صفحات كتاب: الذهنية العربية.. العنف سيد الأحكام

 

 

الكتاب: الذهنية العربية-العنف سيد الاحكام

المؤلف: فؤاد اسحق الخوري

الناشر: دار الساقي- الطبعة الاولى - 1993 

 

 

 

 

المقدمة

يتناول هذا الكتاب القواعد الأساسية التي تتحكم بالذهنية العربية، أي بالمسالك والمذاهب المكتسبة التي نتعامل معها وكأنها واقع قاطع دون العودة إلى التحليل والتعليل. وأعني بالذهنية هنا الحس اللاشعوري الذي يثير الإنسان للتحرك والعمل بشكل عفوي. بهذا المعنى تختلف الذهنية عن العقل، إذ إن العقل ينشأ بالمعرفة ويتحكم بالأمور عن طريق التحليل والتعليل والتبرير والبرهان. نعم! الإنسان حيوان ناطق، ولكنه قد يكون أو لا يكون عاقلاً.

وتبيَّن لنا هذه الدراسة عن الذهنية العربية أهمية الايديولوجيا في المسالك العادية التي نمارسها يوماً بعد يوم، وكيف ترتبط هذه المسالك اليومية بالأمور العليا كالدين والثقافة واللغة والتراث. بمعنى آخر، هناك ذهنية باطنية تحتية تجمع بين الأمور اليومية كالمخاطبة واستعمال الألقاب وفنون اللعب، من جهة، والشؤون العليا كالدين والشعر والهندسة المعمارية وغيرها من الجهة الأخرى. إن الحضارة شأن كامل متكامل ترتبط أجزاؤها بعضها بالبعض الآخر، ولا فرق في ذلك بين مسلك عادي نمارسه كل يوم وشؤون مصيرية أو نشاطات ثقافية رفيعة.

وتبرز هذه الدراسة ايضاً بعض النماذج الحضارية عند العرب وبعض المسلمات الذهنية التي تتحكم فيها إن باطنا أو ظاهراً. هذه النماذج التي تتمحور حول الفرد وعلاقته بالمجموعة، أي كينونة الفرد في المجتمع، أو قل (المجتمع) في ذهنية الفرد. فكثيراً ما نعزو إلى المجتمع أشياء وقيماً ليست فيه بالضرورة، نحرّكها، نثيرها، وقد نتنازع في سبيلها لكسب مصلحة شخصية خاصة، هذا يعني أنه بقدر ما نستسلم للتقاليد والأعراف نحن نوجدها، نستعملها، ونستغلها لإنجاز مآرب شخصية.

هناك أربع قواعد تتحكم في تصور العرب الذهني:

أولاً: التصوّر اللاهرمي للكون والمجتمع.

ثانياً: الضعف يكمن في الانفراد أو الاستفراد.

ثالثاً: القوّة تكمن في الجماعة والتجمع، أو في الإجماع والاجتماع.

رابعاً: الأولية في التعامل والتفاعل بين البشر تعطى للتكتيك والقدرة على التحرّك والمناورة.

يتصوّر العرب الكون وكأنه بُنى مسطحة لا هرمية الشكل والتركيب، تماماً كحبات المسبحة أو كأسنان المشط – وحدات منفصلة ومتساوية ومستقلة بعضها عن البعض. وفي هذا التصوّر اللاهرمي المسطح للأمور لا تستمد السلطة والسلطان من مناصب وبنى متدرجة التركيب، إنما تستمد من استعمال القوة والهيمنة والقسر بحيث يسيطر الفرد، الأمير أو الإمام، على الجماعة والجمهور. المهم في التعامل هو أن يكون الإنسان فاعلاً من خلال مجموعة متلاصقة، متكاتفة، يهيمن عليها، يرأسها، يعتني بأمرها، يدير شؤونها، يسيّسها، يتزعمها، ومن خلال هذا التزعم يحدّد موقعه من الآخرين.

هذه الأحكام الأربعة ثوابت أيديولوجية، بُنى ذهنية صحيحة بالفطرة سلفاً – صحيحة عن طريق الإيمان بها. وهي بذلك لا تحتاج إلى تبرير أو تعليل. ولكونها بنى ذهنية، فهي تبرز أو تتجلى في نواح عدّة ومتنوعة من نواحي الحياة ابتداءً بلعبة (طاولة الزهر) وانتهاءً بالحكم الإمامي أو الأميري أو الأوتوقراطي.

وتتجلّى هذه الأحكام في ألعاب التسلية والرياضة، كما تتجلى في فنون الهندسة المعمارية والرسم، أو في الشعر والنثر، أو في رصد السلالات والأنساب، أو قوانين الإرث والملكية – وهذا ما سنبينه في الفصل الأول من هذا الكتاب. أو أنها تتجلى في أساليب التفاعل اليومي بين البشر حيث يتعاملون وكأن العالم كله من حولهم مكون من الأقارب (اللّزم) (لحّاً)، أي من أخ، وأخت، وعمّ وعمّة، أو خال وخالة، أو من أبناء وأحفاد هؤلاء الأقارب. وهذا ما سنبينه في الفصل الثاني. أو تتجلى في اختيار الزوجة وتفضيل زواج الأقرباء، وخاصة ابنة العم عن غيرها من النساء (الفصل الثالث). أو في التعامل التجاري، وفي المساومة والمقايضة بين البائع والشاري في السوق حيث يتودد الواحد منهما للآخر بقصد المنفعة الشخصية والربح عن طريق الإفادة من الإخاء ووحدة الحال (الفصل الرابع). أو تتجلى في العمل لكسب الجاه والنفوذ عن طريق التحكم بالعوائل والأنساب (الفصل الخامس). أو في التعامل مع الأمراء أو التعاطي مع (العلماء) – علماء الدين (الفصل السادس). أو أنها تتجلى في تنظيم المدن أو في السيطرة على الحكم عن طريق التمسك بالأصوليات والتحالف بين العشائر والقبائل والطوائف (الفصل السابع).

