جاءت النتائج تقريبا متفقة مع التوقعات التي برمجتها مراكز سبر
الآراء وتحدثت عنها وسائل الإعلام والدعاية بإطناب كبير وكأن لهذه
الوسائل القسط الأوفر في توجيه الرأي العام نحو من ينبغي أن ينتصر ما
يمكن استخلاصه من هذه النتائج هي أن اليسار في تقهقر مستمر وأن اليمين
هو في طور اكتساح الساحة لا في أوروبا فقط بل كافة أرجاء العالم وتوجد
فرضيتان تفسر فوز اليمين الكاسح في الانتخابات الرئاسية بصعود ساركوزي
إلى سدة الحكم وفي الانتخابات التشريعية بحصول حزبه على الأغلبية
المطلقة في البرلمان:
* الفرضية الأولى تتمثل في أن اليسار الفرنسي فشل وتراجع جماهيريته
يعود إلى تراجع تأثير الشعارات التي يرفعها على عقول الناس وكأن المنزع
الإنساني لم يعد له مكان في التاريخ ولم تعد لقيم العدالة والتكافل
والفضاء العام أي مردودية على تنظيم شؤون الأفراد ويفسر الفشل عادة
بالانقسام بين المكونات الأربع لليسار الفرنسي وهم الاشتراكيين
والشيوعيين والخضر والتروتسكيين ولكن هذه المرة توحد اليسار ورغم ذلك
فشل في قلب المعادلة وانتزاع ما يمكن انتزاعه من اليمين ومن الوسط،وفشل
اليسار يطرح العديد من الأسئلة أهمها: هل انتهى الزمن السوفياتي دون
رجعة وحل محله الزمن الأمريكي؟ هل يأس الناس من امكانية الثورة
الديمقراطية عن طريق الخيار الاشتراكي؟ هل محافظة اليسار بعلاقات
حميمية مع اللوبي الصهيوني في فرنسا وتردده في الولاء مع القضايا
العربية والإفريقية ذات الطابع الحقوقي الإنساني هي أحد أهم أسباب
الخسارة؟
ربما يمثل اختيار الحزب الاشتراكي المنافسة تحت قيادة امرأة أسوة
بألمانيا في مجتمع ذكوري مازال محافظا اختيارا غير مناسب بالنسبة إليه
وأحد النقط المهمة التي ذهبت إلى خصومه اليمينيين الذين قدموا شخصا
كاريزماتيا شابا له من نقاط القوة ما يكفيه للتغلب على أي منافس وقيادة
الدولة الفرنسية وصنع المرحلة المقبلة.
* الفرضية الثانية هي أن اليمين الليبرالي هو الآن في صعود مستمر
وهذا الأمر ملحوظ ليس فقط في فرنسا بل في شتى أنحاء العالم وآيتنا في
ذلك أن ساركوزي قد التحف عباءة الديغولية من أجل أن يستر عورته
الليبرالية التي ما تزال مفضوحة ومدانة في الأوساط الفرنسية التي ما
تزال تخضع للفردوس المفقود الاشتراكي الطوباوي الذي حلم به سان سيمون
وأسباب نجاح اليمين هو تحالفه مع اللوبي اليهودي ومعاداته للهجرة
وللقضايا العربية والإفريقية ودعوته العلنية إلى اللحاق بأمريكا وترك
التوهم بأن فرنسا هي قبلة العالم لأنها مجرد قلعة قروسطية في قارة عجوز
ولذلك كان الشعار الذي لوح به اليمين هو الحرية ودولة الرفاه المتصالحة
مع رأس المال.
إن القراءات التي ترى في ساركوزي مجرد رجل سياسة ينتمي إلى التيار
الواقعي وهو قريب من الوسط ومعادي لليمين المتطرف هي قراءات خاطئة
ومجرد تخمينات لأن كل الدلائل والتصورات تشير إلى اتجاهه على التو نحو
الليبرالية بالمعنى الشامل للكلمة والأمر الذي مازلنا لا نعرفه هو:هل
ستحقق هذه الليبرالية ما كان يطمح إليه الفرنسيين من تسريع نسق
التعولم؟ ألا يمكن أن تزداد شاهية الرجل السياسية بعد هذه الانتصارات
الباهرة فيزداد انحرافا نحو اليمين وعوض الاقتصار على الليبرالية فانه
يتقمص رداء النيوليبرالية فيصبح واحد من المحافظين الجدد الذين يضعون
أنفسهم في خدمة المشروع التوسعي الأمريكي ولكن هذه المرة في الصفوف
الأمامية وعلى رأس دولة لها تاريخ ناصع في مجال الأنوار وريادة العالم
الحر؟ فهل تقدر قيمة الحرية أن تستوعب قيمة العدالة وتحقق إنسانية
الانسان؟
هل نشهد نهاية فكرة الاشتراكية من الكون وعولمة لليبرالية؟ أي موقع
للجاليات العربية والإفريقية والإسلامية في مناخ أوروبي نيوليبرالي؟ هل
ينبغي أن يحافظوا على خصوصياتهم الثقافية والدينية أم ينبغي أن ينصهروا
في ثقافة وتقاليد المجتمعات التي تؤمهم؟
هل هم خطر على هذه الديمقراطية الليبرالية أم أن تصاعد المحافظين
الجدد في البلدان الغربية لا يترك لهم أي مكان ويمثل خطر عليهم؟ هل
تمثل الليبرالية حلا بالنسبة للدول العربية أم أنها خضوعا الإملاءات
الأمريكية ودعوة إلى المزيد من التغريب؟ هل يجوز أن نتحدث عن إسلام
ليبرالي يتقوم ويهتدي بمبادئ اللاعنف والتسامح والعفو والمصالحة
والصفح؟
* كاتب فلسفي |