لو كان (بديع الزمان الهمداني) (رحمه الله تعالى)، حاضراً بيننا
الآن، ويشاهد ما يحصل في العراق، على صعيد السياسة والأمن والادارة
والاقتصاد، لأضاف إلى مقاماته الرائعة مئات المقامات البديعة الأخرى،
لكن الحمد لله، فقد أراحنا الله منه ومن قلمه، الذي يكتب المواضيع بأدب
رفيع، فتكون مقاماته، بمثابة وثائق مكتوبة لأجيال الغد. وكأني أتمثل
خياله يحاورني سائلاً، وأنا مجيبه، عن سرّ النكبة في عراق اليوم ؟.
فلابدّ أنّ أقدم له شيئاً عن فنّ السياسة في الحكم الحديث، كي يفهم
بدقة مأساة العراق السياسيّة، استناداً إلى خلفيّة علميّة، في هذا
المجال. فنقلاً عن كتاب (سياسة الحكم / د. أوستن رني)، الذي يذكر فيه :
(أن السياسي الفيلسوف (تي. ﭭي. سميث) يقول : (أنّ السياسي بطل مـن
الأبطال، يقدم الطاقة التـي بدونـها، لمّ يكن جهاز الديمقراطيّة الخالي
من الحياة ليعمل)(انتهى).
نفهم من هذا القول الدقيق، أنّ السياسي إنسان له إمكانات ممتازة،
من أبرز سماتها الأخلاص في العمل، والحكمة في التصرف، والقدرة على حسم
المواقف لصالح الشعب، باتخاذ القرارات الصائبة بكل حكمة ودقة. وعلى ضوء
هذا التوصيف ؛ فلا غـرابـة من قول (تي. ﭭي. سميث)، آنـف الذكر، الذي
يوصف فيه السياسي الحصيف ؛ بأنّه مصدر لانبعاث الطاقة، التي تحرك
بحيويّتها ونشاطها، جهاز الدولة بالشكل الذي يخدم أبناء الشعب. هؤلاء
الأبناء الذين بأصواتهم، اختاروا هذا الرجل دون سواه، ليصل إلى سدّة
الحكم، ممثلاً عنهم، وملبياً لرغائبهم وطموحاتهم، وفق ما يروه منسجماً،
مع إطار عقيدتهم وتطلعاتهم.
فيعتبر الفيلسوف (تي. ﭭي. سميث)، أنّ جهاز الديمقراطيّة، وهو الدولة
بمؤسساتها المختلفة، عبارة عن كيان خالي من الحياة، (القصد من ذلك ليس
الموت، بمعنى انعدام الحياة، وإنّما العجزعن تقديم العمل المفيد
للآخرين). فجهاز الدولة يبقى مجموعة خاوية، من الأشخاص والمؤسسات، ما
لمّ يفعّلها نشاط السياسيّ، القادرعلى تطويق الحدث، وتطويعه للصالح
العام.
فالسياسيّ ؛ هو الذي يرسم سياسة أجهزة الدولة، في الداخل (السياسة
الداخليّة)، ويخطط لما يدعم دولته من الخارج (السياسة الخارجية) ؛
(أقول : يدعم دولته من الخارج، لا أنْ يخرب دولته بأمر من الخارج !!).
إضافة إلى ذلك، فإنّه يضع الخطط المستقبليّة، التي تنقل البلاد إلى
الوضع الأفضل، وفق مسيرة تطوريّة، متنامية البناء، متصاعدة الأطوار.
فإنّ لم يكن كذلك، فهو ليس سياسياً، وإنّما هو متقمص لدور السياسي،
ومثلَهُ كمثل الممثل السينمائي أو المسرحي، الذي يلعب دور الزعيم، وهو
ليس بزعيم، مثلما فعل الكوميدي (عادل إمام) في مسرحية (الزعيم).