وبالرغم من تعدد هذه النواحي المسلكية وتنوّعها فهي تقوم على قاعدة ثنائية واحدة موحّدة – قاعدة تنظيمية تجمع بين المحور، وهو القطب المهيمن، والأفراد التابعين له الذين يدورون في فلكه، تماماً كالدولاب من دون إطار. وهذا أمر منتظر في غياب التنظيم الهرمي للسلطة وما يستتبع ذلك من تدرّج في المناصب. ففي غياب التنظيم الهرمي للمجتمع تصبح الهيمنة محور العلاقات الاجتماعية والسياسية. من يهيمن على من: الزوج أم الزوجة؟ الأب أم الأبن؟ الأخ الأكبر أم الأخ الأصغر؟ السلطان أم مستشاره؟ الرئيس أم نائب الرئيس؟ الملك أم ولي العهد؟ هذه تساؤلات يطرحها العرب على أنفسهم في شتى المجالس واللقاءات، يطرحونها على أنفسهم في الأفلام السينمائية، في أحاديث المقاهي والمجالس، في الروايات، وفي العمل السياسي.

وفي غياب البُنى الهرمية للمجتمع يحاول القائد الهيمنة على الآخرين من خلال العادات والتقاليد والأعراف المسلكية البسيطة. هذا بالإضافة طبعاً إلى استعمال القسر والجزر والتهديد بقطع الأعناق والأرزاق، و (مصّ الدماء) و(فكّ الرقاب). فلكل حركة معنى، ولكل طرفة عين مغزى، ولكل رفّة جفن لفتة، ولكل إصبع دليل. تصبح هذه معاني اجتماعية تفيد عن مدى السطوة التي يمارسها الفرد على الآخرين. يصبح النظر والبصر ومكان الجلوس وأصول الضيافة وفنون التكريم وغيرها أدوات تراتبية تميز القوي عن الضعيف. وتصبح الإشارة العفوية معنى. (بلا معنى) أي له معنى، و(بعيد عن السامعين) أي فليحذر السامعون.

إن الإصرار على الظهور بمظهر القوي، من جهة، والتعامل مع العالم على أنه مؤلف من وحدات متساوية ومستقلة، من الجهة الأخرى، يفرض علينا السعي الدائم لنكون الأولين بين المتساوين، نحن دائماً في سباق (الأول) مع الآخرين. (الأول) في الصف، أياً يكن نوع الصف، في المدرسة، أو لشراء تذكرة سينما، أو لابتياع حاجة ما، أو لتحضير باسبور. (الأول) للبدء بالطعام و(الأول) بالانتهاء منه وكأننا في سباق مع الأكل. (الأول) في السير ولو تطلّب ذلك (الدوبلة) بالسيارة من جهة اليمين أو من جهة اليسار – ولا فرق هنا بين اليمين واليسار، المهم هو (الأول)، (حربوق) ولو إلى جهنم. (الأول) في الصعود إلى الطائرة و(الأول) في النزول منها، (الأول) أمام الله يوم الحشر، فإما الجنة وإما النار.

وهناك تلازم واضح بين هذه الذهنية المتمثلة بالأحكام الأربعة السابق ذكرها، والمسالك والقيم في مجتمعنا العربي. التكتيك قبل المنصب. نقوّم الناس عندنا بقدرتهم على (الحربقة)، ومعرفتهم (مِن أين تؤكل الكتف)، (إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب)، و(الكذب ملح الرجال). (يأخذك إلى البحر ويردّك عطشانا). (يقلي البيض بلا سمن). (يحافظ على شعرة معاوية). (يستل الشعرة من العجين). (واسع الحيلة)، (ثعلب)، (ينكح النملة).

(الحربقة) و(التكتيك) أهم من الصلاحيات، والشخص أهم من المنصب، الشخص هو المنصب عينه، فإذا كان هذا صحيحاً، وهو صحيح، فلا عجب أن يصبح الاغتيال والتهديد به أسلوباً سياسياً ناجحاً. فكم من إمبراطورية أو دولة أو حزب أو تنظيم سياسي دمّر على أثر اغتيال مؤسسه. التدرج الهرمي عندنا ينحصر في العلاقة الثنائية بين الزعيم والتابع، بين القائد والمؤيد، بين الشيخ والمريد، بين الإمام والأمة، بين الأمير والشعب – دولاب يدور بدون إطار – وسرعان ما يفرط عقد الاجتماع حينما يولي الأمير ظهره، وسرعان ما يتجمع حين يعود. فالجمع الذي يتحوّم بحضرة الأمير يتبخّر بغيابه.  ابن خلدون  وصف القائد (بحَضْرَة)، (ذي حَضْرَة)، أي أنه دائماً حاضر والناس من حوله جمهور.

في هذا التصوّر اللاهرمي للمجتمع يصبح التفرّد أو الانفراد ضعفاً. فإذا كانت الحقيقة مكوّنة من وحدات مستقلة ومنفصلة ومتساوية، فلا تتجلى القوّة إلا بالمجموعة – أي جمع الحبّات المستقلة. يخاف العرب الانفراد – (استفرده) أي أوقع به، فخّخ له. والمستفرد مقطوع، (صعلوك بين قومه)، (من لا أخ له كساع إلى الهيجا بغير سلاح). (التبرية) أي الوضع بالانفراد فعل جزاء، والمقاطعة قصاص، والانعزال مسألة فيها جنون.

