مصطلحات سياسية: العسكريون والسياسة

العسكريون والسياسة: military and politics

شبكة النبأ: لانجد على العموم تحليلاً لتدخل العسكريين أو القوى المسلحة السياسي كمؤسسة إلا في حالات الانقلابات العسكرية أو الأنظمة التي تنتج عنها. لكن تجدر الملاحظة أن مشكلة هذا الاهتمام المبرر للتعبير السياسي الأبرز للجيش أو أفراده يحجب الأبعاد الأخرى لعلاقة العسكريين بالسلطة.

فقط بعض النقاط استرعت الانتباه في مساحة الظل الواسعة هذه. أولاً النقطة المتعلقة بالأصل الاجتماعي لأجهزة الضباط ولتوجهاتهم الإيديولوجية أو الحزبية، والتي درسها في فرنسا عالم النفس الاجتماعي هـ. ج. ب. توماس. وكذلك الناحية الأخرى التي تتناول الدينامية السياسية الداخلية للجيش كمؤسسة كلية أو مكتفية بذاتها، وانشقاقاتها الخاصة التي درسها آلان روكييه في ما يخص "الأحزاب العسكرية" في أمريكا اللاتينية، أو أيضاً وضعه الشامل في الدولة والمجتمع كما تناولته الأعمال التي استلهمها أنور عبد الملك من أحوال العالم الثالث وخصوصاً العالم العربي. يبقى أن أعمالاً من هذا النوع تنقص فيما يتعلق بمحل العامل العسكري في الأنظمة الديمقراطية، ويبقى الطرف العسكري الفاعل غائباً عن الأعمال الحديثة حول السياسة العامة، وعن دراسات أكثر قدماً حول مجموعات الضغط باستثناء تلك المخصصة للتعددية البيروقراطية في الاتحاد السوفيتي السابق، وعن تحليل المشاركة السياسية، أو أيضاً ومن دون إغلاق لائحة الثغرات، عن الأبحاث التي كان بوسعها تناول دور الجيش في تشكيل الدولة الحديثة، وقد عالج هذه المسألة الأخيرة مؤرخون مثل أوتو هنتز، بينما لم يكترث لها علماء السياسة.

نشير من جهة ثانية إلى أن عبارة "عسكري" تبدو من ناحية واسعة الشمولية، ومن ناحية أخرى شديدة المحدودية. تبدو شاملة عندما توحي بالخلط بين العسكريين كأطراف فاعلين إفراديين وجمعيين والجيش كمؤسسة معقدة، فرع من الدولة وأيضاً منظومة مستقلة تجد تقريباً كل مواردها في داخلها نفسه. وهي بالمقابل محدودة عندما لا تشير إلا إلى جنود جيش نظامي، لغوياً، تشتق كلمة "عسكري" militaire من كلمة ميليشيا milice. ويبدو أن بعض الميليشيات غير النظامية ترتبط هي أيضاً بالظاهراتية العسكرية في قلب حكومات المقاومة أو النضاليين Guerilla. وما تجدر الإشارة إليه بهذا الخصوص هو أن أعضاء هذه الميليشيات غير النظامية يعتمدون روحية عسكرية، ويتصرفون في قلب منظماتهم السياسية مثل العسكريين المحترفين تجاه الدولة. وقد يحصل أن يستلموا السلطة (داخل التنظيم) عبر انقلابات داخلية، فيدافعون عن قيمهم ومصالحهم الخاصة، ومن هنا الانقسامات المعروفة بين الجناحين العسكري والسياسي للحركات الثورية.

متعلقات

العلاقات المدنية - العسكرية في اطار الحركة الوطنية اليمنية (1)

مدخل :

يرى بعض المفكرين أن العلاقات المدنية- العسكرية هي الاطار الاوسع الذي يمكن من خلاله فهم الدور العسكري بصورة أكثر موضوعية, ذلك أن طبيعة تلك العلاقة لا بد وأن تفصح عند الظروف التي يتحدد في ضوئها حجم ونوع وعوامل التدخل العسكري في الشؤون السياسية , سيما وأنها (العلاقات المدنية- العسكرية) المحدد الرئيسي وفق هذا الاتجاه لدور كل من المؤسسة العسكرية والمؤسسة المدنية.

وقد تناول تلك العلاقات من إتجاهين مختلفين ولكنهما متداخلان:

الأول: نماذج السيطرة المدنية على القوات المسلحة.

الثاني: نماذج التدخل العسكري في الشؤون السياسية.

أولاً- نماذج السيطرة المدنية: (1).

خبرت المجتمعات الانسانية- وفق الآراء - منذ عصر الاقطاع والسيطرة الكنسية في اوروبا وحتى العصر الراهن ثلاثة نماذج للسيطرة المدنية هي:

1- الانموذج التقليدي (The Traditional Modei ).

2- الانموذج الليبرالي (The Libral Model).

3- الانموذج التدخلي, أو الاختراقي (The penetration Model).

(1) الانموذج التقليدي:

ظهر هذا الأنموذج في القرن السابع عشر والثامن عشر الميلاديين عندما كانت الطبقة الارستقراطية هي الطبقة السائدة في اوروبا، كما كانت تلك الطبقة بشقيها المدني والعسكري تعيش تحت سقف واحد قوامه المصلحة المشتركة وتدافع عن قيم متشابهة وتقوي صلاتها بالروابط الأسرية وتوزيع أبنائها ما بين الجيش والكنيسة وتم تعزيز كل ذلك بأن جعلت قيادات الجيش بمستوياته المختلفة مغلقة على ابناء الارستقراطيين الذين هم مدنيون أريستقراطيون أولاً وعسكريون ثانياً الأمر الذي جعل خلافات أبناء تلك الطبقة خلافات ثانوية ونادرة يسهل حلّها في إطار الخط العام المحدد للدفاع عن المصالح الاقطاعية الكنسية.

ب. الانموذج الليبرالي:

يعتمد هذا الانموذج الذي ظهر في البلدان الرأسمالية على تحديد الفروق في المهام المحددة سلفاً لكل من المدنيين والعكسريين.

وفي ضوء ذلك تحددت مهام المدنيين في تولى المناصب الحكومية , معينون ومنتخبون وأوكل اليهم تحقيق الأهداف الداخلية والخارجية وتطبيق القوانين والتحكم في الصراعات والاختلافات التي قد تنشأ بين ذوي التخصصات المختلفة.

أما العسكريون فقد حصروا مهامهم في التدريب على استخدام ادوات القوة الدفاعية عن النظام وحماية الأمن القومي داخلياً وخارجياً وتقديم النصائح اللازمة للسلطات المدنية في كل ما يتصل بشؤون الدفاع وتقبل توجيهات السلطات المدنية في حالة الخلاف في وجهات النظر.

الأمر الذي يجعل السلطات المدنية في النظم السياسية الليبرالية تمتلك الإمكانيات المطلقة لأي تحول دون اشتغال العسكريين بالسياسة , خاصة وأن هناك أساساً آخر ؟ في هذا الانموذج هو الزام المدنيين باحترام شرف الجندية واحترام العسكريين وتقدير خبراتهم وعدم التطرف السياسي , خاصة في التصريحات السياسية التي تتعلق بالأمور العسكرية وعدم التدخل في الشؤون العسكرية الصرفة مثل: الترقيات والامتيازات الخاصة بالقوات المسلحة وعدم توجيه القوات المسلحة في مهام تتعلق بالصراعات السياسية الداخلية, وكلها امور تعزز توطيد الروابط العسكرية- المدنية وتعزز مستوى سيطرة الحكومة المدنية على القوات المسلحة وإعلاء مستوى الاحتراف العسكري الذي يعني إنكار أي دور سياسي عسكري مستقل.(1).

ج. الأنموذج التدخلي أو الاختراقي:

يحظ" الحكام المدنيون في هذا الأنموذج بولاء القوات المسلحة عن طريق تأسيسها بواسطة المفوضين السياسيين الذين ينتشرون في الوحدات العسكرية, وتكون لهم الكلمة العليا في أمور كثيرة.

تتركز المناقشات في الندوة والمحاضرات السياسية التي تقيمها الاكاديميات والمعاهد العسكرية حول تشكيل معتقدات أفراد القوات المسلحة بهدف تواؤم أفكار المدنيين والعسكريين, وذلك سعياً نحو القضاء على عناصر الصراع بين الطرفين.

إن جهوداً كبيرة تبذلها القيادات المدنية في النظم السياسية التي يتم فيها اختراق القوات المسلحة تهدف في مجملها الى إقناع العسكريين من خلال البرامج النوعية السياسية المكثفة بأهمية العمل السياسي الذي يقود الى الوعي والإقناع وبناءً على ما سبق تصبح القوات المسلحة في النظم الداخلية جزءاً من بنية النظام السياسي لا تقتصر مهامها على العمل العسكري بل تتولى مهاماً عديدة في تخصصات مختلفة.

وبغض النظر المعتمد على النماذج الثلاثة السالفة الذكر يجدر بنا قبل الدخول الى صلب موضوعنا الرئيسي أن بشكل موجز الى نماذج مقابلة لنماذج السيطرة المدنية هي نماذج التدخل العسكري في الشؤون السياسية وفق الرؤى المتصلة بها.

نماذج التدخل العسكري:

في إطار توجه نظري وايديولوجي محدد قدم بعض علماء الاجتماع والسياسة تصنيفات مختلفة لدور المؤسسة العسكرية الذي يختزله معظم الباحثين في مصطلح:" الضباط" كقادة ومحركين للمراتب العسكرية الدنيا التي لا يملك منتسبوها سوى التنفيذ ولا عبرة بالاستثناءات غير الدالة.

فبينما اعتد كل من " عاموس بيرلموت" " ونورد لينجر" على طبيعة التدخل الذي يقوم به الضباط استند " موريس جانويتز" في تفسيره للتدخل الذي يقوم به ضباط الجيش الى الظروف السياسية التي انشىء في ظلها الجيش وأثره في حجة وطبيعة التدخل العسكري.

وفي هذا الصدد ليس ثمة اختلافات جوهرية بين التصنيفين سوى في عدد النماذج فقد ذهب الأول الى تصنيف الضباط الى ثلاثة نماذج هي:

 (1) وسطاء (Moderators

(2) حراس (Garians).

(3) حكام (Rulers).

أما الثاني (بيرلموتر) فقد اكتفى بتصنيفهم الى أنموذجين فقط :

1- الانموذج الوسيط (The A rbirataor ).

2- الانموذج الحاكم (The Ruler Type).

وقد جمع بيرلموتر في انموذجه الوسيط بين خصائص الأنموذج الأول والثاني عند" نورد لينجر".

والحقيقة فإنه ليس ثمة خلافات بين خصائص الأنموذجين فكليهما يكرس لهدف واحد هو: " حفظ النظام القائم والحيلولة دون أي شكل من أشكال التغيير وقمع القوى الاجتماعية التي تتطلع اليه او استخدام كل الوسائل لتحقيق ذلك الهدف بما في ذلك الضغط على الحكومة المدنية التي قد يؤدي سلوكها الى الإطاحة بالنظام والتهديد بالانقلاب واللجوء اليه إن أقتضى الأمر ذلك وذلك في إطار البيت الواحد..

وبالنظر الى ذلك فسوف يتم تناول انموذجي الضباط الوسطاء والحكام لنعرف من خلالهما طبيعة التدخل العسكري الذي حدث في اليمن وهل له صلة بأي منهما أم أنه قد شكل حالة خاصة فرضها واقع اجتماعي وسياسي ؟ عسكري آراء مجتمع ما قبل الثورة.

اولاً- الانموذج الوسيط:

ويتسم هذا الانموذج وفق الرؤية السابقة بسمات اساسية.

1- قبول النظام الاجتماعي القائم ومقاومة أية محاولة لاحداث أية تغييرات جوهرية في نظام الحكم أو بنية السلطة التنفيذية (Executive Structu ) ذلك أن دورهم يقوم على اساس ايديولوجي مضاد للتغيير الثوري باعتبارهم جزءًا من القوى المحافظة وأداة الضبط التي تستخدمها في آن واحد.

2- يتميز ضباط هذا الأنموذج بأنهم مدنيو التوجيه لأن من اختصاصهم حماية الحكومة الدستورية والحفاظ علىها واذا ما تدخلوا بفعل فساد حكومي أو سياسي قد يؤدي الى الإطاحة بالنظام فإنهم سرعان ما يعودون الى الثكنات بعد القضاء على عوامل تقويض النظام السياسي الذين يدينون له بالولاء وتظل سطوته في حماية النظام قائمة مالم يجبرون على غير ذلك.

3- ليس لضباط الأنموذج الوسيط تنظيم سياسي مستقل كما أنهم لا يبذلون أي جهد للوصول الى اقصى حد بحكم الجيش.

4- يفرض الانموذج الوسيط في حالة تدخله زمناً محدداً لحكم الجيش وينتظر أن يسلم الحكم الى المدنيين لأنه ينظر الى الحكم العسكري الممتد بإعتباره مفسدة لكمال الجيش الحرفي ولا يستمر هذا الانموذج في الحكم إلاّ في حالة إستمرار ما يعتبره فوق سياسة لا تخدم استقرار النظام وهو مفهوم مقابل لأنه نشاط مضاد للسلطة الحاكمة ويشمل كل أوجه النشاط السياسي الاجتماعي العام ولا يعني الاستقرار السياسي سوى الخضوع للأمر الواقع.

5- يعمل من خلف الكواليس كجماعة ضغط في اتجاه تحقيق بعض المطالب التي قد تكون شعبية ولكنها تساعد على المحافظة على النظام القائم.

6- هذا الانموذج من الضباط ينحصر في كبار الرتب العسكرية ذوي المستويات القيادية العليا الذين يعون بشكل جيد أهمية الحفاظ على النظام القائم لما في ذلك من حفاظ على مصالحهم بغض النظر عن مصالح المجتمع(1). وهو ما يفسر أدنى مافي التراتب العسكري والمستوى الاجتماعي , شكلوا أنموذجاً آخر مغاير.

ثانيا- الانموذج الحاكم.

إتسم هذا الانموذج في شكله المجرد كظاهرة بخصائص كانت على النقيض من الانموذج الحاكم بأنه: (2).

1- يرفض النظام القائم المحافظ, ويتحدى شرعيته.

2- يفتقد الثقة بالحكم المدني, وليس لديه توقعات بالعودة الى الثكنات , ولا عبرة بالتصريحات الاعلامية المطمئنة للمدنيين عقب الوثوب الى السلطة.

3- يمتلك تنظيماً سياسياً , وينزع بأن يصل بحكم الجيش الى أقصى حد.

4- مقتنع بأن حكم الجيش هو البديل الأمثل الوحيد للفوضى السياسية وللقضاء على التخلف ولا يخفى على كل ذي رؤية سياسية ثاقبة هذا المعنى.

5- يضفي على الحرفانية (profissnalism) ) صبغة سياسية.

6- يعمل علانية.

7- لا يتوجس من الجزاء المدني.

ويتمركز العسكريون في هذا الانموذج بالقوة والفاعلية الهائلة في الممارسة وكذلك بالاهداف السياسية والعسكرية الطموحة التي تعطيهم أهمية خاصة عند دراسة الظاهرة العسكرية , فهم لا يمسكون بزمام الحكم وحسب, بل يعملن على السيطرة على أجزاء كبيرة من الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية من خلال إحداث بنى تعبوية Mobilization Structuer) ) تحقق لهم أهداف السيطرة.

فما طبيعة النظام السياسي الامامي, وأين يقع العسكريون اليمنيون من هذه النماذج , وفي الاطار المختار لهذه الورقة ,أي حركة المعارضة للنظام , او الحركة الوطنية كما هو وارد في عنوان هذه المشاركة المتواضعة الموجزة , وذلك من خلال رصد الدور السياسي للعسكريين منذ ثلاثينيات القرن العشرين عبر محطات نضالية عديدة توّجت بـ" ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م.

ولكي لا نتوه في تفسير وشرح طبيعة النظام السياسي الإمامي فيما يتصل بموضوعنا فإنني سأكتفي بالقول بأن النظام الملكي الإمامي كان ينتمي الى الانموذج الاول من النظم السياسية التي سبق الاشارة الىها" الانموذج التقليدي", ويكفي في هذا أن أشير الى أن أمير الجيش المظفر قبل الثورة قد كان أحد رجال الدين الذين لا علاقة له بالجندية ومواصفات منتسبيه أولئك ما أهله لذلك انتسابه إلى الشريحة العليا من الطبقة الحاكمة وقرابة النسب من البيت المالك بالإضافة إلى عشرات النماذج من أبناء الأسر النافذة الذين صاروا أمراء عسكريين في وحدات الجيش بالقرار الإمامي المصوّغ له الى المكانة الاجتماعية العليا والقرب من النظام.

التشابه والاختلاف في البداية والخاتمة في إطار الروح الواحدة.

ثمة مايشبه الاجماع على أن التجمعات الاولى للحركة الوطنية المعارضة للنظام الإمامي قد بدأت عقب هزيمة الجيش اليمني في حربه الدفاعية عن الاراضي اليمنية في مواجهة كل من الاستعمار البريطاني في جنوب الوطن والطموح السعودي الجامح في شمال وشمال غرب اليمن عام 1934(1).

وقد كان مصدر الغضب الحالة المزرية التي ظهر بها الجيش في تلك الحربين صحيح أن الفارق بين الامكانيات المادية والبشرية وفي الكيف لكل من قوات الاحتلال البريطاني والقوات اليمنية كان كبيراً لكن ذلك الفرق لاينطبق تماماً على توازن القوى بين القوات السعودية والقوات اليمنية لكن الأهم إعداد الجيش للمعارك الحديثة بمعايير ذلك الزمن وتركيز دولة الامام على تركيز نشاط الجيش لمواجهة المشكلات والتمردات المحلية وقد حقق الجيش في ذلك نجاحات كبيرة وتحقق للدولة السيطرة التامة على أرجاء المملكة المتوكلية اليمنية من خلال حروب شملت الاتجاهات الاربعة للدولة ثم التركيز اكثر على اسكات كل صوت معارض والتفنن في التشهير رغم كل المؤشرات التي تنذر بالخطر على السيادة اليمنية على اراضيها منذ (1907) حين أعلن الادريسي نفسه اميراً على عسير وجيزان وحين بدأت القوات البريطانية تمد نفوذها الى خارج مدينة عدن.. الخ.

ولكي لا أخرج عن العنوان الذي التزمت به في هذه المشاركة فإنني سأكتفي هنا بالاشارة الى أن من أبرز مؤسسي التجمعات السياسية المعارضة الأولى في صنعاء عاصمة الدولة ان لم يكن اولهم قد كان "النقيب احمد المطاع" أحد ضباط الجيش في الفترة المشار اليها من خلال مااطلق عليه "هيئة النضال" وفق ما أورده الشماحي (2) فكانت أحد الروافد الوطنية العديدة في مناطق اخرى من الوطن لماعرف بحركة الاحرار ورمزها الأكبر"حزب الاحرار الدستوريين" الاتحاد اليمني فيما بعد.

الجيش والسياسة والسلطة في الوطن العربي(2) 

أنظمة ملكية عسكرية وتقليدية

شهدت العقود الأخيرة نوعا من الاستقرار النسبي أو الانتقال السلمي للسلطة في العالم العربي وخاصة في الدول التي كانت مسرحا تقليديا للانقلابات العسكرية المتتالية في عقدي الخمسينيات والستينيات.  ويبدو النظام الرسمي العربي محكوما بنوعين من الملكية مهما تنوعت التسميّات: الملكية التقليدية للأسر الحاكمة والملكية العسكرية للأنظمة التي تطلق على نفسها غالبا لقب جمهورية.

