المقدمة :
لا يُعد خطاب التجديد والإصلاح وليد الأحداث المتسارعة التي عصفت
بالعالمين الإسلامي والغربي، وتعاظمت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول.
ففي الحقيقة أن دعوات الإصلاح والتجديد انطلقت في القرن الماضي، بيد
أنها بقيت قاصرة على النخبة، بمعنى أنها لم تتحول إلى عمل مؤسساتي
واسع.
ومع تسارع التحولات الحضارية النهضوية التي شهدناها، أخذت بعض
الحكومات في العالم العربي والإسلامي بالعمل على تبني الخطاب التجديدي
الذي ما لبث أن تحول بعد أحداث أيلول من مطلب داخلي إلى مطلب خارجي،
وقرار سياسي. وبالتالي حاز على اهتمام كل الاتجاهات الفكرية والدينية
وراحت تحاول إيجاد تفسير لظاهرة تحول الحديث عن الإرهاب، إلى حديث عن
إصلاح العالم الإسلامي والعربي، وتحديث الخطاب الديني، وجدل الداخل
والخارج أو الأنا والآخر وشرح مفهوم التجديد المطلوب. ومن ثم تحول
التجديد من مطلب للإصلاحية الإسلامية إلى مطلب للإصلاحية الأميركية.
إن زوايا مقاربة الحدث الأيلولي، وتفسيراته تنوعت من الديني
والسياسي، إلى الحضاري والثقافي ـ النفسي، والبنائي، ولكن يبدو أن
الملمح الثقافي ـ الديني طغى في تحليل الحدث ورمزيته، على الأقل من
الرؤية الغربية، وتحديداً الأميركية، من خلال الحديث عما أسموه
بـ(الفاشية الإسلامية) و(الأصولية الإسلامية) و(الإرهاب الإسلامي)
مروراً بالسؤال الأميركي : لماذا يكرهوننا؟ الأمر الذي أحال المسألة
إلى عداوة للعالم الحر ـ كما عبر بوش مراراً ـ وانتهاء بالممارسات
الأميركية حول (نشر الديمقراطية في البلدان العربية والإسلامية) وتأهيل
المسلمين ثقافياً ليكونوا ديمقراطيين، من طريق تغيير مناهج التعليم
لنشر ثقافة التسامح والحرية.
ولا شك إن طغيان الملمح الثقافي قد جاء نتيجة سيادة المنظور الثقافي
في التحليل السياسي تحت ظل العولمة، والحديث عن (صراع الحضارات) حيث
يتم التركيز على دور الأفكار والقيم في التفاعلات الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية.
إن المفهوم المركزي الذي يصلح للمقاربة من زاويته هو ما ولده الحدث
نفسه (الإرهاب) والذي سوغ انطلاق الحرب عليه، والتي كانت عنواناً لكل
الممارسات الأميركية بدءاً من الحرب على أفغانستان والعراق وصولاً إلى
نشر الديمقراطية وتجديد الخطاب الديني وتغيير المناهج.. هذا المفهوم
غير المحدود، والمرن لدرجة زاد فيها الخلط حتى حمل (المصطلح) أكثر مما
يحتمل معناه، الأمر الذي جعل من الإشكالية تتخطى حدود الديني والثقافي
والسياسي، إلى الوطني والقومي والعقيدي حين يشمل الإرهاب كل فعل إسلامي
ما أدى إلى ظهور ما يعرف بـ(إسلاموفوبيا).
وإذا كانت هذه التطورات في العلاقة بين الإسلام والغرب قد أفرزت
الضرورة إلى إعادة النظر في النتاج الثقافي والإعلامي ككل والإذاعي
بشكل خاص وتعالي دعوات التجديد في الخطاب، فإن من العقلاني بمكان
مراجعة وفحص المحتوى والآلية والشكل الذي يتخذه المنتج كطريق للوصول
إلى المتلقي المحلي والخارجي على حد سواء مع ملاحظة التأثير والفاعلية
التي تتمخض من تلك العملية الاتصالية..
وفيما يأتي نحاول تسليط الضوء على بعض المفردات التي تكوّن الواقع
الذي يعيشه إعلامنا الإسلامي المعاصر وتزرع الأمل في التجديد والتطوير
حتى بلوغ الغاية في إزالة الضباب عن الوجه الحضاري المشرق للإسلام
الأصيل برغم ما ألصق به من التهم والافتراءات بسبب عمليات التشويه
المستمرة على يد الإرهاب الدولي والفردي وتغذية الروح العدائية في
الشعوب والمجتمعات غير المسلمة ومحاولات التعتيم المقصود والمدبر
إخفاءً لحقيقته السماوية.
فرضية الخطاب الإسلامي:
يفترض في الخطاب الإسلامي ـ أياً كانت وسيلة بثه إلى الجمهور ـ أن
يؤسس على مبادئ وقيم من الحق والصدق والخير، ومراعاة الخلفية الثقافية
والعقائدية والاجتماعية للمتلقين فضلا عن التزام الوضوح والشفافية في
جميع الأحوال والظروف.
والسبب في كل ذلك ينبع من وصفه خطاب دعوة وإصلاح يستند إلى التعاليم
التي بشر بها الإسلام وهو يقع على الامتداد الطولي لدعوة الأنبياء
والأولياء الصالحين. كما أنه يقوم على الحقائق ويهدف إلى الإقناع
بالحكمة والموعظة الحسنة والبرهان العلمي والدليل المنطقي وليس من
أغراضه الدعاية الكاذبة والتضليل والإثارة الفقاعية، فالخطاب الإسلامي
يختلف عن غيره، فهو يحترم الديانات السماوية ويقوم على الحكمة ومخاطبة
الناس بما يفهمونه وما تقبله عقولهم وليس بما يعجزون عن فهمه وإدراكه.
