الإيكولوجيا النسائية: Gyn/Ecology
شبكة النبأ: مصطلح صكته ماري ديلي
عام 1979 في كتابها (ما وراء أخلاقيات النسوية الراديكالية) الذي تقول
فيه إن المرأة يجب أن تكتسب قوة جماعية في صورة المعرفة النسائية التي
تمكنها من مقاومة السيطرة الأبوية في تجلياتها المادية والنفسية.
ويعتمد الكتاب على مفهوم ديلي الذي طرحته عن النسق الروحاني اللامركزي
في كتابها "ما وراء الرب الأب" (1973) للتأكيد على أن الهيمنة الذكورية
تعتمد على العنف الجنسي على مر التاريخ وفي كل الثقافات. وتزعم ديلي أن
النظام الأبوي يحكم كل المؤسسات، بما فيها الدين والطب والعلم، ويتجسد
في الطقوس السادية مثل إلباس الفتيات أحذية خشبية للتحكم في نمو
القدمين ومثل عملية استئصال البظر (الختان). وللتصدي للثقافة المتمركزة
حول الذكر يجب على النساء أن يتعاون لفضح الأساطير الذكورية ورفض اللغة
والمعتقدات الذكورية. ولذلك تستعيد ماري ديلى مكانة المصطلح gynecology
(أي طب النساء) بنزعه من سياق الطب الذكوري ليصبح gyn/ecology (وهو
تركيب يشطر المعنى الاصلي للكلمة إلى نصفين، ويحيل إلى عالم الخصوصية
النسائية من خلال البادئة gyn وإلى الإيكولوجيا ecology وهي دراسة
علاقة الكائن بالبيئة المحيطة به وتفاعلاته معها)، وذلك في محاولة لوضع
مفردات لغوية أنثوية الشكل تختص بالمرأة وحدها.
متعلقات
كل المواقف »الثقافية« من النسوية
ما هي الا اشكال رمزية لأخلاق سياسية محافظة(1)
فى أشكال متعددة وتعقيدات متغيرة تحدثت نساء مثل أريجاراي وكريستيفا
وسيكسو وفرجينيا وولف عن النسوية والنقد النسوي والكتابة النسوية، حيث
بدا هذا الحديث متبايناً على الصعيدين المعرفي والثقافي، فمفهوم
النسوية والكتابة النسوية والنقد النسوي، وبخلاف ما يبدو للوهلة
الأولى، ليست بدهية أو واضحة بذاتها، ولا هي محل اتفاق عام بين
النسويين أنفسهن، بل خاصة بينهن، فكما تذهب جانيت تود فى مقولاتها الى
أن النساء كون جماعة عرقية داخل إطار مجتمعهن الخاص، هذا الامر، وبحسب
الكثير من الباحثين أسس لاتجاهات متعددة فى النظريات النسوية الأمر
الذي لا يمكن معه الحديث عن نظرية نسوية واحدة أو اتجاه نسوي واحد،
وفى طرحه لتلك التعددية التى ينطوي عليها الخطاب النسوي خاصة فى
الربع الأخير من القرن العشرين، ما دفعني لأن أخوض غمار هذا المبحث
الشائك والمعقد، هي طبيعة الاشكالات التى تعيشها الثقافة العربية على
صعيد التلقي بالنسبة للكثير من المفاهيم ومفهوم (النسوية) أحدها، حيث
أزعم بأنها محاولة لمراجعة منطلقاته ومفاهيمه وتمحيصها، من خلال فتح
الحوار مع عدد من مثقفي ومثقفات الوطن العربي. البعض كان يتحدث عن
مشروعية تبني أفكار ونظريات أنتجت فى سباق وأوضاع ثقافية وسياسية
مختلفة وحول جواز استيراد النظريات العلمية والثقافية!!
كما ان البعض الآخر كان يرى أن الحركات النسوية العربية ما تزال
تعاني خللا ما فى التلقي، وأنها تعاني من داء الاجترار والمطابقة
لثقافة الآخر الغربي دون النظر فى مواءمة هذه المفاهيم لثقافتها، وفى
هذا الطرح يستشعر بعض المثقفين ظهور أو تشكل عقدة الآخر التى نستشعر
هامشيتنا فى وجوده. ان مصطلح النسوية الشائع الآن فى ثقافتنا العربية
هو المقابل العربي للكلمة الأجنبية (Feminism)، والبعض فى هذا السياق
يرى ضرورة الالتفات قليلا الى هذه الكلمة وما يرتبط بها من كلمات أخرى
لا بد من إيجاد مقابلاتها العربية الدقيقة والمميزة،
عبر تلك الرؤى التى حملناها طابع السؤال. التقيت د. نهى بيومي
أستاذة النقد والأدب الفرنسي في كلية الآداب بجامعة البحرين، وعضوة
تجمع الباحثات اللبنانيات، للحديث عن الشأن النسوي في العالم العربي،
فكان معها هذا الحوار:
* النسوية، والكتابة النسوية، والنقد النسوي، هذه المفاهيم، وبخلاف
ما يبدو للوهلة الاولى، ليست بدهية او واضحة بذاتها، ولا هي محل اتفاق
عام حتى بين النسويين نفسهن، بل خاصة بين النسويين نفسهن، ترى كيف يمكن
مراقبتها من وجهة نظرك ؟
لما على هذه المفاهيم أن تكون موضع اتفاق؟ وهل وضع المفاهيم يخضع
للتوافق ؟ فهل مفهوم الديمقراطية متفق عليه؟ وهل مفهوم ما بعد الحداثة
كذلك؟ الخ. ربما علينا ان نرى الأمر من زاوية أخرى، فعدم الاتفاق حول
مفاهيم النسوية والكتابة النسوية والنقد النسوي هو دليل حيوية فكرية لا
ترضخ لمبدأ الاعتقاد الراسخ والرأي الثابت. أي بمعنى آخر انه دليل على
عدم الخضوع إلى عقيدة ما. فانا أرى أن هذه المفاهيم لها صيرورتها
المتموضعة زمانيا ومكانيا.
فالنسوية في أميركا على سبيل المثال، غير النسوية في فرنسا،
والنسوية في فرنسا وفي أميركا خضعتا لتغيرات جوهرية لا يمكن التغافل
عنها. إن سيرة هذه المفاهيم تفيدنا بتطورها وتغييرها، خاصة وأنها ليست
جديدة في الغرب، إذ طرح مصطلح النسوية في عام ٠٦٨١، ثم طرح في
الثلاثينات بقوة في أميركا بينما طرح في أوروبا بعد الحرب العالمية
الثانية وازدهر في الستينات والسبعينات في فرنسا. أسوق هذا الكلام
لتأكيد أن مساق هذه المفاهيم لم يكن واحدا في الغرب والذي هو مصدرها،
فلما على المفكرات العرب أن يتفقن حولها؟
المهم هو أن لا يبدو خطابنا عن النسوية استهلاكيا لا إبداعيا.
فالعديد من المثقفين يعتبرون أن الحركة النسائية العربية استعانت
بمصطلحات مستقدمة من النظريات الغربية التي لا تخدم أهداف النساء
العربيات بل تخدم النساء في الأمكنة التي استقدمت منها هذه المصطلحات،
وحجتهم أن هذه المصطلحات ترتبط بالفكر الذي أوجدها -أول مرة. من جهتي
لا أوافق على هذا الطرح، إلا إذا استعنا استعانة جامدة أو عرجاء
بالمصطلحات الغربية.
وهذا لا يتم إلا في بيئة غير معتادة ثقافيا على تداول الأفكار
وتجديدها ونقدها والدخول في سجالات حيوية معها. أي أن التقليد هو من
صفة المقهور والمغلوب على أمره وليس الإنسان الحر. ولا يوجد مثقف
»مثقفة مقلد« مقلدة والا انتفى»انتفت عنه« عنها صفة الثقافة التي من
مبادئها الأولية النقد والسجال وعدم الخضوع لأي فكرة كانت. نقصد أن
المطلوب هو تمثل هذه المصطلحات وليس تلبسها كالكائن المغشي على عقله!
المهم بالنسبة إلينا أن نطرح أسئلتنا حول أنفسنا ومجتمعاتنا.
حين نصوغ أسئلتنا فلا خوف علينا من التبعية. هنا بيت القصيد .المشكل
هو في تقاعسنا عن الدخول في الجدال الدائر في العالم، وليس في الغرب
وحده، ومنذ سنوات، حول هذه المفاهيم وفي الميادين الأكاديمية خاصة.
فالمطلوب هو الاحاطة بعيشنا ومتطلباته لتحسينه وتحسين نوعية حياة
مجتمعاتنا ودفعها إلى الأمام لتصير مسؤولة عن نفسها غير عابثة بالحياة
ولاهية عن حاضرها.
بالتالي كي نقرأ بشكل جيد النسوية والمصطلحات المرتبطة بها علينا
قراءتها داخل سيرورة الثقافة العربية وداخل سيرورة الثقافة العالمية،
ذلك لأن الأبحاث العربية حول قضايا النساء العربيات تدخل في لحظة
تشكلها في علاقات وثيقة مع الأبحاث السابقة والمعاصرة التي تتفاعل معها
لحظة الصياغة. لا كتابة تبدأ من الصفر ولا تفكير يبدأ من الصفر.
التناص/التداخل في الأفكار والنصوص والتواشج بينها هو الذي يحدث حيث
يتعاصر فيها ليس فقط الماضي والحاضر بل لحظتنا العربية باللحظة
العالمية، أي حاضرنا وحاضر غيرنا. فحين تظهر مفاهيم جديدة في الغرب
ونأخذ بها فإننا لا نأخذها من فراغ ولا نكتب بها وعنها من الصفر. فانا
أؤمن بالايكولوجيا الثقافية.
وهناك وهم عند الكسول فكريا والمحدود الآفاق والمقهور هو وهم
المطابقة: المطابقة بين المفاهيم الغربية وعيش الغربيين، وبين هذه
المفاهيم وعيش العرب. فالغرب ليس كتلة واحدة جامدة انه متعدد الاتجاهات
وكذلك حالنا، ولا يمكن بأي حال التطابق بين المفهوم والواقع. فالمفهوم
ينشأ واقعا وفق تصوره/تصور مبتكره والجماعة التي يمثلها، وهو لا يحمل
يقينا بل ادعاءً بأنه قراءة تتمثل الوقائع المتغيرة. فالمفاهيم ليست
عقائد ثابتة، طالما أن الوقائع متغيرة، لكن هدف المفهوم الإعلاء من
قيمة تصور ما للوقائع، يعيد ترتيبها وتنظيمها فيخلق بذلك وعيا مخالفا
للسائد.
هكذا يمكنني مقاربة مفهوم النسوية والنقد النسوي والكتابة النسوية
التي تشكلت في مناخ الرأسمالية السياسية والاقتصادية/الليبرالية، وتطور
المذاهب الفلسفية من الوضعية إلى التجريبية والتفكيكية إضافة إلى تطور
العلوم البيولوجية التي أرست تصورا جديدا للنساء( سنرى فيما بعد كيف أن
تطور هذه الرأسمالية إلى ما نطلق عليه المجتمع المعولم والمستهلك قد
طرح مفهوم آخر يستبدل النسوية بالنوع الاجتماعي/الجندر). فحاولت هذه
المفاهيم كشف المستور في هذه الليبرالية وهو واقع التمييز اللاحق
بالنساء على المستويات كافة، محاولة الإعلاء من شأن النساء ومن حقوقهن.
ووفق تصوري لدور المفهوم الذي عرضته، فإنني انظر إلى هذه المفاهيم
على انها تجسد مرحلة ما وهي ليست ثابتة ولا متفق عليها لا في الغرب ولا
في الشرق، لأن دورها يذهب أبعد من الاتفاق طالما انها ليست عقائد بل
إنشاء وتصور لوقائع. يتمثل دورها في خلق وعي جديد بقضايا النساء يأخذ
بالحسبان تبدل حياة المجتمعات وتغيرها، وهو يؤثر ويتأثر في المناهج
الفكرية النقدية. وأخيرا فان المفهوم يخدم لفترة ثم مع تغير الوقائع
فانه يتم الانقلاب عليه. من هنا تبرز اهمية اجراء دراسات مقارنة لهذه
المفاهيم عبر الثقافات لالتقاط الخصوصيات وتحدي الفرضيات الخاطئة حول
التجانس الثقافي وحول استقرار مدلولات المفاهيم.
المهم من كل هذا هل نحن كمجتمعات عربية بحاجة إلى هذه المفاهيم؟
بالتأكيد نحن بحاجة إليها كي نفسر حياتنا ووقائع عيشنا إضافة إلى فهم
تاريخنا وصيرورته الفكرية.مشكلتنا أننا نساء ورجالا لسنا احرارا كفاية
كي نخوض بقوة النقاش حولها، لا سيما وان مناهج جامعاتنا العربية
المتعلقة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية قاصرة وعتيقة، و بعيدة عن
المستجدات ، ولا تكترث لعيشنا ومتغيراته، ولا تعنى بخوض البحث فيه. عجب
لأمة تريد التقدم والتحديث وتسخف من قيمة البحث أولا ومناهج العلوم
الإنسانية ثانيا.
* إن مصطلح النسوية الشائع الآن في ثقافتنا العربية هو المقابل
العربي للكلمة الاجنبية Feminism، أليس من الضروري ان نلتفت قليلاً الى
هذه الكلمة الاجنبية وما يرتبط بها من كلمات اخرى لابد من ايجاد
مقابلاتها العربية الدقيقة والمميزة ؟ ترى هل بالإمكان التدقيق في
المقابلات العربية لتلك المفردات؟ وإذا أمكن ذلك فهل استشعرت الحركات
النسوية العربية تلك التمايزات التي محتها المفردة الذائعة وهي
»النسوية«؟ ثم هل استطاعت الحركات النسوية العربية أن تتجاوز هذا
المأزق، أم أنها ما زالت تعاني خللاً ما في التلقي ؟ إذ أن البعض يرى
أن الحركات النسوية العربية تحديداً تعاني من داء الإجترار و المطابقة
لثقافة الآخر الغربي دون النظر في موائمة هذه المفاهيم لثقافتها ..
بالنسبة إلى جذر مصطلح النسوية الأجنبي ومقابله باللغة العربية. في
العام لا أجد مشكلة إذ دخلت إلى اللغة العربية مفاهيم كثيرة وسادت دون
أن تقلق أحدا، مثال على ذلك الديمقراطية. فلما علينا القلق من مصطلح
النسوية مقابلاته في اللغة الإنكليزية أو غيرها! فلا ننسى أن النسوية
مشتقة من نساء ونساء كلمة عربية. وان feminisme في اللغة الفرنسية
مشتقة من femme أي امرأة، فحال اللغة الفرنسية ليس متوافقا تماما مع
اللغة الإنكليزية مع أن هاتين اللغتين تنتميان إلى الجذر اللاتيني.
وكلمة homme باللغة الفرنسية، على سبيل المثال، تعني الإنسان
والرجل. بينما كلمة إنسان في اللغة العربية تجمع الجنسين الرجل
والمرأة، فهل تأثر الفكر الفرنسي بهذه الدلالة الضيقة للأنسان التي
تقصي المرأة عنها؟ للنظر أيضا إلى التقابلات اللغوية فيما يخص المفاهيم
الفلسفية والنفسية والنقد الأدبي، سنجد الإشكال عينه. ومع ذلك لم يتوقف
الفلاسفة وعلماء النفس العرب والنقاد عن تعريب هذه المفاهيم والاجتهاد
في صددها والاختلاف حول ترجماتها المتعددة.
وهل وجود مصطلح ما في اللغة العربية هو ضمانة لتجسيده حالنا وعيشنا
وحريتنا؟ للنظر في الحب مرادفاته الغنية والنتعددة في اللغة العربية،
هل يشكل ذلك ضمانة كي نعيشه بحرية ونحققه؟ أتساءل هل المشكل في المصطلح
المستجد على اللغة العربية ام في الذهنية المحافظة والرجعية التي تضطهد
محاولات التجديد؟
إن المقارنة بين اللغات مفيدة، فهي تبين لنا أن المفهوم حين ينهض من
لغة ما، فان على اللغات الأخرى الاجتهاد لتجد معادلا له في لغتها،
واشدد معادلا وليس مطابقا. وفي هذا الصدد أجد أن مصطلح النسوية في
اللغة العربية موفق. المهم هو إيجاد المعنى الدقيق للمفهوم بأي بناء
لغوي كان.
طالما أن اللغات تتعدد فان الحالات ستتعدد بدورها، خاصة وان اللغة
كائن حي يتفاعل مع المستجدات والمتغيرات. لذلك لا أريد التوقف كثيرا
عند التقابلات اللغوية بل أفضل التوقف عند دلالة هذا المصطلح
وتداعياته. وأجد أن طرح الموضوع من هذه الزاوية، زاوية التوحيد
والتوافق ينزع عن الفكر كل حيوية واجتهاد. فهل نحن مع الاجتهاد أم لا
في قضايانا الحيوية؟ وهل لهذا المفهوم أي فائدة أم هو على العكس يدعو
للتشوش والإرباك؟
النسوية كمصطلح في اللغة العربية لم يواجه إشكالا على مستوى اللغة،
الإشكال هو في دلالاته، هذه هي الحقيقة التي نختبأ وراءها. ربما علينا
التوقف عند هذه النقطة، وعند سيرة هذا المفهوم في العوالم المختلفة.