و لكن غياب حدوث الانقلابات العسكرية لم يرافقه تراجع في سيطرة العسكريين على زمام الحكم في معظم الدول العربية، حيث يتربع على السلطة عسكريون أفرزتهم المؤسسة العسكرية نفسها، أو أغدقت عليهم بالتراضي رتبا عسكرية رفيعة بالإضافة إلى الجمع بين منصب الرئاسة والقيادة العليا للقوات المسلحة.  وحتى في الأنظمة الملكية التقليدية يتبوأ الملك أو أمير البلاد منصب القائد العام للقوات المسلحة أيضا. 

وفي العديد من "الملكيات العسكرية" تم إضفاء الطابع المدني والشرعي على استمرار العسكريين في السلطة عبر إجراء الاستفتاءات أو الانتخابات التي تجري بطريقة لا تسمح عمليا بحدوث منافسة للحاكم المرشح الأوحد وتجاوز القوانين و الدستور من خلال تجديد العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية التي تجعل محاكم أمن الدولة أو المحاكم العسكرية المرجعية المهيمنة للبت في القضايا المدنية و الجزائية بحجة أنها تمس أمن الدولة.

لقد تحول الجيش في معظم الدول العربية إلى العنصر الحاسم في ضمان استمرار الحكم و أضحت مهمته الرئيسية أمنية داخلية كرديف قوي للأجهزة الأمنية الداخلية الأخرى و تزايدت الحالات التي يتم فيها الاعتماد على الجيش في مهمات الأمن الداخلي لدرجة أن طبيعة تدريبه واختيار ثكناته و تمركز تشكيلاته مرهون بالهواجس الأمنية الداخلية وليس لهواجس المخاطر الخارجية مع بعض الاستثناءات في الدول التي لا تزال تحسب حساب المواجهة مع المشروع الصهيوني.

عوامل ساهمت في غياب الانقلابات العسكرية

على أية حال يبدو السؤال المنطقي و المشروع طرحه هنا لماذا غابت الانقلابات العسكرية عن المسرح السياسي العربي لفترة طويلة ؟

كي لا نقع في التعميم المخل هناك حالات من الانقلاب العسكري المباشر وغير المباشر قد جرت في عدة بلدان عربية في الفترة الماضية رغم أنها لم تحمل برمتها الطابع الكلاسيكي للانقلابات وتجدر الإشارة هنا إلى ما جرى في اليمن والسودان وفي تونس والجزائر دون أن ننسى ما تردد من أنباء عن محاولات فاشلة أخرى في عدة بلدان عربية خليجية.  ويبقى الاتجاه الغالب في الساحة العربية هو استقرار الأنظمة التي نشأت في أحضان الانقلابات العسكرية وعدم انتقال العدوى للأنظمة الملكية التقليدية.

يبدو أن الأنظمة الرئاسية (العسكرية أصلا) تمكنت من إتقان فنون البقاء في السلطة و منع الانقلابات عليها بتضافر عوامل عديدة أبرزها:

- تكوين ميليشياتها الخاصة تحت مسميات الحرس الجمهوري أو الوطني أو القوات الخاصة، وربطها بشبكة من العلاقات العائلية أو القبلية و منحها صلاحيات واسعة لحماية النظام مما جعلها عنصر موازنة مع الجيش الرسمي الذي تمسكه بيد من حديد عبر المغريات أو المناقلات المفاجئة لكبار الضباط أو الترقيات والإقالات وحتى التصفيات.  ومارست الأنظمة الملكية التقليدية سياسة موازية لمثيلاتها في تكوين الحرس الوطني أو الأميري وأخضعته أيضا لشبكة الولاءات العائلية والقبلية وجعلته منافسا طبيعيا للجيش، وكانت أكثر اقتدارا في السخاء عليه.

- في ظل غياب السعي الجدي لبناء مؤسسات المجتمع المدني، تحولت المؤسسة العسكرية إلى أهم قطاعات الدولة وأوسعها حجما، والمتلقي للقسط الرئيسي من الميزانية السنوية للإنفاق الحكومي بحجة الإعداد للمواجهة مع المشروع الصهيوني.  ورعت السلطة أفراد المؤسسة العسكرية عبر الإنفاق غير العادي بمنح الزيادات المتكررة في الرواتب وتقديم التعويضات والخدمات وتسهيلات الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية والسكنية وغيرها من المنافع التي ربطت الأفراد وعائلاتهم وجيش المتقاعدين في شبكة المصالح المشتركة، وهكذا تحولت الدولة إلى دولة الرفاه والرعاية الاجتماعية والاقتصادية للقوات المسلحة ومتقاعديها الذين يضمنون مداخيلهم ومنافعهم مدى الحياة طالما أن النظام قادر على توفيرها وفي المقابل يضمن النظام ولاءهم. 

إن عدم انخراط المؤسسة العسكرية في معارك وطنية ضد العدو الخارجي حوّل النخبة العسكرية إلى مجموعة من الموظفين الإداريين بعيدين عن الاحتراف العسكري وإتقان العلوم العسكرية وفنون القتال وإدارة المعارك وحال دون بروز قيادات عسكرية تتمتع عبر خبرتها الميدانية في الصراع بمكانة خاصة لتكون رموزا وطنية تتجاوز بسمعتها وشعبيتها دائرة السلطة الحاكمة وتستجيب للمخيلة الشعبية الطامحة إلى الالتفاف حول أبطال وطنيين قادرين على كسر الطوق المحكم حول الاستئثار بالسلطة وتحفزهم على القيام بحركات إنقاذية داخلية انقلابية.

- واقع التجربة المريرة التي عانتها الحركات والأحزاب السياسية، التي استلمت السلطة عبر جناحها العسكري الحزبي، والتي وجدت نفسها ملحقة به ومهمشة، [مما] جعلها تتراجع عن مجرد التفكير بالعمل الحزبي داخل القوات المسلحة.  كما تعلمت ذلك الأحزاب و الحركات السياسية الثورية الأخرى، وأحجمت أيضا عن توخي العمل مع العسكريين عبر الانقلابات العسكرية، من أجل إحداث التغيير المنشود.  يضاف إلى ذلك تراجع العمل الحزبي المنظم في الساحة العربية نتيجة الهزائم المتكررة التي عانت منها فصائل حركة التحرر العربي بتياراتها المختلفة.

- مصادرة الحياة السياسية و الفكرية والثقافية عمليا من قبل أنظمة الحكم وتطويع الحركات السياسية المعارضة والسماح لتيارات منها بالدخول إلى البرلمانات طالما أنها تشكل أقلية غير فاعلة وتضفي على الحكم طابعا ديموقراطيا شكليا. 

- سيادة المنطق الإقليمي في التعامل مع القضية القومية خاصة منذ عام 74 في مؤتمر الرباط، حيث تم تفويض منظمة التحرير الفلسطينية بالتمثيل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وتكريس التنازل العربي رسميا من المشاركة الفعالة في القضية القومية و تكريس الفصل التعسفي بين الشأن الوطني الداخلي و الشأن القومي وإزالة مفاعيل التأثير الطبيعي لقضية فلسطين المركزية في تثوير الواقع الداخلي لكل قطر عربي.

- انعدام الحاجة لدى الأطراف الخارجية الدولية بالتخطيط أو العمل على إحداث انقلابات عسكرية كوسيلة مفضلة للإتيان بأنظمة حكم متعاونة أو تابعة لها.  إذ أن التحولات الدولية والإقليمية أسهمت في جعل العديد من أنظمة الحكم في العالم العربي تتعاون بصورة طوعية معها.  وتضمن عدم تعرض مصالحها للخطر.

دور المؤسسة العسكرية في الدولة الحديثة

هناك انطباع شائع وخاطئ باستقلالية وحياد المؤسسة العسكرية عن السلطة والنظام السياسي في الدول الغربية الحديثة.  ويساهم في تعزيز هذا الانطباع ترسخ مؤسسات المجتمع المدني في هذه الدول وانحسار دور الزعماء العسكريين الذين تبوءوا السلطة في العديد من الدول الغربية الرئيسية بعد الحرب العالمية الثانية.  ولكن بإلقاء نظرة فاحصة على هذه الدول يتبين لنا أنها تشهد تدخلا واضحا ونفوذا متزايدا من قبل القوات المسلحة في السلطة السياسية بصورة مباشرة أو عبر ممثليها أو حلفائها في المجمع الصناعي الحربي الذي يحتل مرتبة الصدارة في توجيه الاستراتيجية العالمية لهذه الدول ومثال الولايات المتحدة الأمريكية شديد الدلالة على تعاظم دور ونفوذ المجمع الصناعي الحربي في تعزيز اتجاه إدارة بوش الجمهورية لضمان التفوق العسكري الأمريكي المطلق للولايات المتحدة وفرض الهيمنة والسيطرة على العالم.  لقد أتقن العسكريون وحلفاؤهم السياسيون في العالم الغربي الصناعي اللعبة السياسية الداخلية لدرجة لا يحتاجون معها للقبض على زمام السلطة السياسية مباشرة وبصورة مكشوفة، ويفضلون البقاء وراء الستار وخلف الواجهة المدنية التي تتحرك وفقا ل مشيئتهم.  ولقد أضحى الكونغرس الأمريكي مضربا للمثل في الارتهان لإرادة المجمع الصناعي الحربي عندما يصوت لزيادة الميزانية العسكرية بصورة دائمة ويضيف عليها اعتمادات جديدة تتجاوز ما يقترحه العسكريون.

سيطرة العقلية الانقلابية في العمل السياسي العربي

بالطبع يختلف الأمر في العالم العربي غير الصناعي والذي ترعرعت في معظم دوله – وبنسب متفاوتة - المؤسسة العسكرية في ظل سلطات الانتداب الأجنبي قبل نيل الاستقلال السياسي الشكلي واستمرت المؤسسة في نمط تكوينها وتطورها تعتمد على خبرات دول الانتداب الفرنسي والبريطاني ولاحقا الأمريكي، ولا تزال النخبة العسكرية تتلقى تعليمها وخبرتها العسكرية في المعاهد الغربية من خلال إرسال البعثات التعليمية والتدريبية إليها.

وشكلت تداعيات الصراع العربي- الصهيوني منذ قيام إسرائيل – الكيان الوظيفي الاستيطاني- في قلب العالم العربي حافزا إضافيا لتعزيز مكانة المؤسسة العسكرية في بلدان خط المواجهة أو حتى البعيدة جغرافيا عنه وبحجج الإعداد لمواجهة المشروع الصهيوني تلقت المؤسسة العسكرية القسط الأوفر من الإنفاق الداخلي كما ذكرنا سالفا.  ولم يكن مفاجئا أن تندرج معظم الانقلابات العسكرية التي شهدها العالم العربي في إطار التبرير كردّ على عجز الحكومات وتخاذلها في مواجهة المشروع الصهيوني، ولا تخلو بيانات الرقم واحد من التعرض لمحاربة للفساد الداخلي والتبعية للأجنبي والخيانة الوطنية والقومية تجاه قضية فلسطين المركزية.  لقد نشأت الانقلابات العسكرية أيضا في ظل ترسخ العقلية الانقلابية داخل الأحزاب الثورية بكافة اتجاهاتها العقائدية وبررت اللجوء إلى العمل داخل المؤسسة العسكرية بذرائع مختلفة، ولكن الأمر الجوهري هو انعدام الممارسة الديموقراطية داخلها وعدم إيمانها العميق بحركة الجماهير المنظمة رغم خطابها الدعائي التحريضي الداعي إلى تأطير الجماهير وتوعيتها وتنظيمها في اتحادات ونقابات ومؤسسات.  لقد توهمت هذه الأحزاب أن بإمكان ها اختصار الطريق الطويل وتحقيق الثورة والتغيير من فوق.  ولا شك أن تفضيل هذه الأحزاب والحركات للانقلابات العسكرية على التحرك الجماهيري والانتفاضة الشعبية يعكس أيضا نزعتها النخبوية التسلطية وافتقارها إلى روح التضحية والاستعداد لتحمل تبعات ومشقات النضال الجماهيري الثوري الذي يستوجب الاستعداد للسجن والتعذيب والنفي وحتى الموت.

سيناريوهات التغيير في المستقبل ودور المؤسسة العسكرية

يبدو أن الشغف العربي بالعسكريتاريا مغروس في التكوين النفسي والثقافي للفرد في مجتمعاتنا العربية الريفية/الزراعية الطابع أساسا.  لقد كان طموح الفتية بأن يصبحوا ضباطا أو طيارين عندما يبلغون، وحتى مع عملية التحديث والتمدن المشوهة للمجتمعات العربية - بحيث تحولت إلى مجتمعات مدينية كبرى معظمها محاطة بأحزمة البؤس - بقيت هذه الطموحات طاغية رغم تحول الناشئة إلى إضافة مهنة المهندس والطبيب وموظف الحكومة إلى قائمة تمنياتهم المستقبلية.

وربما ساعد إرث الانتداب الفرنسي والبريطاني العسكري وقبله الحكم العثماني العسكري في ترسيخ حفر صورة مبهرة للبذلة العسكرية والنجوم اللامعة التي ترافقها، وتدافعت هذه الصور عبر الأجيال المتعاقبة تمنح مرتدي البذلة مكانة خاصة تستوجب الاحترام والمهابة وترمز إلى السلطة والنفوذ والامتيازات وتنتزع الإعجاب والاعتزاز.

وليس مستغربا في هذه الحالة أن يكون مفهوم النخبة أو الصفوة في المخيلة الشعبية العربية منذ أواسط القرن العشرين قد انحصر بمرتدي البذلة العسكرية أكثر من اقترانه بنخبة الفكر والثقافة والأدب والعلوم والطب والهندسة .  وجاءت الانقلابات العسكرية على أيدي الضباط لتزيد من ترسيخ هذه المخيلة.  ولم يتم طرد هذه الانطباعات من الذهنية الجماعية العربية بصورة نهائية رغم فشل أنظمة الانقلابات العسكرية في تحقيق الإنجازات الداخلية التي وعدت بها الجماهير أو تحقيق الكرامة القومية والانتصار على المشروع الصهيوني.

وليس مستغربا أيضا أن نسمع عن آراء تتردد في أوساط الشارع العربي تفيد بأنه سيتعاطف مع أي تغيير يحصل في العالم العربي حتى لو جاء على صهوة دبابة، لأن الشارع يتحسر على غياب الطليعة الحزبية المنظمة القادرة على إحداث التغيير الثوري ويتألم لتشتتها وهامشية دورها، لكنه أيضا سئم من العجز والإفلاس العربي الرسمي و يرغب في رمي أي حجر من أحجار التغيير في هذه البحيرة العربية الراكدة والآسنة، علّه يجد سبيلا لوقف الانحدار إلى قعر الهاوية، وتذكّره يوميا المجازر الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني بحالة المهانة و الإذلال التي يعيشها قوميا واقتصاديا ولا يجد أمامه من يحاول ردع الهجمة الصهيونية الشرسة غير الأجساد الفلسطينية المتفجرة .  فبقدر ما يعبر عن سخطه الشديد لاستقالة المؤسسة العسكرية العربية عن الفعل القومي لن يكون مستاء من أي تحرك داخلي تقوم به لإحداث تغيير ما في المعادلة الداخلية القائمة رغم تحفظه التقليدي على تجربتها حتى الآن .

قد يتهم البعض هذا الطرح بأنه انسجام مع المشاعر العفوية الجماهيرية وتسويق للتغيير بواسطة الانقلابات العسكرية، و لكن القراءة المتأنية لخريطة القوى السياسية العربية المرشحة لإحداث التغيير في العالم العربي في المرحلة الراهنة تدفع المرء إلى ترجيح احتمالات حدوث موجة جديدة من الانقلابات العسكرية في العشر سنوات القادمة وتستند هذه القراءة إلى الاعتبارات التالية:

- لا تزال المؤسسة العسكرية هي الإدارة الأكثر تنظيما وانضباطا وجاهزية بحكم موقعها الرئيسي في الهيكلية التنظيمية للمجتمعات العربية وبقدر ما هي ضامن أكيد واحتياطي حاسم لضبط الوضع الداخلي إلا أنها مرشحة للانقسام وعرضة للتململ الداخلي تحت وطأة مواجهة الأزمة العميقة الاقتصادية والمعيشية المرشحة للانفجار الوشيك.

- عدم حل معظم النظم العربية لمسألة الخلافة والانتقال السلمي للسلطة والغياب المريب حتى الآن لتحديد هوية الرجل الثاني أو الخليف العتيد وعدم رضا وامتعاض المؤسسة العسكرية من إمكانية اللجوء إلى تأسيس حكم وراثي عائلي في العديد من النظم الملكية العسكرية (الجمهورية).

- لن تكون الأنظمة الملكية التقليدية بمأمن من تدخلات المؤسسة العسكرية خاصة في ظل أوضاع تنجم عن غياب القيادات التاريخية فيها وتنازع مراكز القوى داخل الأسر الحاكمة على تركة الحكم وإمكانية لجوء أطراف منها للمؤسسة العسكرية لترجيح كفتها في السيطرة على الحكم.

- سيبقى سلاح الطيران وكبار الضباط فيه المصدر الرئيسي والحاسم لتدخل المؤسسة العسكرية بحكم دوره المميز وتركيبته الفريدة في دول العالم الثالث، إضافة إلى الإمكانات الواسعة و الامتيازات التي يتمتع بها قياسا ببقية فروع القوات المسلحة. 

إن الوضع الاستثنائي للمؤسسة العسكرية والأمنية في العديد من البلدان العربية قد يتحول تدريجيا إلى المدخل الطبيعي وربما الوحيد المتاح لهز لأوضاع الرسمية إذا لاحت مؤشرات انهيار النظام و فقدان تماسكه تحت وطأة التحرك الجماهيري الغاضب والقادم من تفاقم الأحوال المعيشية وتفشي البطالة واستمرار توفر صاعق التفجير القومي بعدم التوصل إلى حل عادل ودائم للمسألة القومية المركزية.  إن اشتداد الضغوط السياسية والاقتصادية على الأنظمة العربية التي تعاني من المديونية واستمرار انعكاس النتائج السلبية للكونية/العولمة والركود الاقتصادي العالمي، وارتهان هذه الأنظمة لضوابط وقواعد صندوق النقد الدولي و متطلباته سيفرض عليها عاجلا أم آجلا البدء باسترجاع العديد من المنافع والخدمات المميزة التي يتلقاها أفراد المؤسسة العسكرية والأمنية من جيشها الاحتياطي من الموظفين العسكريين والمدنيين كما أن الهزات النقدية التي ستنشأ بسبب التضخم و ارتفاع أسعار المواد الأساسية وانخفاض القدرة الشرائية وقيمة العملة الوطنية ستؤدي إلى هز صورة الاستقرار وستكون "صرخة" أفراد المؤسسة العسكرية والأمنية أقوى واندماجهم أسرع في حركة الشارع الجماهيرية خاصة عندما يتعذر على السلطات إحكام السيطرة على المؤسسة العسكرية خلال فترة مستديمة من التحرك الشعبي.