هذه الأوصاف تفرض على الإعلام الإسلامي سواء أكان مقروءاً أم
مسموعاً أم مرئياً قوانين والتزامات أخلاقية صارمة لا يمكن الإخلال
بها، مثلما تمنحه استحقاقات كبيرة لا يمكن التخلي عنها تحت أي ذريعة
كانت.
ويقتضي ذلك أيضاً توحيد الجهود لتقديم الخطاب الديني الإعلامي في
أفضل صورة ، والخروج به إلى العالمية ، وملاحظة الفروق الجوهرية بين ما
هو مشترك إنساني وما هو خصوصية حضارية مع الحرص على إبراز ثوابت
الإسلام وقيمه الإنسانية السامية ولذلك يفترض أن يكون صاحب أو صانع
الخطاب على علم ودراية بما يقدمه لجمهوره ، ومتسلحاً بالفقه الإسلامي
وله الإحاطة الواسعة بمجريات العلوم والتقنيات الاتصالية الحديثة.
ومن مطالب التجديد المنشود في الخطاب الديني المنقول عبر الأثير ـ
خاصة ـ كسر النمطية والتقليدية في الشائعة في معظم الإذاعات بإيجاد
برامج اجتماعية وجماهيرية داعية إلى العمل التخصصي والنوعي واستيعاب
المتلقي، مع مراعاة تنوع ثقافاتهم وتجنب السلبية والارتجالية والحماس
والامتزاج بالآمال والآلام الجماهيرية.
الواقع بلا رتوش:
إن الخطاب الديني لا يزال قاصراً على أفراده سواءٌ أكان وعظاً أم
إرشاداً أم إجابة عن أسئلتهم واستفساراتهم، بينما اقتصر الخطاب الموجه
إلى الآخر بالتأكيد على قبوله والنظر إلى المعيار الإنساني في الوقت
الذي اقتصرت فيه بعض الإذاعات على الدفاع عن الإسلام والرد على شبهات
المستشرقين، سالكة سبيل التحفظ في إظهار الهوية الإيمانية إلا أن تلك
الأحداث الأخيرة أيقظت الجهاز المناعي عند المسلمين، وظهر خطاب إعلامي
يكاد يكون واضحاً رغم بقاء البعض على المنهج التقليدي، واستخدام مفردات
تراثية محضة تؤدي في أحيان كثيرة إلى اللبس والتشويش وتخلق صعوبات في
الفهم وخلط في التصورات لدى المستقبلين للرسالة الإعلامية وبالتالي فشل
محاولات التفعيل وضعف التغذية المرتدة.
والحقيقة إن الخطاب الديني في وسائل الإعلام يعاني من أمراض كثيرة
فما زالت الوجوه هي الوجوه والبرامج هي البرامج والمخرجون هم المخرجون
بل مازال الكلام هو نفس الكلام الذي نسمعه منذ وقت طويل.
نعم.. توجد برامج ذات مضامين ثقافية ودينية عالية، ولكنها تحتاج إلى
تجديد على مستوى الأسلوب والشكل. لأن القوالب الكلاسيكية القديمة لم
تعد تلبي احتياجات الجمهور وتجتذب شرائحه المتعددة إلى ما تطرحه
الإذاعات الإسلامية بل إن العديد من البرامج الدينية التي اعتادت تبثها
الإذاعات الإسلامية العامة والمتخصصة على حد سواء أخذت تعد من مولدات
الملل والروتين وصار بعض البرامج المقدمة بهذه الطرق الرتيبة تنفر
الجمهور من الإذاعة وهذا هو الفشل المركب الذي قد يصيب الخطاب الديني
ويشل حركته ويفقده مزية التأثير والفاعلية.
ولو نظرنا إلى خارطة توزيع البرامج الدينية في الإعلام العربي
والإسلامي فإننا سنجد أن نسبتها لا تعدو في أحسن الأحوال 4% وهذه
النسبة الضئيلة من البرامج قياسا بغيرها لا تعرض غالبا في أوقات
مناسبة، بل إن 90% من البرامج الدينية تذاع في أوقات لا تمثل ذروة
كثافة المستمعين.
وإلى جانب ذلك نجد أيضا تركيز البرامج الإذاعية عموما على قضايا
الصراع الديني والمذهبي وتجنح في كثير من الأحيان إلى ممارسة الدور
الدعائي لجهات وجماعات وشخصيات دينية أو مذهبية متجاهلة ما يحتاج إليه
الجمهور من حقائق وأفكار ومعلومات وقيم معرفية وحضارية ومتناسية
الطبيعة العالمية التي يتمتع بها الإسلام مما يحصر الخطاب الديني
الإسلامي في أطر ضيقة ومحدودة تعزله عن الساحة الفكرية عزلا شبه تام
ٍومن دون مسوغ.
أما بالنسبة للحديث الديني في الإذاعة فإن علماء الدين لم يدركوا
بعد التطور الذي حدث للميكروفون. فالميكروفونات الحديثة يكون الهمس
فيها أفضل لكن علماء الدين تعودوا على الصوت المرتفع حتى يسمعوا أكثر
عدد من الناس، وعمومًا فإن الكلام الهامس يؤثر في الناس أكثر من
الزعيق. لأن الراديو يدخل حجرات النوم والإنسان عند نومه يحب أن يسمع
صوتًا رقيقًا هادئًا. كما أن الخطاب الديني في الإذاعة ينبغي أن يكون
على هيئة حوار حي بين إنسان يسأل ويحاور وعالم يجيب ويرد عليه حتى
تناقش كل تفاصيل الموضوع بشكل حي وليس عن طريق أسئلة تجري قراءتها من
ورقة.
