لقد فتحت مقولة نهاية المثقف جدلاً واسعاً في العديد من منظومات
الثقافات الإنسانية، وذلك لما تحمله هذه المقولة من طبيعة نقدية
وسجالية تستفز المثقف وتستدرجه بسهولة نحو التعاطي والتفاعل معها، وهو
الميال بطبعه نحو النقد والجدل والسجال، ولهذا النمط من المقولات
الشكاكة، أي التي يغلب عليها الشك، أو التي تجعل من الشك سمة لها،
علماً أن المثقف هو الذي فتح على نفسه هذا الحديث، وهو الذي انخرط فيه،
وانقسم على ذاته حين عبر عن وجهات نظر متباينة ومتغايرة في هذا الشأن.
وقد ارتبطت هذه المقولة، بأكثر من سياق في النطاق الثقافي
والإنساني، فقد ارتبطت بسياق نهاية الدور المعرفي للمثقف، أو نهاية دور
المثقف في إنتاج المعرفة، أو نهاية المثقف بوصفه جسراً أو رافداً
للمعرفة في المجتمع، وذلك في عصر شهد فيه العالم أكبر شيوع للمعرفة يمر
به التاريخ الإنساني، ففي ظل ثورة المعلومات، وما سمي بانفجار المعرفة،
ومع وجود الطرق السهلة والسريعة للمعرفة والمعلومات، لم يعد المثقف
يحتكر لنفسه الدور في تعميم المعرفة ونشرها وترويجها.
وفي سياق ثقافي وإنساني آخر، ارتبطت مقولة نهاية المثقف، بالتحول
الذي حصل في شخصية المثقف، حين تحول من شخصية يحتفظ بشبكة واسعة من
التواصلات المستمرة وغير المنقطعة مع الناس أو مع شريحة كبيرة منهم،
إلى شخصية تكاد تنقطع عن الناس، وتفتقد جسور التواصل والتفاعل معهم، أو
مع شريحة كبيرة منهم، والنموذج الذي يتوجه إليه هذا النقد هو المثقف
الأكاديمي المنغلق على ذاته، والمنقطع عن الشأن الاجتماعي العام.
وفي هذا السياق جاء كتاب: (آخر المثقفين)، للكاتب الأمريكي راسل
جاكوبي، الذي وصفه إدوارد سعيد في كتابه: (صور المثقف) بالكتاب الذي
أثار الكثير من النقاش في الولايات المتحدة الأمريكية، وحاول فيه مؤلفه
إثبات الدعوى التي لا يرتقي إليها الشك حسب تعبير إدوارد سعيد، وهي أن
المثقف اللاأكاديمي اختفى كلياً من الولايات المتحدة، ولم يخلف وراءه
في ذلك الموقع سوى مجموعة متكاملة من أساتذة الجامعات، ممن تستحوذ
عليهم اللغة الاصطلاحية، والذين لم يعرهم أحد في المجتمع أي اهتمام
يذكر.
ونتيجة ذلك يعتبر إدوارد سعيد أن المثقف اليوم هو على الأرجح أستاذ
أدب منغلق على نفسه، ذو دخل مضمون، لا يستهويه التعاطي مع العالم
الأبعد من حدود حجرة التدريس، وغرضه الأساسي هو التقدم الأكاديمي وليس
التغيير الاجتماعي.
ومن الممكن أن نضيف سياقاً ثقافياً وإنسانياً ثالثاً، يعبر عن مقولة
نهاية المثقف أو يقترب منها، لكنه سياق يكاد أن يكون غائباً عن هذه
المقولة أو غير مشمول بها، أو لا يضمن فيها، أو لم يلتفت إليه حتى يضمن
فيها، ويتحدد هذا السياق في كون أن المثقف لم يعد يتميز على الناس بتلك
الفضائل والأخلاقيات التي يفترض أن تميزه، وترفع من شأنه ومكانته
والتمسك به، كالشجاعة في قول الحق بعيداً عن الرهبة والهيبة، أو كونه
صاحب الضمير الحي الذي لا يهادن ولا يتنازل عن نصرة المظلوم، أو صاحب
البصيرة النافذة الذي يرسم للأمة بوصلتها، ويشق لها طريق النور، فقد
تجد من الناس العاديين من هو أكثر شجاعة من المثقف في قول الحق، ومن هو
صاحب ضمير حي أكثر من المثقف، ومن هو صاحب بصيرة أكثر من المثقف.
وعند النظر في هذه السياقات الثلاثة، نجد أن السياق الأول كان
ناظراً إلى البعد المعرفي في مقولة نهاية المثقف، في حين أن السياق
الثاني كان ناظراً إلى البعد الاجتماعي في هذه المقولة، بينما السياق
الثالث كان ناظراً إلى البعد الأخلاقي في هذه المقولة.
والحقيقة أن هذه المقولة تكشف عن أزمة المثقف في هذه الأبعاد
الثلاثة، ولا تكشف عن نهايته، لأن من غير الممكن نهاية المثقف، إلا أن
تعني هذه النهاية نهاية صورة ونمط ونموذج للمثقف، بحثاً عن صورة ونمط
ونموذج لمثقف آخر.
*باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات
المعاصرة
رئيس تحرير مجلة الكلمة.
http://www.almilad.org |