فتاريخه في آسيا غير تاريخه في أوروبا أو أميركا أو العالم العربي. ان
النظر في كيفية تفاعله مع البيئة العاطفية والمادية انعكاسا أو مقاومة
وكيفية اشتباك هذا المفهوم بالإطار الثقافي، الاجتماعي، السياسي،
العلمي هو ما يستأهل التحليل.
أما فيما يخص اشتقاقات النسوية في اللغة الإنكليزية من الأنثى،
والصفات الأنثوية، فان مفهوم النسوية تجاوز هذه الاشتقاقات ونحت دلالات
جديدة. ومع أن هذا المفهوم ولد من رحم مصطلحات تعود إلى الأنوثة
وسصفاتهاس فانه تجاوزها. فتعريف الأنثوي »بصفة تشير إلى التمتع بصفات
ينظر إليها على انها مطابقة للنساء كاللطف والرقة والعذوبة« وقصر هذه
الصفات على النساء هو موضع خلاف وجدل. هناك الكثير من الرجال الذين
تنطبق عليهم هذه الصفات وهي صفات محببة فيهم مثلما هي محببة في النساء،
فهل هذا يعني إنهم أنثويين؟
إن الالتصاق لهذه الدرجة بالاشتقاقات اللغوية دون التنبه إلى أن
النسوية مفهوم منحوت جديد يربك ويشوش القارىء. انها نظرة قاصرة عن رؤية
تقلبات حياتنا التاريخية وتنحو بنا نحو التجوهر الذي يعني التقوقع وعدم
التفاعل مع المتغيرات المتنوعة: الفئات الاجتماعية، الاقتصادية،
الأجيال، المدينة، الريف، المتعلم، الأمي، الخ. لذلك أنا ضد هذا الطرح
المتقوقع على نفسه والمتجوهر، لان واقعنا أكثر تعقيدا وتركيبا. خاصة
وإننا نتغافل عن المستجدات العلمية في فهم الإنسان، وبعضها لم يعد
جديدا، مثل أن الإنسان تبعا لعلم النفس يخضع لمكونين:أنوثة، ذكورة،
bisexualité التي تحدث عنها فرويد، وبالتالي فانهما يتشاركان في بعض
الصفات وبعض المواقف، وهذه حقيقة تدركها النساء من انه حين يتألم جنس
فان الجنس الآخر يتألم بدوره، كما قالت مارغريت ميد.
اسنتتج انه لا يمكنني فصل المفاهيم المستجدة في الفكر العربي
والجديدة في اللغة العربية عن الحركة العلمية والثقافية العالمية. فنحن
لسنا منعزلين، بل على تماس مباشر أو غير مباشر مع الإنتاج الغربي بكل
أشكاله وان بدرجات متفاوتة.
لنعد إلى عصر النهضة مثلا، لنقرا كتابات الرجال والنساء، نجد انهما
كانا سويا مدافعين عن تحرير المرأة ومطلعين على التيارات الفكرية
الغربية التحريرية من المعلم بطرس البستاني إلى الكواكبي و قاسم أمين
وهدى شعراوي، وجوليا طعمة دمشقية، الخ.
واستنتج انه في الغرب ومع الاتفاق مع ما تقوله اليزابيت بادنتر إحدى
منظرات النسوية ودارسة علاقات الرجال بالنساء، من أن السبب الرئيس
لوجود النسوية هو إرساء المساواة بين الجنسين، على الرغم من تباين
التيارات النسوية وتعددها. هكذا فان النسوية استجدت كمفهوم في الغرب
والحركات النسائية العربية تأثرت وتفاعلت مع هذا المفهوم المستجد بحد
ذاته، كما تتفاعل مع المستجدات العلمية والتكنولوجية والطبية، وهذا ما
سنتحدث عنه فيما بعد.
أما بخصوص »المطابقة مع ثقافة الآخر دون النظر في موائمة هذه
المفاهيم لثقافتها«، فإنني تعرضت له جزئيا في الإجابة على السؤال
الأول، حيث أرجعت الأمر إلى الثقافة العربية المحافظة والمكبوتة،
وللتقصير في تبين وظيفة الجامعات العربية التي تستوجب نقل المعارف
الغربية الجديدة إلى اللغة العربية، والنقاش حولها والبحث فيها
والاجتهاد في تبيئة المفاهيم وإعطائها مرجعية عربية، عن طريق الدراسات
الثقافية المقارنة.
على إنني أعود لأناقض »الاجترار« و»موائمة المفاهيم« فيما يتعلق
بالنسوية على المستوى العربي قديما وحديثا. فلو نظرنا إلى الكتابات
الصحفية النسائية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين التي
ازدهرت في مصر وبلاد الشام، فان القارىء سيلحظ الكتابات النسائية ضد
التقليد الأعمى للغرب: انظر إلى كتابات ملك حفني ناصف »النسائيات«،
انظر إلى مجلة المرأة الجديدة، راجع أراء الشاعرة وردة اليازجي التي
تنتقد في كتابها »حديقة الورد« »المرأة الشرقية لتفرنجها حتى صارت تخجل
من استعمال لغتها والسير على عادات وسطها (...) ظنا منها أن كل
الارتقاء في اقتبا« قشور المدنية وظواهرها في الأزياء والأساليب وتلك
الفوضى في السلوك التي تسميها خطا باسم الحرية. في حين كان على المرأة
الشرقية أن تنظر إلى أختها الغربية فترى اهتمامها بالأمور الجدية
وبراعتها في العلوم والفنون...وكيف تقوم بواجبها نحو الأسرة والمجتمع
واللغة والوطن.
انظر أيضا إلى كتاب فوزية فواز عن الرائدات في العالم الإسلامي
والغربي و كتاب قدرية حسن، شهيرات النساء في العالم الإسلامي، التي
حللت فيه سير نساء مسلمات بغرض الإسهام في »نهضة نسائية«. هناك العديد
من المراجع يضيق المجال في ذكرها الآن. فهؤلاء جميعا قدمن رؤى محلية
للحداثة وحاولن طرح منظومة فكرية مغايرة متنبهة الى التاريخ الحضاري
والثقافي للمجتمعات العربية. فمن أهم اطروحات تلك الفترة المقابلة بين
الشرق والغرب مع ميل لاقتباس أفيد ما في الغرب والاحتفاظ بأحسن ما في
تراث الشرق. وهناك العديد من الدراسات التي تنفي عن الحركات النسائية
في المجتمعات الإسلامية والعربية انها ظاهرة وليدة النسوية الغربية. إذ
قدمت النساء سير تاريخية لنساء عربيات لتجذير هذه الحركات واظهار
مرجعيتها المحلية ، ذلك من اجل بلورة هوية إسلامية وطنية تتميز بوعي
نسائي وإيماني( اميمة أبو بكر) . ثم قدم العديد من الباحثات العربيات
رؤى نقدية للخطاب الغربي عن النساء العربيات ( فاطمة المرنيسي، ليلى
أحمد، تجمع الباحثات اللبنانيات).
باختصار هذا يدل على إننا غير مقلدين بل متفاعلين ونقديين، كما يشير
إلى وجود تيارات مختلفة تتعامل مع قضية المرأة، في الغرب كما في الشرق،
التي اتخذت في كل مفصل تاريخي مفهوما مختلفا، إذ ننتقل من »تحرير«
المرأة الذي كان سائدا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إلى
»تحرر« المرأة، ثم إلى »النسوية« الذي ادخل عليه لاحقا النقد النسوي
والكتابة النسوية ، ونصل إلى الجندر(الجنوسة) النوع الاجتماعي.
استنتج إن النسوية في العالم العربي لم تولد من فراغ، ولم تبدأ من
الصفر، تماما كما حدث في الغرب. فهي ليست حركة مفتعلة بل نابعة من
حاجات فعلية تقوم على مفهوم ثقافي(اجتماعي) سياسي مغاير، وتصدر عن
تحديات جديدة. وأهمية النسوية تكمن في انها ترى استحالة أي تغيير عضوي
في الثقافة دون ربطه بإحداث تغيير جذري في العلاقات الاجتماعية بين
الجنسين.
لذلك لا يمكننا وصم الحركات النسوية بداء الاجترار والمطابقة
الثقافية، ففي ذلك توهم المطابقة والاجترار. حين تتجول الفكرة وتخوض
أسفارا وتجد أصداء لدى فئات أو جماعات فذلك يعني انها تعبر عن حاجاتهم
ورغباتهم، وأن هذه الفكرة تتلاقى وتطلعاتهم. لكن التلاقي والحاجة
والرغبة شيء، والمطابقة العمياء شيء آخر، لذلك علينا الدقة في تحديد
فروقاتهما. فالمطابقة وهم كما قلنا، ذلك لأنه في القضايا الإنسانية،
الفكرة حين تصدر من أي مصدر كان، وتجد صدى لدي جماعة، فإنها لا تستقر
كما هي، بل تتفاعل مع عوامل عديدة مؤثرة، وهو ما وصفناه بالايكولوجيا
(التاريخ، الثقافة، الاجتماع، الدين، السياسة، الاقتصاد.) . فلكل مفهوم
منتج من قبل أية ثقافة سيرة مختلفة في البلاد التي تنتجه وتلك التي
تتلقفه. لا يتلقف العربي (العربية بشكل أبله ما ينتجه الغرب من مفاهيم،
خاصة إذا كنا نتحدث عن مثقفين) مثقفات. فمن شروط الثقافة المعرفة
النقدية التي تقلب الموضوع والأفكار على أوجهها المتعددة ولا تكتفي
بوجه واحد منها. فلما نستخف بعقولنا وندني من مستوانا الفكري! انه موقف
فكري مُستعبد لا يعرف الحرية.
كل المفاهيم تخضع لهذه الايكولوجيا ومتغيراتها، لذلك وهم ادعاء، حتى
ممثلي القوة في العالم، بأنهم يستطيعون فرض مفاهيمهم على الآخرين
بالسيطرة. لأن القوة تستوجب الثورة والانتفاض، وأحيل هنا على دراسات
ثرية لتيار ما بعد الاستعمار، ودراسات ادوارد سعيد.
فإذا تخلصنا من وهم التطابق مع الاشتقاقات الغربية لمفهوم النسوية.
وإذا تخلصنا من وهم التطابق مع الثقافة الغربية والتي هي أصلا ثقافات
وتيارات. وإذا تخلصنا من وهم أن النسوية الغربية واحدة، لم تخضع للتحول
في دلالاتها، واذا تخلصنا من وهم الترجمة الأمينة، يبقى الموضوع الأساس
الذي علينا التوقف عنده: ما هي النسوية العربية وما هي إشكالاتها؟ كيف
تمارسها النساء العربيات وتعيشها وتكتب عنها؟ في المحصلة تبدو لي هذه
المواقف »الثقافية« من النسوية ما هي إلا أشكال رمزية لأخلاق سياسية
محافظة، علينا ملاحظتها ونقدها، خاصة وان بعض المثقفين يميل إلى أن
يوصم الخطاب »السياسي« بأنه لا ثقافي وأحيانا ضد ثقافي. فهل نتبين
الإشكال؟
نقطة الانعطاف:
علم المنظومات الحية(2)
إبان العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، أدَّت الفيزياء
الذرية وما تحت الذرية subatomic إلى إعادة نظر جذرية في العديد من
المفاهيم والأفكار الأساسية عن الواقع، الأمر الذي أحدث تغييرًا عميقًا
في نظرتنا إلى العالم: من نظرة ديكارت ونيوتن الآلتية mechanistic إلى
نظرة كلانية holistic وإيكولوجية – نظرة تبيَّن أنها شديدة التساوق مع
نظرات الحكماء والصوفية من العصور والمنقولات كافة.
بيد أن قبول الفيزيائيين للنظرة الجديدة إلى الواقع في بداية القرن
العشرين لم يكن سهلاً من أيِّ وجه. فقد وَضَعَهم استكشاف العالم الذري
وما تحت الذري على تماس مع واقع غريب وغير متوقَّع. ففي كدحهم من أجل
القبض على هذا الواقع الجديد، أدرك العلماء متألمين بأن مفاهيمهم
الأساسية ولغتهم وطريقتهم في التفكير برمتها لم تعد صالحة لتوصيف
الظواهر الذرية. لم تكن مشكلاتهم فكرية وحسب، بل هي بمثابة أزمة
وجدانية شديدة، بل وجودية حتى، إذا جاز القول. لكنهم، في النهاية،
كوفئوا بتبصرات عميقة في طبيعة المادة وفي علاقتها بالعقل البشري.
لقد توصلتُ إلى الاعتقاد بأن مجتمعنا اليوم ككل يواجه أزمة مماثلة.
ويمكن لنا أن نقرأ عن مظاهرها العديدة في الصحف كلَّ يوم: نعاني من
نسبة مرتفعة من التضخم والبطالة، نعاني من أزمة طاقة، نعاني من أزمة في
الرعاية الصحية، من التلوث وغيره من الكوارث البيئية، من موجة متصاعدة
من العنف والجريمة، وهكذا دواليك. وفي اعتقادي أن هذه الأزمات ما هي
جميعًا إلا أوْجُه مختلفة للأزمة الواحدة عينها؛ وهذه في الجوهر أزمة
في الإدراك. فهي، مثلها كمثل أزمة الفيزياء في العشرينيات، تتفرع من
كوننا نحاول أن نطبِّق مفاهيمَ نظرة إلى العالم فات أوانها – ألا وهي
النظرة الآلتية للعلم الديكارتي–النيوتني – على واقع لم يعد بالإمكان
فهمُه بلغة هذه المفاهيم. نحن نحيا اليوم في عالم عالمي الترابُط –
عالم مظاهرُه البيولوجية والنفسانية والاجتماعية والبيئية جميعًا
متواكلة. فلكي نوصِّف هذا العالم توصيفًا مناسبًا نحن في حاجة إلى
منظور كلاني، إيكولوجي، لا تتيحُه النظرة الديكارتية إلى العالم.
ما نحن في حاجة إليه، إذن، هو "أنموذج" paradigm جديد – رؤية جديدة
إلى الواقع، تغيير جذري في أفكارنا وإدراكاتنا وقيمنا. وإرهاصات هذا
التغيير – هذه النقلة من التصور الآلتي إلى التصور الكلاني للواقع –
باتت مرئية منذ الآن في الحقول كافة، ومن شأنها أن تسود على القرن
الجديد بأسره. إن خطورة أزمتنا ومداها العالمي يشيران إلى أن من شأن
التغييرات الحالية أن تتمخض عن تحول ذي أبعاد غير مسبوقة، عن نقطة
انعطاف للكوكب ككل.
من أجل مناقشة سمات هذه النقلة الأنموذجية paradigm shift
ومنطوياتها، لا بدَّ لي أولاً من توصيف الأنموذج القديم – النظرة
الديكارتية إلى العالم – وتأثيراته على العلم والمجتمع، قبل أن أنتقل
إلى مناقشة النظرة الكلانية والإيكولوجية الجديدة ومنطوياتها.
النظرة الآلتية الديكارتية إلى
العالم
قام غاليليو وديكارت ونيوتن وسواهم ببسط النظرة الآلتية إلى العالم
في القرن السابع عشر. وقد أسَّس ديكارت نظرته إلى الطبيعة على تقسيمها
الجذري إلى عالمين منفصلين يستقل واحدهما عن الآخر: عالم العقل وعالم
المادة. كان الكون المادي بنظره آلة، ولا شيء سوى آلة. وكانت الطبيعة
تعمل وفقًا لقوانين ميكانيكية، وكان بالإمكان تفسير كلِّ شيء في العالم
المادي بلغة ترتيب أجزائه وحركتها. وقد عمَّم ديكارت هذه النظرة
الآلتية إلى المادة لتشمل المتعضِّيات organisms الحية: النباتات
والحيوانات كانت ببساطة تُعتبَر آلات؛ والكائنات البشرية كانت تسكنها
نفس عاقلة؛ إلا أن الجسم البشري كان غير قابل للتمييز عن حيوان–آلة.
كان جوهر مقترَب ديكارت إلى المعرفة هو طريقته التحليلية في
التفكير؛ وهذه عبارة عن تقطيع الأفكار والمشكلات إلى قطع، ثم تصنيف هذه
القطع بحسب ترتيبها المنطقي. وقد صار هذا المقترَب خاصية جوهرية من
خاصيات الفكر العلمي الحديث، ثبتتْ فائدتُها الكبيرة في بسط النظريات
العلمية وتنفيذ المشاريع التكنولوجية المعقدة. لكنْ، في المقابل، فإن
التشديد الزائد على الطريقة الديكارتية أدى إلى التفتيت الذي يتسم به
كلا تفكيرُنا العام ومناهجُنا الأكاديمية وإلى الموقف الاختزالي
reductionism الواسع الشيوع في العلم: الاعتقاد بأن سمات الظواهر
المعقدة يمكن فهمها جميعًا باختزالها إلى أجزائها المكوِّنة.