ونأتي الآن إلى القائم بالخطاب الديني، فنجد أن البرامج التي تقدم
إلى الجمهور إنما هي من إعداد أشخاص بعيدين عن التخصص في الميدان
الديني والأدهى من ذلك أن بعضهم ليس بعيدا عن المسائل الدينية فحسب، بل
هو بعيد عن أسس العملية الإعلامية أيضا.
والمفروض أن يكون المرسل لأية رسالة اتصالية على علم وإحاطة بمحتوى
تلك الرسالة ، وبمجمل الظروف والتأثيرات التي تحيط بالعملية الاتصالية،
وعلى دراية تامة بخصائص الجمهور المستهدف واحتمالات نوع الاستجابة
وتفسيرات الرموز التي تنطوي عليها الرسائل الإعلامية وغير ذلك من
أساسيات العمل الإعلامي، وإلا فإن "فاقد الشيء لا يعطيه".
إذن فمن شروط القائم بالخطاب الديني أن يكون على علم ودراية بأحوال
عصره وقضايا أمته، والاهتمام بالعلوم السياسة والإنسانية والإعلامية،
فضلاً عن الدراية بقوانين الشريعة والموازنة بين الثابت والمتغير، من
أجل الخروج بهذا الخطاب إلى فضاء العالمية وعدم تكريس التخلف عن ركبها.
وباختصار إن الخطاب الديني في وسائل الإعلام عمومًا يغلب عليه غياب
التصور الكلي للإسلام فهو يذكر شيئًا عن الصوم ونتفًا عن الحج وقليلاً
عن الحيض... الخ. أي أنه يقدم الإسلام مفتتًا ومفككًا، كما يقدم
الإسلام حسب المواسم فقط. كل موسم بما يقابله في الشرع كما يغلب الحديث
عن الشعائر والأشكال وما من نفوذ إلى الجوهر. وبهذا فإن الخطاب الديني
الحالي يحصر الإسلام في أمور ضيقة ويعتمد على تلقين المتلقي للرسالة،
ولا يجهد نفسه في تكوين عقلية المتلقي حتى يستطيع أن يفكر ويبحث لوحده
وبمعزل عن الإعلام.
وحتى التاريخ الديني للمسلمين غالبا ما يتم تصويره بعيداً عن حياتهم
المعاصرة. فالحاصل في الخطاب الديني الآن هو أن الماضي كله كان خيرًا
وكان الناس فيه ملائكة أما الحاضر فكله شر والناس فيه شياطين.. وهذا
خطأ. فلن يأتي اليوم الذي سيكون فيه المجتمع الإسلامي كله ملائكة وإلا
لحدث ذلك من قبل.
وبكلمة أخرى إن خطابنا الديني عبر الأثير أو الفضاء يفتقد بالإضافة
إلى ما تقدم إلى عنصرين هامين وهما دفع الناس للعمل ودفع الناس للتفكير
العقلي المنطقي.
الرؤية الإعلامية للخطاب:
لم نأت بجديد إن قلنا بأن الإعلام والاتصال قد أصبح من الوسائل
الفعالة في خدمة المجتمعات المعاصرة، وبفضل التطور العلمي والتقني
الهائل، لم تعد وسائل الإعلام والاتصال منحصرة في النقل الفوري
للأخبار، وجمع المعلومات وتخزينها ومعالجتها ونشرها فحسب، بل تتجاوز
ذلك لتصل إلى صنع الحدث وصياغة القرار وتشكيل الرأي العام وتوجيه
الأفراد والجماعات وتكوين مواقفهم الفكرية والسياسية والاجتماعية.
لكن الدول الإسلامية التي تمكنت من تطوير وسائل إعلامها واتصالها
على نحو مطلوب قليلة، وأما في مجال استخدامها فغالبا ما يقتصر على
أهداف ليس لها صلة مباشرة بميادين التربية والعلوم والثقافة. وإن
التباين في تطور وسائل الإعلام والاتصال واستخدامها بين الدول الصناعية
والدول الإسلامية، قد جعل العالم الإسلامي يظل في الغالب متأثراً
بمصادر المعلومات الإعلامية الأجنبية التي في كثير من وجوهها تمثل غزوا
لثقافته وتشويها لصورته وإخفاء لحقيقته.
ولكي يؤدي الخطاب الديني المبثوث عبر الأثير إلى فئات من الجمهور
متباينة في ثقافاتها ومستوياتها العلمية وبيئاتها الجغرافية
وانتماءاتها العرقية ومرجعياتها الأيديولوجية والاجتماعية، هذا الخطاب
لكي يؤدي دوره فإن عليه أولاً وقبل كل شيء تحقيق ما يلي :
1ـ التنوع
2ـ الشمولية
3ـ الوسطية وعدم التطرف
4ـ الموضوعية
5ـ الصدق
6ـ التجدد والمعاصرة
فالتنوع في أساليب تناول الموضوعات وطرح الأفكار وتلوينها ورفدها
بالصور من شأنه أن يضفي على الخطاب حيوية ويحظى بمقبولية عالية لدى
المتلقي أما التكرار والاستمرار على نفس الوتيرة فيولد الملل والتقاعس
عن إتاحة الفرص التواصلية بين المرسل والمستقبل بشكل عام.