وعلى أساس هذا التصور، يمكن فهم المنطق الذي يقول : أنّ الدّول، لا
يمكن أنْ تتقدم، بدون وجود السياسين من أبنائها ؛ الذين يحققون بعملهم
الدؤوب، تطلعات شعوبهم. هذا الفهم يفسر لنا، أنّ كثرة الموارد والثروات
الطبيعية لدولة مّا، ليست هي الأساس الوحيد لتقدمها، بمعزل عن وجود
رجال أذكياء، يخططون لاستثمار هذه الثروات والموارد، ويحافظون عليها من
عمليات التخريب، داخلياً وخارجياً، باشراك أبناء هذه الدولة، في عمليات
البناء والتقدم، على ضوء برنامج عمل طموح، وخطط استثماريّة تنمويّة،
يضع برامجها، ويخطط أدوارها، وأهدافها ومراحلها، رجال السياسة
الوطنيين، الذين بدون جهدهم، تتبدد ثروات ذلك البلد، ويؤول مصيره
للدمار والخراب.
ويمكن الاستنتاج أيضاً، أنّ دولة مّا في العالم، فقيـرة الموادر،
لكن يضطلع بمهام شؤونها، سياسيّون مخلصون لوطنهم، يرسمون ستراتيجيات
صحيحة، وفق منطق علمي مدروس، سيكون وضعها أفضل بكثير، من الدولة
الغنيّة، التي يقود بعض مفاصلها، (بعض) السياسيين المصلحيين الجهلة،
تحركهم مشاعر الأهواء، والمصلحة الشخصيّة، وارتباطاتهم المشبوهة بمحاور
دول خارجيّة، ويكون هذا (البعض) السيئ، غطاءاً للفساد الإداري والمالي،
وبؤرة لاحتضان الارهاب، فتنجرّ البلاد إلى ويلات الدمار والتخلّف.
وربّما يسأل (بديع الزمان الهمداني)، عن وضع بلاد الرافدين الغرّاء،
بلاد الخير والنّماء، وطن العلم والعلماء ؛ فأقول له : سيدي الجليل،
أن العراق اليوم بلد ديمقرطي الأركان، حرره جنود الأمريكان، من جبابرة
الطغيان، وأصبح بنعمة الآن، يمثل شعبه أعضاء البرلمان، فيهم الرجال
والنسوان، وهم يقودون البلاد لبر الأمان !!، وسيكون العراق، بعد وهلة
من الزمان، جنّة من أروع الجنان، (إذا لم يصبح خبراً بعد كان !!!)،
وربما تحذو حذوه البلدان، وتسير على نهجه الركبان، هل فهمت يا (بديع
الزمان) ؟!!. لكن بوّدي أنْ أوضح له أكثر، عن النظم الديمقراطيّة،
ليكون على بيّنة من الأمر، فأقول له : ــ
في النظم الديمقراطيّة المتقدمة، يكون عضو مجلس النواب، قريباً من
دائرته الأنتخابيّة، أي المجموعات الشعبية التي انتخبته، ليعتني
بطلباتهم، ويلبي احتياجاتهم، وفق مبادئ القانون. وفي السلطة
التنفيذيّة، يكون الوزير مرشحاً من كتلة برلمانيّة معيّنة، وعندما
تمرالبلاد بأزمة من الأزمات، فالكلّ يتكاتف، والبعض يعاضد البعض الآخر،
مصطفّين جنباً إلى جنب، لإخراج البلاد من تلك الأزمة. لكن ما يجري
عندنا في العراق، أنّ الأزمات يعيشها المواطنون لوحدهم، لا بلّ يساهم
في تأجيجها (البعض)، الذي ينعت الواحد منهم نفسه بالسياسيّ، فكلٌّ يعمل
على هوى الجهة التي أوصلته للسلطة ؛ ويضع (هذا البعض)، اعتبارات الكتلة
السياسيّة التي رشّحته، فوق اعتبارات الشعب ومصالحه، دون اكتراث
لمعانات الناس، فيتحول العمل السياسيّ، إلى عمل إبليسيّ نفاقيّ. يوقع
البلاد في أزمات جديدة، أو على الأقل إطالة بقائها على أرض الواقع،
بدلاً من التفكير الجدي، بتفكيك الأزمة وحلّها.