ربما يكون هذا السيناريو مغرقا بالتفاؤل حيال إمكانية انتقال المؤسسة العسكرية إلى خيارات بعيدة عن حماية النظام القائم ولكنه يبقى احتمالا واردا يستوجب على القوى والمنظمات والأحزاب السياسية التي تنشد التغيير الديمقراطي والجذري في العالم العربي أن تدخل في حساباتها الدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة العسكرية سلبا أو إيجابا في معركة التغيير وألا تدير ظهرها كليا لقطاع واسع من المجتمع وتصنفه بصورة أبدية في المعسكر العادي.  إن عملية إخراج الجيش من المعادلة السياسية الداخلية هي محاولة غير واقعية أو منطقية وعملية الفصل بين الجيش والسلطة والسياسية في العالم العربي ستبقى محاولة لإحلال الرغبات الذاتية مكان الواقع العملي السائد، بانتظار أن يتم إعادة بناء حقيقية وتشكيل مؤسسات المجتمع المدني واعتماد التعددية السياسية والسماح بتشكيل الأحزاب وإصلاح الأنظمة الانتخابية واحترام الحريات والحقوق المدنية.  

الجيش والسياسة(3)

لا يخفي ما للجيش من اهمية وطنية لدي الدول والشعوب الحريصة علي سيادتها واستقلالها وتزداد اهمية الجيوش اثناء الحروب المقدسة التي تدفع العدوان عن اراضيها فقانون الدفاع الفرنسي يضع جميع افراد الامة من نساء ورجال وجميع الموارد وثروات البلاد في يد الحكومة عند الحاجة بل ان الدول تعمل من اجل الاحتفاظ بجيش قوي وكبير يكون دائما علي استعداد تام لمواجهة الحالات الطارئة المفاجئة ولما كان الاحتفاظ بجيش كبير يتطلب مبالغ طائلة فان معظم الدول تلجأ الي الخدمة العامة اي الاجبارية التي تقلل من مصروفات الجيش وهذا ما كان يجري في فرنسا وايطاليا وروسيا وتركيا وايران اما الدول البحرية كبريطانيا المعتصمة خلف البحار فليست في زمن السلم بحاجة الي جيوش دائمة وكبيرة فهي تكتفي بجيش صغير قابل للتوسع عند الحاجة معتمدة في ذلك علي اسطولها البحري وثرواتها ورقي شعوبها.

ولما كان العراق وما يزال ضمن الدول الهادفة الي الاستقلال ولحماية حدوده الشاسعة المكشوفة ومحاطا بجيران يستند الي قوة عسكرية كبيرة لا يمكن للعراق الا ان يكون قوة كافية للدفاع عن نفسه لذلك فإن مسألة اعادة تشكيل جيش عراقي جديد تصبح ضرورة وطنية.ولما كان لدولتي تركيا وايران المجاورتين جيشان قويان منظمان ومجهزان بالاسلحة الحديثة المتطورة فانه من الضروري ان يعد العراق جيشا قويا لا يقل عن قوة جيرانه، جيش قادر علي الوقوف في وجه اي محاولة اعتداء لاسامح الله. جيش عراقي تشترك فيه جميع شرائح المجتمع وطبقاته. ولما كانت الظروف وما تزال تشهد حالات من الفوضي والعنف فهي تقضي ان يتولي العراق المسؤولية التامة عن حفظ الامن الداخلي والدفاع عن حدوده الخارجية. كان الملك فيصل الاول مؤسس الدولة العراقية الحديثة اثناء صدور الدستور العراقي وقانون الانتخابات المباشرة حريصا علي منع افراد القوات المسلحة والشرطة في المشاركة في الانتخابات النيابية ما لم يقدموا استقالاتهم اذ انه كان يؤكد علي منع تدخل العسكريين في السياسة ومنع السياسة في دخول معسكرات الجيش وهذا ما سار عليه الزعيم الهندي نهرو الذي حافظ عقب استقلال الهند عام 1947 علي عدم تدخل الجيش في السياسة مما حفظ الهند منذ ذلك التاريخ من سلسلة الانقلابات العسكرية التي اصابت الدول العربية ولم تصب الهند التي اتجهت بسبب حالة الاستقرار السياسي الي بناء دولة قوية في جميع المجالات. فسلسلة الانقلابات التي شهدها العراق طيلة العقود الماضية انهكت القوات المسلحة اذ سقط المئات من العسكريين وربما الالاف منهم اما رميا بالرصاص او وفاة في السجون والمعتقلات او ابعدوا عن دورهم الحقيقي وجلسوا في بيوتهم وهم في ريعان شبابهم يحملون شهادات عالمية من اكاديميات الغرب والشرق العسكرية.

واليوم ونحن مقبلون علي اعادة تشكيل جيش عراقي جديد لابد من التركيز علي ضرورة ابعاد الجيش عن السياسة وعدم السماح لاي عنصر حزبي كائن من كان ان يدخل القوات المسلحة ومن يرغب بذلك عليه ان يوقع علي وثيقة يؤكد فيها ويقسم ان يبتعد عن الامور السياسية ويبتعد عن الولاءات الاخري الطائفية والعرقية ويكون ولاءه الاول والاخير هو العراق لانه بدخول العناصر الحزبية والسياسية الي القوات المسلحة من شانها ان تدخل الجيش وبالتالي البلاد في دوامة الصراع والعنف الدمويين لانه بمجرد ان تحدث خلافات بين الاحزاب المؤتلفة في الحكم او المعارضة سوف تنعكس لا محال علي العسكريين الذين بدلا من ان يلتحقوا بوحداتهم العسكرية لتهدئة الامور فانهم سيلتحقون باحزابهم وحركاتهم السياسية او الدينية ويغرقون البلاد في بحر من الدماء لا سامح الله. اما الحديث عن تدريب الجيش العراقي لدي حلف الناتو فان ذلك لا يكون البديل للاسس والتقاليد التي نشأ عليها الجيش العراقي بل بالامكان مستقبلا ايفاد اعداد كبيرة من القوات المسلحة للتدريب في الدول الغربية والولايات المتحدة وحلف النيتو كما تقوم به الدول العربية الاخري والعراق قبل عقود من الزمن حينما كان يرسل خيرة العسكريين الي بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة للاطلاع علي احدث ما توصلت اليه العالم المتطور في العلوم العسكرية. ومع اهمية اعادة تشكيل الجيش العراقي الا ان الوحدة الوطنية العراقية تبقي هي القوة الكبري فعراق قوي موحد اعظم من قوة الجيش ومن موارد العراق وثرواته فاذا ما اتحدت جميع الملل والنحل العراقية من عرب وكرد وتركمان مسلمين ومسيحيين سنة وشيعة ويزيديين واشوريين فعندئذ لا تبقي مشكلة امام بناء جيش عراقي قوي وعندها ينال العراق سيادته واستقلاله الكامل وينال احترام العالم اجمع.

كيف تنظر إسرائيل الآن للجيوش العربية؟(4)

أتركوه لتهاويمه وأوهامه يقرأ الغيب في لحظة ويقول الكلام الذي ليس من كلمات!!.. هل يكون هذا حال من يحاول فك ألغاز وطلاسم ملف نقل السلطة في مصر والاجابة عن السؤال الكبير:من هو الرئيس القادم لمصر؟!.. هل تكون هناك مفاجأة من العيار الثقيل في الانتظار خاصة وأن الرئيس حسني مبارك يؤمن بمبدأ لم ينتبه له أغلب ان لم يكن كل من تصدي لمحاولة الاجابة علي هذا السؤال العصيب والكبير والذي بات حديث الصباح والمساء للمصريين؟!!.. وماعلاقة ذلك كله بالمؤسسة العسكرية؟!.. هل نجد اجابة لدي هذا الباحث الامريكي الذي حاول كغيره الابحار في مياه خطرة وأمواج مراوغة؟!.. ماذا يقول؟.

الوريث المنتظر..

يقول الباحث الامريكي جيفري ازارفا في دراسته من السلام البارد الي الحرب الباردة : في السنوات الاخيرة بات العديد من المراقبين يفسرون اصرار الرئيس حسني مبارك علي عدم تعيين نائب له كمؤشر علي رغبته في تمهيد السبيل لابنه جمال مبارك الذي يشغل حاليا منصب الامين العام المساعد للحزب الوطني الحاكم ليخلفه كرئيس لمصر.. وهاهو الوريث المنتظر الذي يبدو صاحب عقلية ليبرالية يواصل صقل وتلميع صورته سواء داخل مصر او خارجها..

في مطلع عام 2004 قال الرئيس حسني مبارك: إن مصر ليست سوريا ونفي امكانية استنساخ النموذج السوري عندما تولي بشار الأسد منصب رئيس الدولة فور وفاة والده الرئيس حافظ الأسد.. وفي سياق ماعرف بربيع القاهرة في عام 2005 وماتردد حول الاصلاح السياسي وتعديل الدستور ليتم انتخاب الرئيس عبر الانتخاب بدلا من الاستفتاء ردد جمال مبارك أراء مماثلة وأكد أنه لن يكون الرئيس القادم لمصر وهي تأكيدات كررها بمناسبة حفل قرانه مؤخرا وهو الحفل الذي ظهر فيه المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة كأحد المدعوين بدعوة شخصية من الرئيس حسني مبارك.. ومع ذلك يقول الباحث الأمريكي أن الأفعال أهم وأعلي صوتا من الأقوال وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وأن تعزيز وضع جمال مبارك ومجموعته المعروفة بلجنة السياسات داخل الحزب الوطني الحاكم أمر لايتفق ولايتسق مع التصريحات والأقوال حول عدم وجود نية لتوريث منصب الرئاسة في مصر.

المشكلة كما يقول هذا الباحث الأمريكي أنه منذ ثورة 23 يوليو 1952 والحاكم في مصر لابد وأن يأتي من الجيش وهو مالاينطبق علي حالة جمال مبارك الذي تلقي تعليما مدنيا ويفتقر لأي خلفية عسكرية.. ثورة يوليو هي التي دشنت العلاقة المثيرة بين العسكريين والسياسة في مصر وعلي الرغم من كل ماكتب عن هذه الثورة فانها لم تطرح كل أسرارها بعد والسبب لايختلف عن هزيمة يونيو:عدم السماح بنشر الوثائق الرسمية أو وضعها بسهولة في متناول الباحثين!.. ومن الطريف أن يعترف رجل مثل اللواء حسن طلعت المدير السابق لجهاز مباحث أمن الدولة والذي كان من أخلص أنصار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وثورة يوليو بأنه شعر بالتشاؤم عندما سمع أن الجيش تحرك في الثالث والعشرين من يوليو للامساك بزمام الحكم.. لماذا؟!.. يجيب اللواء حسن طلعت عن هذا السؤال بقوله:للحقيقة فانني لم أكن أحسن الظن في تلك الأونة ببعض ضباط الجيش ولاسيما أن تقديري لموقفهم من أحداث منطقة القناة التي تمركزت بها قوات الاحتلال البريطاني لم يكن في صالحهم وكنت أري أن جهودهم هناك لم تصل للدرجة المأمولة كما كنت أعيب عليهم استسلامهم لهجوم القوات البريطانية علي قوات الحراسة المعينة من الجيش لحماية جسر الفردان الذي كان يمثل شريان الحياة بالنسبة لقوات الجيش المصري في سيناء.. وعلي ذلك فقد سادني شعور بالتشاؤم وأشفقت علي البلاد من هذا العبث خاصة وأنني كنت أجهل حينئذ كل شيء عن تنظيم الضباط الأحرار أو عن منشوراتهم التي كانوا يصدرونها.. كان حسن طلعت يومئذ يشغل وظيفة مأمور سجن الأجانب وهو سجن مخصص لاحتجاز المتهمين والمعتقلين السياسيين .

كان الشعور بين ضباط الشرطة معاديا تماما للملك فاروق ونظام حكمه الذي اتخذ اجراءات ضد المقاومين للاحتلال البريطاني بمنطقة قناة السويس ورفع شعار التطهير قبل التحرير والذي فسره البعض ومنهم حسن طلعت بأنه يعني صرف أنظار الشعب المصري عن قضية تحرير البلاد من الاحتلال الأجنبي والانغماس في حملات تبادل الاتهامات بالانحراف وأستغلال النفوذ.. يضيف حسن طلعت:كنا في أحاديثنا الخاصة كضباط شرطة نتناول الملك فاروق وسلوكه بالهجوم والتجريح وكنت أعجب لاختيار المسؤولين لنا لحماية الملك والعرش ونحن الذين وصل الأمر بنا الي التفكير في تشكيل تنظيم من بين ضباط الشرطة للعمل علي قلب نظام الحكم مع السعي لضم بعض ضباط الجيش لهذا التنظيم وبالفعل كلفنا زميلنا النقيب سعد الغنام بمحاولة تحقيق هذا التلاحم مستعينا بشقيقه الذي كان من ضباط الجيش.

كدنا خلال هذه الفترة أن نقع في خطأ قاتل وهو محاولة الاتصال بالنقيب مصطفي كمال صدقي من ضباط الجيش لضمه لتنظيمنا.. لم نكن نعلم وقتئذ شيئا عن علاقته بطبيب الملك الخاص الدكتور يوسف رشاد ولاعن أنضمامه للحرس الحديدي للملك فاروق وهو تنظيم يضم بعض ضباط الجيش والشرطة والمدنيين وكان يديره ويجند أفراده الدكتور يوسف رشاد ومهمة هذا التنظيم السري حماية الملك فاروق والتخلص من أعدائه ولو بالقتل وقيل أن أنور السادات كان أحد أعضاء الحرس الحديدي ولكنه كان يقوم بدور مزدوج لصالح حركة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر.. ولحسن طالعنا تعثرت محاولاتنا للاتصال بالنقيب مصطفي كمال صدقي الي أن قامت ثورة 23 يوليو فأنقذتنا من الوقوع لقمة سائغة للملك فاروق وزبانيته.. هكذا يتحدث اللواء حسن طلعت المدير السابق لجهاز أمن الدولة في مصر أما الصحفي الراحل حمدي لطفي والذي كان يوصف بأنه عميد الصحفيين المصريين المتخصصين في الشؤون العسكرية فيري في كتابه .. عن ثورة 1952 أن ثورة 23 يوليو تعرضت لحادث سرقة!!.. كيف؟.

انقلابات وهمية!.

يقول حمدي لطفي: لقد سرق البعض ثورة يوليو أمام قادتها في بداية صراعاتها الأولي السياسية والصراعات المتعددة علي السلطة ووجد هؤلاء اللصوص من يشجعهم ويأخذ بيدهم لاليقطعها بل ليجعلها تطول وتمتد وتسيطر!.. لقد استطاع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بمقدرته الفائقة علي ادارة النشاط التنظيمي السري وبامكانياته وطاقاته تكوين الخلايا السرية داخل مختلف أفرع الجيش والسيطرة عليها وبأسلوب فريد التزم به منذ عام 1949 وهو الكتمان والسرية المطلقة حتي أن غالبية الضباط الأحرار لم يعرفوا من هو قائد الثورة أو عقلها المحرك بل كان الضباط الأحرار في كتيبة ما لايعرفون الضباط الأحرار في الكتيبة المجاورة لهم في نفس السلاح ومن طرائف تلك الأيام أن أحد الضباط الشبان الأحرار ويدعي مصطفي الوكيل سعي في عام 1951 لضم جمال عبد الناصر لتنظيم الضباط الأحرار لأنه لايعرف أن البكباشي جمال عبد الناصر هو قائد التنظيم!!.. وبعد أشهر قليلة من ثورة يوليو بدأت الصراعات داخل الجيش وتطوع بعض الضباط الذين لم يقوموا بأي دور في الثورة ولم يصنفوا باعتبارهم من الضباط الأحرار للقيام بدور أمني داخل الجيش وكعيون للثورة رغم أنهم ليسوا من ضباط الثورة!.. بوضوح يشير الصحفي الراحل حمدي لطفي في كتابه للمجموعة التي سميت فيما بعد بمجموعة 15 مايو ويتهم أفراد هذه المجموعة الذين لم يكن أغلبهم من الضباط الأحرار بالقيام بهذا الدور للتقرب للرئيس الراحل جمال عبد الناصر عبر تقارير عن مؤامرات وانقلابات وهمية!!.

مرة أخري فان غياب الوثائق وعدم السماح بنشرها بعد كل هذه السنوات الطويلة يسبب مشاكل خطيرة.. ففي هذا الكتاب ستجد المؤلف يعتبر أفراد مجموعة 15 مايو التي أزاحهم الرئيس الراحل أنور السادات من الحكم ووضعهم في السجون هم لصوص الثورة ويقول عنهم أنهم لمعوا في عصر جمال عبد الناصر بسبب التقارير والتجسس علي الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة يوليو!.. مثلا يتوقف حمدي لطفي في كتابه عند سامي شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر ويقول عنه:تخرج سامي شرف في الكلية الحربية دفعة فبراير 1949 وحين قامت ثورة يوليو كان ضابطا برتبة الملازم أول في وحدة للمدفعية المضادة للطائرات بالاسكندرية وأظهر فرحا شديدا بالثورة التي لم يكن من ضباطها وبرع في اختيار الالفاظ والكلمات التي يخاطب بها الضباط من أصحاب الرتب الأعلي مرددا جملة واحدة يبدأ بها حديثه كلما ألتقي بهؤلاء القادة وهي: أنا مبهور بأسلوب سيادتك وعسكرية سيادتك ياأفندم فأطلق عليه الضباط الكبار لقب الولد المبهور !!.

تصادف في نفس الوقت أن الاخوان المسلمين كانوا يجتمعون كثيرا وأخذوا يناقشون موقفهم من ثورة يوليو وضمت هذه الاجتماعات عناصر متطرفة من جماعة الاخوان من بينهم النقيب عز الدين شرف وهو ضابط شرطة والشقيق الأكبر لسامي شرف ويقول حمدي لطفي في كتابه:وترددت في تلك الأيام قصة ابلاغ سامي شرف عن شقيقه عز الدين أمام زكريا محيي الدين الذي كان مشرفا علي جهاز المخابرات في مرحلته الأولي كما تردد أيضا أن سامي شرف طلب الاذن ليقتل شقيقه المعادي لثورة يوليو لكن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر طلب منه التريث وان راح بعد ذلك يبدي اعجابه بهذا الضابط الصغير المتحمس للثورة في لقاءاته بالضباط الأحرار!.. كان طبيعيا في هذا المناخ أن يتعرض عدد من الضباط الأحرار للتشريد.. وحتي بعد هزيمة 5 يونيو 1967 لم تتوقف الجهود المحمومة لكشف المؤامرات داخل الجيش المصري سواء كانت حقيقية أو وهمية وقبل ستة أشهر من رحيل الرئيس جمال عبد الناصر في اليوم الحزين الثامن والعشرين من سبتمبر 1970 اعتقل عدد من الضباط أصحاب الرتب الصغيرة وتعرضوا للتعذيب والتنكيل بدعوي تآمرهم علي نظام الحكم بينما قال هؤلاء الضباط أن كل ماحدث أنهم حاولوا مناقشة الأسباب الحقيقية للهزيمة.. في تلك الأيام العصيبة وأجواء مابعد الهزيمة اعتقل ضابط طيار ضمن الضباط الذين أشيع أنهم يسعون لقلب نظام الحكم وربما لايعرف سوي أقل القليل أن الرئيس حسني مبارك تدخل حينئذ في سابقة نادرة لاطلاق سراح هذا الضابط.. من يكون؟!.