والشمولية تمنح العملية الاتصالية برمتها النفوذ إلى أقصى زوايا
التأثير لدى الجمهور وتضمن اتساع نطاقها وانتشارها وبالتالي تلقي
التغذية المرتجعة مما يزيد العمل الإذاعي خاصة القوة على كسب الرأي
العام وخطب وده.
والوسطية وعدم المغالاة والتطرف تساعد على فتح قنوات جديدة لقبول
الآخر وتفتح خطوطا مبتكرة للتلاقي والتلاقح بين الإذاعة وجمهورها
الواسع العريض بعكس الانكماش والتقوقع على الذات الذي يؤدي إلى التخشب
والانقباض في حدود ضيقة لا يمكن التعويل عليها في تصدير الأفكار وضمان
الاستجابة المنشودة.
وكذلك الموضوعية في التعاطي مع الظواهر الإعلامية والأحداث الجارية
وعدم الانحياز إلى طرف أو قضية وإصدار الحكم المسبق على آخر والتجرد
قدر المستطاع عن الأنا لخلق فرص تفاهم أكبر وتذليل صعوبات التقارب.
ولا شك أن الصدق كقيمة أخلاقية ينبغي أن تطبع كل حركة وكل سكنة
تندرج تحت عنوان الدين الإسلامي بصورة خاصة وهي مفهوم شامل يجسد
الرسالة الإيمانية منذ نزول وحيها على الأرض وإلى ما شاء الله وهي كذلك
صفة الأنبياء والأولياء الذين بشروا بها وجعلوها الغاية من الرسالة
التي بعثوا بها إلى البشر فإذا كان الخطاب الإعلامي يدعي لنفسه
الامتداد الطبيعي لوظيفة الأنبياء والمرسلين فإنه سيكون معنيا أكثر من
غيره بمئات المرات بقضية الصدق والتثبت.
أما التجدد وعصرنة الخطاب فلا غنى ولا سبيل للتخلي عنها لأنها تمنح
الديناميكية اللازمة لكل خطاب وقديما قالوا العقل لا يتغذى بالمكرور.
ولو بقي الخطاب الإسلامي المنقول من خلال الإذاعة السمعية يعيش على
سجيته الحالية ويتعاطى المفردات التراثية التي وردت على ألسنة الخطباء
في القرون الأولى لظهور حركة الإسلام فإنه سيفقد الكثير الكثير ولن
يتخلص من أزمته ولو بقي يدق على نفس المسمار ويعزف على ذات الوتر فإنه
سيتحول إلى مادة متحفية ربما تبهر نوعاً خاصاً من الجمهور ولا تستهوي
أحداَ إلا بمقدار الوقوف للتفرج وإمعان النظر في قدم تلك المادة ودقة
صنعها ليس غير.
السياسة والخطاب الديني:
لا شك أن كل شيء في عالمنا اليوم أصبح بطريقة وبأخرى مُسيساً ،
والإعلام بصورة عامة في العالم الثالث ليس منفصلاً عن السياسة ولا
يمكننا التحدث عن الإعلام وحده أو كأنه يتحرك بحرية بعيدًا عن الخطاب
العام . فحينما نتحدث عن الخطاب الديني في الإعلام فمعنى ذلك أننا
نتحدث عن موقف السياسة من الخطاب الديني. وحينما نتحدث عن الخطاب
الديني فإننا نتمنى أن نراه خطابًا يعبر عن ضمير الأمة. وبالتالي
فعندما نتحدث عن أزمة الخطاب الديني نكون بالضرورة نتحدث عن أزمة
التعبير عن ضمير الأمة.
ورغم مشروعية الصلة بين الإعلام والسياسة إلا أننا نرجوا أن تكون
صلة حوار لا صلة تبعية. لأن الإعلام الذي يقوم على الحوار يؤدي رسالته
أما الإعلام الذي يقوم على التبعية فهو إعلان وليس إعلامًا. ففي مثل
هذه الصورة تتحول وسائل الإعلام إلى أبواق تخاطب الناس من فوق وليست
ساحات حوار ومناقشة حرة كما هو المفروض.
ولا يخفى تأثير الشكل السياسي في توجيه الخطاب الديني عبر الأثير
وتحديد مساراته بل ومحاولة امتلاكه بكامل عناصره الأيدلوجية وكوادره
الفنية وتمرير الأهداف والمخططات الحزبية والسياسية من خلاله تمريرا
قوياً مباشرًا وغير مباشر.
وستبقى الجدلية قائمة بين المفكرين ورجال الدين والسياسيين حول
تسييس الإسلام وأسلمة السياسة. وبما أن الراديو أو قل وسائل الإعلام
بأنواعها تشكل النافذة التي يمر من خلالها الخطاب سواء الديني أو
السياسي فإنها بالضرورة لن تكون على الحياد من هذه القضية وإنما ستأخذ
لونها وحجمها واتجاهها. مما يعني وجود التنوع النظري والعملي فيما يطرح
من خطاب ديني عبر الأثير تبعا لتعدد الاتجاهات السياسية وكذلك المذاهب
الدينية. فهناك الحزب الحاكم والحزب المعارض وثمة الفكر الصوفي والفكر
السلفي، والعقلي الاجتهادي، والنصي الظاهري، والإصلاحي المنفتح على
الآخر والمنغلق على ذاته.. إلى آخر القائمة. هذا التلون يؤدي بالنتيجة
إلى تعدد الخطاب الديني وضعف إمكانية التعامل مع وسائل الإعلام
الجماهيرية.
