فلا يكفي في واقعنا العربي أن تزداد دعوات التجديد والتطور،
وإنما بحاجة لأن تسند هذه الدعوات، بجهد نظري متكامل، يسعى نحو بلورة
الأسس الضرورية التي تقوم عليها عملية التجديد حتى تؤتي أكلها، وتبتعد
عن كل نزوات الهدم والتقويض.
"أليس من علامات الإهمال والإخفاق، ألا يندفع الفكر نحو البحث؟ أليس
عيبا على العالم والحكيم أن يرى ما يزخر به العالم من العلوم الجديدة،
والمكتشفات والمؤلفات الحديثة، ولا يسعى إلى التعرف عليها، ومعرفة علل
هذه المستجدات وآثارها؟ أليس من العيب أن يطرأ على العالم هذا التحول
الشامل، بينما يبقى هو في غفلة تامة عنه.".
يحاول المصلح جمال الدين الأفغاني بهذه الكلمات أن يشحذ الهمم.
ويوجه الأنظار إلى أن التحولات والتطورات التي تجري في العالم حرية
بإحداث تحولات على مستوى النظر والتفكير، ويستغرب من أولئك النفر الذين
يوجدون لأنفسهم حواجز وهواجس تحول دون تواصلهم الفكري والمعرفي مع
مستجدات الحياة وتطوراتها المتعددة.
بطبيعة الحال كثيرة هي العوامل والأسباب التي تحول دون إحداث قفزة
نوعية - تجديدية في الواقع العربي والإسلامي.
ولكن يبقى الجمود والحرفية واليباس المعرفي والفكري والمجتمعي، هو
العائق الأساسي الذي يمنع التجديد ويحارب ارهاصاته ويقمع نواته الأولى،
ويحتقر كل القوى التي تنادي به.
فالجمود هو العائق الصلب، الذي يمنع كل تجديد، ويحول دون تواصل نوعي
مع تطورات الحياة. وأي تجاوز لهذا العائق بمقداره يتحقق التجديد
والتواصل. فالتطورات التي تجري في المعمورة عديدة، وموجبات التفاعل
الخلاق معها كثيرة، إلا أن الجمود بكل جذوره وآثاره هو الذي يمنع
الإنسان فردا وجماعة من التفاعل الخلاق مع هذه التطورات. لذلك فإنه
بمقدار ما يتخلص الإنسان من جموده، وترهله العقلي، بذات القدر يتم
تفاعله واستفادته من التطورات والتحولات.
وإن المشروعات الفكرية والثقافية، التي لا تعطي لهذا العائق أهمية،
ولا تبلور لذاتها استراتيجية مقاومته وطرده من النسيج المجتمعي العربي،
هي في حقيقة الأمر تدق اسفينا في كل جهودها ومناشطها التجديدية
والتواصلية.
وذلك لأن مكونات الجمود ستطل برأسها لمحاربة هذه الجهود، وفي أحسن
الفروض سينقسم المجتمع إلى مجتمعين، مجتمع يدار بالمؤسسات الكلاسيكية
والعقلية المنطوية والجامدة، والتي لا تفكر إلا في بقاء الأمور على
حالها، والقسم الآخر يدار بالمؤسسات الحديثة وبالعقلية المعاصرة، دون
أن يكون هناك تفاعل خلاق بين هاتين العقليتين أو هاتين المؤسستين.
واليباس والجمود في المحصلة الأخيرة، هما المسؤولان عن الحط من
إمكانيات التفاعل بين هذين النمطين. وبهذا الحط تتسع دوائر الانفصام
والفجوة في داخل المجتمع بين هاتين العقليتين. ولا بد من القول هنا ان
اليباس حينما يصيب مجتمعا، لا يبقى حبيس حقل أو مجال، وإنما يتسرب
ويتمدد ويصبغ بصبغته كل المؤسسات والمجالات. وحتى المؤسسات الثقافية
والعلمية تصاب بهذا الداء، ويبدأ ينخر في بنيانها وأدائها العلمي
والثقافي فتنمو روح التقديس للآراء والأفهام البشرية التي دونها
السابقون، وتسود العناية بالمجادلات اللفظية على حساب الروح العلمية
والموضوعية، وتتغلب نزعة الاشتغال بالفروض والاحتمالات البعيدة عن
الواقع، ويتم الإعراض عن تنمية الفقه العملي الذي يحتاجه الناس في
حياتهم الخاصة والعامة.