هذه المعتقدات الشعبية تجعل المرء في صراع دائم مع نفسه. فهو من جهة يخاف العزلة والانفراد، ومن الجهة الأخرى يسعى ليكون الأول في مجموعته. وبسبب هذا الصراع يسعى المرء إما أن يكون مهيمناً (بكسر الميم)، وإلا أصبح مهيمناً عليه. فالساعي إلى المركز (الأول) بين متساوين عليه أن يهيمن على الآخرين. السعي للهيمنة مفهوم ومسلك أساسي في تعاملنا مع العالم – هو امتداد حتمي للسلطة الإلهية. هو الله (القادر)، و(الناصر)، و(الفاتح)، و(القيوم)، و(المجيد)، و(العزيز)، هو (الرحمن الرحيم). فالضعيف لا يمنّ على الناس بالرحمة.

في هذا التصوّر اللاهرمي للكون والمجتمع تدور السلطة في فلك الأقطاب الأقوياء. السلطان للقوي، (الحكم لمن غَلَب). فإذا كان الحكم لمن غلب فلا حاجة بنا لقواعد معيرة للخلافة. الخلافة لصاحب القوّة، والنفوذ، للفاتح الناصر المنتصر. والقوة تكمن في الأصوليات – في الأهل والجماعة، في النخبة أهل الحل والربط، ولا تكمن في عامة الشعب. الشعب أحجار (داما) تحرّكها النخبة السياسية، الخاصة، صاحبة الودّ والولاء. الشعب عجل مذبوح يؤكل لحمه ويُشرب دمه، ويبقى الأسد سيد الغابة.

تمعّن ايها القارئ في المعاني التي ترمز إليه الحيوانات الوارد ذكرها في كتاب (كليلة ودمنة) أو كتاب (الأسد والغوّاص). ففي هذين الكتابين الكلاسيكيين يصوَّر الأسد على أنه السلطان، ويصوَّر الثعلب، المحتال صاحب التكتيك، على أنه مستشار له. أما العجل والأرنب والحمار والثور فهم الشعب الذي يؤكل لحمه. ويقول المثل الشعبي: (ابتعد عن الشر وغني له). الشعب متفرّج على مسرح السياسة، مفعول به، تماماً كالحمار والأرنب والعجل والثور في (كليلة ودمنة). جمهور لا يحكم ولا يحاسب حاكماً. فإذا كان الشعب متفرجاً لا يقوم بدور فعال في تقرير مصيره، فهو مجموعة حبات مستقلة ومنفصلة لا تقوم قيامتها إلا بقيادة الإمام الأمير. بهذا المعنى ليس في مجتمعنا جمهور محاسب، يترصد الحكم ويتساءل عن صحة القرارات. وإذا ما غاب الجمهور المحاسب غابت معه الجمهورية. الجمهوريات عندنا، مهما تنوّعت، هي اسم لغير مسمّى، والحاكم سلطان ولا فرق في ذلك بين رئيس وأمير وإمام، أو ملك وسلطان و(شيوخ). فالأنظمة كلها، مع الاحتفاظ بالألقاب، تحكم البلاد حكماً إمامياً أميرياً أوتوقراطياً.

الفصل الأول

اللعب والايديولوجيا

إن الأحكام الأربعة التي ذكرتها في المقدمة أحكام ذهنية يمكن تعميمها على نواح عدّة من نواحي الحياة. هي نظام ايديولوجي شامل يتجلى في فنون اللعب كما يتجلى في المسالك والمذاهب الاجتماعية وفي القيم والنماذج الحضارية. ولعل هذا الارتباط بين الأيديولوجيا واللعب يبرز بوضوح في اعتقاد العرب أن ترتيب (طاولة الزهر) إنما يعكس تنظيماً كونياً عاماً. هي للعب إنما ترتبط، كما يعتقد البعض، بالنظام الكوني العام. (فالطاولة) بشكلها المربع، وهي مفتوحة، ترمز إلى كمال الأرض اللامتناهي. وترمز الخانات السوداء والبيضاء المحفورة في الخشب إلى الليل والنهار. كما ترمز الجوانب الأربعة التي تصف في كل منها الخانات الستة إلى الفصول الأربعة؛ وعدد الخانات الاثنتي عشرة في كل جانب إلى عدد الأشهر في السنة؛ والخانات الستة إلى الأيام الستة التي خلق الله فيها العالم؛ والأحجار الثلاثون إلى عدد الأيام في الشهر؛ والخانات الأربع والعشرون إلى عدد الساعات في اليوم الواحد.

ثم إن تكتيك اللعب نفسه يمثل حركة الكون كلها بما فيها من ديناميكية وتبدّل حظوظ وتغير منازل. فهي إذاك مجتمع متحرك أبداً. (الدنيا دولاب، يوم لك ويوم عليك، فإن كانت لك فلا تبهر، وإن كانت عليك فلا تقهر). الأحجار تتحرك حسب الزهر، وهو الحظ المصير المعطى إلى الإنسان بفضل الله وعونه. ومن بعد ذلك ينقل اللاعب الأحجار ويحرّكها وفقاً لاستراتيجية خاصة تعكس قواعدها أصول التنظيم والعمل في المجتمع العربي – الأحكام الذهنية الأربعة.

تُلعب (طاولة الزهر) عادة بثلاث طرق: أولاً: (المحبوسة) (من حبس، أي سَجَنَ) التي يعتبرها الناس أكثر سفسطة من غيرها، يقولون أنها تحتاج إلى فكر وتفكير ولا تعتمد على الحظ فقط. ثانياً، ما يسمى (بالفرنجية) التي تعتمد – هكذا يعتقد الناس – على الحظ أكثر من المهارة؛ غير أن هذا الاعتقاد غير صحيح، ثالثاً، (المغربية) أي الآتية من المغرب، وهي أبسط الأنواع وكثيراً ما يلعبها الأطفال . إن أياً من هذه الأنواع يعكس الأحكام الذهنية الأربعة التي ذكرناها سابقاً: أي التصور اللاهرمي للكون والمجتمع؛ الضعف في الانفراد، القوّة في التجمع، والاعتماد على التكتيك بدل المنصب في التعامل مع الغير.