وفي حين سلَّم ديكارت بالتقسيم الأساسي بين العقل والمادة ورسم خطوط
رؤيته الآلتية إلى الواقع، كان غاليليو أول مَن جمع بين الاختبار
العلمي واستعمال اللغة الرياضية. فلكي يمكِّن العلماءَ من توصيف
الطبيعة رياضيًّا، سلَّم غاليليو بأن على العلم أن يقتصر على دراسة
الخواص الجوهرية للأجرام المادية – الهيئات والأعداد والحركة – التي
يمكن لها أن تقاس وتكمَّم. أما الخواص الأخرى، كاللون والصوت والمذاق
أو الرائحة، فكانت من قبيل الإسقاطات projections المجردة التي ينبغي
أن تُستبعَد من مجال العلم. وقد تبيَّن أن هذه الاستراتيجية فائقة
النجاح في العلم الحديث قاطبة، لكنها تسببت كذلك في خسائر فادحة له.
فالعلم الذي لا يُعنى إلا بالكمِّ وحده ويتأسَّس على القياس حصرًا علمٌ
عاجز في صميمه عن التعامل مع الخبرة أو النوع أو القيم. وبالفعل، منذ
غاليليو، حرص العلماء على تجنب التطرق إلى القضايا الأخلاقية
والمناقبية عمومًا؛ وهذا الموقف يؤدي اليوم إلى عواقب وخيمة.
وقد قام نيوتن بإتمام احتفالي للإطار المفاهيمي الذي أوجده غاليليو
وديكارت، باسطًا صياغة رياضية متماسكة للنظرة الآلتية إلى الطبيعة.
فمنذ النصف الثاني من القرن السابع عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر،
ساد النموذج الميكانيكي النيوتني للكون على الفكر العلمي كلِّه. إذ
قبلت العلوم الطبيعية، بالإضافة إلى الإنسانيات والعلوم الاجتماعية
جميعًا، بنظرة الفيزياء الكلاسيكية بوصفها التوصيف الصحيح للواقع،
ونَمْذَجَتْ نظرياتِها بمقتضى ذلك. فكلما أراد علماء النفس والاجتماع
والاقتصاد أن يكونوا "علميين"، لجأوا لجوءًا طبيعيًّا إلى المفاهيم
الأساسية للفيزياء النيوتنية، وتمسَّك العديد منهم بهذه المفاهيم، حتى
بعد أن تخطاها الفيزيائيون إلى أبعد منها بكثير.
تأثير الفكر الديكارتي–النيوتني
ففي البيولوجيا، مازالت النظرة الديكارتية إلى المتعضِّيات الحية
بوصفها آلات مركَّبة من أجزاء منفصلة توفر الإطار المفاهيمي السائد.
فمع أن بيولوجيا ديكارت الآلتية البسيطة ما كان لها أن تمضي شوطًا
بعيدًا، وكان لا بدَّ من تعديلها تعديلاً لا يستهان به إبان القرون
الثلاثة اللاحقة، مازال الاعتقاد بأن بالإمكان فهم خصائص المتعضِّيات
الحية كافة باختزالها إلى مكوِّناتها الصغرى وبدراسة الآليات التي
تتفاعل من خلالها قابعًا في الأساس من معظم التفكير البيولوجي المعاصر.
وقد نجم عن تأثير البيولوجيا الاختزالية على الفكر الطبي ذلك
النموذج "الحيوي الطبي" المزعوم الذي يشكِّل الأساس المفاهيمي للطب
العلمي الحديث: يُنظَر إلى الجسم البشري كآلة يمكن تحليلها بحسب
أجزائها؛ والداء يُرى بوصفه قصورًا في الآليات البيولوجية التي تُدرَس
من وجهة نظر البيولوجيا الخلوية والجزيئية؛ ودور الطبيب هو أن يتدخل،
إما فيزيائيًّا وإما كيميائيًّا، لتصحيح قصور آلية معينة، حيث يعالِج
كلَّ جزء من أجزاء الجسم اختصاصيٌّ مختلف.
وبالطبع، كان ربط مرض بعينه إلى جزء معين من الجسم مفيدًا جدًّا في
العديد من الحالات. غير أن الطب العلمي الحديث غالى كثيرًا في التشديد
على المقترَب الاختزالي، وطوَّر اختصاصاته، إلى حدِّ أن الأطباء مرارًا
ما أمسوا عاجزين عن رؤية الداء بوصفه خللاً في المتعضِّية ككل، وعاجزين
عن التعامل معها بوصفها كذلك. فهم أميل إلى معالجة عضو أو نسيج بعينه؛
وهذا يتم عمومًا بدون أخذ بقية الجسم في الحسبان – فما بالكم باعتبار
المظاهر الاجتماعية والنفسانية لداء المريض؟
كذلك علم النفس، مثله كمثل البيولوجيا والطب سواء بسواء، صيغ على
هيئة الأنموذج الديكارتي. فعلماء النفس، على غرار ديكارت، تبنوا
تقسيمًا صارمًا بين العقل والمادة. وتأسيسًا على هذا التقسيم، انبسط
مقترَبان إلى دراسة النفس البشرية، موجِدان بذلك مدرستين نفسانيتين
كبريين: درس البنيويون structuralists الذهنَ عبر الاستبطان وحاولوا
تحليل الوعي إلى عناصره الأساسية، فيما ركَّز السلوكيون behaviorists
حصرًا على دراسة السلوك، الأمر الذي قادهم إلى تجاهُل وجود الذهن
برمَّته. كلا هاتين المدرستين ظهرتا وقتَ كان يسود النموذج النيوتني
للواقع على الفكر العلمي؛ وبمقتضى ذلك تَنَمْذَجَتا على غرار الفيزياء
الكلاسيكية، مُدرِجَتين المفاهيم الأساسية للميكانيكا النيوتنية في
إطاريهما النظريين.
في أثناء ذلك، استعمل تسيغموند فرويد، مشتغلاً في العيادة وغرفة
المشورة بدلاً من المختبر، منهاج التداعي الحر free association لبسط
التحليل النفسي. ومع أن التحليل كان نظرية مختلفة للغاية وثورية فيما
يتعلق بالذهن البشري فإن مفاهيمه الأساسية كانت نيوتنية هي الأخرى من
حيث طبيعتها. وبذلك فإن تيارات التفكير النفساني الثلاثة الرئيسية في
العقود الأولى من القرن العشرين – اثنين منها في الأكاديمية وواحدًا في
العيادة – تأسَّستْ ليس على الأنموذج الديكارتي وحسب، بل وعلى المفاهيم
النيوتنية حصرًا عن الواقع.
ختامًا لاستعراضي الموجز هذا لتأثيرات الفكر الديكارتي–النيوتني،
سأنتقل الآن إلى العلوم الاجتماعية، وبخاصة إلى الاقتصاديات.
الاقتصاديات في أيامنا هذه، شأنها شأن غالبية العلوم الاجتماعية،
تجزيئية واختزالية. إنها تقصِّر عن الاعتراف بأن الاقتصاد هو مجرد مظهر
واحد من مظاهر نسيج إيكولوجي واجتماعي متكامل. لذا فإن الاقتصاديات
تميل إلى عزل الاقتصاد عن هذا النسيج الذي يتأصل فيه وإلى توصيفه
باستعمال نماذج نظرية تبسيطية وغير واقعية إلى حدٍّ بعيد. وقد تمَّ
التعريف بمعظم مفاهيمها الأساسية – الفعالية، المردودية، الناتج الوطني
الإجمالي، إلخ – تعريفًا ضيقًا واستخدامُها في معزل عن سياقها
الاجتماعي والإيكولوجي الأوسع. وبصفة خاصة، يجري عمومًا إهمال الخسائر
الاجتماعية والإيكولوجية الناجمة عن النشاط الاقتصادي. وعاقبة ذلك أن
المفاهيم والنماذج الاقتصادية المعمول بها حاليًّا لم تعدْ مناسبة
لتصنيف الظواهر الاقتصادية في عالم متواكل من حيث الأساس؛ ومن هنا عجز
الاقتصاديين عمومًا عن فهم مشكلات زماننا الاقتصادية الكبرى.
الاقتصاديات الاتباعية، من جراء إطارها الاختزالي الضيق، مناوئة في
صميمها للإيكولوجيا. ففي حين أن المنظومات الإيكولوجية المحيطة
كلِّياتٌ عضوية ذاتية التوازن self-balancing وذاتية التعديل
self-adjusting فإن اقتصاداتنا وتكنولوجياتنا الحالية لا تعترف بأيِّ
مبدأ ذاتي الضبط. فالنمو غير المتمايز – النمو الاقتصادي والتكنولوجي
والمؤسَّسي – مازال، بنظر غالبية الاقتصاديين، علامة على اقتصاد "صحي"،
على الرغم من كونه يتسبب الآن في كارثة إيكولوجية، في انتشار الجريمة
المنظمة، في التفسخ الاجتماعي، وفي احتمال متزايد لوقوع حرب نووية.
ومما يزيد في تفاقم الوضع أن غالبية الاقتصاديين، في حرصهم المضلَّل
على الصرامة العلمية، يهملون الاعتراف صراحة بمنظومة القيم التي
تتأسَّس عليها نماذجهم؛ وبهذا يقبلون ضمنًا جملة القيم المختلة التوازن
إلى حدٍّ بعيد التي تسود ثقافتنا وتندرج في مؤسَّساتنا الاجتماعية.
ولقد وجدتُ أن مصطلحي يِنْ ويَنْغ الصينيين مفيدان جدًّا لتوصيف هذا
الاختلال الثقافي. فإلى جانب بَسْط ثقافتنا للنظرة الآلتية إلى العالم،
أصرَّت هذه الثقافة، نظريًّا وعمليًّا، على تفضيل قيم يَنْغ وأهملت قيم
يِنْ المقابلة والمكمِّلة لها: لقد فضَّلْنا توكيد الذات على التكامل،
التحليل على التركيب، المعرفة العقلانية على الحكمة الكشفية، العلم على
الدين، التنافس على التعاون، التوسع على الصيانة، وهلم جرا.
منذ أقدم أزمنة الثقافة الصينية، كان يِنْ مرتبطًا كذلك بالمؤنث
ويَنْغْ بالمذكر؛ وفي زماننا أشار النسويون feminists، مرارًا
وتكرارًا، بأن القيم والمواقف التي يفضلها مجتمعنا هي قيم ومواقف
الثقافات الأبوية patriarchal. وبهذا تلقتْ منظومةُ القيم الديكارتية
والـيَنْغـية التوجُّه دعم النظام الأبوي patriarchy؛ لكن النظام
الأبوي، هو الآخر، شأنه شأن الأنموذج الديكارتي، بلغ طور انحطاطه،
والمنظور النسوي سيكون سمة جوهرية من سمات النظرة الجديدة إلى الواقع.
الأنموذج الجديد
ظهر الأنموذج الجديد في الفيزياء في بداية القرن العشرين، وهو الآن
يبرز في مجالات متنوعة أخرى – البيولوجيا، الطب، علم النفس،
الاقتصاديات، السياسة، إلخ. وهو ليس عبارة عن منظومة قيم جديدة وحسب،
بل هو ينعكس في أشكال جديدة من التنظيم الاجتماعي وفي مؤسَّسات جديدة.
وهو الآن يصاغ إلى حدٍّ كبير خارج نطاق مؤسَّساتنا الأكاديمية، التي
مازالت على بقائها أوثق ارتباطًا بكثير بالإطار الديكارتي من أن تستطيع
تقدير الأفكار الجديدة حقَّ قدرها. فلوصف الأنموذج الجديد، سوف أبدأ
بالنظرة إلى المادة كما انبثقت من الفيزياء الحديثة؛ ومن بعدُ سوف
أناقش امتداد هذه النظرة لتشمل المتعضِّيات الحية والعقل والوعي
والظواهر الاجتماعية.
العالم المادي، وفقًا للفيزياء المعاصرة، ليس منظومة ميكانيكية
مصنوعة من أشياء منفصلة، بل تبدو، بالحري، كشبكة معقدة من العلاقات.
فالقُسَيْمات particles ما تحت الذرية لا يمكن لها أن تُفهَم ككيانات
معزولة، منفصلة، بل يجب أن تُرى بوصفها صلات متداخلة أو ترابُطات ضمن
شبكة من الأحداث. إذ إن مفهوم الأشياء المنفصلة ما هو إلا أمْثَلَة
idealization، مرارًا ما تكون مفيدة للغاية، لكنْ لا صحة أساسية لها.
مثل هذه الأشياء كافة نماذج في سيرورة كونية لا تنفصم عراها؛ وهذه
النماذج دينامية في صميمها. والقُسَيْمات ما تحت الذرية غير مصنوعة من
أيِّ جوهر مادي: لها كتلة معينة، لكن هذه الكتلة هي شكل من أشكال
الطاقة. غير أن الطاقة مرتبطة دومًا بسيرورات، أي بنشاط؛ بل هي مقياس
للنشاط. فنماذج الطاقة الخاصة بالقُسَيْمات ما تحت الذرية، إذن، هي حزم
من الطاقة أو نماذج نشاط.
تشكِّل نماذج الطاقة الخاصة بالعالم ما تحت الذري بُنى ذرية وجزيئية
مستقرة، تؤلِّف المادة وتضفي عليها مظهرها الماكروسكوبي الصلب
المتماسك، بما يجعلنا نعتقد بأنها مصنوعة من جوهر مادي ما. إن مفهوم
الجوهر، على الصعيد اليومي، الماكروسكوبي، مفهوم مفيد للغاية؛ لكنه،
على الصعيد الذري، يفتقر إلى المعنى. فالذرات مؤلَّفة من قُسَيْمات،
وهذه القُسَيْمات ليست مصنوعة من أيِّ قوام مادي. إذ إننا، عندما
نرصدها، لا نشاهد مطلقًا أيَّ جوهر؛ فما نرصده هي نماذج دينامية، يتحول
واحدها إلى آخر على الدوام، بما يشبه رقصة طاقة متواصلة.
النظرة المنظومية إلى الحياة
إن نظرة الفيزياء الحديثة إلى الحياة نظرة كلانية وإيكولوجية: فهي
تشدد على التعالُق والتواكل الأساسيين بين الظواهر كلِّها، وكذلك على
الطبيعة الدينامية في صميمها للواقع الفيزيائي. غير أن تعميم هذه
النظرة على توصيف المنظومات الحية يتطلب منَّا أن نتخطَّى الفيزياء؛
وثمة الآن إطار يبدو أنه استطالة طبيعية لمفاهيم الفيزياء الحديثة.
وهذا الإطار يسمَّى بـ"نظرية المنظومات"، كما يسمَّى أيضًا أحيانًا
بـ"النظرية العامة للمنظومات" General Systems Theory. والواقع أن
مصطلح "نظرية المنظومات" مضلِّل بعض الشيء، بما أنها ليست "نظرية"
معينة تعيينًا دقيقًا، من نحو نظرية النسبية أو النظرية الكوانتية؛
إنها بالأصح مقترَب معين، لغة، منظور خاص.
يختص المقترَب المنظومي بتوصيف المنظومات، بما هي كلِّيات متكاملة
تستمد خواصها الجوهرية من التعالُقات بين أجزائها. لذا فإن المقترَب
المنظومي لا يركز على الأجزاء، بل بالأصح على التعالُقات والتواكلات
بين الأجزاء. ويمكن إيجاد أمثلة على المنظومات في كلا العالمين الحي
وغير الحي؛ ولسوف أركز على المنظومات الحية.
كل متعضِّية حية منظومة حية – خلية مفردة، نبات، حيوان، أو كائن
بشري. غير أن المنظومات الحية قد لا تكون متعضِّيات مفردة بالضرورة. إذ
إن هناك منظومات اجتماعية، كالأسرة أو الجالية؛ ثم هناك المنظومات
الإيكولوجية ecosystems، تترابط فيها شبكاتٌ من المتعضِّيات، إلى جانب
مكوِّنات غير حية متنوعة، لتشكيل نسيج متشابك من العلاقات تتضمن تبادل
المادة والطاقة في حلقات متواصلة. وهذه جميعًا منظومات حية تبدي نماذج
مشابهة من التعضِّي organization (التنظيم).
من المظاهر الهامة للمنظومات الحية نزوعها إلى تشكيل بُنى عديدة
المستويات من منظومات ضمن منظومات. فعلى سبيل المثال، يتكون الجسم
البشري من أعضاء، وكل عضو من نسيج، وكل نسيج من خلايا. وهذه جميعًا
متعضِّيات حية، أو منظومات حية، هي عبارة عن أجزاء أصغر، وفي الوقت
نفسه، تعمل بوصفها أجزاء من كلِّيات أوسع. ثم تبدي المنظومات الحية
نظامًا تراتبيًّا stratified، وهناك ترابطات وتواكلات بين مستويات
المنظومة، بحيث يتفاعل كل مستوًى ويتواصل مع بيئته بكلِّيتها.