وبهذا تتحول هذه المؤسسات من مركز إشعاع ومصدر للعلم والمعرفة
المبدعة، إلى مؤسسة تغذي واقع اليباس والجمود، وتبرر أشكالهما، وتنزع
إلى التقليد والاتباع في كل شيء. وهذا يساهم في المحصلة النهائية في
تصدع البنية الاجتماعية بين حديث وقديم، وما أشبه من العناوين التي
تصنف البشر، وتوجد بينهم شروخا وانقسامات دائمة.
وثمة ضرورة في هذا الإطار، لبيان حقيقة أساسية واجهت العديد من
المجتمعات وهي: أن ضيقها من اليباس والجمود وآثارهما العميقة، قد
أغراها بالانفلات من الذات الحضارية، والانطلاق في مشروع اندماج وتبعية
مع الدول أو الحضارة الغالبة. ونحن أمام هذه المسألة ورد الفعل المميت
الذي قد تتخذه بعض المجتمعات أو بعض النخب والقطاعات، لا يسعنا إلا
القول ان استمرار مجتمعاتنا العربية والإسلامية رهينة الجمود يعني
ديمومة هامشيتنا وتخلفنا. كما أن الانفلات من الذات الثقافية والحضارية
ضمن منظور يدمج بين الذات الحضارية وواقع الجمود الذي تعيشه هذه
المجتمعات، يعني المزيد من الانسلاخ والاستلاب والتبعية. وفي كلتا
الحالتين نخسر حاضرنا ومستقبلنا، تارة بجمودنا وتكلسنا وتارة أخرى
بانفلاتنا وذوباننا وانسحاقنا أمام الآخرين.
فعمق التخلف والانحطاط في واقعنا العربي والإسلامي، ينبغي ألا
يغرينا بالانفلات من ثقافتنا وحضارتنا، والذوبان في ثقافات الآخرين
وحضاراتهم، لأنه ليس سبيلا حقيقيا للخروج من مأزق الجمود، بل يضيف إلى
هذا المأزق مآزق وأزمات جديدة، لا تقل خطرا عن المأزق الأول. وحينما
نحذر في هذا السياق من الذوبان، فإننا في ذات الوقت ندعو إلى التفاعل
والتواصل مع المكتسبات والمنجزات الحضارية والإنسانية. ونفرق تفريقا
جوهريا بين مقولة الذوبان التي تعني فيما تعنيه، التخلي عن الذات
الثقافية والحضارية. ومقولة التواصل والتفاعل التي لا يمكن أن تتحقق
على الصعيد العملي إلا بذات ثقافية فاعلة وقادرة على الفعل والعطاء.
لذلك فإننا مع التواصل والتفاعل الحضاري والإنساني، ونرفض كل منهجيات
الذوبان والاستلاب الحضاري.
فخيارنا أمام واقع الجمود واليباس الذي تعيشه المجتمعات العربية
والإسلامية، هو تجديد الحياة العربية والإسلامية عبر تجديد ثقافتها
ومناهج نظرها وتحليلها واهتماماتها.. فعن طريق الاجتهاد والتجديد تخرج
من هذا المأزق. والتجديد هنا لا يعني الانفلات والتحرر من كل الضوابط
والمعايير المعرفية والحضارية، وإنما يعني:
1- ضرورة بلورة وتحديد العناصر والأسس التي تقوم عليها عملية
التجديد، لأنه بدون هذه العملية،قد تتحول العملية إلى عملية تقويض
وانهاك للأسس والركائز الأساسية التي تعتمد عليها الأمة في عملية
التفاعل مع واقعها والكيانات الحضارية الأخرى.