يتجلى التصوّر اللاهرمي للكون والمجتمع في اعتبار الأحجار الثلاثين كلها متساوية في القيمة، ومستقلة، بعضها عن البعض. هي على عكس لعبة (الشطرنج)، مثلاً، التي تختلف أحجارها في القيمة وكيفية التحرك. ففي لعبة الشطرنج هناك الملك والملكة، والفيل والحصان، والقلعة والجندي العادي، وكل منها يتحرك بأسلوب معيّن وبطريقة خاصة، إن (طاولة الزهر) مبنية على الإيمان بأن (في كل نفس إماماً) فالأحجار كلها متساوية إنما يتخذ البعض منها أهمية مميزة حسب وروده في اللعب وحسب موقعه بالنسبة للأحجار الأخرى، وهذه هي بالضبط استراتيجية اللعبة من الأساس.

تتطلب استراتيجية اللعب في هذه الألعاب تحريك الأحجار بشكل يضمن عدم استفرادها؛ فهي إن استفردت (تؤكل). وتتجلى فيها أحكام الذهنية العربية بشكل واضح. يتجلى التصوّر اللاهرمي في اعتبار الأحجار كلها أحجاراً منفصلة ومتساوية القيمة كلها هكذا منفردة. كما تتجلى فيها الأحكام الأخرى بالتشديد على التكتيك دون المنصب، وعلى نشدان الحماية عن طريق الانتماء المجموعي، وتسجيل الأرباح عن طريق (الحبس) أو (الأكل).

ثم إن العاب التسلية والرياضة الأخرى تظهر بالتالي الأحكام الذهنية نفسها، خُذ لعبة (البيل)، مثلاً، أو لعبة (الأسير) أو لعبة (الباصرة) فهي كلها تتبع الأحكام الذهنية عينها. وهنا يجب التأكيد على أن ما يهمنا من هذه الألعاب الألعاب المحلية الوطنية النابعة من صميم خبرتنا الحضارية، من تراثنا وقيمنا وتقاليدنا، ولا يعنينا في هذا الشأن الألعاب المستوردة من الخارج ككرة الطائرة أو المضرب أو السلة أو القدم وغيرها من الألعاب الهرمية التركيب.

تقوم لعبة (البيل) على قاعدة ذهنية أساسية واحدة: الفرد ضد الكل وهي إذاك تبرز نواحي ذهنية عدة تتمحور حول تكوّن الشخصية في المجتمع العربي، ومن أبرز هذه النواحي الإصرار على مبدأ (الأول بين متساوين).

إن الإصرار على (الأوَّلة) (إن صح التعبير) في العمل والتعامل أضفى على اللفظ نفسه معنى سحرياً، الأولون هم الأجداد، هم السالفون، هم السابقون الذين نحن على خطاهم سائرون. ولشدة ما يتمسك العرب (بالأولة) لم يهتموا خلال تاريخهم الطويل في تطوير قواعد ثابتة معيّرة واضحة المعالم للخلافة في الحكم – (الحكم لمن غلب). فأصبحت الخلافة إذاك مشكلة سياسية متتالية تواجه الدولة عند زوال كل حكم سابق وانهياره. الإصرار على (الأول) يستتبع فرضاً التعامل مع الآخرين على أساس أنهم متساوون. فإذا شاء كل منا أن يكون الأول فالصراع إذاً، وهذا تحصيل حاصل، محصور بين متساوين – تماماً كأحجار (طاولة الزهر) و(الداما) و(المنقلة) حيث يكتسب الحجر الفرد أهمية خاصة – يكتسب دوره – تبعاً لمركزه وموقعه من الآخرين.

بهذا المعنى يصبح التركيز على الإجماع والعمل الجماعي تكتيكاً غرضه الوصول إلى المركز الأول – القوم (تيار يحتاج إلى بحّار). نحن في مسعى دائم للمركز الأول بين المتساوين. فكما أسعى أنا للمركز الأول أنت أيضاً تسعى للمركز عينه، الأمر الذي يولد في نفوسنا الشك والتشكيك بنوايا كل من هم حولنا حتى ولو كانوا من الأقرباء المقربين.

من هذا المنطلق نحن شعب يعاني من الوحدة في المجموعة. ننشد المجموعة لتبوّء المركز الأول فيها. ننشد المجموعة لشعورنا بالوحدة. نغالي بعدد الأصدقاء ونوصد الباب في وجوههم، لا نسمح لأحد أن يقترب من ذواتنا. نخاف الحب، نخاف على ذواتنا من الأقارب المقربين؛ (الأقارب عقارب). نطلب المساواة سعياً وراء الهيمنة. من طبائعنا اللين في التعامل، اللين مسموح، أما الحب والمحبة فعلى الله الاتكال. حبنا، إن أحببنا، يسير في اتجاه واحد. هي تحبني وأنا البطل العظيم! أمارس البطولة بسبب حبها لي – أنا عنتر. وإن أحببت أصبحت (مجنون ليلى). الحب جنون. في حضارتنا عشق ووصال، أما الحب فممنوع على الرجال الأشاوس حملة البنادق والسياط. نحن في مسعى دائم إلى المركز الأول بين متساوين عن طريق القسر والهيمنة.

إن غياب البنى الهرمية في الألعاب، غياب التنظيم المتدرج السلطات والأدوار، يعكس واقعاً حضارياً عاماً يتكرر هو إياه في نماذج مسلكية عدة. خذ، مثلاً، فن الهندسة المعمارية عند العرب، تَرَ أن الإنجازات الكبيرة كقصر الكوردوفا في الأندلس، أو جامعة القرويين في فاس، أو جامع الأزهر في القاهرة – هذه النماذج المعمارية الضخمة تقوم في عظمتها على (وحدات) أو (حبات) هندسية متشابهة، أي القوس العربي الذي يتكرر مراراً في جميع الاتجاهات ليكوّن أشكالاً هندسية جميلة. فبالرغم من ضخامة البناء يبقى التصميم الهندسي مؤلفاً في الأساس من وحدات هندسية بسيطة متشابهة ومتساوية في الشكل والمضمون. هذا بخلاف الفن المعماري (الغوتي) في أوروبا، مثلاً، الذي تختلط فيه عدّة أشكال هندسية متنوعة لتكوّن بناءً منسجماً ومعقد التركيب.