انه الفريق أحمد شفيق الوزير الحالي للطيران المدني في مصر والذي يتردد اسمه احيانا ضمن الأسماء المرشحة لخلافة الرئيس حسني مبارك في ملف نقل السلطة الحافل بالغموض والتكهنات والتأويلات بقدر مايتصدر اجندة الحياة اليومية للمصريين وأحاديثهم علي اختلاف المستويات والاهتمامات!.. كان أحمد شفيق قد اعتقل وهو ضابط برتبة النقيب ضمن سلسلة اعتقالات مابعد هزيمة يونيو وان نجم الرئيس حسني مبارك قد بدأ يلمع حينئذ عندما أصبح مديرا للكلية الجوية ثم رئيسا لأركان سلاح الجو المصري وفي سابقة نادرة حقا تدخل مبارك لدي القيادة العليا لاطلاق سراح تلميذه أحمد شفيق مؤكدا أنه ضابط جيد ومخلص لنظام الرئيس جمال عبد الناصر.. مايدعو للتأمل أن الرئيس حسني مبارك لم يتدخل ابدا طوال مسيرته الطويلة كضابط طيارمحترف في مثل هذه الأمور وهو وان كان قد طلب من الرئيس الراحل أنور السادات اطلاق سراح الفريق صدقي محمود القائد السابق للقوات الجوية من السجن فان هذا الطلب جاء بعد حرب السادس من أكتوبر 1973 وفي سياق مبهج ومغاير تماما للأجواء المقبضة والمخيفة في مرحلة مابعد هزيمة يونيو التي أعتقل فيها أحمد شفيق.. في هاتيك الأيام أيضا كاد المشير عبد الحليم أبو غزالة أن يطرد من الجيش!.. لماذا ومن الذي أنقذه من هذا المصير؟!.

كفاءة عسكرية..

بعد هزيمة يونيو كان عبد الحليم أبو غزالة يقود أحد تشكيلات المدفعية علي الضفة الغربية لقناة السويس وراح يوجه انتقادات علنية للقيادة السياسية ويحملها مسؤولية الهزيمة جنبا الي جنب مع القيادة العسكرية ويطالب باعادة صياغة أسلوب الحياة في مصر وعندما طلب الفريق محمد فوزي وزير الحربية من الرئيس جمال عبد الناصر طرد أبو غزالة من الجيش واعتقاله فرد عبد الناصر قائلا لفوزي: أتركه يتحدث كما يشاء فنحن بحاجة لهذه النوعية من الرجال في هذه المرحلة بالذات ثم أن هذا الضابط لايمثل أي خطر علي النظام .. شملت كشوف التقاعد اسم الضابط محمد عبد الحليم أبو غزالة مرتين في عهدي الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات.. في المرة الأولي رفض عبد الناصر شطب عبد الناصر اسم ابو غزالة من كشوف الضباط المتقاعدين وقال للفريق فوزي انه كفاءة عسكرية وفي المرة الثانية كان ابو غزالة قد أصبح رئيسا لأركان سلاح المدفعية بعد حرب أكتوبر ووضع المشير أحمد أسماعيل وزير الدفاع حينئذ اسمه ضمن كشوف الضباط المتقاعدين لكن المقدم عفت السادات وهو الشقيق الأصغر للرئيس أنور السادات كان أحد تلاميذ أبو غزالة في المدفعية وطلب من الرئيس الراحل رفع اسمه من كشوف الضباط المتقاعدين فاستجاب السادات لطلب شقيقه ليواصل أبو غزالة رحلة الصعود في المؤسسة العسكرية المصرية ويصل لرتبة المشير ويقضي مدة وصلت لثمانية أعوام ونصف العام في منصب وزير الدفاع حتي خرج من منصبه يوم 14 ابريل 1989.

تخرج الرئيس حسني مبارك والمشير عبد الحليم أبو غزالة في دفعة واحدة من الكلية الحربية هي دفعة فبراير عام 1949 وهي الدفعة التي تسمي الأن بدفعة حسني مبارك ولكن مبارك التحق بعد ذلك كطالب بالكلية الجوية ليتخرج كضابط طيار بينما انضم أبو غزالة لسلاح المدفعية واذا كان الرئيس حسني مبارك لم ينضم لحركة الضباط الأحرار التي قادها جمال عبد الناصر وكرس كل وقته لعمله المهني كضابط محترف فان اسم أبو غزالة ورد كأحد الضباط الصغار في الحركة التي قامت بثورة 23 يوليو.. من المثير للدهشة أن الفريق أول محمد صادق الذي تولي منصب وزير الدفاع بعد أحداث 15 مايو 1971 كان بدوره أحد الضباط الأحرار من أصحاب الرتب الصغيرة في ثورة يوليو رغم أن والده هو قائد الحرس الملكي!!.. أما محمد عبد الحليم ابو غزالة فقد لنضم للخلايا السرية لتنظيم الضباط الأحرار في نهاية عام 1951 أثناء عمله كضابط مدفعية صغير في سيناء لكنه ابتعد تماما عن الحركة بعد نجاح ثورة يوليو!!.. لماذا؟!.. حتي لاتصيبه قوائم التطهير في الجيش التي طالت الكثير من الضباط الأحرار وهو كضابط قاريء ومثقف يدرك تماما أن الثورات تأكل أبنائها وهو ماحدث بالفعل للعديد من ضباط ثورة يوليو ثم ان بعض هؤلاء الضباط تصوروا أن سلطتهم تفوق الصلاحيات التي يتمتع بها كبار الضباط من الذين لاينتمون لحركة الضباط الأحرار وهو تصور كفيل بنسف مبدأ أساسي مثل مبدأ الاقدميات والضبط والربط داخل الجيش!.

من الضباط الذين لم ينتموا لحركة الضباط الأحرار الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة المصرية في مرحلة مابعد هزيمة يونيو وقد حاولت الحركة تجنيده وضمه لصفوفها لكنه اعتذر وفضل العمل كضابط محترف بعيدا عن السياسة ومع ذلك فان السياسة ظلت تطارده ولم تتركه لحال سبيله!!.. فهذا الرجل الذي قام بدور كبير بحق في اعادة بناء الجيش المصري بعد فاجعة يونيو وأشتهر كعسكري منضبط وجد نفسه متهما من الرئيس أنور السادات بمحاولة قلب نظام الحكم في أحداث 15 مايو 1971 وفي سياق قضية الفريق فوزي ظهر كتاب للصحفي المعروف فؤاد مطر عنوانه : أين أصبح عبد الناصر في جمهورية السادات.. أسرار سقوط رؤوس النظام الناصري وفي هذا الكتاب يطرح المؤلف سؤالا هاما :لو سلمنا جدلا بأنه كان في نية الفريق أول فوزي تحريك قوات لمساندة علي صبري ومجموعته ضد الرئيس أنور السادات أي بكلام أكثر وضوحا للقيام بانقلاب فهل كان ذلك ممكنا؟.. والجواب:ليس ممكنا كثيرا.. لماذا؟.. لأنه استنادا لما هو متبع في الجيش المصري لايمكن أن تتحرك أي قوات الا بموجب تعليمات تطبع علي سبع نسخ وتبلغ الي سبع جهات مختصة في وقت واحد.

القائد الأعلي..

وواضح كما يقول فؤاد مطر أن الرئيس أنور السادات بصفته القائد الأعلي للقوات المسلحة المصرية هو أحد هذه الجهات السبع كما أن رئيس الأركان أنذاك الفريق محمد صادق هو جهة ثانية وكان يقف الي جانب السادات ومن الطبيعي أن يكشف أي تحرك ضد رئيس الدولة.. في مقدمة الأمور التي ساعدت السادات علي أن يضرب ضربته دفعة واحدة لمجموعة علي صبري وقوف الجيش كمؤسسة معه حتي ان كان القائد العام قد تعاطف أو انحاز للفريق الأخر الذي ضم من أسموهم برجال جمال عبد الناصر.. وضمن نتائج هزيمة 5 يونيو ورحيل المشير عبد الحكيم عامر نجح عبد الناصر في تحويل الجيش لمؤسسة تلتزم بالشرعية وتعمل داخل الأطر المتعارف عليها في الجيوش المحترفة ورسخ القاعدة البديهية التي تشدد علي عدم السماح للعسكريين بالعمل في السياسة أو الانضمام لأي تنظيمات سياسية ثم جاء الرئيس أنور السادات ليعلن أن الجيش هو حارس الدستور ولم يختلف الأمر كثيرا في مرحلة الرئيس حسني مبارك.. لكن هناك في الغرب واسرائيل من يضع المؤسسة العسكرية المصرية تحت المجهر في سياق الحديث عن ملف نقل السلطة في مصر!.

هكذا ستجد ادوارد ووكر السفير السابق للولايات المتحدة في القاهرة يحذر من أنه اذا أراد جمال مبارك تحقيق اصلاحات اقتصادية بالفعل فان ذلك يعني بالضرورة فقدان العسكريين ورجال الأمن لامتيازاتهم والمزايا الخاصة التي يتمتعون بها وهو وضع يصفه بأنه قد يؤدي لاضعاف قبضة الحكومة علي المؤسسة العسكرية بقدر ماسيثبط القيادة الاسرائيلية.. وهكذا يقول الباحث الأمريكي جيفري ازارفا أن هذا السيناريو يتطلب ممارسة ضغوط علي المؤسسة العسكرية المصرية لقبول التوريث.

يستعرض الباحث الأمريكي أسماء أخري في سياق سيناريوهات الجمهورية الرابعة في مصر وان كان يقول ان هذه الأسماء فيما يتعلق بالمؤسسة العسكرية لاتستحوذ علي ثقة اسرائيل.. فهناك المشير حسين طنطاوي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة المصرية وهو موضع ثقة الرئيس حسني مبارك وتولي من قبل منصب قائد الحرس الجمهوري ويتبني رؤية فحواها أن التطوير المستمر لمنظومات الأسلحة هو أهم ضمانة للأمن القومي المصري.. وتذهب مصادر الي أنه لو كانت محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995 قد نجحت لكان المشير طنطاوي قد تولي منصب الرئاسة في مصر لكن فرص خلافته الآن لمبارك ضئيلة نظرا لتقدمه في العمر ومتاعبه الصحية.. وهناك اللواء عمر سليمان مدير جهاز المخابرات العامة المصرية وهو يبلغ من العمر 70 عاما ويتردد اسمه بإلحاح كمرشح لخلافة الرئيس حسني مبارك بل ويوصف بأنه الرجل الثاني في موازين القوة الفعلية بمصر بعد مبارك مباشرة وأنه يقوم في الواقع بدور نائب الرئيس.. الملاحظة التي غابت عن أذهان الباحثين الامريكيين والاسرائيليين وحتي المصريين والعرب الذين تعرضوا علي نحو أو آخر لملف نقل السلطة في مصر أن الرئيس حسني مبارك كان قد أشار في مقابلة صحفية بعد وصوله للحكم مباشرة كرئيس جديد لمصر أنه خرج من حياته العسكرية بمبدأ هام وهو مبدأ الخداع الاستراتيجي .. لم يتحدث مبارك بعد ذلك أبدا عن هذا المبدأ الذي يؤمن به ولكن لايمكن استبعاد أن تكون هناك مفاجأة حقيقية في ملف نقل السلطة انطلاقا من مبدأ الخداع الاستراتيجي وأن تكون كل الأسماء التي تتردد كمرشحين لمنصب الرئيس في سياق هذا الملف المثير للجدل مجرد نوع من التمويه الذي يستلزمه الخداع الاستراتيجي!!.

لاجدال أن ملف نقل السلطة في مصر نوقش وحسم علي مستوي حلقة ضيقة في قمة الحكم بالقاهرة تضم ممثلين للمؤسسة العسكرية وهناك تصور يطرحه البعض بامكانية أن يتولي اللواء عمر سليمان الذي لم يرزق- شأنه شأن الفريق أحمد شفيق وزير الطيران المدني- بأبناء ذكور منصب الرئيس لفترة محدودة بحكم سنه وتكون هذه الفترة مرحلة انتقالية يأتي بعدها جمال مبارك من الحزب الوطني الحاكم للرئاسة عبر انتخابات جديدة ولايمكن لباحث جاد أن يتجاهل الحقيقة التاريخية التي تؤكد علي أن المصريين في نهاية المطاف مرتبطون بالسلطة المركزية ويفضلون مرشح السلطة علي مرشح المعارضة ثم ان غياب الديمقراطية منذ ثورة يوليو رسخ هذا الواقع وهو محصلة عوامل تاريخية متعددة!.

الملف الفلسطيني..

يضيف الباحث الأمريكي جيفري أزارفا في دراسته أن مكانة اللواء عمر سليمان تعززت منذ أن أصبح مسؤولا عن الملف الفلسطيني في القاهرة كما أن سليمان القادم من الجيش كضابط محترف حتي بات الساعد الأيمن للرئيس حسني مبارك كان الرجل الذي نهض بمهمة قمع تنظيمات العنف الأصولية في العقد الأخير من القرن الماضي.. ويتحدث صانعو السياسات في اسرائيل عن دور المحاور الذي قام به اللواء عمر سليمان بين الاسرائيليين والفلسطينيين وكذلك بين حركتي فتح وحماس مع مقاربات لموقفه المتشدد حيال تنظيمات العنف ذات الأسناد الديني في مصر واختلاف الأدوار بين ملفات الداخل والخارج.. ويذهب الصحفي الاسرائيلي عوديد جرانوت الي أن الجهود المكثفة التي بذلها اللواء عمر سليمان لوقف العنف بين الفلسطينيين واسرائيل لم تكن بعيدة عن رغبته في تفادي اشتعال الغضب الشعبي في مصر جراء ماحدث في العراق أما وزير الخارجية الاسرائيلي السابق سيلفان شالوم فقد أنتقد بشدة دور اللواء سليمان علي صعيد الملف الفلسطيني وادعي أن هذا الدور ينطوي ضمنا علي تهديد للدولة العبرية بخلق قنبلة زمنية عبر السماح لحماس والجهاد الاسلامي بالتقاط الأنفاس واعادة حشد الصفوف .

صورة الاستراتيجية الفعلية لمصر حيال اسرائيل لن تكتمل حسب مايقوله جيفري ازارفا الا بدراسة مايسميه بظاهرة الأنفاق في قطاع غزة.. في الأول من سبتمبر عام 2005 وقعت اسرائيل ومصر علي اتفاق يسمح بنشر قوة من عناصر حرس الحدود المصرية بدلا من قوات الأمن المركزي عند القطاع الحدودي في رفح ومن المنظور الاسرائيلي فان هذا التنازل بالسماح بنشر قوات من الجيش بدلا من رجال الشرطة المصرية كما تقضي معاهدة السلام جاء بهدف احكام الرقابة الحدودية المصرية لمنع تهريب الأسلحة عبر الأنفاق السرية لقطاع غزة!.. لكن ما العمل الآن بعد أن تحول قطاع غزة الي دويلة اسلامية تقودها حركة حماس وهل سيكون للأمر انعكاساته علي مصر وماذا عن احتمالات سقوط ترسانة الأسلحة المصرية في قبضة التيار الأصولي المتشدد والقلق الاسرائيلي علي حد قول الباحث الأمريكي جيفري أزارفا؟!!.

العسكرتاريا في المشهد السياسي العربي(5)

العلاقة بين الجيش والسياسة والسلطة في تاريخ العراق  وطبيعة هذه العلاقات في ضوء تزايد تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، والعوامل والاسباب الكامنة في أساس ذلك الحضور الكثيف للجيش في ميداني السياسة والسلطة،

والتأثيرات الواسعة لهذا النمط من العلاقة بين الجيش والسلطة في توازنات الحقل السياسي وعلاقة الدولة بالمجتمع، وفي تطور الحياة السياسية، وفي كبح آليات التطور الديمقراطي ومنه التراجع عن النظام المدني. هذه المواضيع ومواضيع اخرى، تضمنها كتاب، صدر بالفرنسية في باريس، لمؤلفه الدكتور علاء طاهر، عراقي مغترب باحث في جامعة السوربون حيث نحا في كتابه منحى جديداً على مستويين:- الأول- المستوى المنهجي، والثاني ـ مستوى الموضوع الذي يتناوله. فقد التزم المؤلف جانب الموضوعية العلمية المحايد مقياساً في كشفه للحقائق، فلم يراع مرور أكثر من خمسة وأربعين عاماً على الأحداث قبل عرض حقائقها ، ولا هو اغفل المواضيع الحساسة او تغاضى عنها، فاتى الكتاب جامعاً شاملاً.. فضلا عن كونه يطرح أسئلة غيبت او غابت عن كتب التاريخ ولم تخطر مرة في بال الكثيرين منا. فقد اخضع المؤلف واقع الانظمة العسكرية لدراسة تفصيلية موثقة وبخاصة نظام (عبد الكريم قاسم) في العراق، الذي اتخذه المؤلف نموذجا او مثالا للانظمة العسكرية التي تسلمت السلطة السياسية داخل عدد كبير من البلدان العربية خلال مدة طويلة من التاريخ المعاصر، تمتد الى نحو نصف قرن مشيرا الى كونها لعبت ادواراً بالغة الخطورة ليس فيما يتعلق بالاستقرار السياسي في هذه البلدان حسب وانما فيما يتعلق باوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. إذ غالباً ما استخدمت هذه الجيوش من قبل العناصر الطموحة والمغامرة في صفوفها اداة للوصول إلى السلطة، ومن ثم وسيلة للحفاظ عليها مع مايعنيه ذلك من استحواذ على الثروات التي يذهب قسم كبير منها للتسليح وغالباً مايكون السلاح لمحاربة الشعب وتشديد القبضة عليه. بينما يذهب القسم الآخر لشراء الذمم واسترضاء المحسوبيات ويبقى الجزء القليل لمعالجة مشكلات المجتمع.

وبسبب بروز هذه الظاهرة ـ الانقلابات العسكرية ـ عرف الأدب السياسي مصطلحات جديدة لعل اكثرها شيوعاً وتعبيراً عن الظاهرة هو مصطلح العسكرتاريا الذي يقصد به تلك الطبقة من الضباط والقادة العسكريين الذين تسلموا الحكم في بلدان كثيرة عن طريق الجيوش فأساؤوا لى بلدانهم والى الجيوش التي وصلوا عبرها إلى السلطة بافسادها واشغالها في كل القضايا الا قضيتها الاساسية، الدفاع عن الوطن.هنا يكمن الجانب المهم جداً في دراسة المؤسسة العسكرية في المجتمعات الحديثة. اي اذا كان لا بد من درس المجتمع عموماً لادراك طبيعة المؤسسة العسكرية فلابد ايضاً من القاء نظرة على المؤسسة العسكرية لادراك طبيعة المجتمع مهما كان نوع الانظمة السياسية القائمة في هذه المجتمعات.لقد شهدت بلدان متعددة من التي تمارس حكوماتها مراقبة شديدة على نشاطات قواتها المسلحة مرحلة كانت فيها المؤسسة العسكرية ذات وزن كبير في شؤون ادارة الدولة، إذ تشكل القوات العسكرية قوة ضاغطة من الناحية السياسية بالمعنى العلمي التقني للتعبير . وهذا يعني ان ادراك مجمل الوضع في بعض الدول وحتى في الدول التي تتولى الادارة فيها مؤسسات مدنية، ينبغي معرفة المؤسسة العسكرية والفاعلين في هذه المؤسسة. بمعنى، أن العسكريين كمحترفين للمهنة، ومن ضمن قيمهم احترام الجهة التي تفترض بهم خدمتها، والجهة الاولى المعنية بخدمتها هي الدولة والمجتمع. ولو ان في مراحل معينة يرى هؤلاء العسكريون ان السلطات السياسية في بلدانهم تحول بينهم وبين خدمة الدولة والمجتمع. وفي هذه الظروف يخرج العسكريين الى الحياة العامة ويتدخلون في السياسة. هذا يعني  من ضمن الاطار المهني لوظيفة العسكريين ان مبرر تولي العسكريين للامور السياسية هو من النوع الاخلاقي والادبي . اي ان العسكريين يتدخلون في هذه الحالة لان الجهة التي يخدمونها تفرض عليهم هذا التدخل، وهذا يعني ان الجهة التي يخدمها العسكريون هي في نظرهم الدولة والمجتمع وليس السياسيين الذين يتولون السلطة.

