيرة التنوير، أو بدت وكأنها أحداث عابرة يمر عليها معظمنا مروراً هيناً، تشير في حقيقة الأمر إلى ظاهرة خطيرة يمارسها أفراد المجتمع، نابعة من فكر ضيق يتسم بالإقصائية للآخر المختلف وانعدام التسامح معه أو القدرة على التعايش معه. وتتجسد على صعيد الواقع والممارسة على شكل إرهاب فكري. والإرهاب الفكري في أبسط صوره هو فرض فكر أحادي على المجتمع يحيل فئة من فئاته إلى الاعتقاد بأنها مالكة الحقيقة المطلقة (مما يتنافى وكمال التوحيد والإيمان المطلق بأن الكمال لله وحده) ومن ثم تسعى هذه الفئة إلى فرض رؤيتها وتأويلاتها على بقية الأفراد في شتى أمور الحياة. هذا النمط من التفكير يؤمن بأحقيته دون غيره في الوصاية على الأفراد والمجتمع ولا يؤمن بشرعية الاختلاف في الرأي ومن ثم فلا مكان لديه للتسامح أو الحوار. ولعل من المفيد دائماً استذكار الملاحظة العميقة بأن ضحايا التعسف الفكري لم يكونوا من فئة فكرية واحدة دون أخرى. فقد اضطهد الإمام أحمد بن حنبل من قبل الخليفة العباسي لأغراض سياسية وباستخدام فكر المعتزلة، كما حرقت كتب ابن رشد. وفي العصر الحديث اتهم طه حسين بالزندقة واغتيل فرج فودة، وصدر حكم قضائي بتفريق نصر حامد أبو زيد عن زوجته، وغير ذلك كثير. ولعل من أكثر المفارقات استثارة للتأمل هو ما قرأناه مؤخراً عن دعوة البعض لاستتابة حسن الترابي.

إزاء هذه الظواهر يظل السؤال الذي مازلنا نخوض في جدلية الإجابة عليه دون أن نصل إلى يقينية نقطع بها الشك هو: لماذا يظل هذا النمط من التفكير مسيطراً على المجتمع؟ وما هي الخطوات التي يتوجب علينا اتخاذها كي نخفف من سيطرته على مفاصل المجتمع؟ ولعل الاستطراد يأخذنا إلى السؤال الأكبر وهو: لماذا فشل التنوير في مجتمعاتنا العربية رغم كل الجهود التي بذلت لإحيائه على مر العقود الماضية ورغم محطات الأنوار المتفرقة التي كانت لنا وقفات معها عبر القرون الماضية؟

في محاولة للإجابة على هذه الأسئلة، أشار الكاتب محمد بن علي المحمود في مقاله "هل ينتصر التنوير" (صحيفة الرياض 20/4/2006) إلى أن "التنوير لا ينتكس من ذاته؛ لأن في منظومة قيمه ما يؤهله لممارسة إيجابياته بفعالية عالية. بل إن في مخرجاته الملموسة ما يمثل إغراء للوعي الجماهيري بالتماهي معه، إلى درجة تمنحه قوة الدفع الذاتي." ولذلك يعزو المحمود انتكاسات التنوير إلى أسباب ليس لها علاقة بذاتية التنوير ولا بفاعليته بل تعود أساساً إلى عوامل خارجة عن التنوير، وهي ما أشار إليه باسم "قوة الاجتياح الخارجي" . ويتمثل هذا الاجتياح الخارجي في سيادة نمط فكري تقليدي منغلق على المجتمع يفرض الوصاية على الأفراد ويحول دونهم ودون استخدام العقل بشكل حر.