لذا نرى استعصاء حلّ أزمات ؛ (الأمن والوقود والكهرباء والخدمات
والبطالة... وغيرها الكثير). والطامّة الكبرى، أنّ في وقت الأزمات،
تبرز عند (هذا البعض)، حالة المقاطعات للعمليّة السياسيّة، التي
بدورها، تزيد الوضع سوءاً وتعقيداً، وتنقل البلاد من أزمات محددة، إلى
أزمات كثيرة متفرقة متشعبة، تضعف أداء الحكومة رئيساً ومرؤوساً ؛
وبدلاً من أنْ يُوجّه جهد الحكومة، وينصبّ لمعالجة موضوع واحد، أو
مواضيع محددة، فإنّه يتحول إلى معالجة قضايا شتى، يطغى عليها الخطابات
الكلاميّة، والكلمات الإنشائيّة ؛ وهذا يفسر عدم تحسن الوضع العراقي،
واستمرار نزيف ضياع موارد البلد، البشرية والمادية هدراً، وهما عماد
قوة الشعب بالكامل، دون استثناء أيّ مكوّن من مكوناته.
هذه القوى المشاكسة، التي لا قرار لها (أصلاً) يصبّ، في صالح الشعب
العراقي الجريح، تتخذ من المقاطعة والتمرد على العملية السياسية،
منهجاً لتدمير العمل السياسي (سواء كان ذلك بقصد أو دون قصد)، وفسح
المجال واسعاً، لحدوث التصدعات والشروخ، بين هذا الطرف أو ذاك، والأجدر
بهذا (البعض)، أنْ يتخذ من مبادئ الديمقراطيّة، التي ترعى حريّة
التعبير عن الرأي، بالطرق المشروعة قانوناً، مرتكزاً للحوار والنقاش،
للوصول إلى المشترك الوطني، الذي يخدم مجموع الشـعب العراقـي المظلـوم،
لا أنّ تتخذ هذه القوى، مبدأ التناحر والتنافر، وسيلة قسريّة، لفرض
التصورات على الآخرين بالقوّة، بغض النظر عن صحة أو خطأ تلك التصورات.
وإذا كان سبيل فرض الرأي على الآخر، باستغلال أزمة معيّنة يعيشها
الشعب، فما هو المعيار، الذي يميّز بين الوطني وغير الوطني، سوى
التضحية والتفاني ونكران الذات، من أجل إسعاد الشعب والتخفيف عنه ؟!!.
وأنتم أيها المتناحرون، تفتتحون جلسات مجلس النواب، بقراءة آي من
الذكر الحكيم، تبركاً به على وجه الاستحباب، وتخالفوه في تنفيذ أوامره
على وجه الإصرار. فالقرآن الكريم يصك مسامعكم قائلاً : (إِنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاء). ورسول الاسلام (ص)، الذي ارتضيتم أنْ يكون دينه ديناً
للدولة، أين أنتم من حديثه الشريف : (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم
وتواصلهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه، تداعى له سائر الجسد بالسهر
والحمى). هل تعلمون ياسادة ياكرام، أنّ الإرهاب الكافر، قد قتل أكثر من
مليون إنسان عراقي، ورمّل قريباً من هذ الرقم من نساء العراق، ويتّم
مئات الآلاف من الاطفال، وهجّر حوالي أربعة ملايين إنسان خارج العراق،
وآلاف العوائل داخل العراق. إذا كانت هذه الكوارث الانسانية لاتحرك
فيكم غيرة الدين، وإحساس الضمير، والانتماء للوطن، فلتنبض في ضمائركم
خشية التاريخ،والخوف من سوء الصيت ؟!!.
سألني (بديع الزمان): ماهو المشروع السياسي، الذي يتبجح به (البعض)،
وهو يجر أذياله منسحباً من العمليّة السياسية، ويدّعي بأنّ هذا الطرف
أو ذاك يقف بوجه تنفيذه ؟؟!!.