فلا يكفي في واقعنا العربي أن تزداد دعوات التجديد والتطور، وإنما
بحاجة لأن تسند هذه الدعوات، بجهد نظري متكامل، يسعى نحو بلورة الأسس
الضرورية التي تقوم عليها عملية التجديد حتى تؤتي أكلها، وتبتعد عن كل
نزوات الهدم والتقويض.
وتنبع ضرورة هذه المسألة، من أنها ستحدد لنا كيفية صياغة المعادلة
والطريقة التي تضمن للواقع العربي أن يتواصل مع أصوله وتاريخه، وينجز
من خلال هذا التواصل حضوره وشهوده في الراهن. فهذه الأسس هي هواد للعمل
المبدع والخلاق.
ولعلنا لا نبالغ حين القول: ان غياب هذه الأسس يؤدي إلى إبهام
منهجي، يعقد من العملية ويزيدها ارتباكا، ويحولها إلى بؤرة للنقائض، لا
قدرة فيها على ترتيب أمورها وتركيبها تركيبا جديدا.
ونحن هنا من الضروري أن نتجاوز (بالمعنى الفلسفي) دعوات التجديد
المجردة والإنشائية، وننخرط كأفراد ومؤسسات في بلورة مناهج التجديد
وخياراته على صعد الحياة المختلفة.
2- إضافة ومضاعفة إمكانات التطوير والإبداع في الحياة الثقافية
العربية والإسلامية، وذلك لأن التجديد والتطوير، يساهم في تفكيك
القوالب الفكرية الجامدة والساكنة، وتتجاوز كل العناوين التي أصبحت
معرفيا تنتمي إلى عصر مضى، وتجعل الآفاق مشرعة ومفتوحة أمام الفعاليات
الفكرية الجادة، لكي تمارس دورها، وتشارك في تكثيف الأبعاد الإبداعية
والتجديدية في الثقافة العربية والإسلامية.
وهذا لا يعني أن فعل التجديد في الحياة الإسلامية المعاصرة، يتحقق
دفعة واحدة، وإنما نحن نؤكد على أهمية الفعالية الفكرية والثقافية
المستديمة التي تزيل الأوابد والكوابح أمام العقل والفكر، وتخلق
دينامية اجتماعية متواصلة باتجاه خلق وقائع وحقائق حضارية جديدة في
المجتمع.
فنحن مع كل خطوة ومبادرة، تستهدف تحريك المياه الراكدة، وتبديد
عناصر الجمود من الفضاء الاجتماعي والثقافي، ونعتقد أن التجديد في
حياتنا المعاصرة يتطلب تراكما وتواصلا لفعل التجديد على كل أصعدة
الحياة. فلا تجديد بلا تراكم معرفي واجتماعي. ومهمتنا الأساس اليوم، هي
المساهمة في خلق التراكم الإنساني الضروري لعملية التجديد الحضاري
والثقافي.
3- كانت الثقافة وستبقى مرادفة لعملية الوعي والبناء والحرية،
وتوظيف إمكانات الإنسان في سبيل مشروع أسمى وأرقى. والثقافة بهذا
المفهوم هي القنطرة الضرورية، والجسر الذي لا غنى عنه في أي مشروع ينشد
التجديد والتقدم في الأمة. فهي (الثقافة) التي تنقل مفاهيم التجديد
والحضارة، من منطقة العاطفة إلى منطقة العقل، ومن ردود الأفعال إلى
الفعل، ومن التطلع المجرد إلى الفعل المتواصل لصناعة الحقائق والوقائع.
وبهذا تبقى الثقافة، هي مركز الثقل الحقيقي في عمليات التجديد
والنهوض. حيث ان الأمم جميعا، باختلاف مفاهيمها الأيدلوجية وأطرها
المعرفية، وتطلعاتها المستقبلية، وخصائصها الراهنة، تتعامل مع الثقافة،
بوصفها القوة القادرة على إنجاز التطلعات، وإحداث التحول النوعي في
مسيرتها ومسارها.
لهذا كله نحن بحاجة باستمرار إلى معاودة الفحص والنظر في الثقافة
التي توجهنا وترسم لنا طرق حياتنا، وذلك لتفعيلها وتنشيط حركتها،
واستيعاب مضامين جديدة لأطرها. |