هذا هو واقع أزمة التنوير في الفكر العربي الاسلامي اليوم وهو واقع يدعونا إلى المزيد من الإصرار على نشر قيم التنوير كالتعددية والعدالة الاجتماعية والعقلانية والنظرة الإنسانية الشاملة والتحرر من كل الأحكام المسبقة لأنها هي البديل والسبيل الوحيد نحو التخلص من هذا النمط الفكري الذي يمكن وصفه بالإرهاب الفكري. وإذا كانت أوروبا اليوم وهي في مرحلة ما بعد التنوير وما بعد الحداثة ما تزال تحتفي بالتنوير الفكري وتعتبره مسألة ملحة حتى يومنا هذا، أي بعد مضي أكثر من قرنين على قيام مشروع التنوير الأوروبي، فحرّي بنا ـ نحن المسلمين ـ بأن نصر على إعادة إنتاج فكرنا الإسلامي بحيث نصل إلى مرحلة إعمال العقل والفكر وهو الفريضة الإسلامية الملازمة للحرية للوصول إلى مرحلة التنوير. في الوقت نفسه علينا أن ندرك أن التنوير لا يسود بين يوم وليلة ولا يتحقق دون التضحيات، وليس لنا أن نتوقع أن يأتينا على طبق من ذهب (سواء كان ذلك الطبق داخلياً أو خارجياً)، فالتنوير أولاً عملية تراكمية بطيئة تحتاج إلى المتابعة الفاعلة من قبل الأفراد ومؤسسات المجتمع بشكل دائم ومستمر؛ ولأن التنوير ثانياً يضم عمليتين متلازمتين هما عملية التفكيك وعملية إعادة التركيب والبناء. لم يكن التنوير في أوروبا عملية بسيطة أو سريعة بل مر عبر تضحيات من الأفراد والمفكرين الذين تعرضوا للتنكيل والملاحقة والسجن بل وحتى الإحراق والنفي من أوطانهم. ولنا في مسيرة مفكري التنوير الأوروبيين من أمثال جاليليو وجان جاك روسو وفولتير وغيرهم من المفكرين عبرة.

التنوير وابن رشد(10)

التنوير العربي، إن صحت التسمية، مستلهم، في كثير من الأطروحات، للتنوير الأوروبي في أهدافه القريبة والبعيدة وفي آلياته ومحركات الفعل والدفع فيه يمكن استخلاص هذه النتيجة من مجمل النتاج الفكري التنويري العربي ومقولاته الرئيسة ولو على مستوى لا يصل لجوهر التنوير الأوروبي بشكل كبير.

ولكن إلى ماذا كان يهدف التنوير الأوروبي؟ يقول كانط أحد فلاسفة التنوير الكبار: "التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور، التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر(عند الإنسان) بمعزل عن الآخرين.والإنسان القاصر مسؤول عن قصوره، لأن العلة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. ثم قال "لتكن لديك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك" ذلك هو شعار عصر التنوير". إذن كان هدف التنوير الأوروبي هو "الإنسان"، عودة له وبناء لشخصيته الفاعلة وإلزامه مسؤولياته التي هو وحده مسؤول عنها. خصوصا مسؤولياته الفكرية المتمثلة في استقلال الفكر وحريته وخروجه من ربقة الوصايات الخارجية. وهذه كلها عقبات كان صراع التنوير الأساسي مواجهتها، وهز أركانها عن طريق التنظير لمبادئ التنوير، وهذا الأمر قد قام به الفلاسفة الكبار وكذلك ممارسة المسؤولية والحرية في الفكر، وهذا ما قام به بامتياز وشجاعة علماء الطبيعة ورجال الفن التشكيلي والشعري والروائي والموسيقي. لقد كان التنوير عملا واقعا ذا عمق واحد وفضاءات وأجواء وتمظهرات متعددة وبارزة.

أما آليات العمل التنويري فقد كانت ترتكز أولا على قيم العقل بوصفها المعتبرة والمعتمدة. ولزوم دعمها في مواجهة ركام الجهالات والثقافات الشعبية الخرافية التي كانت سائدة وقوية الجذور في ذلك الوقت كما كانت ترتكز أيضا على قيم الحرية باعتبارها المناخ الذي لا يمكن للتنوير التحقق إلا فيه. وهذا المرتكز كان يواجه الأعداء الأكثر شراسة وبطشا وفطنة . إنها الطبقة " العالمة " في ذلك الوقت، الكنيسة المتحالفة بقوة مع فكر القرون الوسطى. كان الصراع شديدا وتطلّب كثيرا من التضحيات والأثمان الغالية، ولكن تلك الطبقة تحت وقع الجدل العقلاني الحر، لم تلبث أن تهاوت دون أن يأسف عليها كثيرون.