ويشير المؤلف إلى نقطة مهمة جداً إذ يقول: انه حين يصبح العسكريون في السلطة يكتسبون خصائص الحاكم، اي السلطة العسكرية التي تتولى الشأن السياسي تصبح هي نفسها السلطة، اي سلطة سياسيين يرتدون البدلة العسكرية. ولكن هذا لا يحول من دون ممارسة القيادات العسكرية لنفوذ اداري وسياسي وبقاء هذه القيادات في موقع البديل المحتمل للسلطة السياسية في حال تعثر هذه الاخيرة علماً ان هناك بعض العسكريين يصرون في هذه الحال على البقاء في مواقعهم ويرفضون تولي السلطة مباشرة.

ولاشك في ان هذا الدور الذي يقوم به الجيش هو خاص جداً ويختلف من بلد لآخر، وربما كان بعض كبار العسكريين في بعض الدول يرون في انفسهم نوعاً من ضمير البلاد. انهم لايحكمون ولكنهم يعدون ان مهمتهم الحيلولة من دون انزلاق البلاد إلى ما يعتبرونه مهاوي خطيرة. فقد اظهرت تجربة الحكم العسكري في بعض البلدان العربية كما في دول اخرى، ان الجيش اذا ماتدخل في الشؤون السياسية فلا ينتظر ان يدوم تدخله الى أمد طويل. واذا ما تمكن الجيش من تولي السلطة في البلاد يصبح من العسير جداً ارغامه على التخلي عن الحكم.

ان التدخل في الشؤون السياسية او تسلم الحكم ينكره دائماً رجال الجيش ويبررون تدخلهم هذا لازاحة حكومة لا تؤيدها اغلبية الشعب وتنصيب اخرى تؤيدها عامة فئات الشعب.

وانهم اذا ما استولوا على السلطة فلن يكون ذلك الا من اجل نقل السلطة من يد الفئة الحاكمة المستغلة إلى يد الزعماء الجدد. اما عملياً فان رجال الجيش لم يكونوا مستعدين قط للتخلي عن السياسة اذا ما توصلوا الى تولي الحكم، فان مدة الانتقال التي يتعهدون خلالها بتنفيذ الوعود السخية  كتطهير الحكم القديم من المفاسد، وتنفيذ اجراءات في ميادين الاصلاح الزموا انفسهم بها  يطول امدها الى اكثر مما كانوا هم انفسهم يتوقعون، وبدوا انهم اميل الى البقاء في الحكم الى اجل غير مسمى لا لشيء سوى انهم لم يظهروا استعداداً للتخلي عن السلطة التي صارت في ايديهم وتسليمها الى ايدي سياسيين يختلفون معهم في الآراء ووجهات النظر. لانهم يرون ان جلوسهم على كرسي الحكم يجعلهم يشعرون بانهم اقدر على حكم وطنهم من غيرهم، فاستمرارهم في الحكم خير لهم وابقى.

ان تدخل العسكريين في السياسة يغذي طموح الكثيرين من ضباط الجيش الذين يتمتعون بكفاءات ومواهب معينة في تحقيق مايصبون اليه من الاستيلاء على الحكم وادارة البلاد. هذه الحقيقة دفعت عدداً كبيراً من الضباط من ذوي الرتب العالية الى التدخل في الشؤون السياسية تحقيقاً لهذا الهدف. وقد اتضح من خلال التجارب المتعددة التي بحثها الكتاب، إنه بعد ان يحقق ضباط الجيش اهدافهم ويتسلموا الحكم فانهم يواجهون مشاكل معقدة من نوع جديد لهم لم يالفوها في حياتهم العسكرية.

ومن المعروف ان للحياة العسكرية نمطاً معيناً تقرره قوانين وانظمة معينة لا يوجد مثلها في الحياة المدنية، فعندما يصبح الضابط الكبير زعيماً سياسياً من دون ان تكون له القدرة التي تنبثق عادة من كفاءة معينة ومواهب معينة في تكييف نفسه ازاء الوضع الجديد فانه سيختفي مكرهاً عن المسرح ليحل مكانه ضابط آخر وان كان ادنى منه رتبة.

لذلك نرى بعد كل انقلاب عسكري يقع انقسام لابد منه بين صفوف الانقلابيين العسكر بشأن اية سلطة يستولي عليها العسكريون، ويعود السبب في هذا إلى التنافس الشديد بين فئات العسكريين المختلفة التي تحاول كل واحدة منها ان تفرض سيطرتها على الامور لتنفرد بالحكم وكثيراً ماكان ينتهي هذا التنافس إلى صراع دموي يؤدي في النهاية الى ابقاء اقوى الفئات التي يتزعمها رجل قوي شديد المراس فتسيطر على الامور وتفرض ارادتها في الحكم.

هذه الانظمة على الرغم من الدور المهم الذي لعبته داخل الســـياسات والمجتمعــات العربية لم تخضع حتى الآن إلى دراسة موســــعة وتفصيلية تبتعد عن المنظور الايديولوجي وتقتفي الاتجاه المنهجي الذي يفكك بناها من الداخل ويضعها في السياق التاريخي والاجتماعي لبلدانها.

كتاب الدكتور طاهر يتلافى هذا النقص الموجود داخل هذا المجال. فقد اخذ عينة من هذه الانظمة العسكرية العربية فوقع اختياره على نظام عبد الكريم قاسم الذي كان تأسيسياً في بنيته العسكرية للانظمة اللاحقة.

من هنا تنبع اهمية الكتاب في المرحلة الراهنة من حيث انه كتاب تفصيلي يسهب في طرح قضية الجيش او المؤسسة العسكرية في الوطن العربي عامة والعراق بخاصة مع تحليل وقائع بالاسماء والتواريخ تجعله مرجعاً في هذا المجال.

لقد اعتمد المؤلف اسلوباً علمياً في سرد بنى الكتاب في سياق منهجية صحيحة اكسبته قيمة تضاف إلى زخم المعلومات التي طالعنا بها المؤلف، فدرس التكوين الاجتماعي والايديولوجي المتناقض لتنظيم الضباط الاحرار في العراق وطبيعة الحركة الانقلابية على مستوى تشييد نموذج عسكري تكتيكي لقيام الانقلابات وطريقة تنفيذها على يد الجيش الذي شكل لدى البعض طليعة الحركة الوطنية آنذاك. ثم تابعت الدراسة وجود النظام العسكري في السلطة والمعطيات التي تمخضت عن تركيبته البنيوية والتطورات السياسية اللاحقة التي مر بها حتى سقوطه عام 1963.

الكتاب، على الرغم من كونه دراسة تتبع التسلسل التاريخي الا انه يعتمد على مناهج السوسيولوجيا العسكرية وعلم الاجتماع السياسي الذي تزدهر مناهجه في فرنسا بينما لم تستخدم في مجال الدراسات التاريخية العربية لحد الآن.

كما اعتمد المؤلف على قاعدة مرجعية ضخمة من الوثائق غير المنشورة وعلى الارشيفات والكتب المتعددة والدراسات المختلفة في كتابة هذه الدراسة. وعبر استخدام منهج السوسيولوجيا العسكرية اســـــتطاع البحث ان يكشف عن البيئة المشتركة عميقاً بكل الانظمة العسكرية التي سادت في العراق والوطن العربي حتى وقتنا الحاضر.

وقد ذكر عالم الاجتماع والاستراتيجي الفرنسي جان بول شارنيه، في المقدمة التي وضعها للكتاب: ان المؤلف يدعونا من خلال دراسته لمدة حكم عبد الكريم قاسم الى ان نفهم بشكل افضل التحولات المعاصرة للجيوش وللطبقات وللسلطات السياسية داخل الوطن العربي.     

التجربة الموريتانية(6)

الآن وقد اكتمل الانتقال إلى الديمقراطية في موريتانيا، صار ممكنا الحديث عن التجربة الموريتانية دون الخشية من وجود خديعة أعدها العسكريون، ودون التحسب من قيود أو حدود قد توضع في مسار هذا التحول.

وإذا كان من الواجب أن نثبت بداية أن موريتانيا قدمت نموذجا جديدا في التحول إلى الديمقراطية، وطريقا غير مسبوق في إعادة السلطة إلى الشعب، وفي المحافظة على الصلة الوثيقة بين الناس والسياسة، بل وتدعيم هذه الصلة وجعلها مما يجب احترامه وصيانته وحمايته.

وإذا كانت العسكرية الموريتانية قد اكتسبت هذا الشرف وسجلت لنفسها ولبلدها هذا السبق الذي ساهمت فيه كل القوى الموريتانية حينما تمسكت بالطريق الديمقراطي، وعززت العودة إليه، وفرقت بين الصراعات داخل الوطن واختلاف المناهج بين القوى والأحزاب والتجمعات، وبين المنهج الضابط الذي يجب على الجميع أن يتبعوه وأن يلتزموا نتائجه، وأن يناضلوا في إطار ما يتيحه من إمكانيات التغيير وحدوده، فإن من الضروري أن نفهم تماما هذا النموذج الموريتاني وأن ندرك حقيقة ما قدمه للشعب الموريتاني وللأمة العربية، بل وللكثير من دول العالم.

1ـ أول ما يجب الانتباه إليه هو أن الذي فتح هذا الطريق للتغيير هو القوة العسكرية، أي أن التغيير انطلق من القوة التي كانت هي الأداة في الإمساك بالسلطة، وكانت الجهاز الذي مكن السلطات الدكتاتورية السابقة من الاستمرار.

فهل يمكن اعتبار ما فعله العقيد أعلي ولد محمد فال ورفاقه نوعا من انقلاب القصر؟

هذا أول ما يتبادر للذهن من أسئلة ونحن ندقق في النموذج الموريتاني، لكن نتائج تدخل العسكريين، أي نتائج انقلاب أعلي ولد محمد فال، لم تكن نقل السلطة إلى وجوه جديدة، وإنما إلغاء آليات في العمل أقصت الإرادة الشعبية عن السلطة، واعتماد آليات جديدة تعيد ربط السلطة بالإرادة الشعبية.

تعبير انقلاب القصر عرفنا نماذجه، ومن أحدث هذه النماذج ما فعله الرئيس التونسي الحالي زين العابدين بن علي مع الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة، وهناك أمثلة عديدة أخرى من نفس الطابع.

2ـ الذي جعل التغيير العسكري هو الطريق لإعادة السلطة إلى الناس هو انسداد الطرق الأخرى، إذ استمرأ النظام السابق لعبة الديمقراطية الشكلية، والتزوير لإرادة الناخبين، والسيطرة على مراكز التأثير والتوجيه من خلال أجهزة العنف والإفساد المالي، واستطاع باستخدام مختلف الأساليب أن يحبط كل محاولات الانقلاب العسكرية على حكمه والتي ناهضت سياساته وانحيازاته.

لقد قمع كل تحرك بالعنف والدم، لكن ما هو ملاحظ أن هذه المحاولات لم تتوقف، وأن المقاومة الشعبية لدكتاتورية معاوية ولد الطايع لم تهدأ، وأن مجمل القوى السياسية في موريتانيا كانت تشارك في النظرة إلى لا شرعية النظام القائم وإلى ضرورة تغييره.

3ـ إن التغيير الذي قاده العسكريون لم يكن تغييرا ذا طابع اجتماعي أو سياسي أو عقدي، ولم يكن تعبيرا عن احتجاج على سياسات معينة، وقد بدا هذا للوهلة الأولى عنصر ضعف فيما قام به العسكريون، لكن -والحق يقال- كان هذا الموقف عنصر قوة وحصانة وحصافة، إذ مكن من إعادة السلطة إلى الشعب بأقل ضجيج ممكن وبأقل استعداء محتمل.

إن المدقق في المسيرة الانتقالية سيدرك أن همّ العسكريين لم يكن تعديل سياسات النظام السابق، لم يكن الكشف عن الفساد ورجالاته، لم يكن قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، أو إعادة النظر في العلاقات مع الولايات المتحدة، لم يكن تحديد الموقف من ثروة البلاد الصاعدة "البترول"، ولو كان هذا هو الهم، وهذا هو مدار الاهتمام، لوجدوا قوى سياسية واجتماعية في المجتمع الموريتاني ترحب وتعزز هذا التوجه.

وقد تكون قوى كبيرة ورئيسية، وقد تغريهم بالبقاء في السلطة لتوكيد وتعزيز هذه الخيارات، لكنهم سيجدون كذلك قوى تعارض هذا التحول جزئيا أو كليا، وتعمل على التصدي له والتآمر عليه.

وفي كل الأحوال لم يكونوا قد أحدثوا تغييرا حقيقيا في معايير التقرير واتخاذ المواقف، لأن نظام معاوية ولد الطايع ونقيضه الذي كان يمكن أن يأتي به العسكريون متحدان في أنهما يتكلمان نيابة عن الشعب، وبديلا عنه، بغض النظر عن صحة ما يقومان به أو خطأه، وعن صدق ما يقومان به أو كذبه.

لقد اختار العسكريون أن يغيروا في منهج التعاطي مع الناس، ورأوا أن إعادة السلطة للناس، للشعب، للإرادة الحرة للمواطنين، لجموع القوى السياسية في الوطن، هو الطريق لإحداث تغيير حقيقي، وحين يتحقق هذا التغيير فإن الشارع السياسي وقواه هم الذين يحمون ويرعون ويقدرون أي تغيير.

4ـ هذا التغيير، هذه الطريقة في التفكير والعمل، حققت مصداقيتها من خلال سلوك العسكريين على مدى المرحلة الانتقالية كلها، وقد يكفي أن نقول إن الانتخابات النيابية ثم الرئاسية جرت بشفافية، ودون تلاعب يعيبها، وأن نتيجتها جاءت أكثر تمثيلا للإرادة الشعبية الواعية.

لكن مرة أخرى يكشف التدقيق في مسيرة العسكر في هذه المرحلة أن المصداقية على جدية هذا التحول لم تتحقق في هذه الصورة فحسب وإنما من خلال إنجازات أخرى كان أهمها إنجازان اثنان.

الأول امتناع العسكريين الذين قادوا الانقلاب على نظام ولد الطايع عن المشاركة في العملية السياسية، مما وفر أساسا ضروريا لبناء الثقة بين عسكر القصر وقوى المجتمع الموريتاني المتطلعة إلى التغيير.

وليس لهذا القرار أي صلة بمشاركة العسكريين أو عدم مشاركتهم في العمل السياسي الوطني، إذ العسكريون جزء من أبناء الوطن، ومن حقهم أن يشاركوا في خياراته السياسية والاجتماعية، ويحدد الدستور وحده سبل هذه المشاركة.

لكن امتناع عسكر القصر الذين قادوا الانقلاب قطع الطريق على بيروقراطية الدولة، وعلى المستفيدين من النظام السابق ومرتزقته من أن يشكلوا إغراء لا شك فيه لهؤلاء العسكر في وضع أجهزة الدولة وإمكانياتها لهدف وصولهم "ديمقراطيا" إلى السلطة، وحين يتم ذلك يكون ما حدث، وما قاموا به مجرد "انقلاب قصر".

لقد قطع قرارهم بعدم المشاركة في العملية السياسية الطريق على مثل هذا الاحتمال، وبالتالي وضعهم جميعا في أفضل موضع ممكن ليكونوا حراسا حقيقيين لهذا التحول، ومكنهم من حرية توفير ورعاية كل الضمانات الممكنة ليكون هذا التحول شفافا، حقيقيا.

الإنجاز الثاني رعاية حوار وطني واسع المدى حول حقوق المعارضة والضمانات المتوفرة لها، وهو حوار أثمر في ختام المطاف وثيقة لا سابق لها في محيطنا، وثيقة تعطي بحكم القانون وضعا للمعارضة لا يمكن التعدي عليه ولا تجاوزه، تعطيها المكانة والمعلومة والقدرة على أن تمارس دورها باعتبارها "السلطة القادمة".

وهذه الوثيقة تفتح أمام المعارضة كذلك، بحكم القانون، وسائل الإعلام العمومية لتعبر عن رأيها ومواقفها، فلا تبقى هذه الوسائل حكومية تسيطر عليها الأغلبية الحاكمة.

ونحن نعلم أن أخطر ما يصيب قوى المعارضة هو استغلال السلطات الحاكمة لوسائل الإعلام الحكومية في تحركها، واستغلال أجهزة الدولة لمصلحتها، واستغلال معلومات الدولة واستثمارها في دعم سيطرتها، وهذه كلها من وسائل القوة التي تضاف إلى السلطات الحاكمة.

وقد وفر مشروع القانون الجديد الذي ينتظر أن يقره البرلمان هذه المجالات للمعارضة بعدما أعطى زعيمها مكانة وصفة فاعلة.

وإذا أضفنا إلى هذا الإنجاز وجود قضاء حر ومستقل فإنه يكون قد تحققت للمجتمع الموريتاني الظروف الطبيعية للممارسة الديمقراطية.

وقد حرص المجلس العسكري على أن يصدر هذه الوثيقة قبل الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية.

وقبل أن نختم حديثنا عن التجربة الموريتانية لا بد من الوقوف عند فكرتين أراهما مهمتين.

الفكرة الأولى هي أن هذه التجربة لا تعني أبدا أن تزويرا لا يمكن أن يقع في الانتخابات، أو في سبل ممارسة الديمقراطية، ولا تنفي أبدا أن بعض العسكر قد يحاولون العودة إلى أسلوب الانقلابات للسيطرة على الحكم، ولا تعني أبدا أن قوى بعينها لن تستخدم مختلف الأساليب لإفساد الحياة السياسية، كاستخدام المال في الانتخابات.

لكن هذه التجربة تعني أن القوى السياسية الموريتانية صار بإمكانها أن تقوم كل أخطاء وانحرافات ممكنة بالعمل الديمقراطي، وأن حماية هذا النهج صارت وظيفة الموريتانيين جميعهم، وأن التصدي الشعبي لأي محاولة عسكرية للعودة إلى الوراء يرقى إلى مستوى الجهاد الذي يردع كل مستبد وطاغية.

أما الفكرة الثانية فتتصل بإمكانية أن تكون التجربة الموريتانية سبيلا يمكن انتهاجه في دول عربية انسدت فيها إمكانيات التغيير الديمقراطي السلمي، وهذه الفكرة هنا ملحة لأن العديد من بلادنا قد وصلت إلى مرحلة أغلقت فيها كل منافذ وسبل التغيير الديمقراطي، على الرغم من تمسك المعارضة وإصرارها في مختلف هذه البلدان على الأسلوب الديمقراطي في التغيير، ورفضها التغيير بآلية الانقلابات العسكرية.

وتلك الفكرة فيها الكثير من الإغراء لأن هذا النموذج الموريتاني استطاع أن يجنب الوطن مخاطر التحول أو التغيير العنيف الذي تبقى جراحاته لمدة طويلة، ومن شأنه أن يسفر عن اختلال داخلي وهجرة وضياع الكثير من طاقات الأمة المادية والبشرية.

وهذه الفكرة تقدم حلا نموذجيا لعودة الجيش وأجهزته -وهو من أهم قطاعات المجتمع- إلى وظيفته الأساسية في حماية الوطن، وفي تمثيله وحدة الوطن وأبناءه، بعد أن أقصي طويلا عن هذه المهمة، وصار كأنه عبء على حرية الوطن والمواطن، وعلى تطور الحياة السياسية ديمقراطيا.