التعضِّي (التنظيم) الذاتي
فما هي، إذن، نماذج التعضِّي (التنظيم) التي تتسم بها الحياة؟ إنها
تشتمل على طائفة من السيرورات والظاهرات، التي يمكن لها أن تُرى بوصفها
مظاهر مختلفة للمبدأ الدينامي نفسه – مبدأ التعضِّي (التنظيم) الذاتي
self-organization. فالمنظومة الحية منظومة ذاتية التعضِّي (التنظيم)،
الأمر الذي يعني أن نظامها، من حيث البنية والوظيفة، لا تفرضه عليها
البيئة، بل ترسِّخه المنظومة نفسها. والمنظومات الذاتية التعضِّي
(التنظيم) تبدي درجة معينة من الاستقلالية: فعلى سبيل المثال، تنزع إلى
تثبيت حجمها بحسب مبادئ تعضِّي (تنظيم) داخلية، مستقلة عن المؤثرات
الخارجية. وهذا لا يعني أن المنظومات الحية معزولة عن بيئتها؛ بل هي،
على العكس، تتفاعل معها تفاعلاً مستمرًا، لكن هذا التفاعل لا يعيِّن
تعضِّيها (تنظيمها).
إن الاستقلالية النسبية للمنظومات الذاتية التعضِّي (التنظيم) تلقي
ضوءًا جديدًا على مسألة التخيير (الإرادة الحرة) الفلسفية، القديمة
قِدَم الزمان. فمن وجهة نظر المنظومات، الحتمية (التسيير) والحرية
كلاهما مفهوم نسبي. فالمنظومة حرة بمقدار ما تستقل عن بيئتها؛ كذلك
بمقدار ما تتكل على بيئتها من خلال التفاعل يتعين نشاطُها بالمؤثرات
البيئية. والاستقلالية النسبية للمتعضِّيات عادة ما تتزايد بتزايد
تعقيدها، وتبلغ أوْجَها في الكائنات البشرية.
يبدو المفهوم النسبي لحرية الإرادة متساوقًا مع نظرة المنقولات
الصوفية التي تهيب بأتباعها أن يتجاوزوا مفهوم "ذات" معزولة ويعوا
بأننا أجزاء لا تتجزأ من الكوسموس الذي نحن متأصِّلون فيه. وغاية هذه
المنقولات هي التخلِّي التام عن أحاسيس الأنية ego، والاندماج، بالخبرة
الصوفية، في كلِّية الكوسموس. وما أن يتم بلوغ مثل هذه الحالة، يبدو أن
مسألة "التخيير" تفقد معناها: إذ إنني، إذا كنت الكون، فلا يمكن أن
توجد مؤثرات "خارجية"، وأفعالي كافة سوف تكون عفوية وحرة. فمن وجهة نظر
الصوفية، بالتالي، يكون مفهوم التخيير نسبيًّا ومحدودًا و"وهميًّا"،
كما يقال، شأنه شأن سائر المفاهيم الأخرى التي نستعملها في توصيفنا
العقلاني للواقع.
لقد صيغت نظرية المنظومات الذاتية التعضِّي (التنظيم) إبان الربع
الأخير من القرن العشرين بتفصيل لا يستهان به على يد عدد من الباحثين
من مناهج متنوعة، بقيادة العالم البلجيكي الحائز على جائزة نوبل إيليا
بريغوجين. إن واحدة من أهم خصائص التعضِّي (التنظيم) الذاتي هي أن
المنظومات الذاتية التعضِّي (التنظيم) "دائمة العمل": إذ إن عليها أن
تحافظ على تبادل مستمر للطاقة والمادة مع بيئتها لكي تبقى على قيد
الحياة. وهذا التبادل يتضمن استدخال بُنى منظمة (كالطعام) وتفتيتها، ثم
استعمال بعض المكونات للحفاظ على نظام المتعضِّية، وحتى زيادته. وهذه
العملية تدعى الاستقلاب metabolism.
من المظاهر الهامة الأخرى للنشاط المتواصل للمنظومات الحية سيرورة
التجدد الذاتي. كل منظومة حية تجدِّد ذاتها تجديدًا مستمرًا: الخلايا
تتفتت، وتركِّب بُنى ونُسجًا وأعضاء، وتجدِّد خلاياها في دورات
متواصلة. فعلى الرغم من تغيرها المستمر هذا، تحافظ المتعضِّية على
بنيتها ومظهرها الإجماليين. ومكوِّناتها تتجدد ويعاد تدويرها، لكن
نموذج التعضِّي (التنظيم) يبقى مستقرًا. ومن المظاهر الأخرى للتعضِّي
(التنظيم) الذاتي، الوثيقة الارتباط بالتجدد الذاتي self-renewal،
ظواهرُ الشفاء الذاتي والاندمال والتكيف مع التغيرات البيئية.
في جميع هذه السيرورات، تلعب التقلبات fluctuations دورًا مركزيًّا
للغاية. إذ يمكن للمتعضِّية الحية أن توصَّف بلغة المتغيِّرات
المتواكلة التي تنوس بين حدود معينة، بحيث تبقى المنظومة في حالة من
التقلب المستمر. مثل هذه الحالة تُعرَف باسم الثبات على السواء
homeostasis؛ وهي حالة من التوازن الدينامي الذي يبدي مرونة فائقة.
فعندما يحدث خلل ما، تنزع المنظومة إلى العودة إلى حالتها المتقلبة
الأصلية بالتكيف بطرق متنوعة مع الخلل. ثم تتدخل آليات التغذية الراجعة
feedback، فتنزع إلى التخفيف من أيِّ انحراف عن الحالة المتوازنة.
يمكن لمظاهر التعضِّي (التنظيم) الذاتي التي وصفتُها حتى الآن أن
تُرى بوصفها سيرورات صيانة ذاتية self-maintenance. وما يجعل فهم
المنظومات الحية صعبًا تمامًا هو أنها لا تتصف بنزوع إلى الحفاظ على
حالتها الدينامية وحسب، لكنها، في الوقت نفسه، تبدي كذلك نزوعًا إلى
تجاوز ذاتها، إلى تخطِّي حدودها ومحدوديتها تخطيًا خلاقًا، من أجل
توليد بُنى جديدة وأشكال جديدة من التعضِّي (التنظيم). ومبدأ التجاوز
الذاتي self-transcendence يتجلَّى في سيرورات التعلم والنمو والتطور.
وبحسب نظرية المنظومات، لا تمثل النظرية الداروِنية في التطور إلا
واحدة من نظرتين متكاملتين، كلاهما ضروري لفهم ظاهرة التطور. والنظرة
الأخرى ترى التطور بوصفه تجليًّا جوهريًّا للتعضِّي (التنظيم) الذاتي،
يقود، على كرِّ الوقت، إلى تفتح منظم للتعقيد. والنزوعان المتكاملان
للمنظومات الذاتية التعضِّي (التنظيم) – الصيانة الذاتية وتجاوز الذات
– تتفاعلان تفاعلاً ديناميًّا موصولاً، وكلاهما يساهم في ظاهرة التكيف
التطوري.
مفهوم جديد للعقل
من أجل تطبيق النظرة المنظومية على متعضِّيات أرقى، وعلى الكائنات
البشرية بخاصة، من الضروري التعامل مع ظاهرة العقل. وقد اقترح غريغوري
بتسون التعريف بالعقل كظاهرة منظومية تختص بها المتعضِّيات الحية
والمجتمعات والمنظومات الإيكولوجية. وقد عدَّد جملة من المعايير التي
ينبغي على المنظومات أن تلبيها لكي يحدث العقل. وكل منظومة تلبي تلك
المعايير تتمكَّن من معالجة المعلومات وتنمِّي ظواهر متنوعة ننسبها إلى
العقل – التفكير، التعلم، الذاكرة، إلخ. وفي نظر بتسون أن العقل نتيجة
ضرورية وحتمية لتعقيد معين، يبدأ قبل تنمية المتعضِّيات بوقت طويل
للدماغ ولجهاز عصبي مرتقٍ.
إن معايير بتسون للعقل يتبين أنها وثيقة الصلة بخصائص المنظومات
الذاتية التعضِّي (التنظيم). وبالفعل، فإن العقل خاصية جوهرية من خصائص
المنظومات الحية. فكما عبَّر بتسون: "العقل هو جوهر الحياة." ومن وجهة
النظر المنظومية، ليست الحياة هي الجوهر أو القوة، والعقل ليس كيانًا
يتفاعل مع المادة. كلا الحياة والعقل تجلٍّ للخواص المنظومية عينها:
جملة من السيرورات التي تمثل دينامية التعضِّي (التنظيم) الذاتي. وهذا
سيكون تعريفي للعقل: دينامية التعضِّي الذاتي.
سيكون للمفهوم الجديد للعقل قيمة هائلة في محاولاتنا للتغلب على
التقسيم الديكارتي. فالعقل والمادة لن يبدوا بعد الآن وكأنهما ينتميان
إلى مقولتين منفصلتين اثنتين، بل يمكن النظر إليهما بوصفهما يمثلان
مجرد سمتين للظاهرة نفسها. فالعلاقة بين العقل والدماغ، على سبيل
المثال – تلك العلاقة التي حيَّرتْ علماء لا عدَّ لهم منذ ديكارت –
تصبح الآن واضحة تمام الوضوح: العقل هو دينامية التعضِّي الذاتي؛
والدماغ هو البنية البيولوجية التي تنفَّذ من خلالها هذه الدينامية.
ولسوف أعتمد تمامًا مفهوم بتسون عن العقل، لكني سوف أستعمل لغة
مختلفة اختلافًا طفيفًا. ولكي أبقى أقرب إلى اللغة المصطلَح عليها، سوف
أخصِّص مصطلح "عقل" للمتعضِّيات ذات التعقيد الراقي وأستعمل التعقل
mentation – وهو مصطلح يعني "النشاط العقلي" – لتوصيف دينامية التعضِّي
(التنظيم) الذاتي على مستويات أدنى. إن كلَّ منظومة حية (خلية، نسيج،
عضو، إلخ) منخرطة في سيرورة التعقل، لكنها، في المتعضِّيات الراقية
و"العالم الداخلي" (الذي يتميَّز به العقل)، تشتمل على الوعي الذاتي
والخبرة الواعية والفكر التصوري واللغة الرمزية إلخ. وغالبية هذه
الخصائص توجد على هيئة بدائية في مختلف الحيوانات، لكنها تبلغ أوج
تفتحها في الكائنات البشرية.
إن تعضِّي (تنظيم) العالم الحي في بُنى عديدة المستويات تعني أنه
توجد كذلك مستويات للعقل. ففي المتعضِّية البشرية، على سبيل المثال،
ثمة مستويات متنوعة من التعقل "الاستقلابي"، تشتمل على الخلايا والنسج
والأعضاء؛ ثم هناك التعقل العصبي للدماغ، الذي هو عبارة عن مستويات
عديدة تقابل مختلف مراحل التطور الإنساني. وكلِّية هذه التعقلات تؤلِّف
ما يمكن لي أن أسميه الذهن البشري أو النفس psyche. وفي النظام
التراتبي للطبيعة، تتأصل العقول الفردية في العقول الأوسع للمنظومات
الاجتماعية والإيكولوجية، وهذه تندرج في المنظومات العقلية الكوكبية،
التي، بدورها، يجب أن تشارك في نوع من العقل الكلِّي أو الكوني. إن
الإطار المفهومي للمقترَب المنظومي الجديد لا ينحصر، بأيِّ شكل من
الأشكال، في الربط بين هذا العقل الكوني وبين فكرة الله التقليدية:
فالألوهة في هذه النظرة، بالطبع، ليست ذكرًا ولا أنثى، ولا تتجلِّى في
أية صورة شخصية، بل تمثل لا أقل من الدينامية الذاتية التعضِّي
(التنظيم) للكوسموس بأسره.
العلم والروحانية
الرؤية الجديدة للواقع رؤية إيكولوجية، بمعنى أنها تتخطى ببعيد
الاهتمامات الآنية بالحفاظ على البيئة. وهي تلقى تأييد العلم الحديث،
ولاسيما المقترَب المنظومي الجديد، لكنها تتجذر في إدراك للواقع
يتخطَّى الإطار العلمي إلى وعي كشفي لـوحدة الحياة ككل ولتواكل
تجلِّياتها العديدة ودورات تغيرها وتحولها. وعندما يُفهَم مفهوم الروح
الإنسانية بوصفها كيفية الوعي التي يشعر الفرد بنفسه بمقتضاها مرتبطًا
بالكوسموس ككل، يصبح من الواضح أن الوعي الإيكولوجي وعي روحي بامتياز.
وبالفعل، فإن فكرة الفرد بوصفه مرتبطًا بالكوسموس معبَّر عنها في كلمة
"دين" اللاتينية، المشتقة من فعل religare الذي يعني "الربط بقوة"،
مثلما هي كذلك في كلمة يوغا yoga السنسكريتية التي تعني "الاتحاد"
وكلمة "صلاة" العربية التي تنطوي على معنى "الصلة".
من هنا لا غرو أن الرؤية الجديدة للواقع متساوقة مع العديد من
الأفكار في المنقولات الصوفية. والمتوازيات بين العلم والتصوف لا تنحصر
في الفيزياء الحديثة، بل يمكن توسيعها الآن توسيعًا مبررًا بالمثل
لتطال البيولوجيا المنظومية. فهناك ثيمتان أساسيتان تبرزان مرارًا
وتكرارًا من دراسة المادة الحية وغير الحية ويتم التشديد عليها تشديدًا
متكررًا في تعاليم الصوفية: الترابط والتواكل الكلِّي بين الظاهرات
كافة، وطبيعة الواقع الدينامية في صميمها. وإننا لنجد كذلك عددًا من
الأفكار في المنقولات الصوفية أقل متاتًا إلى الفيزياء الحديثة، أو لا
تنطوي بعدُ على مغزى بالنسبة إليها، لكنها محورية في النظرة المنظومية
إلى المتعضِّيات الحية.
يلعب مفهوم النظام المراتبي دورًا بارزًا في العديد من المنقولات.
فكما هو الأمر في العلم الحديث، ينطوي هذا المفهوم على فكرة مستويات
عديدة للواقع، تختلف في تعقيدها وتتفاعل تفاعلاً متبادلاً ويتواكل
بعضها على بعض. وهذه المستويات تتضمن، بصفة خاصة، مستويات العقل، التي
تُرى بوصفها تجلِّيات مختلفة للوعي الكوني Cosmic Consciousness. ومع
أن النظرات الصوفية إلى الوعي تتخطى بكثير إطار العلم المعاصر، فإنها
ليست، ولا بأيِّ حال من الأحوال، متعارضة مع المفاهيم المنظومية
الحديثة عن العقل والمادة. وتصح اعتباراتٌ مماثلة على مفهوم الإرادة
الحرة، الذي ينسجم تمام الانسجام مع النظرات الصوفية عندما يُربَط إلى
الاستقلالية النسبية للمنظومات الذاتية التعضِّي (التنظيم).
إن مفاهيم السيرورة والتغير والتقلب، التي تلعب دورًا شديد المحورية
في النظرة المنظومية إلى المتعضِّيات الحية، يشدَّد عليها في المنقولات
الصوفية الشرقية، ولاسيما في الطاوية Taoism. ففكرة التقلبات كأساس
للنظام، التي أدخلها إيليا بريغوجين في العلم الحديث، هي واحدة من
الثيمات الكبرى في النصوص الطاوية كافة. ولأن حكماء الطاوية أقروا
بأهمية التقلبات في أرصادهم للعالم الحي، فقد شددوا كذلك على الميول
المعاكسة – لكن المكمِّلة – التي يبدو أنها مظهر جوهري من مظاهر
الحياة. والطاوية، بين المنقولات الشرقية، هي المنقول الذي ينطوي على
أكثر المنظورات الإيكولوجية صراحة؛ لكن التواكل المتبادل بين مظاهر
الواقع كافة والطبيعة اللاخطية non-linear لترابطاته مشدَّد عليهما في
سائر طُرُق التصوف الشرقي. فهاتان الفكرتان هما اللتان تبطِّنان مفهوم
كرما karma الهندي، على سبيل المثال.
المنطويات الاجتماعية
تنطوي النظرة المنظومية إلى الحياة على العديد النتائج، ليس على
العلم وحسب، ولكن على المجتمع والمعيشة اليومية. إذ لا بدَّ لها من أن
تؤثر في طرقنا في التعامل مع الصحة والمرض، وفي علاقتنا مع البيئة
الطبيعية، وأن تغير العديد من بُنانا السياسية. وهذه التغييرات جميعًا
بدأت بالحدوث أصلاً: فالنقلة الأنموذجية ليست شيئًا سوف يحدث في وقت ما
من المستقبل، بل هي تحدث الآن.
كثيرًا ما أشار مؤرخو الثقافة إلى أن تطور الثقافات يتسم بنموذج
منتظم: صعود، أوج، انحطاط، تحلل. ويحدث الانحطاط حين تصير ثقافة ما من
الجمود – في تكنولوجياتها، أفكارها، تنظيمها الاجتماعي، أو هذه مجتمعة
– بحيث تعجز عن مواجهة تحدي الشروط المتغيرة. وهذه الخسارة في المرونة
تترافق مع خسارة عامة في التناغم، تقود لا محالة إلى تفجر الخلاف
والتصدع الاجتماعيين. وإبان سيرورة الانحطاط والتحلل هذه، بينما يتحجر
التيار الثقافي الرئيس، عبر تشبثه بالأفكار الثابتة وبنماذج السلوك
الجامدة، تظهر أقليات مبدعة على المسرح وتحوِّل جانبًا من العناصر
القديمة إلى تكوينات جديدة، لا تلبث أن تصبح هي الثقافة الجديدة
الصاعدة.