هذه التجربة التنويرية الناجحة تمثل لدعاة التنوير العربي مخيالا مثيرا يمكن استلهامه، وقل إن شئت إعادة التجربة في البيئة الخاصة، هذا الشعور من كثير من المفكرين العرب الكبار يبدو منطقيا، حين نقارن بين الأهداف التي يراد بدء التنوير العربي منها وأهداف التنوير الأوروبي نجد أنها مشتركة، فالإنسان هو أساس البناء، ودون إعادة إنسانيته المتمثلة في عقله وحريته فإنه لا يمكن أن يسهم في بناء وتنمية، فعوائقه الداخلية ما تزال تمسك به وتقيده وتسلب منه أسلحته، وأنّى للإنسان الانطلاق والنجاح في الخارج مادام لم يحسم مع داخله القريب.

لكن الكثير من الخبراء في الشؤون والأوضاع الداخلية العربية يعتقدون أنه ما لم يتم العثور على نموذج للتنوير في التراث الفكري والفلسفي العربي فإن المحاولات التنويرية العربية لن تنجح، فالعقلية العربية ترسخ في أعماقها توجس وتخوف من الآخر المختلف، فهو لا يزال هو الغازي الصليبي أو المستعمر الناهب أو الكافر الذي لا يمكن أن يملك النافع والمفيد لنا.وبالتالي فإن طرح التجربة الأوروبية دون سند تراثي لن تفلح ويستشهدون ببعض التجارب التي لم تتحصل على امتداد وقبول على مستوى واسع.

على إثر هذه الفكرة جرت محاولات متعددة في البحث عن نموذج من التراث العربي يمكن استلهامه والاستناد على مقولاته الفكرية في تأسيس حراك تنويري عربي. لم تكن الخيارات بتلك الكثرة والتنوع بل كانت محصورة في الفكر الفلسفي تقريبا وبشكل ما في بعض المقولات المعتزلية, إلا أن الشخصية التي حازت على الاهتمام والعناية الأكبرين هي شخصية وفكر أبو الوليد ابن رشد الحفيد. وذلك لعدة أسباب أراها لعل من أهمها:

السبب الأول: أن قيمة العقل في فكر ابن رشد مركزية وأساسية. والعقل عند ابن رشد هو العقل البرهاني الصارم وليس العقل الجدلي أو الخطابي اللذين قد تلبسا بموروث أصبح بحد ذاته عائقا للعمل النهضوي والتنويري فيما العقل البرهاني بقي الأقل تفعيلا وبالتالي فهو بشكل كبير متخلص من التراكمات المعيقة، ويبدو بكرا قادرا على العمل بطاقة وحيوية الشباب كما أنه قادر على العمل بفاعلية مع العقل العلمي ولن يقف عائقا أمامه.

السبب الثاني: أن شخصية ابن رشد مطمئنة للمتوَجِس الداخلي فهو الفقيه الكبير والقاضي المعتبر وصاحب المتن الفقهي الموثوق على المذاهب الأربعة "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" كما أنه رسم طريقا آمنة تسير فيها الشريعة آمنة بجانب أختها الحكمة "الفلسفة" بوصفهما حقين، والحق لا يعارض الحق. وابن رشد، كما يقول الجابري، هو الذي دافع عن الفلسفة ليس بالفلسفة بل دافع عنها بالفقه.