يرى العرب الكون خيماً متشابهة التركيب تتناثر أو تتجمع على أرض مسطحة واسعة، ولا يرونها أهرامات متدرجة السلطات والمناصب. فالمجتمع البشري أمة مؤلفة من إخوة (التشديد على المساواة في لفظة إخوة) يدورون في فلك إمام قائد، ولا يرونها دُوَلاً تقوم على توزيع السلطات والصلاحيات والمناصب المختصة. (أمة) من (أم) أي (جاء) إليه أو تبعه، ومنها (الإمام)، أي الشخص الذي يؤمه الناس وينتظمون في فلكه بروابط ثنائية تتكرر هي إياها لتكوّن مجتمعاً مرصوص البنيان. هذا المجتمع الذي يقوم، تماماً كجامعة القرويين في فاس، على تصوّر هندسي واحد أساسه الفرد، والفرد حلقة في سلسلة.

إن التصور اللاهرمي للواقع والحقيقة قد طبع نظرة العربي إلى المجتمع بطابع خاص. فالمجتمع أمّة مؤلفة من إخوة وأخوات، وحدات متساوية، وإن أتخذ البعض منهم أوّلية التحكم بالآخرين ولو إلى حين. وتتجلى هذه النظرة اللاهرمية بوضوح في غياب التصوّر الطبقي للمجتمع.

 خذ الألقاب التي نستعملها للدلالة على تفاوت المنازل (كبيك) و(زعيم) و(باشا) و(أفندي)، تَرَ أن هذه الألقاب تستعمل للدلالة على من هو أرفع منك منزلة أو من هو أحط منك. يقال للبيك (بيك) وللخادم، على سبيل السخرية، (بيك). تستعمل الألقاب للتورية لا للدلالة على منزلة معينة ثابتة، محصورة المعنى والمدلول.

هذه الإشكالات في استعمال الألقاب امتداد لتصوّر المجتمع تصوّراً مسطحاً لا هرمي الشكل والمضمون. ولما كان مجتمع الأمة مجموعة من الإخوة والأخوات أصبح الإنسان الفرد حلقة في سلسلة، والسلسلة وحدات منتظمة العقد. فلا يأتي الإجماع والتجمّع والتماسك الداخلي عن طريق التنظيم الهرمي، إنما يأتي كسلسلة، كمسبحة، كمشط، كحبل..

وفي ظل هذه التصورات اللاهرمية للمجتمع، مصحوبة بالتشديد على مبدأ الأول بين متساوين، يصبح الوقوف في الصف، ينتظر كل منا دوره، مشكلة، ترى الناس عندنا تتجمهر لاحتلال المركز الأول. كلّ يتسابق لإنجاز عمله قبل الآخرين. وكثيراً ما نلاحظ هذه الظواهر في دور السينما، في السير، في المراكز التجارية، في المكاتب الإدارية وغيرها. وفي غياب التصوّرات اللاهرمية للمجتمع لا يمكن أن تبرز المجموعات الأصولية والتجمعات العصبية إلا عن طريق القوّة والهيمنة والقسر، وذلك بأن تسيطر مجموعة ما على المجموعات الأخرى. الهيمنة محور العلاقات المميزة في المجتمع العربي. الاستئثار بالقوّة هو الذي يميز بين فصائل المجتمع برمته. وتبرز هذه المقولة في ممارسات إتنوغرافية ومعتقدات دينية عدة. فالقبائل الضعيفة موالية، والقبائل القوية أشراف وأصول؛ الفقراء مستضعفون، والأغنياء أقوياء..

فإذا كانت الهيمنة أسلوباً للتعامل بين البشر فالعنف أو التهديد به يصبح سيد الموقف. اللجوء إلى العنف أو التهديد به لفضّ المشاكل البسيطة والمعقّدة أمر محتوم يبرز في كثير من تفاعلاتنا اليومية. التهديد بالضرب والقتل والاغتيال والاحتلال والتهجير والتدمير وقطع الأعناق وسفك الدماء يصدر عنا بشكل تلقائي عفوي لا شعوري. العنف من صلب تراثنا. العنف كأسلوب للتعامل جزء من شخصيتنا الاجتماعية والنفسية. حتى أننا نفهم الحب، الحب المقدّس، وممارسة العشق والوصال نفهمه (فتحاً) و(خزقاً) و(قرطاً) و(حرثاً). واللجوء إلى الهيمنة والعنف، أو التهديد بهما، أسلوب شامل وعام. يهيمن الله القادر والفاتح والناصر على الكائنات، ويهيمن الإنسان على الطبيعة، والأمير أو الإمام على أخيه الإنسان.

الفصل الثاني

العالم مجموعة من الأقرباء اللزم

يتجلى التصوّر اللاهرمي للمجتمع بأروع صوره في التعامل مع العالم حولنا وكأنه مجموعة

من الأقرباء اللّزم. ليس اللعب وأساليب اللعب ضرباً من ضروب التسلية فحسب، إنما هو جزء لا يتجزأ من النظام الاجتماعي العام، جزء من الأيديولوجيا الشاملة، جزء من القيم الأخلاقية والأوّليات المسلكية. فالسعي الدائم للوصول إلى مركز الأول بين المتساوين عن طريق العنف والهيمنة والقسر والجزر يولد أجواءً قلقة في نفوس الناس المتفاعلين. فبينما يحاول المرء ان يهيمن ليحتل المركز الأول بين قومه، هو في الوقت نفسه يحاول أن يكون قريباً منهم، متساوياً معهم، يدافع عنهم، يحميهم. هو في آنٍ معهم وضدّهم، وهذا مصدر القلق.