أقسم يا (بديع الزمان)، أنّ أحداً من هذا(البعض)، لا يعرف معنى
(المشروع السياسي) جوهراً وأصلاً، غير كلمات جوفاء، يرددونها
ببغاويّاً، أمام شاشات التلفاز، فنحن في زمن التطبيل لا التطبيق. فأهم
ركائز المشروع السياسي هي :
1. وجود نظريّة يعتمد عليها المشروع السياسي في تطبيقاته
العمليّة، تشمل (السياسة، الاقتصاد، تشريعات القانون، العلاقات
الدولية، مناهج التربية والتعليم.... الخ).
2. وجود قيادات انتجتها نظريّة المشروع السياسي مسبقاً، (عبر
كفاح مرير مع السلطة، المعادية للجماهيرالمؤمنة بذلك المشروع السياسي)،
تؤمن هذه القيادات بتطبيق المشروع السياسي على أرض الواقع، تلبيّة
لأطروحة النظريّة التي يعتقدون بصحتها.
3. وجود قواعد شعبية تعلم علم اليقين، أنّ الرجال الذين يمثلون
إرادتهم، يدافعون عن المشروع السياسي الذي قدّموا من أجله الغالي
والنفيس.
هذه باختصار شديد، أهم مقومات المشروع السياسي، ومن يرضى ويختار
العمل وفق الأسس الديمقراطيّة، عليه أنْ يقف في الساحة جهاراً نهاراً،
ويناقش بموضوعيّة العالم، وصبر الحكيم، ونزاهة الوطني، مثبتاً للآخرين،
أحقيّة مشروعه السياسي دون سواه، فالنظام والقانون، يضمنان له هذا
الحقّ، دون قيد أو شرط. أمّا من يعجز عن إيجاد حلّ للمشكلة، و يفضّل
أنْ يعتزل، وينأى جانباً عن مصير الشعب، ويترك الحبل على الغارب، فهذا
هو الجهل السياسيّ بأجلى صوره.
إنّ تحول المعارضة السياسية، من دور الناقد المصحح، إلى دور المعاكس
المشاكس، الذي ينوي الدوران في حلقة مفرغة، لا أوّل لها ولا آخر، عملاً
بمنطق (خالف تعرف)، هو سلوك عقيم لا يؤدي، إلاّ لمزيد من الإضرار
بمصالح الشعب، الذي ينتظر من الجميع طوق النجاة، لا حبل الخنق
والممات. أسألكم بالله من أين جاءت السلطات الثلاث للدولة العراقية ؟،
أليس من عمليّة ديمقراطيّة، اشتركت فيها جميع الأطراف ؟. ألم يوافق
مجلس النواب بالاجماع، على حكومة المالكي رئيساً وأعضاءاً ؟.
لقد رضي الشعب العراقي الأبي، أنْ تُنشر ملابسه المهترئة، أمام من
هبّ ودبّ، من عجم وعربّ، اعترافاً منه بالحقيقة : (إنّ هذا ما جنَت
عليه الدكتاتوريّة ؟؟!!)، رغبـة فـي أن يَرِقّ لحاله، بعض أبنائه
وجيرانه، فيكفوه الرغبةً بالأبعدين لإنقـاذه، عسى أنْ يلملم جراحه
العميقة، ويأخذ دوره مُجَدَّدَاً في التاريخ ؛ لكن أبت النفوس المريضة،
إلاّ أن تولغ من دمه، وتنهش من لحمه، منادية : (يا لثارات العرب).
اشمأزّت نفس(بديع الزمان الهمداني) من هذه الحقائق، وأصاب الدوار
رأسه الرائق، وقال : بالله عليك، دعني أذهب إلى رمسي، فوحدة القبر جنّة
لنفسي، وتباً لكم، فلستم أهل أنسي، وإياكم والتذكّر باسمي. إنّكم أهواء
بددّ، وجمع نكدّ، وآراء فندّ، وقول زبدّ، وحسبي فيكم الله الأحدّ.
Mj_sunbah@hotmail.com |