لكن القضية ليست في أهمية هذا النموذج الموريتاني، وإنما في إمكانية انتقاله وتحققه في غير هذا البلد، أو في الأقاليم العربية الرئيسية التي سدت فيها سبل التغيير الديمقراطي.

كما أن القضية في أن ظروف هذه الأقاليم قد لا تكشف إمكان مثل هذا الحل، بل إنها قد ترجح حصول تغيير من قبيل انقلابات القصر التي لا تعدو أن تكون تبديل حاكم مستبد بآخر، وتبديل طبقة فاسدة بأخرى.

وهذا ما يجعل قوى المعارضة الشعبية أكثر تمسكا بدعوات التغيير الديمقراطي، رغم أن الأنظمة القائمة لم تترك لمثل هذه الدعوات بصيص أمل ولا أفقا حقيقيا ولو على مدى بعيد.

على كل حال فإن موريتانيا أعطت أنموذجا وقدمت حلا، وقالت للجميع إن هناك طريقا للتغيير لا يستبعد أحدا، ولا يهدر أي طاقة ولا قوة.

قد نكون جميعا فوجئنا بهذا الإنجاز، لكن موريتانيا فعلتها، ونِعمَ ما فعلت، وعلى الجميع أن ينظر ويرى ويدرك ثم يكتشف طرق الإفادة من هذا الذي تحقق.

عن علاقة الجيش والسياسة في اليمن(7)

بعيد الحرب عام 1994م، شاهد اليمنيون عددا من كبار ضباط المؤسسة العسكرية والأمنية وهم يتقدمون بالدور وبخطى ثابتة في قاعة احتفالات إلى منصة يقف وراءها الرئيس علي عبدالله صالح.. وبعد أداء التحية العسكرية كان كل واحد منهم يقوم بتسليم بطاقة انتمائه الحزبية مدشنين ما قيل يومها إنه فصل بين الجيش والأمن وبين العمل الحزبي!

12 عاما مرت على ذلك الاحتفال.. لكن الواقع ظل كما كان بل أسوأ.. فالمؤسسة العسكرية والأمنية التي كانت منقسمة بين حزبين حاكمين صارت في (قبضة) حزب واحد! وكأننا لا رحنا ولا جينا!.

وبمناسبة الانتخابات الرئاسية والمحلية الدائرة رحاها الآن، يثور الجدل مجددا بشأن حيادية المؤسسة العسكرية والأمنية وموقعها من الصراع السياسي والحزبي الذي يدور بين الأحزاب ومرشيحها.

وفي العادة فإن المؤتمر الشعبي الحاكم يظل يروج كل الوقت لأكذوبة (الجيش والأمن مؤسستان محايدتان)! وصحيح أن اليمنيين تعودوا أن يقابلوا بسخرية واستهانة حديث المؤتمريين عن حيادية أجهزة الدولة.. إلا أن الحديث عن حيادية المؤسسة العسكرية والأمنية يبقى من باب استهبال الشعب والسخرية منه! فلا يوجد دليل واحد أو مؤشر أن الجيش والأمن يداران بعقلية حيادية تنأى بهما عن الصراع السياسي! وكبار ضباط الجيش والأمن العاملون يدينون بالولاء للرئيس والحزب الحاكم ولاء معلنا لا شائبة فيه! وهو أمر يتضح بجلاء في المناسبات المختلفة وفي الصحافة العسكرية وبرامج التوجيه المعنوي.. وفي إقحام المؤتمر للجيش والأمن في شؤون الانتخابات للعمل لمصلحة مرشحي الحزب الحاكم! كما أن تعيين المسؤولين العسكريين يخضع في الغالب –إن لم نقل في جميع الحالات- لمعيار أساسي هو الولاء للحزب الحاكم وقيادته! وقد تعود اليمنيون أن يرفع وزير الدفاع ورئيس الأركان برقية تهنئة مشتركة في كل مناسبة وطنية أو دينية لرئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة.. والشاهد هنا أن البرقية تنضح بالولاء لشخص الرئيس بطريقة لا تتناسب مع العلاقة بين الطرفين في مجتمع يقول دستوره أن السلطة تتداول فيه سلميا بين الأحزاب!!  

ومنذ قيام الوحدة تكرس أن يكون وزير الدفاع ووزير الداخلية في الحكومة اليمنية شخصية عسكرية.. وهذا –أيضاً- يتناقض مع روح المجتمع الديمقراطي التعددي.. لأن هذين المنصبين هما في الأساس منصبان سياسيان والحكومة حزبية.. ولا يحق للعسكريين وفق الدستور ممارسة السياسة والعمل الحزبي! وفي العادة يتولى منصب وزير الدفاع ووزير الداخلية في المجتمعات الديمقراطية شخصيات مدنية –تولت امرأة مسؤولية وزارة الدفاع في فرنسا خلال السنوات الماضية ولعلها ما تزالها باقية في منصبها- وتتركز مسؤولية الوزيرين في أنهما همزة الوصل بين الجيش والأمن وبين الحكومة الحزبية.. أما المسؤولية الفعلية في الجيش والأمن فيتولاها عسكريون ومحترفون يديرون الأجهزة والمؤسسات التابعة لهم بطريقة مهنية لا علاقة لها بالصراع الحزبي والخلافات السياسية بين الأحزاب!

وكما يوفر هذا الوضع أمانا للمجتمع وحراكه السياسي من تدخل الجيش والأمن فإنه يحفظ المؤسسة العسكرية والأمنية من أخطاء السياسيين ونزواتهم وخلافاتهم! ولا يعني ذلك أن العسكريين يحظون بحصانة خاصة.. بل العكس.. فإن انتقاد أي أخطاء يرتكبها العسكريون في السلم أو الحرب تكون بعيدة عن الحساسية الحزبية! ولا يجد أي حزب نفسه مطالبا بالدفاع الأعمى عن العسكريين وإخفاء أخطائهم من باب التعصب الحزبي لأنهم مؤسسة مستقلة لا تتبع حزبا معينا وأخطاؤهم العملية محسوبة عليهم.. ولذلك فليس من الغريب أن البرلمان والأحزاب ومؤسسات المجتمع يمارسون دورا رقابيا قويا على نشاطات المؤسسة العسكرية والأمنية في المجتمعات الديمقراطية.. ولا توجد أسرار على المجتمع –باستثناء الأسرار العسكرية البحتة- أما نفقات ومصروفات الجيش وقضاياه الإدارية وكل شيء يكلف المجتمع نقودا.. فإن المجتمع بكل هيئاته يمتلك الحق في مراقبتها وانتقادها وكشف الأخطاء والانحرافات، والمطالبة بالتحقيق حتى في جدوى العمليات الحربية التي يقوم بها العسكريون! ولا نظن أننا بحاجة لضرب الأمثل على ذلك، فالعالم مفتوح أمامنا.. والقنوات الفضائية تنقل إلينا مباشرة –مثلا- جلسات الاستماع التي ينظمها مجلس الشيوخ الأمريكي لكبار ضباط الجيش والأمن والمخابرات لمساءلتهم ومحاسبتهم أو الاستماع لوجهات نظرهم حول تطورات أعمال مؤسساتهم وأفعالهم ولو في الحرب!! وها هم في الكيان الصهيوني يكادون يبدأون تحقيقات واسعة حول الحرب التي شنتها الحكومة الصهيونية مؤخرا ضد لبنان ومدى جدواها.. وحول أعمال قادة الجيش والأخطاء التي وقعت منهم.. وفي عام 1974،وبعد أقل من عام على حرب أكتوبر 1973م، استكملت لجنة في الكنيست الصهيوني تحقيقاتها حول الحرب، وأدانت الأخطاء التي وقعت.. وأصدرت تقريرها الشهير بعنوان (التقصير) الذي على إثره قدمت (جولدا ماثير) استقالتها من رئاسة الوزارة بينما أشك أن نظاما عربيا من هذه الأنظمة يستطيع أن يجري تحقيقا محايدا حول نشاطاته العسكرية ونفقاته!

المؤسسات العسكرية والأمنية في البلدان الشمولية والديمقراطية الشكلية ما تزال في قبضة الحزب الحاكم.. وما تزال تلك الأنظمة تستمد شرعيتها وقوتها منها وليس من إرادة الناخبين الحرة! ولذلك فهي مؤسسات خاصة لا يعلم أحد ما يدور فيها.. وكيف تدار علاقتها بالدولة.. ولا يستطيع (البرلمان) أن يتعاطى معها بحرية وفقا للأصول الديمقراطية! ولذلك ليس غريبا أن تقوم (السلطة الحاكمة) بتجيير هذه المؤسسات لخدمة أهدافها الحزبية أو السلطوية وتحريضها ضد المعارضة وتقديم هذه الأخيرة للعسكريين على أنها عملية وخائنة وتريد أن تصل إلى السلطة التي ينبغي أن تكون مقصورة على حزب واحد ورجل واحد! وليس غريبا –أيضاً- أن تسخر إمكانيات هده المؤسسات المادية والمعنوية لدعم مرشحي السلطة الحاكمة وتخويف الشعب بها!

وفي بلادنا لا يختلف الوضع كثيرا عن ذلك.. إن لم يكن هو الأنموذج الأدق في التعبير عن هذه الحالة!! ويصل الأمر إلى درجة التحريض في المعسكرات ضد المعارضة.. وقد تتعرض الوحدات العسكرية للعقاب بالنقل إلى مناطق نائية إذا اكتشفوا أن أفرادها لم يلتزموا بالأوامر بانتخاب مرشحي المؤتمر! وكل إمكانيات التوجيه المعنوي في القوات المسلحة اليمنية تسخر للترويج للسلطة المؤتمرية الحاكمة.. وتستخدم صحف مثل "26 سبتمبر" لشن حملات إعلامية ضد المعارضة واتهاما بالخيانة والعمالة والاتصال بالأجانب والتآمر معهم!

ونعلم أن إقامة فصل بين المؤسسات العسكرية والأمنية وبين الحزب الحاكم أمر ليس بالسهولة على عقليات المسؤولين في الحزب الحاكم.. ولكن ما لم يبدأوا خطوات حقيقية في هذا الاتجاه فإن المستقبل لن يكون في صالحهم.. فلا وجود لديمقراطية حقيقية والوضع على هذا الحال الذي نراه في بلادنا! وللذين سيستنكرون هذا القول نسألهم هل يستطيع وزير الدفاع ووزير الداخلية أن يرفعا برقية للمعارضة يؤكدان فيها حياديتهما واستعدادهما لحماية الخيار الشعبي ويطالبان كل أبناء المؤسسة العسكرية والأمنية بانتخاب من يريدون ويسمحان للمعارضة بزيارة المعسكرات والوحدات والالتقاء برجال الجيش والأمن ومخاطبتهما كما يفعل مؤيدو الحزب الحاكم؟ هل يمكن أن نحلم بأن يمتنع كبار قادة الجيش والأمن عن ترك مواقعهم والنزول إلى الدوائر الانتخابية –بالأمر- لدعم مرشحي المؤتمر؟

الأمر واضح.. إما أن تكون المؤسسات العسكرية والأمنية محايدة حقا وتدار على أسس مهنية ومعايير علمية.. وتخضع لرقابة البرلمان.. وإما أن تفتح الأبواب للجميع للعمل العلني داخلها طالما أن المؤتمريين يعبترونها ساحات للعمل الحزبي والسياسي الداعم لهم!

تجارب التاريخ البعيد والقريب تؤكد أن المؤسسات العسكرية والأمنية عندما تدار على أسس حزبية وعلى أساس الولاء الفردي تكون نهايتها مؤسفة.. وعندما تدار وفقا للأصول ويكون ولاؤها للدستور والقوانين فإن النتيجة تكون طيبة!

ليس نافعا أن يرفع العسكريون برقيات التأييد والولاء للحكام.. فكم من برقيات تأييد، وبعضها مكتوبة بالدم كما كان يقال، رفعت للحكام والزعماء.. فلم تسمن من جوع عندما حمى الوطيس! ولم ينفع الزعماء السابقين كل ما بذلوه لضمان ولاء الجيش والأمن.. لأنه في الأخير فإن أبناء هذه المؤسسات هم من هذا المجتمع الذي يعاني ويتألم ويرغب في التغيير وهم يكرهون الظلم ويتضررون من الفساد مثل المدنيين! وأفضل ضمان هو تربية الشعب كله: عسكريين ومدنيين على الولاء للوطن والدستور ومضامينها.. وعندما فقط تكون النهاية سعيدة للجميع!

جيشان وتجربتان ناجحتان في لبنان وموريتانيا(8)

دخلت المؤسسة العسكرية امتحانين مهمين في بلدين عربيين خلال الفترة المنصرمة. المادة الرئيسية في الامتحانين تمحورت حول موقف المؤسسة العسكرية تجاه الديموقراطية وعلاقة المدنيين بالعسكريين. النتائج التي تمخض عنها الامتحانان لا تؤثر على الدولتين المعنيتين فحسب، وانما من المتوقع ان تؤثر على دول المنطقة وعلى صورة الجيش في اذهان المواطنين فيها.

خلال نصف القرن الفائت اقترنت صورة الجيوش لدى المواطنين بمزيج من مشاعر التفاؤل والقلق والاحباط. عندما انتقلت القوات المسلحة، في بعض الدول العربية، من الثكنات الى السرايات، رافقتها موجات من التوقعات المتفائلة والآمال العريضة والتأييد الحماسي، الا ان هذه التوقعات والآمال ما لبثت ان بدأت تتبخر بعد تمركز العسكريين في السلطة، وبعد ان تبين انهم لم ولن يتمكنوا من تحقيق التطلعات الشعبية بصدد التنمية السريعة او توطيد الوحدة الوطنية والترابية او انقاذ الاراضي الفلسطينية والعربية المحتلة او تحقيق الوحدة العربية.

وبعد تجارب مريرة في العلاقة بين المدنيين والعسكريين، حلت مشاعر الخيبة محل الآمال العريضة التي علقت على الحكومات العسكرية، وارتفعت الحواجز النفسية والسياسية بين الفريقين. واتسمت نظرة الاوساط المدنية العربية بمنحى تبسيطي احياناً. فكثيرون من اهل الرأي ومن موجهي الرأي العام من العرب، بدأوا يرون في كل عسكري عربي يتجه الى العمل السياسي مشروع حاكم مستبد. وذهب البعض من اهل الرأي الى ابعد من ذلك اذ بات يرى ان النزوع الى الاستبداد هو صفة محصورة بالعسكريين من دون غيرهم متناسياً ان هذه السمة قد تطبع عقلية العسكريين وغير العسكريين.

على خلفية هذا السجل الطويل من العلاقات السلبية بين المدنيين والعسكريين في المنطقة العربية دخل الجيش اللبناني امتحانا عسيرا ابان المواجهة مع جماعة «فتح الاسلام» في شمال لبنان. لقد حظي الجيش اللبناني بتأييد عارم بين اللبنانيين سواء أكان بين مؤيدي الحكومة ام المعارضة اذ تسابق الزعماء من الطرفين الى اعلان مساندتهم للجيش وادانة التعرض الى افراده وإلى استنكار اعمال جماعة «فتح الاسلام». صحيح ان بعض هؤلاء الزعماء حاول استخدام هذه المناسبة للنيل من المنافسين، الا ان الجميع ومن دون استثناء، اعلنوا دعمهم للجيش ودعوا المواطنين الى التعاون معه ومساندته.

هذا التأييد لم يشمل الحركات السياسية اللبنانية فحسب، وانما اتسع ايضا خلال مراحل الاقتتال الاولى، كي يشمل القيادات والمنظمات الفلسطينية العاملة في لبنان. تجلى هذا الموقف عندما ادانت فصائل المنظمات الفلسطينية وقيادة «تحالف القوى الفلسطينية» في لبنان خلال اليوم الاول من المعارك اعتداء «فتح الاسلام» على الجيش. كذلك شمل هذا التأييد قوى عربية كثيرة خارج لبنان.

هذه الصورة للقوات المسلحة اللبنانية اليوم تختلف عنها خلال السبعينات، اي خلال فترة الاصطدام مع المقاومة الفلسطينية. خلال السبعينات كان فريق واسع من القيادات السياسية اللبنانية - خاصة في اليسار - يوجه انتقادات حادة الى الجيش، ويثير تساؤلات كثيرة حول موقفه من القضايا العامة وخاصة قضية نشاط المقاومة. وكانت الاحزاب والحركات التي تشكل منها ذلك الفريق تتنافس في توجيه هذه الانتقادات - سواء كانت هذه الانتقادات في محلها ام لا - الى المؤسسة العسكرية اللبنانية. وكان اصحاب هذه الانتقادات يتوقعون ان تكسبهم تأييدا في بعض الاوساط الشعبية التي كانت تنظر الى القوات المسلحة ببعض الارتياب.

الآن الصورة مختلفة اختلافا كبيرا. فالذي يريد التقرب الى الرأي العام اللبناني، يجد ان الطريق الاجدى الى تحقيق هذه الغاية هي الالتزام بتأييد الجيش اللبناني والتضامن معه. قد يجد البعض ان هذا الموقف هو حصيلة اعتبارات راهنة. فالجيش معتدى عليه، و «فتح الاسلام» تحظى بالقليل من التعاطف بين اللبنانيين والفلسطينيين. ولكن الموقف تجاه الجيش اللبناني يعود بمقدار ما الى سلوكه الذي اكسبه مكانة عالية واحتراما بين اللبنانيين. فالجيش ايد المقاومة اللبنانية وتصدى بصورة مباشرة، رغم محدودية امكاناته، لاعتداءات اسرائيلية. والجيش ساهم في تطويق واحتواء التوترات الطائفية. والجيش اللبناني، علاوة على هذا وذاك، بقي ملتزما بـ «الكتاب» - اي الدستور - كما كان يصفه مؤسسه الرئيس فؤاد شهاب. واذا تمكنت الديموقراطية اللبنانية من تجاوز المحن التي تمر بها، فإنها مدينة بشكر خاص للمؤسسة العسكرية التي اثبتت ان العسكريين لا يشكلون تحديا دائما للنظام الديموقراطي، كما تدل التجارب الكثيرة في العالم الثالث وحتى في بعض دول العالم الاول والثاني، بل قد يكونون رصيدا وعضدا له.

ان توطيد هذا الدور الديموقراطي والوطني للمؤسسة العسكرية اللبنانية يشكل اليوم عاملا اضافيا وحافزا جديدا للقيادات اللبنانية للخروج من الوضع المأسوي الذي يعيشه لبنان. فحتى يقوم الجيش اللبناني بدوره المطلوب، على النخبة السياسية ان تقوم هي الاخرى بدورها المطلوب. الاتفاق على سياسة دفاعية واضحة هو مهمة القيادات السياسية وليس مهمة الجيش. وهذا الاتفاق ليس امرا مستحيلا اذ اخرج الزعماء اللبنانيون انفسهم من المنحدر الذي اوقعوا انفسهم فيه. الجيش اللبناني نجح في امتحان مخيم البارد. بقي عليهم ان ينجحوا هم ايضا في الامتحان.

الجيش العربي الثاني الذي دخل الامتحان قبل بضعة اسابيع فخرج منه بعلامات ناجحة هو الجيش الموريتاني. تمثل الامتحان بالانتخابات الرئاسية التي جرت خلال النصف الاول من شهر آذار (مارس) الفائت. لقد انهت تلك الانتخابات فصولا مضطربة وبائسة من تاريخ البلاد بدأت مع الانقلاب العسكري الاول الذي نفذه العسكريون ضد الحكم المدني عام 1978 واستمر عام 2005.