هذا المسعى المتناقض، أي أن يكون الأول بين متساوين، يفرض على المرء أن يكون ليّن العريكة – يتأرجح بين هذا الموقع المهيمن وذاك الموقع الأليف. وليكون الأول بين المتساوين على المرء، إذاً، ان يساوي بين الناس ثم يسعى أن يكون أوّلهم. هو يساوي بين الناس بالتقرّب منهم ومعاملتهم وكأنهم عائلة واحدة من الأنساب. التقرّب من الناس طلباً للمساواة خطوة أولى للسعي وراء المركز الأول.

نطلب المساواة من العالم حولنا بأن نأتيه، نتفاعل معه، وكأنه مجموعة من الإخوة والأخوات، الأعمام والعمات، الأخوال والخالات، وأبناء العم. نستعمل هذه الألفاظ في تفاعلاتنا اليومية لنتقرّب من الناس، نتعاطف معهم، نتساوى وإياهم، ولنعبّر عن وضعنا النفسي تجاههم. غير أن اللجوء إلى هذه الألفاظ النسبية لا يأتي بطريقة عشوائية إنما يتبع نماذج ثابتة تتكرر تلقائياً في مجالات متنوعة من مجالات التفاعل. وسأتناول في البحث الآتي هذه النماذج مشيراً إلى تأثرها وتأثيرها بأحكام الذهنية الأربعة التي ذكرتها سابقاً.

إن أول ما يلاحظه الباحث في هذا المضمار هو تشعب استعمال النسَب ليشمل الأقرباء وغير الأقرباء كما يستعمل للدلالة على حالات نفسية واجتماعية متنوعة. نستعمله للتعبير عن الصداقة والعداوة، وعن الجدّ والهزء، والغضب والراحة، والاحترام والتأنيب، أو الإلفة والبغضاء، أو للتقرّب من الآخرين والابتعاد عنهم في آن. إن استعمال ألفاظ النسب في التفاعلات اليومية عالم قائم بحد ذاته يعبّر عن ايديولوجيا التفاعل بين الناس وعن أوضاعهم النفسية كما يعبر عن منازلهم الاجتماعية. بالطبع، يمارس الناس هذه الأمور بطريقة عفوية لا شعورية. إن ألفاظاً كأخ وأخت، وعم عمّة، وخال وخالة لا تستعمل للدلالة على الشخص الذي تعنيه فحسب إنما تستعمل لتحديد موقعنا وموقفنا من الآخرين.

تستعمل الألقاب الدينية والدنيوية التي تشير إلى منصب رسمي (كجلالة) و(سيادة) و(فخامة) و(دولة) و(معالي) و(سمو) أو (فضيلة) و(نيافة)، و(سماحة) و(غبطة) بشكل مباشر للدلالة على المركز الرسمي الذي يحتله الشخص. هذا بغض النظر عن العلاقة التي يرتبط بها المتخاطبون. فالأصدقاء والغرباء والأنساب والكبير والصغير كلهم يستعملون هذه الألقاب للدلالة على الشخص الذي يحتلها. وإذا ما استعملت هذه الألقاب بالشكل المعكوس، كأن يقول رئيس الوزراء لأحد معاونيه (دولة)، فذلك إنما يعني الهزء والسخرية أو التوبيخ والتأنيب. أما إذا استعملت بالشكل المعمم فهي تدل على الإلفة والصداقة بين الناس، كأن يقول أحد الناس لصديقه مازحاً: (يا دولة الرئيس) وهو ليس برئيس، تقال للتحبب، للتعاطف، أو لتمني توقعات مستقبلية، أن تستعمل هذه الألقاب للتورية فهي تشير بذلك إلى المساواة بين الأصدقاء والمعارف. إنه رمز من رموز الصداقة المتينة ان يشعر الإنسان بحرية تامة أثناء تفاعله مع الآخر. تقال للمزاح بين الأصدقاء وتقبّل المزاح مقياس لعمق الصداقة. والعكس صحيح، فإذا ما استعملت هذه الألفاظ للتورية بشكلها المعمم بين أشخاص لا تجمعهم المحبة والإلفة والصداقة فهي ضرب من ضروب الهزء والسخرية – الذم في معرض المدح.

في هذا المجال يمكن التمييز بين أربعة أنواع من الأنساب والأحساب:

1- اللفظ الذي يفيد الأصل العائلي.

2- اللفظ الذي يشير إلى مجموعات متنوعة من الأقارب.

3- اللفظ المشتق من قرابة الحسَب والنسَب المباشر.

4- اللفظ المشتق من قرابة الزواج والمصاهرة أو الطقوس الدينية.

إن الألفاظ التي تشير إلى الجذور العائلية تشمل في ما تشمل (أصل) و(نسَب) و(حسَب) و(أسباط) و(أحفاد) و(سَلَف) و(خَلَف). وتشير لفظة (نسب) إلى الأجداد الذكور المنحدرين عن طريق الأب، ولفظة (حسَب) إلى الأجداد الذكور المنحدرين عن طريق الأم. يقال فلان (ذا حسَب ونسب)، أي أنه عريق الأصل من جهة الأم والأب. أما (أسباط) فتعني الذكور من أبناء الأبنة أو المنحدرين منها، و(أحفاد) أبناء الابن أو المنحدرين منه. وكثيراً ما يرجع العرب أصول عوائلهم إلى مكان استيطانهم أو ديارهم، وهذا ما يعرف (بالنسبة)، (كمغربي) من المغرب، أو (شامي) من الشام، أو (حوراني) من حوران، أو (يماني) من اليمن، أو (مصري) من مصر، ويرجع البعض منهم أصولهم إلى أسماء القبائل القديمة كقحطان وعدنان وتغلب، أو إلى أسماء الأنبياء والرسل أو الصحابة والأنصار.