السبب الثالث: أن الفكر الرشدي قد أثبت فعاليته ونجاحا في البيئة الأوروبية من خلال الرشدية اللاتينية. يذكر بول كيرتس أستاذ الفلسفة المتفرغ بجامعة نييورك (بافلو) ضمن مداخلته التي كانت بعنوان "الحرية العقلية والعقلانية والتنوير" والمقدمة في المؤتمر الدولي الخامس الذي ترعاه الجمعية الفلسفية الأفرو آسيوية عن "ابن رشد والتنوير" المنعقد سنة 1994م في القاهرة. يذكر أن ابن رشد أو أفيروس كما ينطق باللاتينية قد أسهم في تطوير التنوير في القرنين السابع والثامن عشر. وهو من الممهدين للرؤية العلمية الحديثة بحكم أنه قدم أرسطو لأوروبا مما سبب إشكالا في الفكر الوسيط الذي كانت تحميه الكنيسة في ذلك الوقت، ولا أدل على ذلك من أن كتب ابن رشد قد أحرقت بقرار من مجلس كنسي إقليمي في جامعة باريس ومنع تدريسها بين عامي 1210 و1215 وأعيد تدريسها في عام 1231 ولكن بعد تعديلها وتصحيح أخطائها الكثيرة، وذلك بقرار من البابا. ومن المعلوم عند مؤرخي الفكر الأوروبي في القرن الثاني والثالث عشر الميلادي أن الرشدية كان لها التأثير الكبير في تطوير الأسكلائية (المدرسية) ودفع العقل إلى الصدارة الرسمية في المسيحية. فهو إذن فكر مجرّب وأثبت فاعليته.

السبب الرابع: أن شخصية بن رشد مغلّفة بتراجيديا مثيرة جدا للمثقف العربي، فهو يتماهى معها وكأن الظروف هي هي لم تتغير، فالاضطهاد باسم الدين والسياسة لا يزال المثقف العربي يعانيه وإن كان ابن رشد قد أحرقت كتبه ونفي إلى أليسانة، وهي بلدة لليهود، وأمر ألا يُخرج منها، فإن أحوال المثقفين العرب ليست بالأحسن والأفضل.

كل هذه الأسباب وغيرها، ربما، جعلت من ابن رشد الفيلسوف الذي يمكن استلهام كثير من مقولاته في تأسيس وبناء فكر عربي نهضوي. ليس هذا كلاما نظريا فقط، بل إن هناك ما يمكن تسميته بمدرسة رشدية معاصرة في المغرب العربي، فقد قامت هذه المدرسة بتحقيق مؤلفاته من جديد وتقديمها بمقدمات وشروحات حديثة، وذات عمق علمي كبير والمشرف على هذا المشروع هو المفكر المغربي محمد عابد الجابري.

ولكن هناك على الطرف الآخر من يخشى أن نقع في حبائل ابن رشد. بمعنى أن نقع في سلفية رشدية، بينما المشروع التنويري مغاير إن لم نقل مضاد للسلفية في منطلقاته ومناهجه وأهدافه، فابن رشد، بحسب هذه النظرة، مهما علت قيمته يمثل فكر القرون الوسطى، ولا يمكن أن نستلهم فكر القرون الوسطى في عصر الحداثة وما بعد الحداثة. ومن وجهة نظري الخاصة أن القضية تتحدد في المنهج الذي نتعامل به مع فكر ابن رشد، فإن كان منهجا تسليميا متلقَيا بسلبية تحت تأثير الهالة ويعتقد أن ابن رشد يملك كل الحلول، فإنه السلفية التي أردنا الفكاك منها. أما إن تم التعامل مع تراث هذا الفيلسوف الكبير بروح النقد ورغبة التجاوز بحكم أنه يحتوي على بذور العقلانية التي يمكن من خلالها زراعة أشجار تخصنا نحن ونزرعها بأيدينا نحن، فإننا سنكسب في القريب حراكا فكريا وثقافيا عقلانيا تنويريا يحاول فك كثير من الاحتقانات الفكرية والثقافية التي تكاد توقف وتعطل كل عمل تنموي وتنويري خصوصا في قضايا العقل والعلاقة بين الدين والفلسفة بل حتى لغوي، فمن المعلوم أن ابن رشد له مساهمات في النحو واللغة.