وهذا هو الحاصل الآن بالفعل.. إذ إن لدينا خطاباً يعبر عن الوسطية
الإسلامية، وخطاباً آخر يخاطب العقل وخطاباً يعتمد أسلوب الرفض
والاحتجاج. والخطاب الديني عندما يبتعد عن الثوابت والقواعد غير
المرتبطة بالهوية الإسلامية فإن مصيره الفشل.
ضرورات التطوير:
إننا نلحظ خطورة الاستغلال المتنوع لوسائل الإعلام عبر نظام الدول
المعتمدة للحكم الديمقراطي المغلف بدعوات الحرية والتقدمية والتطور
والحداثة، متجهة بالإعلام الحر إلى الاستغلال المادي والربح المالي
والعبث بكل القيم والمبادئ والمثل لمصالح خاصة ومخطط مرسوم لتشكل منها
مجموعات الضغط البشرية التي لها فاعلية كبرى في التغيير الثقافي
وبالتالي الاجتماعي ثم السياسي المتبع اليوم في عالمنا الاستهلاكي الذي
يستهويه الإعلان ولو كان فارغا من مضامينه، وبات معه المعلنون هم أسياد
الإعلام الحديث حيث يعملون على نقل الأخبار والتعليقات المضخمة
والموجهة والمثيرة عبر البرامج المنوعة لتزداد الأرباح والمكاسب من
خلال الاتجاهات التالية :
أولاً / الاتجاه الفكري: التركيز على التغيير الفكري والنوعي بإبراز
آخر التقنيات الحديثة التي تستخدمها وسائل الإعلام الحرة، يصب في مصلحة
الهيمنة عليها من قبل النظام العالمي الجديد ومن خلال إيديولوجيا العصر
الحديث المعلب بمفاهيم خاصة عن العلاقات الإنسانية ضمن بوتقة
الديمقراطية المتقدمة البعيدة عن روح الأخلاق والمثل التي تولد الشعور
بالذنب أمام تحديات المجتمع الجديد الذي هو الأساس في نمط العيش
والتعامل الإنساني في العولمة الاقتصادية والمادية التي يندرج تحتها
النظام العالمي الجديد المبني على أساس إيديولوجيا جديدة تعتمد في
مضمونها على ما يلي :
1ـ أسطورة التقدم والتفوق: ومثلهم فيه أن التقدم واقع لا يمكن
إيقافه ويقابله القلق الكبير في التأخر والتخلف معتمدين على الإحصائيات
النسبية المدبلجة، ترادفها كلمات واهية في التطور والتغيير والنمو
والعصرنة والحداثة والسرعة والاتصالات.
2- امتياز التقنية الحديثة: إن زيادة التقنية وتقدمها تسمح بالسيطرة
على سوء الأداء فتتركز أيدلوجيتهم التقنية على النتائج التي تحققها
وتخفي من خلالها الأسباب الكامنة وراءها فتنحاز بفكر الناس لتبهره بما
آلت إليه دون النظر على حساب من؟ وماذا؟ ولماذا؟
فالعنف والإرهاب يمكن إبرازهما متى يشاءون وبالطريقة التي يريدون
ضمن المخطط التوجيهي الذي يعتمد على التقنية الحديثة للإعلام بانعكاس
الصورة على وجه السرعة والحدث المباشر وربط العالم بالوقت القصير
للتغيير، وان القبول والإعجاب بالسرعة يجعلاننا نتوجه بالخضوع لكل
التطورات واللحاق بالركب دون التفقه إلى أين المسير؟!
3- أيديولوجيا الاتصال: إن إيديولوجية سرعة الاتصالات الداخلية
والخارجية وإمكانياتها المتزايدة يوميا تجعلنا نسير قدما في خدمتها
والطوعية التي تستهوينا في سلوكنا وقضاء حاجاتنا ضمن الاتصال الإنساني
الموحد في عالم القرية الكبيرة ـ على حد قول مارشال ماكلوهان ـ وذلك من
خلال القنوات الفضائية وبرامجها الموصولة بالأحداث مباشرة التي تخيل
لمشاهديها ومتتبعيها انه يسيطر على العالم برؤيته المباشرة هذه، ويبقى
التأثير النفسي من الحدث يفرض علينا تأثيرا فكريا موجها عبر الإذاعات
بأنواعها المرئية والسمعية ليشدنا إليه بعبودية الانبهار والتسليم بقوة
تأثيره على أفراد المجتمعات ببرامجه ووسائل الاتصال إلى جانبه.
4ـ مبدأ العصرنة والتطور: يتجسد الفكر الجديد بالتعامل مع الحدث
ليكون المجتمع العالمي الواحد في التوجه والسير بركب المدنية الحديثة
التي سيطرت على عقول الناس ليملوا على الرأي العام موجة العصرنة
والحداثة التي تعني أن يكون المتبع لها إمعة في تقليد وتبني قيم من صنع
العصر كالذي يصنع الإعلام ويصبح بذلك واقعا لا بد منه وظاهرة اجتماعية
تكرس مع مفهوم المجتمع الاستهلاكي المادي والنظام الأحادي الجديد.
5- الاستخدام الخفي للإعلام : فمع التقدم التقني الكبير لوسائل
الإعلام واشتداد تأثيره في النفوس وهيمنته على العقول والأفكار بات
أسلوبهم الإعلامي بعد سيطرتهم وامتلاكهم لقدرة هذه الوسائل تحويل الهدف
الأسمى للإعلام، من توجيه وتثقيف وتعليم وتوعية الشعوب، إلى إرضاء
نزواتهم ومصالحهم الخاصة على ما توجبه المصلحة العامة.