وفي حين يجري التحول، ترفض الثقافة المنحطة أن تتغير، متشبثة بجمود
أكبر فأكبر بأفكارها البالية؛ كذلك ترفض المؤسَّسات الاجتماعية السائدة
تسليم أدوارها القائدة للقوى الثقافية الجديدة. لكنها سوف تمضي في
انحطاطها وتحللها لا محالة، بينما تواصل الثقافة الصاعدة صعودها،
وتضطلع في المآل بدورها القائد. ومع اقتراب نقطة الانعطاف، يوفر لنا
إدراكُنا بأن تغييرات ثورية بهذا الاتساع لا يمكن لنشاطاتٌ سياسية
قريبة المدى أن تعرقلها أملَنا الأقوى من أجل المستقبل.
شعرية الايكوفمينزم: النص النسوي
كمختبر للوعي بالطبيعة(3)
حارس الطبيعة
" المرأة أرض .. الأرض امرأة "
النسوية حركة منفتحة على مختلف المؤثرات المعرفية والفنية، فقد نهلت
بشكل تهجيني من الفرويدية والماركسية والوجودية، كما تقاطعت بوعي ضدي
أحيانا مع التأويلات التعسفية للنص والوعي الديني، وتعالقت بما يشبه
التبني لصرعات الحداثة وما بعدها، لتصل في محطة من أهم تأثراتها إلى ما
يسمى اليوم بتيار النسويين البيئويين Ecofeminism وهو اتجاه للتفكير
بصيغة جديدة مع " الأرض" ومتعلقاتها البيئوية، أو مثاقفتها بمعنى أدق،
إقرارا بالحقوق الإعتبارية لكل الكائنات حتى وإن انتفى شرط كينونتها
البشرية، فيما يشبه التحديث للعقيدة السامانية،
فالطبيعة شأن نسوي، بتصور كارين وارن، وهو ما يعني في قاموس النسوية
أنوثة الحياة.
ويبدو أن العالم آخذ في الإعتراف بالمطالب النسوية البيئوية، فبعد
إقرار ميثاق 1979عام لإزالة كافة أشكال التمييز ضد النساء CEDAW ، تم
التأكيد على جانب من أهمية الجهد النسوي لإنقاذ الأرض بحصول الناشطة في
شؤون البيئة الكينية وانجاري ماثاي على جائزة نوبل للعام الماضي 2004م.
وكانت قد أسست جمعية " الحزام الأخضر " وغالبيته من النساء، وقامت بزرع
ثلاثة ملايين شجرة في مختلف أنحاء أفريقيا في حملة ضد التصحر، وهو أمر
يحمل مرجعيات في الفكر الإنساني على مر التاريخ، حتى داخل الحركة
السريالية حيث تمت موضعة المرأة كحارس للطبيعة، بعد أن همشتها الثقافة
كقائدة في المجالات الممنوعة والمنسية للقوى الكامنة بالإنسان. فقد
تحدث بروتون عن " العلاج الأرضي عن طريق المرأة " وأشاد بدورها الذي تم
تغييبه وعرقلته وتضليله، وهو ما يعني بتحليل هربرت بيكر في بحثه "
الإيروتيكيا والسريالية " الدعوة لإعادة إخضاع العالم لنظام أمومي، ليس
بمعنى تغيير السلطة، ولكن عبر تأليف بين الذكوري والأنثوي، داخل كلية
بشرية.
وقد بدأت الايكوفمنزم كحركة إجتماعية معنية بقضايا اضطهاد المرأة
والطبيعة في آن، لتتحول إثر ذلك الربط الموضوعي والجمالي بين حركتين
حقوقيتين إلى حركة تحررية كبرى تتماهى بايقاعات الأرض، كما بات منظروها
أميل إلى استدماج وسائط الجنسانية بالحاضن الطبيعي كقيمة مهيمنة، بما
في ذلك حقوق الحيوان وهكذا تورط البيئويون النسويون في قضايا التمييز
العنصري والإجتماعي، حتى صارت الحركة تعني مناهضة كل ما يشي بالتفرقة
أو الإضطهاد العرقي أو الطبقي أو البيئي، وعليه تم تأوين ذلك المنطلق
الحقوقي من التفكير الفارط في النسوية، وترحيله إلى آفاق الثقافة والفن
واللغة والعلوم والدين.
إذا، الايكوفمينزم حركة لا تكتفي بالدعوة إلى التماهي مع الطبيعة،
بل تذهب، من الوجهة الحقوقية، إلى محاربة كل المؤشرات والمظاهر "
الأبوية " التي تستهدف الطبيعة والنساء على حد سواء، من خلال ربط "
الجندر " بكافة أشكال الإضطهاد، حسب رامازنوغلو، فالمشكلة بتصور روادها
لا تكمن في المركزية البشرية قبالة العامل الطبيعي، ولكنها في تماديات
السلطة الذكورية ومركزيتها، وعدم الإقرار بأهمية الإختلاف الجنسي،
وثنائية الكينونة لإحداث تلك المواءمة في الرؤية إلى الكون، وعليه تم
تجاوز فردانية الأنا الأيكولوجية Egofeminist والنسوية الأنالوجية إلى
حركية الايكوفمنزم، وهو اتجاه أصيل في الروح والتاريخ الإنساني يمكن
التقاط بعض مؤشراته عند أرسطو مثلا الذي فرق بنظرة تعادلية بين فظاظة
تطال الطبيعة وبين ما يجب أن يحصل في الطبيعة.
هكذا تم تأوين جملة من المعاني المتشظية واللامستقرة، فيما يبدو
استلهاما من جانب الدعاة الأيكولوجييين المعاصرين لمنزلة وقدسية الأرض،
بما هي الأم الكبرى، والرمز الروحي لكل ما هو نفعي وجمالي، فخرابها أو
احداث القطيعة معها انما يعني النكوث بكل ما هو إنساني ورباني،
والإنقلاب على تعاليم الأديان السماوية والمذاهب الوضعية على حد سواء،
خصوصا في البيئات والمجتمعات الضاربة في القدم، كما أوصى النبي محمد (
ص ) " تمسحوا بالأرض فإنها بكم برّة ". أو كما جاء في وصية بوذا " لا
تترك الأرض قاحلة فآباؤكم رأوها خصبة عند مجيئهم " فما تحبه المرأة
يحبه الله، حسب المأثور الفرنسي.
اللغة كينونة .. الشعر منبه حسي
" الكلمات شهقة الأرض .. كل امرأة لغة! "
ذلك التعالق بالأرضي، الذاهب بالأنا إلى حد التصوف الرومانسي،
والقائم على وعي حداثي بالطبيعة هو ما أعطى للذات فسحة التمثل، وللنص
الأدبي أيضا فرصة الإنكتاب بوعي مختلف وفي نطاق ايكولوجي مغاير، هو
بمثابة المطاوعة الدينامية لأنا تنصص احساسها بارتداد إلى الأصل، أي
إلى الطبيعة، ليس كحاضن أو كواقع مادي وحسب، بل كإيقاع ( يومي وفلكي )
وكشعور، وكحساسية جمالية بيوريتانية، سواء بمقاصد حقوقية أو بحس فطري
خارج ذلك الوعي المسيّس، على اعتبار أن كينونة الإنسان تقوم على
مزدوجتي التماس بالأرض، والتعبير عن ذلك الإنوجاد الإنساني باللغة،
وتحديدا بالشعري، وهذا ما يسميه ديمتري أفييرينوس بمراودات توق المجتمع
الثقافي الدائم للعودة إلى رحم الأرض، بما هي الأم الأولى، ومكمن
الإنبثاق وتخليق البنى الكونية، بمعنى أنها موضع تجدد الحياة
وانبعاثها.
هكذا يتأسس الوجود في أصله على سحرية الشعري، حيث اللغة هي الوجود
ذاته وليست مجرد أداة للتعبير عن ذلك الحيز، وعليه يصح هنا الإفتراض
الهايدغري القائل بأن الشعر تأسيس للكينونة عبر الكلام، بمعنى أن اللغة
هي الكينونة، التي بها ينكشف الوجود، وهنا يمكن التمثيل بقصيدة النثر
كمنتج حداثي وثيق الصلة بالايكوفمنزم بما هي فلسفة وكينونة، وعلى
اعتبار أن الفلسفة لا تقبل في مستواها إلا الشعر، وبالنظر إلى أن
الحداثة تعني الإنوجاد الواعي على خط الزمن، والتعبير عن حضور تلك
الكينونة بتنصيص الذات عبر موضوع يعمل من الوجهة النقدية بمثابة الوحدة
الدلالية، وعليه فإن اختيار المرأة للنثر ضرورة وليس اختيارا متأثرا
باللحظة، حسب جانيت تود، في كتابها " دفاعا عن التاريخ الأدبي النسوي "
فالنساء الواثقات بصورة متزايدة من وضعهن الأدبي يبدو لهن الأدب طريقا
لإدخال أعمالن في الثقافة باعتبارها حكايات مجازية وقصص أخلاقية وعوامل
نشطة سياسيا.
ذلك الأمر تلبيه قصيدة النثر، وفيه أو بموجبه تتفسر حيوية اللغة عند
المرأة كانعكاس للمكون البيئي إضافة إلى مجمل الأبعاد الرومانسية
والحقوقية والإجتماعية، على اعتبار أن اللغة هي الحاضن العضوي للإنسان،
فهذا هو ميثاق الأنا واللغة، القائم على الإنكتاب الذاتي واسباغ
دينامية التصور الروحاني على الفعل الإبداعي المتحقق في الحركية
الإنتاجية للذات، بمزيج هايدجري وبوذي وهلولدرني بالإضافة إلى خلائط
فلسفية وجمالية متباينة، تجعل من النص الشعري تجربة ظاهراتية للتعبير
عن الحقيقة.
يتجلى ذلك التمثل بشكل ظاهر وضمني في مختبر القصيدة النثرية
العربية، وبأصوات الشاعرات تحديدا، بغض النظر عن منسوب الشعرية في ذلك
النص، أو صراحة النوايا النسوية فيه، أو حتى وعي الذات الشاعرة
بارتكاباتها المفهومية، حيث يمكن الإقرار بوجود نص ايفكومينزمي، ولو في
طوره اللاواعي أو اللا قصدي ربما، عند مراكمة التشابهات النصية، بما هو
- أي التشابه - هو القانون العام لدلالة النقد الموضوعاتي، لأن الموضوع
يتحدد بحسب تكراره وثباته عبر متغيرات النص، فهكذا يمكن فهم تجربة ذلك
الوعي النسوي من خلال تحققها في النص الأدبي، مع الإحتراز من الشغف
بالتشابه ومن وفرة التعابير التعميمية، فهذا قد يؤدي إلى شيء من
التأويل المفرط أو الاستخدامي المباشر لملفوظات النص، كما يحذر منه
امبرتو ايكو، كما قد يتسبب في ترف تأويلي أشبه ما يكون بتقويل النصوص
وليس تأويلها، أو على الأقل طمس مدلولاتها، فالقصد هنا هو البحث عن "
حدس مركزي " كما يوصي دانييل برجيز لتأكيد شيء من دلالات النقد
الموضوعاتي بما هو موضوع تجربة ذات جوهر روحي، وليس مجرد معرفة.
هكذا يمكن تأمل الخبرات اللا لغوية الدافعة لأحاريك ذلك النص، فما
تقرره اللغة كمنتج ابداعي، يتأكد في الأصل داخل خطاب الحداثة حيث
سجالات الإستنساب البشري للطبيعة، بأشكال مختلفة كما في التشابه
الأيقوني بين الأعضاء البشرية والنباتات، الأنثوية على وجه الخصوص، إذ
يبدو بتصور بيفلاكوا أن ثمارا عديدة قد أعارت اسماءها للعضو التناسلي
الأنثوي وقد يكون ذلك بسبب التشابه الأيقوني بينها وبين الأعضاء
الأنثوية أو لصلات أعمق تتعلق باللاوعي، حتى في درامية الطقوس المقترنة
بالمعاني الفعلية والرمزية لخصوبة الأرض، حيث تتم المماثلة البنيوية ما
بين المرأة والنبتة من حيث دورة البذار والحمل، وتوحيد الخصوبتين
بمظاهر احتفالية وشعائرية، وكذلك بينها وبين الآلهة، فيما يدرجه التصور
الديني للأرض تحت عنوان " أنوثة الآلهة " كاستكمال لأنوثة الحياة فما
يحدث للمرأة ليس سوى تكرار لحالة الحبل الأولى للأرض، التي أصبحت وفق
أقانيم الحركات الروحية صورة مركزية وبؤرية للتجدد.
ولأن الشعر يعمل أحيانا بما يشبه المنبه الحسي، تشد النسوية - عبر
النص الشعري - كل ذلك السجال إلى أضابير تنظيراتها بحماسة نسوية لافتة،
ولو من خلال مفردات وثيقة الصلة بقاموس الايكوفمينزم ( الأرض والطبيعة
) التي يمكن تعاطيها من وجهة النظر الموضوعاتي كأيدلوجيا وليس مجرد
أعراض جانبية لخطاب، خصوصا في بعدها الرومانسي، كما يتبين من كثرة
الطرق على المعاني المتعددة للفصول والنهر والعشب والأزهار وهكذا، فهذا
الترنم بتجليات الطبيعة إنما يحدث لتفادي ما يسميه هايدجر بالمآل
العدمي الناتج عن صنمية التكنولجيا والميتافيزيقيا، باعتناق الأرض، فهي
كما يتصورها ديمتري افييرينوس، أبرز تجل لجملة من أنساق الظهورات
المقدسة: فالتربة والحجارة والأشجار والماء والظلال والنبات وسائر
المشاهد الطبيعية للعالم تؤلِّف فيما بينها وحدة كونية حية شاملة لا
تُحدُّ ولا تُنتهَك. والتراب، في دلالته الرمزية، يشير إلى هذا التفاعل
والإشتباك بين مظاهر الحياة هذه. أما الأرض فهي الأصل أو المنبع الخلاق
لكل تجل للوجود في حالته البكر.
تشجير النص
" الأشجار لا تخون "
بموجب هذا التماس الخفي كاستنساب للطبيعة تحضر مفردة الشجرة كأيقونة
ايكوفينزمية طالما اعتنقها البيئويون امتثالا لوصية بوذا " لا تنزع
الغصن من الثمرة فطوبى لليد التي تزرع وعار على التي تسيء " فهكذا تعبر
هدى حسين مثلا عن تلك الإشارة في " قبلة الحياة التي أهداها الإله
للشجرة " وفي مناجاتها لأبيها بأسى " لا نخل هنا لأهز جذوعه يا أبي،
فقط سيارات مارقة في الليل، كقطط عمياء ". أو كما تنكتب فيفيان صليوا
بنية التماثل الدلالي مع واحد من عناصر البيئية الأهم عن " شجرة تطالب
بالحرية " وتساجل في الطين الثالث من نصها " أطيان " على وثوقية نسوية
قصوى بالطبيعة من خلال التغني بعناصرها أو أحد مكوناتها المركزية "
الشجرة لا عقل لها، لكنها، تفهم أكثر ". وبحسرة تندب سوزان عليوان في "
شمس مؤقتة " العالم المتهدم بالوقوف " تحتَ شجرةٍ لوّثْنا رئتيها
بالسجائر " فهكذا تشاكل الشاعرة الشجرة بنائيا بما يشبه التوأمة
الروحية كما تتقنها نبيلة الزبير " لا أحد يعرف، ما الذي كانت تفعله،
هذه المرأة، قبل أن تصبح شجرة ".
هكذا تبدو الذوات النسوية الشاعرة على درجة من الإرتباط الضمني
والصريح بأنطولوجيا مشتركة تختصرها لمياء المقدم في عبارة شعرية جازمة
أشبه بالمسلك الإيماني " الأشجار لا تخون " بما يعني أن الشجرة ليست
مجرد وريقات خضراء بالنسبة للشاعرة بل هي المعادل الجامع للأنثى أو
المرأة، فجاكلين سلام مثلا تتحدث في نصها " خريف يذرف أوراق التوت " عن
فينيق ينبعث من رماده " يكلل أشجارا ثمارها نساء ". وتؤكد جمانة حداد
في نص " احتمال " على ممازجة الشجري بالأنثوي فيما يشبه التصديق على
اعتقاد موضوعي وحسي في آن " لتحتفي الشجرة بشهوة أنوثتها ". وهكذا
تتماهى بلقيس حميد حسن بالنخلة في نصها " في هذه البقعة من الأرض " فهي
الطالعة من نخلة، كما تقول تستنهض النخل المحروق " يا فسائلي انهضي،
جذوره تئن ".