التنوير أم الإصلاح ؟(11)

  يقدم لنا الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان «الأنوار المعمية» أحدث وأطرف نقد لحركة التنوير الأوربية، ليس من منظور فلسلفي مجرد، ولكن من منطلق قراءة كاشفة لواقع العالم وأوضاعه ولعلاقة الغرب بالأمم والثقافات الأخرى، وفي مقدمتها الفضاء الإسلامي.

صحيح أن نقد فكر الأنوار ليس بالجديد على الفلسفة الغربية، بل لعله انطلق مع بداية هذا الفكر نفسه. فجان جاك روسو فيلسوف الأنوار الكبير انتبه في كتاباته إلى بعض جوانب هذا النقد، مبينا على الأخص أن دينامكية العقل والتحرر لا تستغني عن روحانية الانتماء ومتيافيزقا الأمل.

والمعروف إن هذه الحركية النقدية للأنوار قد بلغت أوجها مع كتابات نيتشه وفلاسفة ما بعد الحداثة، ومع ذلك فان تركة الأنوار ظلت ولا تزال المرتكز الأساس في الوعي الغربي الحديث، ومقوم النسق المعياري للثقافة الغربية.

ولعل الفكرة المحورية التي تلخص حركة الأنوار هي النزعة الكونية الإنسانية التي يرى دوبريه أنها أخفقت في التحول إلى فكرة كونية مقبولة، ولا تزال خصوصية ثقافية غربية، على الرغم من اندماج الفضاءات الحضارية المختلفة في المنظومة المعيارية للحداثة الغربية.

فمشروع الأنوار الذي نجح في أوربا فشل خارجها، وبالتالي لا يزال هامشيا على الصعيد الإنساني الأوسع. وإذا كانت هذه الملاحظة ليست بالجديدة بل نلمسها لدى الكثير من الكتاب، إلا أن ما يميز ملاحظة دوبريه هو انه لا يحمل الثقافات الأخرى مسؤولية هذا الاتفاق، بل يرجعها إلى مظاهر قصور ذاتي في ديناميكية التنوير ذاتها.

ويذهب دوبريه إلى القول إن رهان القرن الجديد يتمثل في التعامل مع ثلاث مناطق معتمة، خلفتها لنا حركية الأنوار هي الإيمان والانتماء والعنف.

فالفكر التنويري راهن على القضاء على المقدس بنشر العلم والتقنية، وإذكاء سلاح النقد، فإذا بالمقدس يعود في أكثر أشكاله تطرفا وغرابة، وإذا به يتأقلم مع الموجات الجديدة من الحداثة فيبلغ الإيمان الديني أوجه في كعبة العولمة (الولايات المتحدة حيث 93% من الأمريكان يؤكدون إيمانهم بالله والتزامهم بالطقوس).

كما راهن على تحرير وعي وإرادة الأفراد للخروج بهم من اسر الانتماءات الضيقة، فإذا بأنماط جديدة من القبلية ومن الخصوصيات العرقية والثقافية تعود بقوة مهددة الكيانات القومية العريقة بالتفكك.

وفي حين راهن فكر الأنوار على قدرة الدولة القومية المندمجة ذات النظام الديمقراطي المستقر على تأمين السلم الدولي وإخراج البشرية من وحشية الحروب، إذا بالحروب المدمرة والفتن الفظيعة تعصف بأمن العالم واستقراره.

فهل استنفد إذن مشروع الأنوار أغراضه؟

يدعو دوبريه في إجابته عن هذا السؤال للخروج من ثنائية التبشير بالأنوار ومحاربتها، بطرح خيار «ما بعد الأنوار» الذي هو نمط من النظرة «المضيئة ـ المعتمة» التي تتحرى رصد حركة الواقع المعاصر في جوانبها الحركية، بالحفاظ على الجوهر المعياري للتنوير بصفته حركة تحرر ونقد وعقلنة، مع التخلي عن سذاجته الآيديولوجية المستهلكة، معتبرا أن هذه المراجعة ضرورية لتطبيع علاقة الثقافة الغربية مع غيرها من الثقافات، وعلى الأخص الثقافة الإسلامية التي تكاد تحتكر واجهة الصدام مع الغرب.