ويأتي (الأصل) كسمة خاصة من سمات الشخص الفرد وقلما يأتي كصفة من صفات المجموعة ككل. يقال أن فلاناً (ابن أصل) أو أن له (حسباً) و(نسباً)، جمع المجد من أطرافه، وصاحب الأصل هو صاحب الجاه والقوة والنفوذ في المجتمع. فكلما ارتفعت منزلة الفرد اجتماعياً، عمقت جذوره السلالية تاريخياً. لا يدّعي الأصل إلا صاحب الجاه. ولذا نرى أن لفظة (اصل) تستعمل في المخاطبة اليومية للدلالة على السمات المرغوبة في المجتمع كالجاه والنفوذ، أو المهارة والاستقامة والكرم، أو الدلالة على التمسك بالمبادئ والصداقات القديمة، فصاحب الأصل لا يتخلى عن صداقاته، كريم، مضياف، وعلى استعداد دائم لمساعدة ذوي القربى وأبناء السبيل وطالبي الحاجة. والعكس صحيح. فإذا ما فقدت هذه الصفات عند شخص ما، أصبح (بلا أصل).

وباستثناء لفظة (سَلَف) فإن الألفاظ التي تقيد الأصل العائلي نادراً ما تستعمل في التفاعلات الاجتماعية بشكلها المعاكس أو بشكل التعميم، وكثيراً ما تستعمل بمعناها المباشر فقط كأن يقال أسباط وأحفاد لمن هم في هذه المنزلة. غير أن لفظة (سلف) قد اكتسبت معاني عديدة عن طريق استعمالها بشكل التعميم أو التورية. ولعل السبب في ذلك هو الاعتقاد السائد بأن (السلف) أصلح من (الخلف) يقال (السلف الصالح) ولا يقال (الخلف الصالح) (فالسلف الصالح) هم المؤمنون الذين تمسكوا بأهداب الدين وأقاموا حدود الشرع والتشريع. ومن هنا لفظة (سلفية) التي باتت تعني التمسك المتشدد بالممارسات الدينية عن طريق العودة إلى سِيَر الصالحين. ولعل الهالة السحرية التي نحيط بها (السلف) تعود في الأصل إلى استذكار الإنسان ما يحلو له من تاريخه، فلا يعتبر من ماضيه إلا ما يبهر العين ويريح النفس. ينسى الإنسان (أو يتناسى) وهذا شأن نفسي بحت، ما أصابه من ألم وعذاب وجوع وعطش في الماضي ويتمسك بإنجاز الحاضر.

وفي هذا النسيان أو التناسي مهرب بسيكولوجي رائع يمكن الإنسان من التمتع بلذة العيش. فلو حفر الإنسان في نفسه كل ما أصابه من ألم في الماضي لمات من الحقد والكدر واليأس.

هذه الاستراتيجية في التعارف جعلت البعض منا يغالي في أصله مدّعياً ما ليس فيه، كما جعلت البعض الآخر يهزأ بأصل من لا يرغب بصداقته. ولذلك ترى ان المستضعفين في الدنيا يحاولون الالتفاف حول مجموعات سلالية كبيرة، كقبيلة وشعب، بينما يصرّ الأقوياء على انتسابهم إلى مجموعات سلالية صغيرة كجب وعشيرة ورهط وفصيلة وعترة. غير أن هذه الألفاظ، كقبيلة وفصيلة وشعب وعشيرة، ليس لها مدلولات اجتماعية واحدة إن من ناحية العمق السلالي أو العدد. هذا الإشكال والالتباس في المعنى والمدلول بؤدي بالضرورة إلى الغموض في التخاطب وتورية الأصل التاريخي الصحيح، كما يسهل عملية الدمج والإدغام تبعاً لظروف الفرد الآنية ومصلحته الشخصية. فإذا ما قوي المرء وارتفعت منزلته أصرّ على إبراز مجموعته الصغيرة الضيقة، وإذا ما ضعف ذاب في المجموعات الكبيرة. وبفعل هذا الغموض والإشكال أصبح اللفظ الواحد يحمل معاني مختلفة لمجموعات سلالية متنوعة. (فقبيلة) مثلاً، قد تطلق على المنحدرين من الجد الأول عدنان أو قحطان، أو من المتفرعين من عدنان كربيعة ومَضَر، أو المتفرعين عن ربيعة كقريش وكنانة. وفي السياق نفسه فقد تطلق لفظة طالب أو بني العباس على المتفرعين من بني هاشم.

وهناك حفنة من هذه الألفاظ (كأهل) و(عائلة) و(قربى) مما يستعمل بالتورية لبث روح الإلفة والمساواة ووحدة الحال بين المتخاطبين. وكثيراً ما يرد هذا النوع من التخاطب على ألسنة السياسيين وأهل الحكم خاصة في الأزمات المصيرية، وذلك سعياً وراء التأييد الشعبي والدعم أو لغرض التعبئة والاستنفار. فمن الملاحظ أن الدعوة إلى التماسك الداخلي والوقوف في الصف الواحد، أو في الخندق الواحد، إنما تأتي عن طريق تبني الأصل السلالي الواحد. وهذا واقع اجتماعي يمارسه أصحاب النفوذ والجاه دون غيرهم، إذ لو شاء أحد المستضعفين فعل ذلك لأصبح عرضة للهزء والسخرية. هي لغة القوي أن يقول للضعيف إنهما ينتميان إلى أهل وعائلة واحدة. وإذا شاء المستضعف أن يقول ذلك لاعتبر قوله ادعاءً فارغاً في غير محله. القوي يتساءل عن وضع عائلة المستضعف، والمستضعف يجيب بالتشكر متمنياً لصاحب النفوذ والجاه الصحة والعافية، فالتساؤل عن عائلة صاحب النفوذ من قبل المستضعف مهين له. إذ إن عائلة صاحب الجاه هي في عالم (الخاصّة) وليست في عالم (العامّة) وهي ليست موضع تساؤل. فالتساؤل عن العائلة (من عال، يعيل) يعني القدرة على الاهتمام بها. تساؤل المستضعف إذاً عن عائلة صاحب النفوذ هو في غير محله، وهو ضرب من ضروب الادعاء الفارغ، بمعنى آخر. بينما يحاول صاحب النفوذ والقوة التقرّب من العامة عن طريق الادعاء بأنهم أهل وعائلة واحدة، تحاول العامة تلبية أمنيته بالإشارة إلى سيادته وسطوته وجبروته.