وبالنسبة لسعدية مفرح تتعدى الكثافة الشجرية كونها تخضيرا مفرداتيا
للنص إلى مهمة ودلالة التمثل به في الحياة، كما في " غيابات مأهولة
بالموت " فالشجر، بتصورها " وحده يملك الإجابة الصحيحة، لكنه أيضا يملك
الدموع ، مثلنا ... لحسن الحظ ". وفي نص " لحن الحمامة المغوية " تتحدث
عن " شجر في غابة كثيفة، يرتوي من ظلام سحيق في الأرض، ويتشمس من سماء
سحيقة في علوها". وتبلغ أقصى دلالات التصور الايكوفمنيزمي في غيابها
التاسع " غياب أخضر " ليس بالمعنى الحقوقي، كما يبدو، ولكن كما تستشعره
الذات الأنثوية الشاعرة من خلال تعاطي البعد الشجري كشاهد:
أيتها الشجرة اليتيمة
تمعني بملامحي جيدا
امتصي عطر الشمس ونسغ الأرض
واحرسي فضاء الشارع القديم
أيتها الشاهدة الهرمة
تلك هي بعض المعاني المواربة للنص المكتوب بروح بيئية نسوية، لا
واعية ربما، أو غير مسيّسة، اتكاء على مفردات ذات دلالة أو إحالة
ضمنية، أما المباشر منها فيبدو قاموس الايكوفمينزم أكثر وضوحا لدرجة
التصريح ففي نصها " أليس لهذا الليل جسد أمسك به " تحشّد فرات أسبر
دلالات المعنى الأمومي للأرض، فيما يبدو مجاسدة أنثوية للطبيعة ممثلة
في الأرض وعناصرها المادية والروحية، كالفصول والنهار، والماء، والبحر،
فهي تؤنث كل متعلقات الوجود، تفجعا في الوعود الكاذبة بين الإنسان
والأرض، كما تشي سياقات النص، بما يشبه الرغبة في مماثلتها بحس الإنسان
البنيوي، المشدود للأصل والماكث في الأثر " ما الذي فعله العاشق بأنثاه
الأرض؟ " حتى تصل كعادة المرأة/الأنثى إلى ترتيل قدسية الطبيعة بمعنى
مجاور:
لا تكذبي أمنا الأرض
نحن أبناؤك المنشدون
في تراتيل الغياب
والمحن، ألف باب وباب
هي الأرض ...
إمرأة..
أضاعت صباها في الحفر
هيمانة تسأل البحر
عن طوفان قريب
كذلك يمكن ملاحظة ما تعبر عنه آمال موسى المتدلية في نص " نجمة
القيامة " كثريا على الأرض، والمحمومة بعلاقة التماهي مع كل ما هو أرضي
في " ساعة الجنون " فيما يشبه الفكرنة الجمالية لتلك العلاقة الغامضة،
المصرّح بها عبر نص يقوم على تلفيظ تلك المنطقة الغائمة، تأكيدا على
العلاقة التبادلية بين الذات وموضوعها:
بيني وبين الطبيعة مسافة
أقطعها خلفا إلى الوراء
ناطقة
منشئة عالمي
على كل الأطلال
أطلق فوضاي ساعة الجنون
لترتب بيت العالم
منفستو نسوي بيئوي
" تنحوا كي تعبر النساء "
ذلك لا يعني أن هنالك لغة خاصة بالذكر وأخرى منذورة للأنثى للإحساس
بالوجود، فلغة المرأة هي لغة الرجل، وهي فعل توحيد بشري، والتاريخ
الأدبي يكتظ بشعراء تغنوا بالطبيعة وعاشوها كجان كوكتو مثلا، الذي أعلن
ولاءه ومديونيته للطبيعة، بقوله " أريد أن أُحِبّ كحيوان.. وأن أُحَبّ
كشجرة ". ولكن هذا الإختراع الإنساني - أي اللغة - يقبل التعديل
والتعدد وفق تباين النبرات وانطلاقا من زاوية الرؤية حتى يصبح فلسفة أو
معتقدا، وعليه فهي هنا محل تساؤل عند تأمل زاوية التحاور مع الوجود،
فالمرأة لا تجد فرقا في الأصل بينها وبين الطبيعة واللغة والفن، على
اعتبار أن " الأرض " ضمن الاعتقادات النسوية هي شأن أنثوي، يتأكد
بموجبها قدسية ثلاثة أقانيم أزلية هي " المرأة - الفن - الطبيعة " وعلى
ذلك الاعتقاد يحاك نصها بما يشبه " القضية " كعنصر مهيمن، وهو ما يفسر
روح لغتها الشعائرية المبثوثة على الدوام في نبرة رثائية وتبتلية،
فنبيلة الزبير مثلا في نص " كبرياء " الذي لا يخلو عنوانه من دلالة
الإعتداد الأنثوي، تترنم بما يشبه الدعاء:
أنبس الأرضَ
أيها الربّ … تعال..!!
أصغر اللاشيء
أكبر.
*
كلمتني الأرضُ
أتعالى..!
*
أيها الـ.. ما.. رد :
إني الكلمة.
هذا التماثل البنيوي الذي تحاول المرأة تنصيصه، هو ما يسميه هايدجر
في قراءته لأصل العمل الفني، التصميم الشعري للحقيقة، بمعناه الموضوعي
وفي تعادله بالرومانسي أيضا، ففي مثل هذه النصوص يتماهي الأنثوي
بالكلمة داخل النسق البيئي، بقصدية وفطرية أصيلة، ويمكن التمثيل لذلك
مثلا بنص " الحبر أقل من " الذي تؤكد فيه فوزية السندي " أن الشعر كما
النهر، مبتلى باندفاع حروف عنيدة ". كما تعضّد ذات المعنى البيئي عبر
اللغوي في تقابلات درامية:
دامت الورقة: وريثة الشجرة
دام الحبر: دم البحر
آه الكلمات: شهقة الأرض
وبنفس الروح تكتب فوزية أبو خالد نصها " قصيدة الماء " لتؤكد على
اقتران الكلمة بالكينونة، ولتقترب أكثر من الكيفية التي تأخذ بها اللغة
الشكل الفوري والطازج للأنوثة الممتزجة بالطبيعة:
غمست أصابعها في الصحراء
وكتبت بماء السراب قصيدة .. تقطر
تقطر
تقطر
إيقاعاً لا يمس بالحواس
أما في قصيدة حمدة خميس " تنحوا كي تعبر النساء " التي تعتبر بيانا
ايكوفمينزميا بامتياز بدءا من العنوان، فتبدو المماهاة عبر تداعيات
أوسع وأشمل، أي بالكتابة والكلام والقصيدة والحكايا واللغة، وكل
تداعيات التعبير البشري، حيث الدعوة إلى إبدال النقش بالنقش والحناء
بالحبر:
انهضن ..انهضن
يا نساء الخليقة وصفوة الكائنات
انهضن إلى البياض
دورن رغيف القصائد
اشعلن قناديل الحكايا
احبكن الكلام الذي يشف كجوهرة
ويجرح كالنصال
اعبرن نهر الكتابة إلى ضفة الوجود
كل جسد كون .. كل قصيدة أنثى
كل امرأة لغة!
هذه القصيدة تحديدا هي الأفصح في التعبير عن الوعي النسوي بالطبيعة،
فهي تكتظ بالكثير من دعاوى وشعارات وأفكار الايكوفمنيزم بدءا من
عنوانها الموحي، ومرورا بمضامينها الحقوقية، وحتى كثافة أفعال الأمر
التي تأخذ النص إلى البيانية، فيما يشبه الإعلان عن منفستو نسوي بيئوي،
سواء بتلفيظ مفردة الأرض والطبيعة واستلحاقاتهما البيئية أو بالتضمينات
الكثيفة داخل المعنى، فالنص هنا كما يفترض النقد الموضوعاتي ينبيء عن
فعل الوعي أو ما يسميه باشلار بالأنا المفكر الحالم:
ايه..
يا قصائد الرسل
وكتاب الطبيعة
لكن أسس الرجال ممالك الهوى
وأسسوا من مجدكن أقانيم الغزل
انسكبن على البياض
أصلحن تربة السماء
واعصفن بتربة الأرض
ماء الطمأنينة في أرواحكن
إذ يهطل
ابذرن أفكارا جديدة طازجة
أفكارا لا تشبه الأفكار
ولغة لا تشبه اللغة
ويمكن القول أيضا أن مجموعة سعاد الكواري " ملكة الجبال " هو نص
بيئي بامتياز، ويأتي ليستكمل روح مجموعتها " وريثة الصحراء " لا لكثافة
مفردات " الطبيعة " فيه وحسب، ولكن لما يختزنه من روح بيئوية فائضة
تجهد لمجاسدة الطبيعة ومماهاة كل استظهاراتها بحواس وشعور الأنثى، فيما
تبدو كتابة عضوية شديدة التماس بالحسي، وإن لم يتأسس على النبرة
الحقوقية، وشعارات النسوية الصاخبة، بقدر اتكائه على رومانسية الإحساس
بالمكوّن البيئي، وعبر " أنا " تحضر النص كذات تعلن مديونيتها الجمالية
للأرض فهي " بنت الطبيعة ":
آه
كم أتمنى أن أتوسل وسط سفوح البراري القرمزية
أحوم حول جبل ضخم
بيدي شعلة الصباح
على جسدي معطف السنابل
ليتني أداعب الأمواج المضطربة بأناملي
ليتني أفترش العشب
التحف الغيوم
بنت الطبيعة
خرجت من نتوءة مجهولة
نشأت بين أحضان ظبية وحشية
صادقت أسراب الطيور
قطيع الظباء
أتمنى أيضا لو أدخل قوقعة الفصول
أغلق كل الأبواب والنوافذ
وحدها الريح الفوضوية
تأخذني معها بقوة غير إرادية
لأهيم عشقا
وحشية الحكم الأبوي وسلام الأنوثة
" الأرض مقوسة .. ووراءها .. أرواحنا تتحدّب "
هذا هو تماما ما تطالب به لوس اريغاري، كممثلة لثنائية الكينونة، أي
برؤية كوزمولوجية للطبيعة بوصفها أرضا خصبة مانحة للحياة، ووفق ذلك
التماس النسوي البيئوي المنفتح تنادي برؤية أداتية للطبيعة أيضا بوصفها
مادة بهيمية عمياء يتعين فتحها وتجاوزها من قبل الذات البشرية وتشكيلها
وفقا للإرادة البشرية، لأن المنطق العنيف للواحد - الذكوري - يؤدي إلى
توطيد الحكم الأبوي وكبت الإختلاف الجنسي، بما يؤكد التمادي التاريخي
في تنصل الذات البشرية من مديونيتها للطبيعة وفقدان احترامها للطبيعة
ذاتها، وربما لهذا السبب تصرخ حمدة خميس " تنحوا كي تعبرالنساء ":
تعبت هذه الأرض
تعب الناس والنبات
الماء والكائنات
تعبت البيوت من الخراب
تعبت الشوارع من ضجة الرصاص
تعب الرجال من الرجال
تعب الناس من الكهوف
تعبوا من وحشة الدم
من اللغط الكثيف
آن أن ينهض سلام الأنوثة في أرواحهم
آن أن يرتبوا فوضاهم
أن يحفظوا الأرض من فدائح الهتك!
ذلك التناول الفردي لكل تجربة لا يلغي التشابهات، فاللا وعي الأنثوي
الفردي مستبطن داخل اللا وعي النسوي الجمعي، ومهما كانت تشعبات النص
ثمة قواسم مشتركة بين النصوص، وإن لم يؤكد ذلك التأويل مسلمة وحيدة
إنما جملة من التنويعات على الإعتقاد الايكوفمنيزمي، فكلما تعددت
معايير القياس الفنية والموضوعية تأكدت تلك الثيمة ضمن بانوراما نصية
هي بمثابة الوثيقة التدليلية، فهكذا تتماهى المرأة بالطبيعة، وتصادق
العناصر، بتعبير وفاء العمراني حيث تحايث مادية العالم بعلاقة تخييلية
لتلك العناصر، لترد على خراب مبيت ضدهما، أي الطبيعة والمرأة، من خلال
ما يسمى بالأنا المعاصر، الموروط بفكر على درجة من الصلة والوعي بكل ما
هو خارج ذاته.
وهكذا يعمل النص كوسيط بين الذات وموضوعها، بحيث يتضاءل الواقع
المادي لصالح الوظيفة، فما يصدر عن الذات الشاعرة ليس محلا للوعي أو
الفكرة وحسب بل للنص أيضا فيما يبدو تأسيسا لعلاقة سببية، وهو ما تعبر
عنه منى لطيف غطاس بنظرة كونية، يراها باشلار بمثابة المبدأ، وهو ما
يتوضح عندها من خلال ايمانها الفعلي بضرورة تواجد المرأة في كل أمر يخص
البشرية إنقاذا لمكوناتها وروحها، ولمنع تفريغ الكون من جوهرانيته،
وذلك في نصها المعبأ بأفكار ايكومينزمية صريحة:
" المرأة أرض الأرض إمرأة
قالها كتاب كثيرون
وأنا أيضا
بشر ميالون للشر يجرحون
الأرض يجرحون المرأة
قالتها قصائد كثيرة
وقصائدي أيضا
لكن النساء الجريحات يشفين
والأرض أيضا "
إذا، لا فرق بين اضطهاد المرأة وتخريب الطبيعة، فذات القائل
بالتطابق بين المرأة والطبيعة تؤكده عائشة أرناؤوط في " حنين العناصر "
إذا ما تم النظر إلى منتجها الأدبي كتجربة روحية عاكسة بأمانة لوعيها
كمبدعه، حيث يتبدى ذلك أيضا في نص " اليباب " تحديد، في نبرة الأسى
والتفجع:
الحقول تفحمت بكاملها
وما زلت
تحلم
باقتلاع أعشاب ضارة
ونفس المعنى تطاله ورود الموسوي في نص " عطش يبللها وماء لا يصل "
بعبارة مثقلة بالتأسي توازي فيها بين الشكل والمعنى " رمادي هذا العشب،
رغم اخضراره " فيما يذكر بتصور باشلار حول الصورة الأدبية التي تعيش
لحظة الولادة، حيث الإبقاء على الحركة الروحية داخل تلك الصورة، وكذلك
بلقيس حميد حسن في نصها " في هذه البقعة من الأرض:
أتتذكرُ؟
عند البحر
انتحرت الحيتان
معا انتفضنا
ومعا دُهشنا
الطبيعة تبدلت
والمياه أخرى
نمضي..
من هذا المنطلق المنفتح على المكوّن البيئي ترى فيلسوفة
الايكوفمنيزم كارين وارن رسالتها وسط الناس، وتعتبر نفسها فيلسوفة
الشارع - بتعبيرها - على اعتبار أن الفلسفة شأن انساني، تماما كما تعنى
أريل صالح بمن تسميهم بعمالة ما بعد التصنيعي، وتعني بهم ربات البيوت،
والقرويين، والبدائيين من البشر، الذين تم سلخهم من حاضنهم البيئي
وسرقت ألسنتهم، تأكيدا لسياسوية النزعة الأصيلة في الايكوفمنيزم، وعليه
يمكن امتصاص بعض ذلك الإعتقاد نصاً في التبسيط البيئي الذي تقدمه سوزان
عليوان في نصها " شمس مؤقتة ":
هذا الدمعُ المنسكبُ في ترابٍ
غيرُ قادرٍ على إعادةِ الروحِ لخلايا الكلوروفيل الميّتةِ في أوراقٍ
لم تنجُ من حريقٍ أشعلناهُ
بأعقابِ السجائر
بغروبٍ تركناهُ وحيدًا وراءَنا
دونَ قصدٍ
دونَ درايةٍ بما يعنيهِ الجحيمُ آنذاك
.و لم تغفرْهُ لنا الغابةُ-الأمُّ
و إلاّ بماذا تفسّرونَ تعثُّرَنا
بجذورٍ قاتمةٍ
و ظلالٍ تتمايلُ
كلّما خطوْنا؟
بتلك المجازية الرهيفة يؤكد النسويون البيئويون على إدانتهم للفعل
السياسي في انحيازه عن شرط الوجود الإنساني إلى مفاعيل السيطرة، كما
يمارسها الرجال بكل احتيالات السلطة، وعليه يتم تحدي تلك المظاهر
وقيودها الإلحاقية حتى لو بدت في مظاهر ليبرالية، على اعتبار أن الأرض
واحدة من الجواهر التي ينبغي إعادة موضعتها في الوجود، كما تميل الرؤى
الموضوعية للفلسفة الظاهراتية، وهي جامع النص الأنثوي، كما تراه فيفيان
صليوا في الطين الخامس من أطيانها:
الأرض مقوسة
ووراءها
أرواحنا تتحدّب
فاشية ايكولوجية
" أشباح تقنية تقضّ مضاجعنا "
هكذا يأتي النص ببذخه كرد بيئي، إذ ترتله سعاد الكواري بما يشبه
الولع في نص " موت بطيء " لتحايث به كهولة الزمن، حيث تحكي عن المرأة
التي تهبط على رخام الهذيان .. وتذوب على مفاتن الطبيعة، فيما يشبه
التأمل الهايدجري لكل ما هو أرضي، والذي لا يقيم مسافة بين الأنا
والأشياء، كما يتجلى ذلك بشكل أوضح في نص " بنت الطبيعة " الذي تصوغه
بنبرة هولدرنية، حيث الإحساس لا ينفصل عن حلم اليقظة بتصور باشلار:
مغرمة
مغرمة جدا بقيعان البحار
بالأسماك الغريبة التي تتحرك ببطء شديد
بالأعشاب اللزجة
بالكائنات المختلفة
بأسرار الكون
بمفاتيح الخلاص
مغرمة جدا بأسرار الطبيعة
ويتأكد هذا الولع أيضا عند هدى حسين عندما تحدثت عن " موت العاشقة "
التي اكتسب وقوفها أمام البحر معنى آخر، ولم تستطع أن تستعيد العلاقة
ذاتها بالشجر والحيوانات، فيما يبدو استعمالا متماديا للاستعارة،
كإدراك حسي على درجة من الإصرار لاقامة علاقة ما بين المادي والشعوري
فيما يشبه الماهية المؤكدة أصلا على لا مادية الوعي، وقد تأكد ذلك أيضا
في نصها " فيروز " بما يشبه الدعاء:
لنا ثديا الطبيعة باقتسام
ولله محبتنا
ولغير ذلك أن يحترق
يحدث هذا الانتباه حتى لا تتم التضحية بالخصوبة الطبيعية، فأزمة
العصر الحديث، كما تتمثل في الحروب والمجاعة، والتدمير هي المصير
التاريخي المنطقي لكافة المجتمعات التكنوقراطية القربانية التي أنشأها
وأدارها الرجال لوحدهم، فيما يعتبره مالينوفسكي هزيمة كبرى للنظام
الأمومي حيث آل الأمر إلى أبوية محكومة بحتمية انثربولوجية تعتبر
المرأة نموذجها في الإنتقال من الممانعة إلى الإمتثال، بعد استئصال
نظام مقاومتها ومناعتها.