وقد تختلف الأساليب المتبعة بين دولة وأخرى ولكنها تصب جميعا في
خدمة الهدف الجامع بتحقيق هيمنة الفكر المادي واستلاب مقدرات الشعوب
والقضاء على مبادئ الخير والقيم فيصبح العالم أجمع أمام خيارين ضمن
الوهم الكبير : إما التسليم بالواقع وإما الزوال والاندثار والحرب.
ثانياً / الاتجاه الاجتماعي: المبالغة في إبراز الأحداث والجرائم
العاطفية والفضائح الجنسية ومتابعة آخر أخبار الموضة والأزياء وحفلات
الرقص والمجون وتغطية حفلات ملكات الجمال والعروض الفنية والبهلوانية
من آخر الصرعات الغربية والشرقية عن طبائع البشر وغيرها من البرامج
التي تفرغ عقل الإنسان من أي تفكير منتج وتوجيه هادف.
ثالثاً / الاتجاه السياسي: التوجيه الإعلامي الهادف لإثارة المشاعر
الجياشة أو الحماسة الزائدة لدى الشعوب إثارة مصطنعة وفي كثير من
الأحيان واهية كاذبة تشغل الناس في هموم بعيدة عن همومهم الصحيحة وتشرع
أحيانا أخرى في اصطناع أبطال سياسيين ليجعلوا منهم قدوة للمجتمعات حيث
يثيرون في الجماهير العواطف ليكونوا عبيدا لهم ولأوامرهم ولمزيد من
السيطرة والهيمنة لمصلحة صانعيهم ومستغليهم رغم الفضائح والأزمات
المتراكمة.
ما هو المطلوب ؟
ما هو الخطاب الديني المطلوب تقديمه ؟ ولماذا تتخذ وسائل الإعلام
العربية الموقف السلبي من الإسلام ؟ هل تكمن المشكلة في نفس الخطاب
الإسلامي أم في وسائل الإعلام ؟
إن البحث في موضوع الخطاب الديني هو نابع بلا شك من اعتقادنا بأهمية
هذا الخطاب، لما للدين من دور حيوي في استقامة المجتمع، ومنطلق من
إيماننا الراسخ بأن أي محاولة إصلاح لشعوبنا الإسلامية بغير الدين هي
محاولة محكوم عليها بالفشل مسبقاً.
طبعا.. ليس المقصود من الخطاب الديني تقديم تاريخ المسلمين وشرح
الأحاديث وتلاوة القرآن وبرامج الفتاوى وأمثالها.. نعم.. هذا جزء من
الخطاب الديني أما الخطاب الديني في صورته الشاملة فهو الذي يلتزم
بمقاصد الدين وقيمه. فيمكن أن تكون هناك دراما ليس فيها آية واحدة
لكنها تلتزم بروح الإسلام وقيمه فهي أفضل من الخطاب الديني الصريح. إن
العبرة في البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون ليست في تعدد الساعات
ولكن في ماذا تقول هذه البرامج؟!
بالنسبة للبرامج الدينية في الإذاعة فإنها يغلب عليها الإملال
والجمود وعدم التطوير. وعلماء الدين أثناء أحاديثهم الإذاعية يتحدثون
بلغة بعيدة عن التداول اليومي للمواطن العادي. بل إنهم يتكلمون بأسلوب
المعلم لتلاميذه وهذا ما يبعث على الملل والتثاؤب وبالتالي الانقطاع
والانفصام بين المتلقي والراديو.
البرامج العصرية تركز على المشاركة والتبادلية بين الجمهور والمتكلم
عبر الإذاعة وتقوم هذه العملية على أساس من الاحترام والتقدير المتبادل
أيضا. فالمتلقي ليس مستعدا لأن يجلس لوقت طويل كمستمع خشبي لا حراك له
ولا رأي يصرح به وكأنه تلميذ في المرحلة الابتدائية والمتحدث كأنه
الأستاذ والمربي المقدس الذي لا يجوز مقاطعته.
أما بالنسبة للدراما الإذاعية فمعظم المسلسلات الدينية كئيب وغير
مقنع، واللغة العربية فيها على ألسنة الممثلين كاللغة اللاتينية،
بالإضافة إلى أن معظم هذه المسلسلات باهت وضعيف ويفتقر إلى العديد من
العناصر الفنية.
إننا اليوم إننا بحاجة إلى تطبيق برامج الهواء على البرامج الدينية
حيث يكون النقل خارجيًا بحضور الجمهور وعدة علماء وليس عالمًا واحدًا
ويتم التفاعل والحوار والسؤال والجواب بين الطرفين حيًا.
كما يجب أن نبحث فكرة أن نخصص بعض الممثلين للبرامج الدينية فقط.
ففي أوروبا حينما حولوا رواية المسيح إلى فيلم جاءوا بشاب لم يسبق له
التمثيل وأعطوه ما يكفيه طوال حياته وطلبوا منه أن يمثل دور المسيح في
هذا الفيلم ولا يمثل بعد ذلك طيلة عمره حتى لا يظهر في أفلام أخرى وهو
يرتكب الرذيلة فتهتز الصورة في أذهان الناس ولا ينفعلون بما قاله في
ذلك الفيلم الجيد.