ومن المفارقات المثيرة أن يتزامن كتاب دوبريه مع انبثاق اتجاهات جديدة في الساحة العربية تطلق على نفسها تيارات التنوير، ومن بينها من يرفع الشعار الإسلامي.

والمثير للانتباه هنا أن هذه التيارات تصدر عن خلفية مراجعة نقدية للآيدولوجيا العربية المعاصرة، من منظور عقلاني نقدي يستلهم القيم الليبرالية للتنوير الأوربي، وقد أصبح لبعض هذه الاتجاهات صيغ مؤسسية ثابتة، من أشهرها مؤسسة تحديث الفكر العربي، التي أعلنت في بيروت قبل ثلاث سنوات، وصدرت لها بعض المنشورات التي لا يبدو أنها لقيت انتشارا يذكر.

كان المفكران المرموقان محمد عابد الجابري وحسن حنفي قد تساءلا في حوارهما المشهور الذي أطلقا عليه «حوار المشرق والمغرب» عن منزلة فكر الأنوار في الثقافة الغربية الحديثة. وفي حين اعتبر حنفي أنه المرجعية المؤسسية للنهضة العربية الحديثة، ذهب الجابري إلى أن الإصلاحية العربية ظلت مؤطرة بالسلفية الجديدة، وان رمت إلى استيعاب الاصطلاحات الأنوارية خارج سياقها الإشكالي والنظري.

ما يمكن قوله بعد مرور عقدين على حوار الصديقين الجابري وحنفي، هو أن المشهد العربي تغير نوعيا بتأثير مضاعف من سلفية فقدت تدريجيا روحها الإصلاحية لتتحول إلى نزعة تدميرية عدمية متحجرة (يتعلق الأمر بالسلفية الجهادية الخارجة عن عباءة القاعدة)، وتحديثية فقدت نفسها الليبرالي لتتحول إلى غطاء آيديولوجي للأحادية السياسية، في حين لا يزال التفكير حول مشروع التنوير مطلبا يحتاج للتحقيق.

نزاع حول عصر التنوير: الفلسفة، الحداثة، وتحرر الرجل(12)

المؤلف: يوناثان اسرائيل

تــــرجمة: فاروق السعد

عن الايكونومست

ان حركة التنوير بحاجة الى عملية إنقاذ، او هكذا يعتقد يوناثان اسرائيل، المؤرخ الرفيع الشأن المختص في القرن السابع عشر في هولندا. ففي 2001 نشر " حركة التنوير الراديكالية". وهو يقدم الان الجزء الثاني، والثالث سيأتي لاحقا. ستكون هذه الثلاثية اول تاريخ شامل لحركة التنوير منذ عقود- ويبدو ان التفسير الجديد للسيد اسرائيل قد اعد نفسه لكي يبز غيره -. كانت الفترة قد عدت في يوم ما على انها فصل مجيد في تاريخ الجنس البشري،