يؤكد ذلك التفرد المتوحش حنا عبود، فالنظام البطرياركي، بتصوره، عتا
عتوا شديدا في القرن السابع عشر وما بعده، وعلى الأخص اثناء الثورة
الصناعية في القرن الثامن عشر، وربما لهذا السبب تصرخ سعاد الكواري
بانفعال لفظي " حداثيون رغم أنف الطبيعة " وترفع آمال موسى
نصها/بداوتها في وجه المدنية " أنام تحت ظلي ، ألبس بداوتي نكاية في
المدن ". وأيضا تتوسل سوزان عليوان في " مخبأ الملائكة " أمان البراءة
البيئية كما تتمثلها وردة في شارع " ابحث عن وردةٍ صغيرةٍ في الإسفلت
".
وذلك لا يعني بتصور حنا عبود أن نية البطريركية كانت حسنة الطوية
تجاه الطبيعة قبل ذلك التاريخ، بل لأن وسائل تدمير الطبيعة باتت متاحة
له في ذلك الزمن وليس قبله وإلا لما قصر، فاضطهاد المرأة والطبيعة شيء
واحد، وعليه لا يمكن تحرير احدهما دون الآخر، ولعل في هذا ما يفسر آلية
الطرد الحداثي للمرأة من القصيدة، باعتبارها واحدة من قرائن قدسية
المرأة، وبالتالي فإن تجريدها من قدسيتها جنبا إلى جنب مع تدمير
الطبيعة والفن هي الانعكاس الطبيعي لمعركة أبدية بين المقدس والمدنس،
الأول يريد الإحتفاظ بقدسيته والثاني يحاربه دون هواده، رغم أن بعض
النزعات النسوية تميل إلى التماهي بالحداثي وما بعده.
ذلك التوحش ضد الطبيعة هو ما يسميه مايكل تسيمرمن " فاشية أيكولوجية
" تراه كارول آدمز حالة من التطبّع والروحنة المجانية مع ذلك الفعل
القرباني التدميري للطبيعة، وهذا التفكير البيئوي النسوي ليس جديدا على
الفكر الإنساني، فمحاولة الفهم التاريخي للطبيعة مسألة متجذرة في الوعي
الإنساني، وقد جادل مارتن هايدغر ذلك المنحى التدميري للطبيعة تحت ما
سمّاه الفهم التكنولوجي للوجود الطبيعي، حيث يحيل " الإنسان التكنولوجي
" كل مظاهر الحياة إلى مصنّعات بدءا من الشجرة التي تتحول إلى قطعة
أثاث تختصر زهرة يسري مفارقات عذاباته بتهكم في نصها " لأنهم هكذا " في
تأسيها المضاعف على الهامشيين والمقهورين:
يجب أن يكونوا هكذا
يقطعون الأشجار في الغابات
لأثاث لا يحلمون بلمسه
يجرونها بعضلات غير مرفهة
أشجار البلوط والسنديان
مرصوصة في أكواخهم بحجمها الطبيعي
هكذا يتقاطع النص الشعري مع ما يجادله هايدجر من تفسيرات فلسفية
للتكنولوجيا، بما هي " ديانة العصر " وبما هي طاقة مرهقة للطبيعة
ومفتاح العدمية، أو كما يربطها ماركس بالإستلاب والتشيؤ، باعتبارها
واحدة من أصنام العالم الحديث، حيث استغلال الطبيعة واجتياحها بلا حدود
ولا ضوابط، نتيجة الحروب وغلواء الفهم التكنولوجي، وهو ما يؤدي إلى
خسران الإرتباط بالأرض، وذلك ما تسميه أريغاري صنمية السلعة المؤدية
بالضرورة للتضحية بالخصوبة الطبيعية، أو هو " الكابوس الأيكولوجي "
بتعبير تسيمرمن، حيث رأى في المذهب البيئوي حالة من الفضح أو النقد
للتاريخ الغربي بوصفه سلسلة من التحايلات المستترة للسلطة، وهو الأمر
الذي تعبر عنه بلقيس محمد حميد حسن بنصها " في هذه البقعة من الأرض " :
ألقوة تمد ُ مخالبها
تسحب من تحتـنا الأرض
أشباح تقنية ٍ تقضّ مضاجعنا
وتقولب الأطفال
إقامة شعرية في النطاق الايكولوجي
" سرير من عشب "
وللعودة إلى حضن الطبيعة، أو الاستنساب لها بمعنى أدق، يقترح هايدغر
تفعيل البنية الذهنية لتلك العلاقة، وتعزيز نمط " الكينونة " بما هي
انعتاق نحو الشيء، واستدامه واعية لقيمته الجوهرية، وبالتالي فهي
انقلاب قصدي على الفهم الإستلابي للتكنولوجيا، وتفكيكا عمليا للنزعة
الأفلاطونية والميتافيزيقية لكل الاعتبارات الأخلاقية للطبيعة، كمماهاة
لإمكانية أخلاقية قوامها جمال الجسد البشري، وصولا إلى ما يعتبره "
إقامة " في النطاق الأيكولوجي للشيء، إحتراما أو إيقاظا لطاقته
الهاجعة، بحيث تتم المواءمة بين موقف الكائن الذهني من الشيء وسلوكه
الجسماني، وهو الأمر الذي يتطلب مثاقفة الطبيعة بوعي ايكولوجي رفيع،
وبذات حميمية ومغالية قي تقديرها الحسي لمتعلقات الأرض.
وهذا ما نجده عند زهرة يسري في نصها " الله يحب البرد " فيما يشبه
الرومنطيقية الصوفية " وربما أتمنى أن أقضي بقية عمري على أرجوحة بين
شجرتين، لأرسل به أن عربات المدينة علمته الإنحناء أكثر مما ينبغي ".
وأيضا في رهافة التعبير الذي تتوسله سوزان عليوان لهيكلين عظميين
ممددين " كما لو أنَّ الترابَ سريرٌ من عشبٍ ". وكذلك في نص بهية
مارديني " بلاحدود " المؤكد على أهمية الخيال كحامل ومفعل للوظائف
النفسية:
أشتهي أن أركض
فوق الأفق الممتد
غطائي الأرض
بساطي السماء
لأفهم عالما
يرعش بالألم
وقد استعارت النسوية بعض ذلك التفسير الهايدغري تحت ما سمته روزماري
روثر " النزعة البيئية الأخلاقية " كما استعانت به في دعوته إلى تشعيب
الكينونة وبالتالي إلى ازالة كل آثار الإختلاف الجنسي، حيث بدت من وجهة
نظر ريتاؤد توين مساءلة للكينونة الثنائية، كما أبدت اريغاري احتجاجها
على قمع الطبيعة من قبل الذات المونولوجية واستغلال النساء، وهو ما
يتوافق مع دعوة تسيمرمن لتكوين مجتمع أكثر تبعّضا، وذلك تعميقا لرؤية
أصيلة من رؤى النسويين البيئويين المبشّرة بالتنوع الحيوي، حسب مطالبات
فاندانا شيفا مثلا، حيث احترام المؤنث، أو الإقرار بوجود جنوستين بدل
التضحية بالأنثوي كقربان، بما يعني التأكيد على المنزلة الأونطولوجية
للاختلاف الجنسي، كواحدة من أهم القضايا المركزية التي تواجه النظرية
النسوية، كما تختصر ذلك هدى حسين في نشيدها الملغوز:
كل اللغات تؤنث الطبيعة
مع ذلك بقيت
أنوثة الطبيعة توجد كائناً
وذكورتها تحدد ماهيته.
كل اللغات تذكر الإنسان
ذلك الذي
يا للغرابة
أوجدها.
هذه الروح التعادلية أصيلة في النسوية ، ففي العهود الغابرة حسب ذلك
التصور كانت المرأة مقدسة بما هي أصل لكل ما هو خير، والانثربولوجيون
يؤكدون ان عهدها عهد سلم ورخاء، لدرجة أن روزلاند مايلز تميل في كتابها
" تاريخ النساء في العالم " إلى رفاهية ونقاء المجتمعات الأمومية، على
اعتبار أن المرأة كانت هي العاصم البشري من الإندثار، وبالنظر إلى
علاقتها الإستثنائية والحميمة بالطبيعة، وهذا المعنى يتأكد مثلا في نص
حمدة خميس " تنحوا كي تعبر النساء " كتعبير عما تسميه الاكوفمينزم "
التنوع الحيوي ":
انهضن .. انهضن
خذن الرجال إلى حكمة الأنثى
فقد عظمت رزاياهم
خذن الرجال والحكمة
إلى فيء الأنوثة المطمئن
خذن الأرض إلى رحاب الهدوء
خذن السلام .. إلى السلام
أكذوبة الأجساد المجنسة ونص الإنسان الطبيعي
" أقنعة الوردة .. رومانسية باهتة "
لكن نيتشة الساخر مما يسميه النسوية الرجعية، وفي مجادلته لمفهوم "
الحياة الأنثوية " تحديدا استشعر - كفنان - شيئا من الكراهية للطبيعة
نتيجة اشمئزازه من بعض وظائف المرأة المتقلبة، أو ما يعرف بالطبيعة
الإجتماعية الملونة للنساء، حيث تبدى هذا الربط بمثابة ورطة جدلية حول
مفهوم " الإنسان الطبيعي " فالرجال بتصوره هم الذين اخترعوا فكرة
القبلي والعلوي من الماهيات وأدخلوا كل ذلك بنظام علاقات، هو الذي واشج
بشكل اختزالي، أو مظهري، ما بين المرأة والطبيعة، فالذكوري لا يتعامل
مع المرأة كنوع، أو وفق شرط الوجود الانساني، بل كآخر، وبالتالي فهو
سلطة فارزة، وهو أمر يعاضده ليفيناس بتطرف على اعتبار أن الرجل هو سابق
وعام، قبل انقسام الإنسان/الرجل على الإنسان، أو ما يسميه البقعة
العمياء.
وهذا الانحياز عن الماهية، أو ما يسميه انخداعا بضحالة المظهر على
حساب جوهرانية العلاقة، فيما يبدو دعوة سجالية لإعادة اكتشاف نص "
الإنسان الطبيعي " أو براءة الطبيعة بما هي نص قابل للتأويل الذي يحفظ
للإنسان دراما الإقامة في متعلقاته الأيكولوجية، وليس بدعاوى الجنسانية
المتعسفة في تأويل الكينونة، أو المبالغة في التجسد الجنسي الأنثوي،
فالنساء يرتبطن بالطبيعة بعلاقة أكثر اختلافا من علاقة الرجال بها، كما
تؤكد نيكول فرمون، ولكن النسوية تبالغ في اعتبارهن حاميات العالم
الطبيعي.
ذلك ما تسميه أريغاري " الأجساد المجنّسة " أي تلك المنسية في
خطابات الفلسفة والعلم واللسانيات والسياسة، والتي لا تكف عن إعلان
جنوستها، والإعلاء من شأنها، وعليه تمت مجادلة أدوار الجنوسة من خلال
علاقتها المباشرة بالطبيعة، حسب مفهوم الايكوفمينزم، الداعي إلى مثاقفة
المرأة بالطبيعة، فالمتخيل هنا ليس مجرد مماهاة لغوية كبديل جسدي يفصح
عن بنية زمانية في حالة حمل دائم ، بل هو في مجازات الحواس المتحاورة
مع نعومة ومسامية الجسد الأنثوي بكل تخومه الداخلية والخارجية، كما
تعبر عنه هدى حسين بمتخيل مجازي في " أقنعة الوردة " :
بعيدا عن السباق
أستطيع أن أرسم وردة في كراستي
دون جزع من أن يسخروا
أو يعتبروها رومانسية باهتة..
لماذا لا يحبون الرومانسية؟
ولا يرجعون إلى تاريخ النساء
اللاتي كن يلوحن بمناديلهن
الصفراء الزرقاء
لفرسانهم في حلبة السباق
وإلى وردة كان إلقاؤها وحده يكفي
لأن يدفع خيولهم للفوز
هكذا تتكرر المحاولات النسوية لوعي الكينونة، بحس رومانسي كواحد من
مداخل التعادل الجنساني، فالإعتراف بالآخر، بتصور لوس اريغاري، يتطلب
اشارة حب مسبقة نحو الذات، وعليه يفترض وجود امرأة تكون حرة يمكنها أن
تتحدث وتفكر وتستعمل هذه الحرية، أي يفترض وجود امرأة في سيرورة التحول
إلى " كينونة ". وهذا ما تحاوله نجاة علي في نصها الإشاري " الجنرال "
حيث مساءلة الأبوة والذكورة على محك كينونة أنثوية تعادلية:
الأمور كانت
ستسير بشكل جيد
لولا وقاحة هؤلاء
الرجال
الذين خرّبوا الإيقاع ،
أعرف أنه
- كشاعر نبيل -
سوف تثيره الضجة
ينزوي في ركن
ليتأمّل
كلّ الذين أهملهم الربُّ
- طويلا -
ليس أمامهم إذن
سوى أن يخبئوا
خيباتهم
بين أدراج مظلمة.
أظنه - أيضا -
سيغادر الحفل
بعد عشر دقائق
- على الأكثر -
مع أن الحفل مليء
بملائكة من النساء
أليس بإمكان واحدة
منهن
- بقليل من السحر -
أن تطرد تلك التجاعيد
عن روحه
امرأة ..
" تؤرخ للأشجار " وترفض " العيش بين أكلة اللحم "
ومن نفس المكمن الأنثوي تطلق الشاعرة دائما تحذيراتها من طلاق مبيت
بين الطبيعة والروح، على اعتبار أن الروح هي الوحدة الجوهرية الكفيلة
بإحداث التصالح بين التفرد والشمولية، كما يبدو ذلك في التماهي
الإيقاعي - الفلكي واليومي - الذي تتحسه آمال موسى مع الطبيعة في نص "
وردة الخريف " حيث الأنثى الحبلى بنهر مسجور، المتفتحة في الخريف
كوردة، وكذلك في نص " كاهنة الجنون ":
أنثى الجنون أنا
ألبس تعقلي
أتراجع إلى الأمام
لأهجم
على كل جميل
ذات الجنون أنا
ولدت لأشفى
إلى الأرض رزقت
حبلى!
لي شروق الشمس
ضياء القمر
إذا، أي شكل من أشكال الجنوسة يحرم النساء من ذلك التفرد والشمولية،
ويحيلهن ببداهة إلى كائنات لا روحانية محبوسة ضمن عالم الطبيعة ومحرومة
من الدخول إلى العالم الروحي للثقافة، وبموجب هذه المفارقة بالغ تيار
النسوية البيئوية في الدفاع عن كونية الإختلاف الجنسي، أو كما تقول
اليزابيث غروس بأنه هو المكان الذي يذهب اليه المرء ليبقى على قيد
الحياة متخيلا لم يأسره النظام الرمزي.
وبموجب ذلك التمادي لا ينبغي نكران حالة التماهي بين الجسد
والطبيعة، أو هذا ما يؤكد عليه الايكوفمينزم، فقهر الجسد يعني أو ينعكس
بشكل مباشر على كل متعلقات النطاق الايكولوجي، بما يعني الحاجة إلى
علاقة معافاة من الإرتباك مع الأرض، بحيث تكون الطبيعة وليس الانسان في
مركز الرؤية، حيث ارتأت اللاهوتية والناشطة البيئوية صاحبة " العيش بين
أكلة اللحم " كارول آدمز علاقة وطيدة لدرجة التمازج بين المرأة
والحيوان، وأبانت بمنتهى الحماس شكل الوعي السياسي والثقافي والحقوقي
للكائن المحكوم بزاوية رؤيته للحيوانات، فيما يبدو تأكيدا نسويا لكتاب
بيتر سنغر " تحرير الحيوان " يتعزز مقابله الشعري عند سوزان عليوان
المغرمة بالأسماك والطيور بروح طفولية وببراءة الكائن، كما في نصها "
دموع الأسماك ":
يضعُ أذنَهُ على صَدَفَةِ قلبِها
ليصغيَ
إلى البحر.