إن أزمة الخطاب الديني هي انعكاس طبيعي لأزمة الدين في المجتمع. ومن
هنا لا بد أن نسأل أنفسنا : ما هو موقع الدين في مشروعنا ؟ وما هي
رؤيتنا الإستراتيجية للدين؟ وهل نريد الدين حجر أساس لبناء مشروعنا
السياسي والحضاري أم نريده مجموعة أذكار وتعاويذ وشعائر وممارسات طقسية
جامدة أو موسمية ؟
فإن الإجابة عن مثل هذه التساؤلات تدفعنا للتقويم وإعادة النظر ليس
في خطابنا الديني الموجه عبر الأثير فحسب وإنما تأخذ بأيدينا إلى
التفكير الجدي باتجاه استثمار المعطيات الدينية والقيم الإنسانية
السامية التي بشر بها الإسلام وجعلها ركنا أساسيا في بناء الحياة
الحاضرة والمستقبلية وعليه فمن المحتم علينا أن نرتقي في أداء الواجب
تجاه فكرنا وعقيدتنا وحاضرنا ومستقبلنا إلى المستوى اللائق بهذا الركن
الهام في البناء إذ لم يأت الإسلام فقط لترطيب جوانح الناس ولكنه جاء
ليبني أمة وينهضها وحينما تغيب فكرة المشروع الحضاري والرؤية الكلية
للإسلام نجد أن الخطاب الذي يقدم عن الإسلام قد تحول إلى فتات وصفحات
في شهر رمضان وغيره من المناسبات وليس أبعد من ذلك.
فحتى شهر رمضان قد حوله إعلامنا من شهر للعبادة إلى شهر للفوازير
والألعاب كـ(المحيبس) والمحرمات. فالحديث الديني قبيل أو بُعيد الإفطار
مدته دقيقتان وفي أحسن الأحوال لا يتجاوز العشر الدقائق أما الفوازير
بما تتضمنه من رقص وغناء فتخصص لها ساعات طويلة.
ولعل من أكبر عوامل الفشل في الرسالة الإعلامية الإسلامية في العصر
الحاضر أننا نبشر بالإسلام على أنه عقيدة ودعوة أفضل من غيرها من
الدعوات القائمة، وأن الدعوات القائمة الآن لا تحقق الخير للناس كما
يحقق الإسلام، وأن الإسلام أفضل من الرأسمالية والاشتراكية
والشيوعية.. وأن.. وأن، فهذا العرض مرفوض ممن لا يؤمن بعقيدة
الإسلام، لأنهم يرون في الإسلام قيودا.. يرونها مناقضة لدعوى أن
الإسلام يسعدهم، وهم يرون السعادة في اتباع أهوائهم وشهواتهم، ويرون أن
ما يصرح به دعاة الإسلام الذين يعرضون الإسلام على هذا النحو لا يملك
في العصر الحاضر ما يؤيِّده، ويرون أن استدلال الدعاة إلى الإسلام
بسعادة القرون السابقة بحكم الإسلام لا ينسحب على العصر الحاضر، لأن
وسائل الناس المادية وأفكارهم وعقائدهم قد تغيّرت وتطورت، ونعيب على
هذه الدعوة أيضا ما يرون من أحوال المسلمين، حيث يعيشون في الشقاء
والجهل والتأخر.
ولاشك أن دعاة الإسلام المعاصرين لهم ردود على هذه الشبهات، كأن
يقال مثلاً وإن الإسلام ليس مطبقا تطبيقاً سليماً في الوقت الحاضر، وإن
الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن مما لا شك فيه أن هذه الدعوى أيضا
حولها شبهات جديدة وهكذا يدور دعاة الإسلام في حلقة ودوامة من الردود
والشبهات وتكون الغلبة بالطبع لأعداء هذا الدين لأنهم يملكون وسائل
أقوى وأساليب أبلغ وبهذا يجهل الدعاة اليوم القاعدة الأولى من قواعد
الإعلام الإسلامي الناجح وهو أن يعرض الإسلام على أنه العقيدة
العليا.
وينبغي أن لا نساوم الناس بالسعادة ليدخلوا في هذا الدين، فمقاييس
السعادة غير متفق عليها بين البشر، ولكن لنعرض الإسلام في مقابل
الهداية والفوز برضوان الله سبحانه وبأنه الطريق الذي لا خيار لأحد في
تركه إذا أراد السلامة والنجاة، ولا يمنع هذا أن يبشرهم بالعزة والنصر
والحياة الطيبة التي هي ثمرة من ثمرات الإيمان والعمل الصالح.
النتائج والمقترحات:
مما سبق كله نستنتج أن خطابنا الديني المرسل عبر صفحة الأثير يعاني
من مشكلات مضمونية وشكلانية ويحتاج إلى إزالة الضباب عن مكنوناته
الديناميكية التي يفترض أن يوفرها له الدين الإسلامي الحنيف بما يمتلكه
من اختزالية عالية لجميع شرائع وأدبيات الأديان السابقة. وهذا يستلزم
الارتقاء بالخطاب إلى مستوى المسؤولية الدعوية التبليغية الملقاة على
عاتق الإسلاميين بوصفهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر. وفيما يلي بعض النقاط التي تشخص أبرز مواطن الضعف في خطابنا
الديني :
o كثرة استعمال اللغة التراثية أو التخصصية البحتة التي مكانها
الدرس والبحث العلمي وليس الإعلام الجماهيري لأنها تخلق غربة اتصالية
بين المرسل والمتلقي وبذلك تضعف بل تنعدم الاستجابة المطلوبة.
o أسلوب الإرشاد والوعظ المباشر والاستعلاء في الكلام وطرح
الشخصيات والأفكار بطريقة مثالية تبتعد عن الواقع المعاش وهذا يولد
إحباطا لدى المتلقي ولا يزرع في قلبه إلا التقديس اللاواعي لرموز
وتعاليم الدين ويفرغ التجربة البشرية من محتواها.