خلال الفترة التي قضاها العسكريون في الحكم فشلوا في تحقيق اي انجاز ملحوظ. لم يحقق العسكريون التنمية السريعة اذ ظلت موريتانيا تعتمد بالدرجة الاولى على قطاع زراعي بدائي. كذلك لم تتمكن الحكومات العسكرية المتعاقبة من الافادة من موارد موريتانيا الطبيعية المتميزة. انها تملك ثروة سمكية تعتبر الاكبر في العالم، كما انها غنية بالثروات المعدنية وخاصة الحديد. رغم ذلك بقيت موريتانيا بلدا فقيرا يعاني من مشاكل اقتصادية وتنموية واجتماعية خطيرة. هكذا انحدر متوسط دخل الفرد من 8 في المئة خلال الستينات الى 2.3في المئة خلال السبعينات والثمانينات اي خلال فترة الحكم العسكري. وتحول سوء التغذية الى ظاهرة اثارت قلق المنظمات الدولية خاصة، اذ بلغت نسبة وفيات الاطفال ما يقارب 109 بين كل الف طفل. وتوقف مستوى دخل الفرد عند ألفي دولار في السنة.

وكما فشل العسكريون في معالجة المشاكل الاقتصادية والتنموية، فقد اظهروا عجزا مماثلا في معالجة المعضلات الاجتماعية مثل قضية العبودية. كما ان الحكومات العسكرية لم تنجح في ايجاد حل للانقسامات العنصرية التي تفاقم امرها بين الموريتانيين. ولقد اضافت الحكومات العسكرية الى الاخفاقات اخفاقاً آخر تجلى في اعتماد سياسة خارجية استفزت مشاعر غالبية الموريتانيين عندما اقامت علاقات ديبلوماسية مع اسرائيل.

قدمت هذه الاخفاقات مسوغا كافيا للجيش الموريتاني للتحرك ضد حكومة معاوية ولد الطايع وللتبرؤ من سياساتها. وعندما اعلن قادته انهم سوف يعودون الى الثكنات خلال فترة انتقالية لا تزيد عن السنتين، ظهرت الابتسامات الساخرة على وجوه الكثيرين في موريتانيا وخارجها اذ ان الانقلابيين العرب اعتادوا اطلاق مثل هذه التطمينات من اجل تثبيت ارجلهم في الحكم وليس العكس. بيد ان الانقلابيين الموريتانيين اكتسبوا صدقية واحتراما عندما نفذوا برنامجا للانسحاب المنظم من الحكم، وعندما تمكنوا من اجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها ومن تسليم الحكم الى الحزب الفائز في الانتخابات.

ان هذا الفصل في تاريخ العلاقات بين المدنيين والعسكريين في موريتانيا قد لا يختم نهاية الحكم العسكري في ذلك البلد العربي. فالعسكريون الذي سلموا الحكم الى المدنيين، او ربما غيرهم من العسكريين، قد يجدون ان «الاوضاع تتطلب تدخل القوات المسلحة مرة اخرى لحماية البلاد ولتأمين استقرارها». وكما يحدث في اكثر الاحيان، فإن هذا النوع من الاوضاع ومن التبريرات يكون سببه عادة اخفاق الحكومات المدنية والمنتخبة بطريقة ديموقراطية في تحقيق الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الضرورية. عندها تضيع فرصة الحكومات الديموقراطية في توطيد النظام الديموقراطي في البلد وينفتح الباب امام قيام حكومات الاستبداد العسكري من جديد. حتى لا يحدث ذلك، فإنه من المأمول ان تعتبر الاحزاب الموريتانية، سواء أكانت في الحكم أم المعارضة، انها هي الاخرى امام امتحان ينبغي ان تنجح فيه بأي ثمن، وان نجاحها سوف يقاس بالمقدار الذي تحقق فيه الاصلاحات المطلوبة التي تعهدت امام الرأي العام الموريتاني بتحقيقها.

القتال، التمرد او التلاشي(9)

في الحرب المنتظرة بين واشنطن وبغداد يتوقف مستقبل النظام البعثي على اداء الجيش العراقي. ويسود اعتقاد في الولايات المتحدة ان الجيش النظامي سيتخلى سريعا عن القتال لكن الحرس الجمهوري سيبدي مقاومة اكبر ذلك انه افضل تجهيزا ورواتب ويملك دوافع للبقاء على ولائه وخوض القتال.

 بيد ان هذه المقارنة المبسطة بين قوات النخبة والجيش قد تؤدي الى اخطاء في التقدير لانها ترجع التماسك والتفكك الى عوامل عسكرية عمومية ولو انها مهمة، متجاهلةً العلاقات المعقدة بين الحرب والسياسة وخصوصا في العراق. 

علينا ان نعود الى طبيعة حزب البعث واستيلائه على السلطة عام 1968، فقد كان زعماؤه يعانون الانقسامات في صفوف الضباط وعقداً كاملاً من الحكم العسكري المهدد على الدوام بالانقلابات التي توالت منذ 1958. وقد حدد المؤتمر الثامن للحزب عام 1974 هدفين رئيسيين اولهما اخضاع الجيش لسلطة الحزب بطرد العناصر "المشكوك فيها والمتآمرة والمغامرة" من صفوفه وبالتعبئة العقائدية لكل افراده. اي ان المطلوب كان تحويله الى الولاء البعثي. اما الهدف الثاني فكان اعادة بناء هذا الجيش وتحديثه وتوسيعه. 

كان كسب الجيش الى البعث ضروريا ولكن غير كاف. فمن اجل ضمان ولائه ادخلت الى صفوفه مجموعات عائلية وعشائرية. فبرز نظام مزدوج: الحزب يسيطر على الجيش والعشيرة تسيطر على الحزب. فالعشيرة تؤمّن ضمان الثقة. اضافة الى القيادة العامة للجيش تم انشاء ثلاثة مراكز نفوذ: المكتب العسكري للحزب، وشعبة الامن القومي المكلفة في شكل خاص المخابرات، والشبكات العائلية غير الرسمية. 

بفضل هذه التركيبة المعقدة حصل الرئيس صدام حسين على سلطة اضافية لادارة البلاد والاشراف عليها. فتمكن من تجاوز التراتبية العمودية وممارسة رقابة مباشرة على مختلف القطاعات العسكرية. وخلال الحرب التي خاضها العراق 1980 ــ 1988 اشتكى بعض العسكريين من هذا الوضع لان ما تتسم به آليات السلطة من شخصانية قد يكون مفيدا للامن الداخلي لكنه يمثل عائقا في وجه الحروب الحديثة. 

في السابق وخلال رئاسة الاخوين عارف  1963 ــ 1968 كانت القوات العراقية تتميز ببنية مزدوجة: الجيش النظامي والحرس الجمهوري. حافظ البعث على هذه الثنائية لكنه عدّل من اوضاع الحرس الجمهوري ودعمه ليشكل جيشا مكوّنا من لواءين. فقد اقدم النظام عن سابق تصور وتصميم على الفصل بين الدفاع الوطني المخول به الجيش والامن الداخلي وهو من مهام الحرس الجمهوري ولو ان هذا الاخير شارك في الحرب مع ايران واجتياح الكويت والحرب مع الولايات المتحدة وحلفائها. 

من جهة اخرى ادت عملية اعادة بناء الجيش ايضا الى تغير جذري في الاصول الاجتماعية لكبار القادة العسكريين. فالدور السياسي للضباط تراجع شيئا فشيئا وابقي الجيش في ثكنه ليتحول الضباط الى محض ادوات تنفيذية. كان مجلس قيادة الثورة الاول الذي انتزع السلطة عام 1968 وشكّل اعلى سلطة في البلاد، مكوّناً بأكمله من العسكريين، لكن بعد ثلاثة اعوام لم يضم مجلس الثورة الثاني سوى خمسة ضباط من اصل 15 عضوا. وعندما تمكن صدام حسين من احتكار جميع السلطات عام 1979 لم يعد المجلس يضمّ اياً من الضباط. كما يوضح المؤرخ مجيد خضوري "كان حزب البعث اول نظام يخضع الجيش للسلطة المدنية”. 

ترافقت هذه التغيرات مع تحول كمي واسع اذ ولّى عهد العسكري السياسي ليحل محله جيش جرار حيث تضاعف عديد القوات المسلحة عشر مرات خلال عشر سنوات ليرتفع من 50 الف رجل عام 1968 الى 430 الف عام 1980. وقد زادت نسبة العسكريين لعدد السكان من 6 الى 31 في المئة. أمّن النظام من خلال هذا التضخم استقراره وحصل على اداة مناسبة لطموحاته الاقليمية الكبيرة. 

كانت الحرب مع ايران بداية مرحلة من التحولات طاولت الامة والجيش وتأمنت الكلفة من عائدات الثروة النفطية وبفضل الدعم الدولي والاقليمي اضافة الى مزيج من الشعور الوطني الشعبي والتوجه القومي الرسمي. وقد تضخم الجيش ليصل عديده الى المليون من دون احتساب المنظمات شبه العسكرية من ميليشيا الحزب (الجيش الشعبي) الى الـ 150 الف رجل من مرتزقة القبائل الكردية والذين يطلق عليهم اسم "فصائل الدفاع الوطني”. 

ادى ذلك الى امتصاص موارد البلد الذي لجأ الى الاستدانة بصورة هائلة. عندما اصبح العراق عملاقا عسكريا تحول الى قزم اقتصادي. وقد وصل جيل الحرب الى حدود التمرد بسبب امتداد المعارك والصعوبات الاقتصادية والتفكك الاجتماعي الناتج من سياسة النظام. تقلصت شبكات الحزب والعشائر بعد مرحلة من النمو وكاد الجيش يتحول الى مركب بدون قبطان. 

ابتداء من 1988 ــ 1990، في نهاية النزاع، بدأ التفكك يظهر داخل الحلف القديم بين التوجه الوطني الشعبي والتوجه الرسمي، وكان امام النظام إما ان يستمر في اطعام مليون من العناصر العسكرية ام تمويل عودتهم الى الحياة المدنية بكرامة. وكان هؤلاء الذين يطلق عليهم اسم "ابطال صدام" يخيفون النخبة الحاكمة بسبب تصرفاتهم الفظة وعدم انصياعهم. كانت القيادة العسكرية العليا منقسمة: فالبعض كان يخشى ان يتحول الجنود المسرّحون، الجائعون والغاضبون، الى آفة على الحياة المدنية يعيثون الفوضى وينشرون الجريمة، بينما كان البعض الآخر يتخوف من انفجار الجيش من الداخل اذا ابقي لوقت طويل في حال انتظار. 

كان المطلوب بأي ثمن ايجاد موارد اضافية واطلاق اصلاحات سياسية من شأنها التخفيف من حدة الضغوط. فكان لاجتياح الكويت مفعول ارتدادي بدل جلب العلاج لكل هذه المشكلات. فتحول الفشل المذل وما رافقه من خسائر بشرية كبيرة الى عامل محفز للتفكك والتمرد. وتمثل اول تفكك جزئي للجيش في تمرد 1991 (الاكراد في الشمال والشيعة في الجنوب) الذي انطلق من عصيان بعض الوحدات العسكرية. 

فحرب الخليج ابرزت ثلاثة اتجاهات رئيسية لكن متناقضة داخل الجيش: التمرد والاستسلام والتماسك. وهي اتجاهات ليست بالجديدة حيث كانت مشكلة الفرار من الجندية مثلا منتشرة قبل العام 1990، لكن خلال الحرب البرية في شباط/فبراير 1991 قلة من الوحدات في مسرح العمليات الكويتي خاضت غمار المعارك وفضل 70 الف جندي الاستسلام منذ اليوم الاول للمعارك. 

بعد وقف اطلاق النار بلغت حالات التمرد والفرار على الجبهة الجنوبية حداً انفرط معه الجيش بشكل كامل. في الشمال رمت الوحدات العسكرية البالغ عديدها 150 الفا سلاحها وهي مصممة على عدم التمرد وعدم الدفاع عن النظام. اما في الوسط، حول بغداد، كان مستوى التجانس والولاء مرتفعا. 

ما هو سبب هذه الاختلافات؟ اولا كان الجنود يشعرون باللامبالاة تجاه "حرب الكويت" كما كانوا يسمونها بعدما انهكتهم الحرب ضد ايران. وقد جاء ذلك على حساب الوحدة بين الموقفين الشعبي والرسمي. وما زاد من مرارة الوحدات العسكرية في الجنوب مشهد الخسائر الكبيرة وتداعي اللوجستية والنقص في التموين وسوء قيادة العمليات والهزيمة وما لحقها من تقهقر فوضوي. اضافة الى ذلك كان مفوضو الحزب والشبكات العائلية الموالية متفرقين وقليلي العدد داخل الوحدات المتمركزة في الجنوب وتلك التي بقيت في الكويت. كانت رقابة الحزب والعشيرة ضعيفة هناك. 

والمفارقة ان الحملة الجوية القاصمة التي قادها التحالف والتي تسببت في البداية بحالة الغضب في اوساط الجنود المنسحبين، ادت في النهاية الى تدمير هذه الوحدات التي عجزت تالياً عن التمرد في شكل فعال على النظام. وقد ساهمت الولايات المتحدة بصورة لاارادية في مساعدة صدام على التخلص من خطر الجيش المهزوم في الجنوب وذلك بسبب خشية واشنطن من تدخل ايراني محتمل في شؤون العراق ورغبتها في إبقاء توازن عسكري عراقي مقابل هذا الخطر مما دفع بها الى عدم تدمير الحرس الجمهوري بشكل كامل. تمردت الوحدات المبعثرة والعديمة التنظيم بعد تراجعها بوقت قليل وكانت الاشارة الى التمرد قيام دبابة منسحبة بإطلاق قذائفها على صورة عملاقة لصدام في وسط مدينة البصرة. 

في الشمال، تضافرت العوامل نفسها فانطلق التمرد بقيادة "المستشارين" من زعماء الفصائل القبلية الكردية والعناصر المسرّحين من سكان المدن. وبعد شعورها بالهزيمة والعزلة اتخذت الوحدات العسكرية القرار الصعب بالاستسلام للاكراد. فترك 150 الفا من الجنود مواقعهم ليقدموا مشاهد مثيرة لآلاف الرجال غير المسلحين يلبسون البزات العسكرية ويجولون في شوارع اربيل والسليمانية ودهوك. وقد اثار منظر هؤلاء الجنود المشتتين الشفقة في نفوس العائلات الكردية فأعطوهم المال والغذاء. كان موقف قادة التمرد ان سياسة صدام هزمت الامة واذلت الجيش. 

لكن هؤلاء العسكريين كانوا يفتقرون الى التوجيهات. فبالرغم من شجاعتهم في الخروج على الانضباط العسكري لم يكن لديهم الاندفاع الكافي للهجوم على بغداد. وفي مرحلة ترددهم هذه ابطلوا مفعول اسلحتهم. حتى في الجنوب بدا التمرد اقرب الى اليأس منه الى الحركة ذات الاهداف السياسية الواضحة الاهداف. كان انعدام تسييس العسكريين لافتا في الشمال كما في الجنوب. 

في المقابل برهنت الفرقة الثالثة المتمركزة وسط البلاد عن تماسكها وولائها للنظام. انها مؤلفة في شكل اساسي من وحدات الحرس الجمهوري كألوية المدينة وحمورابي فصارت القوة الضاربة الرئيسية لدى الرئيس صدام حسين. وكانت القيادة العليا اعطتها دورا احتياطيا في حال الهجوم المضاد الذي لم يحصل. فانقض هؤلاء الجنود الذين وفرتهم الحرب على المتمردين السيئي التسليح وانقذوا النظام. هكذا ادت هذه القوات مهمتها بشكل كامل في الدفاع عن النظام بعدما كانت ادارة بوش الاب قد حافظت عليها لتأمين مهمة الدفاع الوطني. 

يمكن تفسير هذا التماسك من خلال عوامل عدة. فالدور الاساسي كان لكثافة الشبكات الحزبية والعشائرية داخل الحرس الجمهوري قياسا على الجيش النظامي. فاتحد الضباط والجنود بسبب شعورهم بالخطر الجماعي مما سمح للحكومة بتوجيههم لقمع التمرد، وكانت معنوياتهم مرتفعة وخصوصا ان مواقعهم تعرضت اقل من غيرها للقصف اثناء الحرب. 

ابتداء من 1991 اطلق النظام برنامجا لاعادة البناء بغية تنظيم ادارته ومؤسساته، فحضّر لادخال تغيير على الفريق الحاكم الذي بدأت تظهر عليه علائم التفكك. تم  الاستبدال بهدوء وفرضت على المجتمع العودة الى العشائرية بينما شهد الجيش اعادة تنظيم كاملة. خلال 22 عاما بين 1968 و1990 توالى على حقيبة الدفاع اربعة وزراء فقط بينما حصل هذا التغيير اربع مرات ايضا بين 1991 و1996. فصدام كان ابقى هذا المنصب بين ايدي عشيرة المجيد لكن في العام 1996 اختار احد ابطال الحرب من الجيل الجديد ارضاء للمؤسسات العسكرية ومن اجل مكافحة الاحباط في صفوف الجيش. فبموجب هذه السياسة حل وزير الدفاع الحالي السيد ثابت سلطان محل السيىء الذكر علي حسن المجيد. 

لكن التغيير الاكبر كان في خفض عديد القوات المسلحة التي هبطت من مليون الى 350 الف رجل كما تراجع مخزون الاسلحة للنصف قياسا مع العام 1991. لم يطرأ اي تحسين على التجهيزات العسكرية باستثناء انظمة الدفاع الجوي. هكذا تمكن النظام من خفض الانفاق وتكثيف الحضور العشائري الذي كان يتلاشى في شكل خطير قبل الحرب. من جهة اخرى توسعت الهوة بين الجيش النظامي ووحدات النخبة وبات الحرس الجمهوري يساوي الجيش النظامي لجهة الوحدات المدرعة والمؤللة ولا يتخلـف عنه الا بالمشاة. 

في الواقع تضم القوات المسلحة اليوم اربع فرق: وحدات الحرس الجمهوري الخاصة المؤلفة من ثلاثة الوية (تتحدث بعض المصادر عن ثمانية)؛ الحرس الجمهوري المؤلف من ثلاثة الوية مدرعة ولواءين مؤللين ولواءي مشاة؛ الجيش النظامي الذي يشتمل على اربعة الوية مدرعة وثلاثة مؤللة وخمسة الوية من المشاة؛ ومجموعة من الوحدات القبلية المكلفة قمع اي تمرد مدني والتي قد تشكل قوة لا يستهان بها في حرب الشوارع. تجدر الاشارة اخيرا الى ان المتحدرين من عشيرة صدام يشكلون ما بين 35 و85 في المئة من كبار الضباط: انه لعامل تماسك خطير!. 

تختلف الحرب المتوقعة عن حرب 1991 لجهة الاهداف السياسية وسير العمليات ومسرح المعارك. فسيكون للبعد السياسي للحرب اثره الحاسم على موقف الجيش. وبما ان الولايات المتحدة تسعى الى إطاحة النظام فيفترض بالمعارك ان تتركز حول بغداد. واذا لم يحصل انقلاب في موقف الوحدات العسكرية الكبيرة او اي انقلاب عسكري ناجح فلا يمكن تحقيق الهدف المنشود من الحرب الا بالاجتياح والاحتلال الكاملين. لا يمكن اتخاذ الانتصار السريع في افغانستان نموذجا لان كسر وحدة "العشيرة ـ الطبقة" قد يكون صعبا خصوصا ان الولايات المتحدة لا تبدو مهتمة بتماسك النخبة الحاكمة.