بعينيْن مغمضتيْنِ
يراها
طفلةً ترسمُ بدمعاتِها الدوائرَ في ماءِ روحِهِ
و تسألُ:
"هل تبكي الأسماكُ
مثلَنا
في الأعماقِ
حينَ تكونُ وحيدةً و حزينةً؟".
هكذا تحضر الروح الأنثوية المسالمة القائلة بضرورة أن يحب المرء كل
ما يدب على وجه الأرض، كما تتمثل في شعارات بوذا " اتركوا الحياة لمن
هو في الحياة " كما تعتقد ذلك هدى حسين، الشغوفة بأن " تؤرخ للأشجار "
في نصها " قطعة حلوى " :
وربي الموجود في كل مكان
موجود بالضرورة في باطن الأرض
سأطعمه بذرة وأسقيه ماء
فيهديني زهرة جميلة مقابل ذلك ..
عندئذ
سأكون قريبة منه لأسأله
لماذا لم يخلقني طيرا
فلا أدوس عليه بينما أمشي؟
تتأكد هذه الوداعة الأنثوية أيضا في نص " موت العاشقة " هنالك
كامتثال أو تماثل مع نصيحة بوذا " كونوا ودعاء مع البهائم فالله الذي
خلقها يحب أن نحسن اليها ولم يحرمها من بعض ما وهبنا " :
كانت تريد أن تحيا ولو لثلاثة أيام
على قطف الثمار في جزيرة..
لم تكن لتقتل الحيوانات أصدقاءها
وفي نصها " مدخل " تواصل شاعرة الحشرات كما هجاها أحد النقاد، إعلان
صداقتها للكائنات، فيما يبدو تأثيثا لعزلة الكائن ووحشة المكان
بالكائنات مهما كانت درجتها سلفوية في سلم المخلوقات كالحشرات المنهي
عن احتقارها:
الطعام في الثلاجة..
اترك بعض فتاته لأصدقائنا الحشرات
واترك محبس الغاز مفتوحا
لتجد العفاريت طعاما يناسب طبيعتها
لن تصاب بالوحدة لو اعترف بك المكان
هذا ما يفترضه النقد الموضوعاتي في تقصيه للحدس المركزي، فبتأمل
باطن شخصية زهرة يسري، من حيث اصرارها على تذليل كل العناصر الفنية
والخبرات الحياتية لبؤرة العمل الفني، يمكن التقاط شكل الوعي عندها من
حيث قدرتها على وعي ذاتها وإنتاج تجربة توّلد معنى مليء بالدلالات
الإيكوفمنيزمية بالضرورة، التي تنطلق من كائنات هامشية بلا كينونة إلى
إدانة صريحة لما تمارسه الذات البشرية، كما في نصها " كيف حالك اليوم
":
هل ستأكلين اليوم الطماطم المحشوة باللحم
ليس من السهل أن تكون نباتيا
وليس من السهل أن تكون حيوانيا
هل تعلم أنك عندما تقتل ذبابة تقتل روحا
لكن يجب أن تقتل الذبابة
وتدهس النملة
وتذبح البقرة
وتقطف الطماطم
وتكتب عن المجتمع المدني
هكذا يكون الشعر مختبرا لوعي المرأة بالطبيعة، أو دار إقامتها، أي
بتصور هايدغر، هو التسمية المؤسسة للكينونة ولجوهر الأشياء كلها، إذ
يلامس الأرض باللغة، والعكس بمعنى أن يظهر اللغة كأرض. فبعد أن استعادت
المرأة لسانها من خلال لغة مؤنسنة كانت هي المعادل للرجل بتعبير لاكان،
صارت تعبئ خطابها بالنزعات السياسية والحقوقية، إتكاء على رومانسية
المكوّن البيئي، وها هي سوزان عليوان تعلن إنذارا مجازيا بالخراب من
ذلك المستقر البشري، إن لم توكل إلى المرأة مهمة مداواة الأرض من
أمراضها، أو على الأرض الإشتراك في إنقاذها " الأرض بلغت هاويتها ".
ومن أجله أيضا تستفز حمدة خميس قبيلة النساء لتطهيره بلمسة أنثوية:
....
انهضن .. انهضن
فقد بلغت سيول الظلام
التراقي!!
طوبى لهذه الأرض
إذ تنهض النساء...
-----------
منابع:
* ثنائية الكينونة، النسوية والاختلاف الجنسي-
مجموعة من الكاتبات - ترجمة عدنان حسن- دار الحوار ، سوريا
* القصيدة موقف كوني، وتاريخها يسير من المقدس الى
المدنس - حنا عبود - الخليج ، العدد 7645 24 ابريل 2000
* مدخل إلى الإيكولوجيا العميقة ، الإيكولوجيا
العميقة طريقة جديدة للتفكير في علاقتنا مع الأرض والتفكير هو فاتحة
للعمل- لقاء مع مايكل إ. تسيمِّرمَن – موقع معابر
http://maaber.50megs.com
* هَيْدِغِّر ودور الجسم في الفضيلة البيئي - سايمون
ب. جيمس
* نيتشة وبلاغته النسوية، ديفيد بوث، ترجمة حسن
حلمي. نزوى- العدد 13
* موقع الكتروني www.ecofem.org
* ديمتري أفييرينوس ، أسطورة الأرض-الأم ، الأرض -
الأم في الميثولوجيا العالمية، موقع معابر، العدد العاشر.
http://maaber.50megs.com/tenth_issue/mythology_1.htm
* مناهد النقد الأدبي الحديث ، مجموعة من الكتاب،
دانييل برجيز ( النقد الموضوعي ) سلسلة عالم المعرفة، الكويت
* هربرت بيكر، الايروتيكيا والسريالية، ترجمة رشيد
بوطيب، الكرمل، العدد 76 – 77 صيف خريف 2003
* دفاعا عن التاريخ الأدبي النسوي، جانيت تود، ترجمة
ريهام حسين ابراهيم، المجلس الأعلى للثقافة
الأنوثة والتواصل والشراكة(4)
يصف يونغ نمطين مجردين من أنماط السلوك الإنساني، هما: الإيروس،
وهو مبدأ الترابطية الأنثوي، واللوغوس، وهو مبدأ الاهتمام الموضوعي
الذكوري، فالإيروس واللوغوس يمارسان فعلهما في النفس كمتقابلين أبديين.
وقد ربط الإيروس بهذه الصفات: العاطفية، الجمالية، الروحانية، إضفاء
القيمة عن طريق الشعور، الدهاء، التوق إلي الترابط، إلي القيمة، إلي
التواصل، إلي الخوض في غمرة الأشياء و الناس، والوصول إلي لبها، التماس
معها، والارتباط بها، والاستغراق في خضمها.. بدلاً من التجريد
والتنظير.. فمعني الترابطية يتطلب أن نكيف احتياجاتنا ورغباتنا مع
احتياجات ورغبات الشخص الآخر، ومع مقتضيات الموقف. ولكي نفعل هذا لن
نستطيع البقاء علي توجه ثابت، بل لابد من المرونة حسب الموقف الذي
يربطنا بالآخر. وبالمقابل ربط يونغ اللوغوس بالعقل، والتفكير الواضح،
والفاعلية، والتعقل رفيع المستوي، وحل المشاكل، والتمييز، وإصدار
الحكم، والاستبصار، والتجريد، والحقيقة اللاشخصية التي نصل إليها
بموضوعية. ولأن يونغ لاحظ أن التطور الأحادي الجانب لهذا المبدأ أو
للآخر له تأثيرات معوقة، فقد أكد علي أهمية ترابطية الإيروس بالنسبة
للرجال، وأهمية توجيه اللوغوس بالنسبة للنساء. ولاحظ أن النمو الذي
يشدد علي جانب واحد يجعل الفرد معاقاً وعاجزاً وفاقداً للمرونة.
اعتقد يونغ أن المهمة الأساسية للإنسان في الحياة هي النمو النفسي
في اتجاه الكلية، وذلك يتطلب تكامل الذكورية والأنثوية، وشدد علي أن أي
فرد لا يبلغ حالة الكلية إلا عن طريق ارتقاء وتكامل كلا المبدأين في حد
ذاتهما. وهذا يهب الفرد خيارات أوسع، ومصادر للتفاعل مع العالم. فالرجل
كلما ارتقي بصفات الترابطية مثل الرعاية والتلقي، لن يبدو أنثوياً، بل
ذا ذكورية أرسخ، ولكن من دون هشاشة الدفاع بعنف الرجولة. وبالطريقة
نفسها حينما تستجمع امرأة صفات التمييز والتفكير الواضح، فإنها تستطيع
أن تفعل هذا بأسلوب موغل في الأنثوية، حيث يخفف الحنو من حدة العقل
الذكوري. ثم إن الاعتماد علي أحد جانبي الوعي، الذكوري أو الأنثوي،
اعتماداً يستبعد الجانب الآخر، من شأنه أن يثبط تطور الوعي ذاته في
الفرد، طالماً أنه لا يمكن لأي من المبدأين بلوغ امكاناته الكاملة من
دون الإحالة المستمرة إلي نقيضه.
وتورد شيفرد تأكيداً أوردته المعالجة النفسية والكاتبة سوكي كولجريف
يذهب إلي أن الشخص الذي يفرط في التقيد بمبدأ التمييز الذكوري قد يشعر
أن الحياة فقدت معناها، وأن الشخص الذي يتأرجح بين الغرور وبين القنوط،
يشعر باغتراب متزايد عن الآخرين وعن الذات. إذ تمعن الذكورية في
التمايز غير مستهدية بالتأثير المتمم للأنثوية، بوظائفها في الكشف عن
الارتباطات والعلاقات. ومن دون الترابطية، يشعر الشخص بالجفاف، ويفقد
مغزي اتجاهه في الحياة. عند هذه النقطة، لا تستعيد النفس الحياة إلا عن
طريق الملكات الأنثوية في الإنصات، والاستسلام، والقبول، والانتظار،
والتصديق. تخلق الأنثوية العلاقات الضرورية للطبيعة الجوانية والبرانية
التي تستعيد معني الحياة وغايتها. وعلي العكس فالاعتماد المفرط علي
مبدأ الأنثوية يستدرج الوعي إلي خضم تحتجب فيه كل الاختلافات، فيفقد
الشخص القدرة أو الإرادة علي الفعل والتفكير كفرد. إن مبدأ الذكورية
ضروري من أجل القدرة علي تعيين الصفات الأنثوية المختلفة وتفهمها. إنه
يهب الشخص القدرة علي تمييز وخلق مغزي الذات المستقلة، وهو جوهري من
أجل التفهم العقلي. كل من هذين المبدأين يري العالم بعدسات مختلفة،
وبالتالي يستقبل عوالم مختلفة. تطوير نمطي الوعي يجعل الشخص قادراً علي
خلق صورة أكثر ثراء واكتمالاً.
ومع أهمية ما يقرره يونغ من الحاجة لتلاحم الذكورية والأنثوية في
الكائن البشري لتصبح حياته طبيعية، فقد ارتسمت صفات أولية ثابتة لكل من
الذكورية والأنثوية، فالأولي تنزع نحو التفرد، والاستقلال، والسيطرة،
فيما الثانية تنزع إلي الترابط، والشراكة، وطبقاً لأدبيات النسوية فقد
كان التاريخ الإنساني تعبيراً عن ظفر الذكورة مما أدي إلي مسخ الأنوثة،
فلم يقع في أي وقت من الأوقات تفاعل وتوازن بين المبدأين، فتاريخ
الإنسان بكل تفاصيله قام علي مبدأ الاستئثار الذكوري بكل شيء، الأمر
الذي أفقده الحميمية، والشراكة، والترابط، وحل بدل ذلك مزيج من التفرد
والهيمنة. وتشير كارول جيليان في كتابها بصوت مختلف إلي أن النساء
مجبولات علي فحوي الاتصال. وفي مقابل تأكيد الرجل علي الانفصالية،
والاستقلال الذاتي، تميل المرأة إلي تحديد ذاتها في سياق العلاقات.
وبينما يميل الرجل إلي الإقصاء لأنهم يرفعون من قيمة الإنفصال،
والاستقلال الذاتي، تميل النساء علي الاحتواء لأنهن يرفعن من قيمة
الاتصال والألفة. وبينما يعمل الرجال علي حل الصراع عن طريق استحضار
تراتب منطقي من المباديء المجردة، تعمل النساء علي حل الصراع من خلال
محاولة تفهمه في سياق منظور كل شخص واحتياجاته وأهدافه. إنها المسؤولية
المتجهة نحو الفضيلة، حيث تحاول النساء جلب أفضل ما يمكن لكل فرد من
أصحاب الشأن. وإذ يفعلن هذا، ينصتن بروية، وغالباً يعلقن الحكم الخاص
بهن لكي يتفهمن الآخرين في حدودهم. تعهداتهن، وأفعالهن، محكومة
بإيناسهن بالعالم ومن فيه. الاستجابة الخلقية، بالنسبة لهن، هي
الاستجابة الحانية الراعية.
وتستخدم النسوية استراتيجيات تفكيك تحاول بها زعزعة استقرار نظام
ثنائية المذكر/ المؤنث. وتستلهم بعض النسويات نموذج ديريدا الذي يقول
إن الهياكل الثنائية ستظل دائماً تميز أحد الزوجين علي الآخر، مثل
المذكر عن المؤنث. وبدلاً من محاولة قلب هذا الوضع بحيث يصبع المؤنث
متميزاً عن المذكر، مثلما تحاول النسوية التحررية أن تفعل، فإن النسوية
المعاصرة تحاول خلخلة الهياكل الأساسية التي تقوم عليها تلك الثنائية.
إذ تري دونا هار او اي أنه لا يوجد أي شيء يجمع بين كل النساء دون
مراعاة الاختلافات الموجودة بين النساء مثل الاختلافات العرقية
والطبقية. كما أن اعتبار الفروق الجنسية عامة تنسحب علي الجميع يلغي كل
الفروق الثقافية الأخري. ومن ثم فإنها تخلخل الفكرة المبنية علي ثنائية
الأنوثة والذكورة من خلال قولها إنه لا يوجد شيء اسمه الكيان المذكر أو
المؤنث.
ومن الطبيعي أن تهتم النسوية بتعريف مفهوم الأنثي تعريفاً يتجاوز
حدود الجهاز التناسلي، علي الرغم من عدم وجود بديل مقبول علي نطاق
واسع. وتقول الصياغة الفلسفية لهذا الجدل بأن المرأة في اطار النظام
الأبوي تعيش في حالة اغتراب عن طبيعتها الأنثوية الحقيقة وهكذا بدلا
ًمن أن يأخذ المفهوم قيمة إيجابية فاعلة فقد أصبح محصوراً في نظام فكري
ثنائي يجعل الأنثي أدني من الذكر. وتذهب ماري ديلي في كتابها
الايكولوجيا النسائية إلي أن مبدأ الأنثي يتعرض للإسكات والتجريد من
السلطة في إطار الخطاب الأبوي الذي يؤدي إلي تغريب المرأة عن طبيعتها
الأنثوية، فالتحرر يقتضي أن نناضل لاكتشاف هذه الذات باعتبارها صديقة
لكل ما هو أنثوي بحق . وتدعو هيلين سيسو إلي فكرة الكتابة الأنثوية في
نظريتها عن الكتابة الأنثوية، إذ تقول في كتابها ضحكة ميدوسا إن المرأة
إن المرأة عندما تكتب عن نفسها فإنها تعود إلي الجسد الذي صودر منها،
بل وتعرض لما هو أكثر من المصادرة . وتحاول لوسي ايريغاري في كتابها
هذا الجنس ليس واحداً أن تضع تعريفاً لنظرية نسوية للمعرفة ترتبط
ارتباطاً وثيقاً بالايقاعات الشهوانية الذاتية لجسد المرأة، فجسد
المرأة استعارة شديدة الخصوصية لأنه يمثل نقطة البدء التي يمكن أن تكون
منبعاً للمعرفة النسائية. وتعقد ماري روسو في كتابها الشائه المؤنث
مقابلة بين الجسد الكلاسيكي والجسد الشائه باعتبارهما وجهين لعملة
واحدة، فالجسد الكلاسيكي يتسم بالتعالي والعظمة وهو جسد مغلق وساكن
ومكتف بذاته ومتناسق وأملس، ويرتبط بالثقافة الرفيعة أو الرسمية لعصر
النهضة، وفي عصور لاحقة بالعقلانية والفردية وتطبيع المطامح
وبالبرجوازية. أما الجسد الشائه فهو مفتوح وناتئ وغير منتظم تسيل منه
الافرازات، وهو متعدد ومتغير، ويرتبط بالثقافة الدنيا غير الرسمية أو
الثقافة الاحتفالية وبالتحول الاجتماعي.
............................................................
1- علي القميش/ جريدة الايام البحرينية
2- فريتيوف كابرا/ مجلة معابر
3- محمد العباس/ مجلة ميدوزا
4- د. عبدالله إبراهيم / جريدة الراية القطرية
5- النسوية ومابعد النسوية/ سارة جامبل |