o عدم التوازن في كثير مما يعرض من برامج دينية وضآلة العناصر
الفنية المستخدمة فيها وبدائية أغلبها وطريقة العرض الكلاسيكية التي لا
تقوم على الحوار المباشر مع الجمهور الأمر الذي أنتج نوعا من التلقي
السلبي والملل.
o عدم شمولية الخطاب وحصر الإسلام في زوايا محدودة وضيقة وعدم
الانفتاح على الآخر ومشاركته في الأمور العمومية أدى إلى ضمور التأثير
وبقيت العملية الاتصالية في طور الإثارة والاستفزاز.
o تشتت الخطاب وتعدد قنواته بتأثير الطائفية والمذهبية والحزبية
والنمط السياسي القائم في هذه البلاد وتلك أوقع الجمهور المتلقي في خلط
مفاهيمي كبير وتشويش فكري وحالة من الإيهام المعرفي.
o طغيان لغة الفرض والترهيب وغياب الترغيب كمعادل موضوعي أفقد
الخطاب الديني القدرة على الوصول الآمن إلى عقل وقلب الجمهور الهدف
فضلا عن تسيد الموقف.
o الازدواجية التي تعيشها وسائل الإعلام وخشيتها من الإسلام وبروز
تقابلية (الديني واللاديني) في معظم البرامج التي تبثها أدى توهين
الخطاب الديني والنظر إليه بموازاة أو مجاراة الخطاب اللاديني.
o انحسار الفترة الدينية في أغلب المناهج الإذاعية وصغر مساحة
البرامج ذات الصبغة الدينية قياساً بالبرامج الترفيهية والفترات
المنوعة دفع بالجمهور إلى الانصراف عن متابعة الخطاب الديني من خلال
تلك المحطات الإذاعية.
هذه هي أبرز المشكلات التي يعانيها الخطاب الديني الحالي وللخروج
منها بحلول عملية نقترح النقاط التالية :
· تفعيل دور أجهزة الإعلام الإسلامي في التصدي للحملة الغربية التي
تستهدف النيل من الإسلام وتشويه صورته أو عزله عن الحياة المعاصرة.
· إنشاء مرصد إسلامي إعلامي عالمي أو شبكة معلومات متعددة الفروع
في الدول الغربية للدفاع عن الإسلام وقضاياه، وتقديمه في أفضل صورة.
· زيادة مساحة البرامج الإسلامية في أجهزة الإعلام، وأن يتم
تقديمها في أوقات مناسبة تمثل الذروة بالنسبة لحضّار تلك البرامج
ومستمعيها.
· اختزال أصول الشريعة والعقيدة في الخطاب الديني الإعلامي وتقديم
الوجه الحقيقي للإسلام الحضاري والمدني.
· توحيد الجهود الإسلامية لمواجهة المد الثقافي الغربي وكشف
مراميه الحقيقية من وراء العولمة.
· إعداد منظومة متشابكة من الآليات تبدأ بإنشاء مركز إسلامي
عالمي تتعد فروعه في الدول الغربية.
· إيجاد خطاب عام وخاص في الوقت نفسه تبعا لتنوع جمهور المتلقين
للخطاب الإسلامي مع مراعاة خصائصه في أن يقوم على الشفقة والرحمة
واللين ووزن الأمور بالميزان الصحيح وأخذ الناس بالتدرج باعتبار ذلك
سنة شرعية.
· أهمية أن يتوفر صاحب الخطاب أو القائم بالاتصال المعرفة الكافية
بالموازين الشرعية وحسن اختيار الموضوع والأسلوب المؤثر والمنهج
الوسطي المعتدل فضلا عن المؤهلات الشخصية الأخرى والإحاطة التامة
بالعملية الاتصالية والظروف المحيطة بها.
· استحداث ساعات بث باللهجات الأجنبية لكي يستطيع من خلالها مخاطبة
الآخر والتعريف بالإسلام على حقيقته، ومراعاة زمان ومكان وظروف
المخاطبين، وتحديث الخطاب وتجديده بما يعكس عالمية الدعوة الإسلامية،
وأنه خارج حدود الإقليمية والعرقية.
· التوفيق بين ثوابت الدين ولغة العصر والاتفاق على تصور مشترك
لهذا الخطاب الديني المواكب لقضايا العصر ومستجداته.
· كسر القوالب التقليدية وإنتاج البرامج التفاعلية مع الجمهور
والإصغاء لمطالبهم وعدم إغفال حقهم في التعبير عن القضايا التي تواجههم
مع التركيز على العامل النفسي وعدم الإفراط باستخدام أساليب البرهنة
العقلية والآلية الجامدة.
هذه ـ برأينا ـ هي أهم المقترحات التي تساعد على إنهاض الخطاب
الديني عبر الأثير وتسهم مساهمة فعالة في تقديم صورة مرضية عن الإسلام
ديانة وفكراً وأخلاقاً وإعلاماً بل كل ما يجد لنفسه صبغة إسلامية.
أهم المصادر:
1ـ السياسات الاتصالية والإعلامية في العالم
الإسلامي.. الدكتور محمود إبراهيم شلبية
2ـ اتجاهات إعلامية معاصرة... محاضرة للدكتور محمد
جاسم فلحي
3ـ التغيير في ظل أساليب التوجيه الإعلامي الماكر...
مقالة بقلم الدكتور باسم عساف
4- الإسلام في عالم متغير... مجموعة من الباحثين
والمفكرين الناشر: دار الفكر بالتعاون مع الملتقى الفكري للإبداع ـ
دمشق ـ 2005.
5ـ فصول من السياسة الشرعية.. بلا عنوان. |