 يواجه نظام بغداد مشكلتين يعجز عن تجاوزهما في الظاهر. اولا طبيعة النزاع المتوقع لان استمرار النظام هو على المحك هذه المرة. من جهة اخرى تدرك الطبقة الحاكمة مدى الهوة الفاصلة بين القومية الرسمية والشعور الوطني الشعبي، وتدرك بقلق ايضا ان الجيش العراقي لا يمكن ان يصمد في وجه الولايات المتحدة وحلفائها المحتملين. 

تلجأ بغداد الى ردود دفاعية عدة اذ حاول النظام اولا استخدام التهديد الجماعي الاميركي بتصويره انه سيطاول مجمل النخبة الحاكمة. ففي مواجهة خطر الزوال الكامل يمكن افراد هذه النخبة ان يتحدوا في مواجهة مشتركة حتى النهاية. وما يعزز هذا الشعور الجماعي ان الولايات المتحدة لم تحاول ايجاد شرخ داخل هذه النخبة. 

ثانيا وازاء الضعف الملازم للموقف القومي الرسمي، استعان النظام بالاشكال الدينية الشعبية والمؤسساتية ليؤجج في الوقت نفسه الشعور الطائفي المعادي للشيعة لدى السنّة ولاستصدار فتاوى من العلماء الشيعة ضد المعارضة الشيعية. 

في المرتبة الثالثة جعل من تحصين المدن النقطة الرئيسية في استراتيجيته العسكرية معتبرا ان هذه المدن تشكل افضل ساحات للمعارك. وهذا ما يزيد من احتمال مضاعفة الخسائر المدنية ويمكن ان يعرقل العمليات الاميركية او يحد منها كما قد يعوض عن ضعف الجيش العراقي ويسمح اخيرا للنظام بتحقيق حلمه في انزال اكبر عدد من الخسائر في صفوف الاميركيين. 

رابعا، تم وضع برنامج دقيق لاستخدام وسائل الاعلام العالمية على امل ايقاف قوات الغزو على ابواب بغداد. فالتغطية الاعلامية اللافتة للاهتمام نادرة في الصحراء. خلال حرب الخليج 1991 كانت قوات التحالف تسيطر على التغطية الاعلامية، ويأمل النظام العراقي قلب الاوضاع من خلال تجهيز عشرة مراكز اعلامية في امكنة متفرقة تحت الارض. 

خامسا، ومن اجل تأمين استمرارية السلطة، اقام الحكم نظاما ثنائيا، صدام حسين ونجله قصي، الرئيس الحالي ووارثه. كما تم التخطيط ايضا لمركز ثالث للسلطة ولو لم يُصَر للاعلان عنه يتولاه قائد الحرس الجمهوري اللواء كمال مصطفى. 

اخيرا، ومن اجل مواجهة اي تمرد شعبي مدني، حل القادة العسكريون محل جميع حكام المناطق المدنيين في البلاد كما تم نشر القوات القبلية الموالية لصدام حسين بكثافة في المدن. ان اتخاذ النظام لهذه الاجراءات وغيرها يبرهن انه مدرك لنقاط ضعفه وايضا لهامش تحرك المعسكر المعادي. 

في النظر الى تجربة العام 1991، يمكن لجناحي الجيش اي الفرق النظامية والحرس الجمهوري وتبعا للظروف ان تقاتل او تتمرد او تتلاشى. وستكون الغلبة لواحد من هذه الاتجاهات تبعا للزمان والمكان. اما التحضير لانقلاب عسكري فدونه تعقيدات اكبر كون الجيش لم يعد مسيَّسا كما كان في العام 1958 حيث كانت تكفي مشاركة عشر الجيش لتحييد الباقين. في الظروف الراهنة يفترض تحريك فرقة كاملة من الجيش تضم ثلاثة او اربعة الوية وتحييد عدد مماثل سياسيا. ولا يبدو هذا الامر ممكنا من دون مساهمة قسم كبير من عشيرة الرئيس. 

هل تنجح سياسة الولايات المتحدة في استقطاب قسم من النخب العشائرية الحاكمة؟ ان اي محاولة انقلابية قد تؤدي الى اعمال تمرد متفرقة وأخطار متزايدة من نشوب حرب اهلية. عندها سيكون عدد الضحايا مرتفعا في شكل دراماتيكي وستقترب الحرب البطيئة وتزايد القوى غير المنضبطة من اسوأ الكوابيس التي يمكن توقعها.

العسكريون والسياسة(10) 

اسم الكتاب: النبوءة والسياسة : الانجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية

تأليف: غريس هالسل

ترجمة: محمد السماك

الناشر: دار النفائس - الطبعة الخامسة - عام 2003  

تعرض مؤلفة الكتاب غريس هالسل للمنطلقات الفكرية للحركة الصهيونية المسيحية و المنظمات الدينية التي تعمل تحت ظلال كنسية من أجل ترويج أفكارها وبالتالي تكوين ضمير ديني جماعي بوجوب دعم اسرائيل تحقيقاً لنبوءات مستخرجة من التوراة بما يتوافق مع الأهداف الاستراتيجية لاسرائيل في فلسطين وفي الوطن العربي.

ولعل مايعطي الكتاب أهمية خاصة هو أن مؤلفته مسيحية انجيلية نشأت في بيت مؤمن بالحركة التدبيرية والمسيحية الصهيونية وكانت من أتباعها.

والكتاب من القطع المتوسط جاء في 232 صفحة ، ترجمة محمد السماك وهو من أوثق المفكرين العرب علاقة مع المؤلفة غريس هالسل ، ترجم لها كتابيها "يد الله" و " النبوءة و السياسة" الذي نقدم عرضاًَ له و الذي يبدأه المترجم بمقدمة خاصة للطبعة الخامسة و يتحدث عن طبيعة الدور الذي لعبته غريس هالسل في كشف معالم الصهيونية المسيحية كأول دور من داخل أميركا يكشف مدى تغلغل هذه الحركة الدينية في المجتمع الأمريكي وكان أول صوت انجيلي يرفع ضد هذه الحركة الانجيلية التي أطلقت على نفسها اسم "الصهيونية المسيحية" .

كما يبين لنا السماك بداية ظهور نظرية جديدة تقول: "ان الله يريد عودة اليهود إلى فلسطين لعبادته من هناك ، لأنه يحب أن يعبد من هناك " هذه النظرية التي استعملها اليهود أساساً للهجرة اليهودية إلى فلسطين ، فهذه النظرية تقول أن للمسيح عودة ثانية وأنه لن يظهر إلا وسط مجتمع يهودي وانه لن يعود إلا في صهيون .

ومن أهم معتقدات هذه الحركة تعجيل الحروب حتى تعجل بعودة المسيح المعتقد بأنه سيظهر بعد معركة هرمجيدون النووية" نسبة إلى سهل مجيدو في فلسطين" ولذلك نرى اهتمام هذه الحركة بالشرق الأوسط والسعي للسيطرة على الادارات الامريكية للتأثير على قرارها المتعلق بالشرق الأوسط .

ومن معتقدات هذه الحركة أن قيام دولة اسرائيل عام 1948 كان المؤشر الأول من ثلاثة مؤشرات على تحقيق الإرادة الإلهية بالعودة الثانية للمسيح ، وكان المؤشر الثاني احتلال القدس عام 1967 ، أما المؤشر الثالث المنتظر فهو تدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل مكانه.

يبين لنا المترجم في المقدمة الجديدة التي أوردها في الطبعة الخامسة أن الأصولية الانجيلية المتصهينة لاتقتصر على مجرد تقديم تفسيرات معينة لمفاهيم دينية محددة ، ولكنها تحاول أن تصنع المستقبل وفقاً لهذه التفسيرات، وذلك من خلال الموقع الممتاز الذي تتبوؤه في مصنع القرار الامريكي.

وفي مقدمة الطبعة الثالثة يظهر لنا المترجم أهمية هذه الدراسة في بيان عمل مؤسسات و أشخاص داخل أمريكا والكيفية التي يتم بها جمع الأموال وإثارة الرأي العام والدفاع و التنسيق مع الحكومة الاسرائيلية ، ويلقي هذا الكتاب الضوء على مسألة الصراع بين الحركة المسيحية الصهيونية و الكنائس المسيحية الأخرى التي تتخذ مواقف مناقضة إلى حد كبير.

أما في مقدمة المؤلفة غريس هالسل فتتحدث فيها المؤلفة عن حياتها ونشأتها في بيت مسيحي يؤمن بأن تاريخ الانسانية سوف ينتهي بمعركة هرمجيدون النووية التي سوف تتوج بعودة المسيح ، وتخبرنا كيف كانت معرفتها بالشرق الأوسط تنطلق بشكل أساسي من الكتاب المقدس شأنها بذلك شأن أغلبية الأمريكيين ، وكيف فوجئت عند زيارة فلسطين بأن فلسطين ليست أسطورة لكنها أرض تخص فلسطينيين عاشوا فيها طوال الألفي سنة الماضية، وهي حقيقة مغيبة عن الشعب الأمريكي .

وتشير المؤلفة إلى مدى تأثير أشخاص مثل "هول لندسي" مؤلف كتاب " آخر أعظم كرة أرضية" وتأثير الحملات التبشيرية الانجيلية التلفزيونية التي ترسخ في عقول الشعب الامريكي فكرة أن الله قضى علينا ان نخوض غمار حرب نووية ومدى تأثير هذه الأفكار على الادارات الامريكية كإدارة "رونالد ريغان" المتحمس جداً لهذه الأفكار و الذي لم يتوان في التعبير عنها أكثر من مرة في أكثر من مناسبة.

هذه الأفكار الهامة التي تطرقت لها المؤلفة في مقدمة الكتاب قامت بشرحها وتفصيلها من خلال صفحات الكتاب عبر عدد من الفصول وهي:  

مع جيري فولويل في أرض المسيح (معركة هرمجيدون):

هنا تعود بنا المؤلفة إلى اولى رحلاتها إلى تل أبيب والتي نظمها جيري فولويل أحد أكثر المسيحيين الصهاينة ولاء لاسرائيل ، وتبين لنا المؤلفة مدى إيمان المسيحيين الامريكيين بأن عودة المسيح لن تتم إلا بعد معركة هرمجيدون النووية التي هي باعتقادهم مشيئة الله والتي ذكرت تفاصيلها في الكتب المقدسة.

النهاية قريبة:

إن فكرة أن نهاية العالم قريبة هي فكرة كل المعتقدين بمعركة هرمجيدون وعودة المسيح المخلص والتي يسبقها حسب اعتقادهم تورط روسيا في حرب ضد اسرائيل بالتعاون مع الشرق الأوسط وهي إحدى المراحل التي تسبق نهاية العالم.

ريغان : التسلح من أجل هرمجيدون حقيقية:

تقدم لنا المؤلفة ومن خلال دراسة أجراها "أندرو لانغ" مدير الأبحاث في المعهد المسيحي نظرة معمقة عن حياة رونالد ريغان وتأثير أبواه في ترسيخ أفكار المسيحية الصهيونية ، وكيف استغل منصبه من أجل زيادة التسلح في الولايات المتحدة للتعجيل بمعركة هرمجيدون التي كان من أشد المعتقدين بها.

استراحة في الناصرة:

تستخلص لنا المؤلفة من وقائع رحلتها إلى القدس أن الحكومة الاسرائيلية و المسيحيين الصهاينة القيميين على رحلات مايسمى بالحج يبذلون جهداً كبيراً للفصل بين المسيحيين الغربيين و بين الفلسطينيين المسلمين و المسيحيين على حد سواء ، ويحاولون زرع فكرة أن فلسطين هي أرض بلا شعب .

استحسان المسيح العسكري:

إن مباركة المسيحيين الأصوليين واليهود للعمليات العسكرية ضد العرب المسلمين و المسيحيين ينبع من تحميل نصوص الكتاب المقدس ما لا تحتمل ، وبالتالي التشجيع على زيادة التسلح بالأسلحة النووية وجمع الأموال من أجل تأييد الاسرائيليين شعب الله المختار حسب اعتقادهم.

بحث عن حياة فولويل:

هنا تغوص المؤلفة في حياة جيري فولويل من أكبر مؤيدي الدولة الصهيونية والعاملين لمصلحتها بعد ان كان من دعاة فصل السياسة عن التبشير في محاولة منها أن تكشف النقاب عن الأسباب و النتائج من وراء دعمه لها .

وفي هذا القسم من الكتاب تشير المؤلفة إلى المراحل التي تمهد بعودة المسيح حسب الفكر المسيحي المتصهين :

أولاً: عودة اليهود إلى أرض فلسطين.

ثانياً: إقامة دولة يهودية.

ثالثاً: التبشير باللاهوت لجميع الأمم بما في ذلك اسرائيل .

رابعاًً: صعود الكنيسة .

خامساً: وقوع الفتنة.

سادساً: وقوع معركة هرمجيدون.

والمرحلة السابعة والأخيرة مرحلة الذروة :إقامة مملكة المسيح ، حيث يحكم المسيح من القدس لألف سنة.

زيارة الجبل المقدس:

تخصص المؤلفة هذا الفصل لوصف مدينة القدس وقبة الصخرة والمسجد الأقصى ، وبيان تاريخ هذه المدينة العظيمة وأهميتها الروحية بالنسبة للمسلمين و المسيحيين و اليهود.

التحريض على الحرب المقدسة:

تكشف لنا في هذا الفصل طبيعة المؤسسات و المنظمات الإرهابية التي يدعمها مسيحيون صهاينة في محاولة منهم لتدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل مكانه وذلك بناء على المعتقدات التي استطاع الصهاينة خلال سنوات كثيرة نشرها وترسيخها في عقول الكثير من اليهود والمسيحيين الأمريكيين خاصة، مما جعلهم يؤيدون الأعمال الارهابية التي تقوم بها منظمات يهودية متطرفة.

الدليل المسيحي الممنوع :

ان حركة السياحة في اسرائيل والتي في أغلبها أفواج حجاج تمتاز بالدليل السياحي اليهودي فرخصة الدليل السياحي لاتمنح لفلسطينيين مسيحيين كانوا أم مسلمين لأن هذه الرحلات في حقيقتها هي هدف اسرائيلي لتعريف الحجاج بالانجازات السياسية و العسكرية للدولة الصهيونية بدلاً من أن تكون تعريفاً للأماكن المقدسة المسيحية وتاريخها العريق.

البحث عن صهيونية غير يهودية:

ترى المؤلفة أن المسيحيون البروتستانت الانجيليون هم من كانوا وراء خلق حركة تشجيع اليهود للانتقال إلى فلسطين قبل ثلاثة قرون من المؤتمر اليهودي الصهيوني الأول ، وأن فكرة تحرير انكلترا وأوروبا من اليهود ساعدت في خلق الدولة اليهودية في فلسطين ،كما ترى المؤلفة أن مسيحيين صهاينة أمثال جيري فولويل هم من يحثون اليهود للمطالبة بكل الأراضي العربية التي تمتد من الفرات إلى النيل.

زواج المصالح ...لماذا عقدت اسرائيل حلفاً مع اليمين المسيحي الجديد:

من خلال كلمات القادة اليهود و قادة اليمين المسيحي التي ساقتها المؤلفة ترى ان القادة في المعسكرين يفضلون بناء قوة عسكرية غير محدودة من الأسلحة النووية في كلا الدولتين "أميركا و اسرائيل" .

مكاسب اسرائيل من التحالف: المال

تلخص المؤلفة أهداف اسرائيل في الولايات المتحدة على النحو التالي:

ان اسرائيل تريد المال.

ان اسرائيل تريد الكونغرس أن يكون مجرد خاتم مطاطي للموافقة على أهدافها السياسية.

ان اسرائيل يريد سيطرة كاملة ومنفردة على القدس.

مكاسب اسرائيل من التحالف : مزيد من الأراضي

يعتقد المعسكر اليميني المسيحي أن المسيحيين يؤخرون عودة المسيح من خلال عدم مساعدة اليهود على مصادرة الأرض من الفلسطينيين، لذلك فهم يعملون على جمع الأموال من الأشخاص والمؤسسات ومن المنظمات الانجيلية الأصولية ويتم نقلها إلى اسرائيل بهدف توسيع أراضيها.

مكاسب اسرائيل من التحالف :تجذير الدعم المسيحي

تكشف المؤلفة من خلال ورقة أعدها احد القادة الانجيليين الأصوليين ذكر فيها أسماء 250 منظمة انجيلية موالية لاسرائيل في أميركا ، تقوم بتنظيم أحداث بارزة للتضامن مع اسرائيل ودعمها ، ومن هذه المنظمات:

* مؤتمر القيادة الوطنية المسيحية لاسرائيل.

* المؤتمر الوطني المسيحي.

* الاتحاد الاميركي من اجل سلامة امريكا.

* تاف الكاتدرائيات الانجيلية.

* الائتلاف الامريكي من أجل القيم التقليدية.

* الصوت المسيحي.

مزج السياسة بالدين:

تبين المؤلفة في هذا الفصل تركيز اليهود الصهاينة على جعل التفسيرات التوراتية أساساً للسياسة ، وبالتالي استدراج المسيحيين للدفاع عن اسرائيل كمطلب إلهي مقدس.

وفي خاتمة الكتاب تظهر لنا المؤلفة رؤيتها النقدية للأفكار الصهيونية المسيحية فهي تعتبر ان الحلف الاسرائيلي - الاصولي الأمريكي ليس مجرد حشد للمبادئ النظرية و المعتقدات الروحية ، إنما يقوم على عوامل سياسية وعسكرية أكثر منها نظرية ، ومن هنا يجب أن ندرك أنه نتيجة لوجود أهداف بعيدة المدى بين أطراف التحالف فإن تحالفهم وتنظيمات أعمالهم يجب أن تبقى مؤقتة ، فإذا لم نعترف بالخطر الذي يفرضونه سيكون أمام الطرفين الوقت الكافي في حلفهم غير المقدس لتفجيرحرب لاتنتهي قبل أن تدمر الكرة الأرضية من خلال التحقيق الذاتي للنبوءة وهذا مانراه اليوم مجسداً على أرض الواقع على شكل إبادات جماعية عنصرية وإغتصاب للأراضي وإنتهاك للأعراض كما في فلسطين و العراق ، فالاحتلال الأمريكي للعراق - والذي تدفعه اليد الاسرائيلية متمثلة بزمرة المحافظين الجدد الذين يسيطرون على مواقع صنع القرار في الإدارات الأمريكية - يعتبر مثالاً واضحاً على ضرب هذا التحالف قرارات الأمم المتحدة بعرض الحائط في سبيل تحقيق هدفهم الذي لا يقف عند العراق وفلسطين فحسب بل يمتد ليشمل الشرق الأوسط كله. وكل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

..................................................................

 المصادر/

1- الدكتور: محسن خصروف / صحيفة 26سبتمبر

 2- د.  منذر سليمان / موقع زي. نت

 3- سيف الدين عبد الجبار/ جريدة (الزمان) --- العدد 1854 --- التاريخ 2004 - 7

 4- حسام ابراهيم/ جريدة الوطن القطرية

 5- فاروق سعيد/ جريدة الصباح العراقية

 6- مخلص الصيادي/ الجزيرة الفضائية

 7- ناس برس

 8- رغيد الصلح   /   الحياة    

 9- فالح جبار /  العالم الدبلوماسي و مفهوم

 10- معهد الامام الشيرازي الدولي

11- علم السياسة والمؤسسات السياسية/ بيار بيرنبوم

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 16 تموز/2007 -1/رجب/1428