وهو الوقت الذي تغلبت فيه قوى النور( العلم، التقدم و التسامح) على قوى الظلام ( الخرافة و الانحياز) . واليوم، هنالك ميل الى رفض حركة التنوير. فجماعة ما بعد الحداثة يهاجمونها لأنها منحازة، تخدع نفسها وهي في النهاية مسؤولة عن أسوء ما في الحضارة الغربية. ويتهمها جماعة ما بعد النظام الاستعماري بأنها متعصبة لأوربا، تبرير للامبريالية. ويرفض المؤرخون الوطنيون فكرة الحركة العالمية المترابطة، مفضلين الكلام عن حركات التنوير الانكليزية، الفرنسية، وحتى الأيسلندية. لقد وضع السيد اسرائيل لنفسه مهمة الدفاع عن أولائك النقاد و اعادة تقييم الفترة على انها الحلقة الحاسمة في تحرر الرجل. ان محاججته مقنعة. فهو يجادل من انه كان هنالك حركتي تنوير، احدهما راديكالية، والأخرى معتدلة. ان الراديكاليين، باستلهامهم من سبينوزا، قد كانوا ماديين، ملحدين و من المنادين بالمساواة بين البشر. اما المعتدلون، الذين كانوا يتبعون لوك و نيوتن، فقد كانوا محافظين وعددهم في التسلسل الكهنوتي الديني للقرن 18 بأوربا اكثر من الراديكاليين. لقد دافع هؤلاء عن قيام حركة تنوير جزئية. حسب ما يرى السيد اسرائيل، لم يقدم سوى الراديكاليين حركة تنوير حقيقية، بإعطائهم لنا ديمقراطية، مساواة، وحرية شخصية، وأخلاق دنيوية.ومن الجهة الأخرى، ترك المعتدلون إرثا غامضا و، في النهاية، مؤذيا. وفي الوقت الذي عملوا فيه على الترويج للتسامح، إلا إنهم بقوا غير مرتاحين لفكرة المساواة العالمية. وفي لوقت الذي دافعوا فيه عن العقل، إلا إنهم فشلوا في فصل الأخلاق عن الدين و حاولوا عقلنة الأيمان. يجادل السيد اسرائيل بأنه طالما يعامل المؤرخون كلا الجناحين من حركة التنوير حركة واحدة، فإنهم أساءوا فهم الظاهرة. و الأسوأ من ذلك، إنهم يقدمون الى النقاد في هذه الأيام دليلا هم بحاجة إليه لتلطيخ سمعة الحركة. ان إعادة التقييم هذه تنوي تقديم صورة غير معتادة عن حركة التنوير و حاملي رايتها. فطبقا للسيد اسرائيل لم تولد " القيم المتنورة" في إنكلترا بل في هولندا، كما انه يعيد صياغة الرجال من أمثال لوك وفولتير، وحتى هيوم، الذين كانوا يعتبرون في يوم ما رواد حزب النور، مدافعين عن النظام الاستعماري و أعداء للمساواة. ان بحث الكاتب المذهل واستيعابه للمصادر كان على درجة من الجودة حتى انه سوف لن يكون هنالك إلا القلة ممن يعترضون على جوهر نزاعه من ان حركة التنوير كانت متماسكة، ظاهرة شملت أوربا، عقلية في أساسها، والتي مثلت تحولا عميقا في الطريقة التي كان ينظر فيها الرجال الى أنفسهم و العالم المحيط بهم. يرغب السيد اسرائيل في ان يدرس كتابه خارج الأكاديميات. في عالم مثالي يقرا من قبل الجميع. عليه، فمن المخزي، بان القلة سيفعلون ذلك. وعلى العكس من أسلوب ودهاء كتاب حركة التنوير الأوائل المشهورة، فان الكتاب مطول و حافل بالتكرار، الحجج غير مباشرة و أحيانا عصية على المتابعة، ليس اقلها لان طول الجمل يصل الى 160 كلمة.

 ........................................................

المصادر/

1- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

2- المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة- ايسيسكو

 3- مراجعة: د.ابراهيم الحيدري  /    صحيفة المثقف

 4- هاشم صالح/  الحوار المتمدن

 5- الدكتور عبدالله تركماني  / منتدى نغم

 6- منتدى نساء سورية

 7- تركي علي الربيعو / صحيفة الجزيرة السعودية

 8-   فاروق جويده / جريدة الأهرام

 9- أميرة كشغري/ الوطن السعودية

 10- عبدالله المطيري/ الوطن السعودية

 11- السيد ولد أباه/ الشرق الاوسط اللندنية 

 12- جريدة المدى العراقية

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 6 آب/2007 -22/رجب/1428