أما الألفاظ المشتقة من نسب الدم والرحم، وممن يقال لهم أقارب (لَزَمْ) (أي إلزام، واجب) أو المشتقة عن طريق المصاهرة والزواج، أو من العقود والطقوس الدينية، فإنها تخضع لنماذج اجتماعية مختلفة جداً عن سابقاتها من الألفاظ.

من الملاحظ أن أقارب الدم هم المنحدرون عن طريق الأب، فالدم في حضارتنا يسيل أبوياً لا أمومياً. بالطبع، يحدثنا علم البيولوجيا بغير ذلك إذ إن المولود، ذكراً أم أنثى، مكوّن مناصفة من جينات الأب والأم. والتعبير الشائع (ما فيك دم)، والذي يقال للإذلال والإهانة، إنما ينكر على المخاطب أصله وجذوره الأبوية، وكثيراً ما يقال هذا التعبير في حالات الإخفاق في الدفاع عن الشرف والأعراض.

وتستعمل ألفاظ نسب الدم والرحم بصيغة التعميم أو التورية لتشمل العالم كله. تخاطب العالم وكأنه مجموعة من الإخوة والأخوات، الأعمام والعمات، أو الأخوال والخالات، عالمنا (مسبحة) مصفوفة حباتها بالتساوي كأسنان المشط – الصورة اللاهرمية للمجتمع.

إن أول ما يلاحظه الباحث في هذا المضمار هو أن استعمال هذه الألفاظ بصيغة التعميم يخضع للقواعد نفسها التي تتحكم بالعلاقات بين الأنساب. بمعنى آخر، نخاطب الغريب أو الغريبة (بأخ) أو (بأخت) أو (بعم) أو (عمّة) إذا ما كانوا بهذه المرتبة من ناحية العمر والمنزلة الاجتماعية بالنسبة إلى المخاطب، و(بعم) إذا ما كان أكبر سناً من المخاطب، أي بمنزلة العم منه، وهكذا دواليك، التخاطب على هذا النحو بين الناس يقيم المساواة بينهم ولا يزيل الاحترام والتقدير. وإذا حدث أن استعملت هذه الألفاظ بصيغة التعميم دون الأخذ بفارق العمر والمنزلة الاجتماعية، أدت النتيجة المعكوسة. فهي إذاك تقيم الإهانة مكان الاحترام والسخرية مكان الجد هكذا، كأن يخاطب رجل من العامة (البيك) صاحب الجاه والنفوذ (بأخ) أو (بعم)، أو أن يخاطب رجل ما فتاة تصغره سناً (بعمة) أو (خالة) بدلاً من (أخت) مثلاً، هذا نوع من المخاطبة قد يحدث بين عشيقين أو صديقين للمزاح – والمزاح مؤشر الصداقة والمحبة، ولا يقال في موضع الجد.

ولهذه الألفاظ، ألفاظ نسب الدم والرحم، (كأخ) و(ابن) استعمالات أخرى: تستعمل للدلالة على التماسك الاجتماعي وعلى وحدة الحال والمساواة بين الناس، شأنها بذلك شأن المجموعات السلالية (كأهل) و(بيت) و(شعب) وغيرها. وقد يظهر هذا الاستعمال الوضع النفسي للقائد بقدر ما يظهر تجاوب الأمة معه. خذ على سبيل المثال والمقارنة الطريقة التي كان يخاطب بها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الأمة والطريقة التي استعملها الرئيس الراحل أنور السادات.

كان عبد الناصر يخاطب القوم (بأخوة) و(أخوات) خصوصاً في وقت الأزمات السياسية، وكان يتحاشى لفظة مواطنين إلا في الحالات الرسمية. كان الهدف من هذا الاستعمال التقرّب من الأمة لغرض التعبئة العامة. وجاء خلفه السادات ليخاطب القوم (بأبنائي) لأنه كان يرى نفسه وصياً على الأمة كوصاية الأب على الابن. (أبنائي) ترمز إلى التعاطف والرأفة والعناية بقدر ما ترمز إلى الوصاية والموقف السلطوي من الناس.

أما الألفاظ المتأتية عن فعل الزواج والمصاهرة والطقوس الدينية فهي عالم أيديولوجي خاص قائم بحد ذاته، مرآة للمجتمع بما فيه من قيم الشرف والكرامة والعرض. لاحظ قبل كل شيء معنى بعض الألفاظ ومشتقاتها: (حرمة) من حَرَم وحرّم وحرام ومحترم ومحرّم، و(امرأة) من المروءة والرجولة والشرف. هذه الألفاظ تستعمل بصيغة التعميم لترابطها مع عالم الزواج والجنس. العالم الذي لا يجوز أو يمكن نقله إلى الغرباء. هذه الألفاظ لا تستعمل إلا للدلالة المباشرة على المرجع الذي تعنيه، فهي لا تستعمل بالشكل المعكوس ولا بالشكل المعمم خصوصاً إذا ما أضيف لها ياء الملكية – فلا يقال لأحد (امرأتي) أو (حرمتي) أو (سلفي) أو (صهري) أو (زوجي) إلا متى كان أو كانت في تلك المنزلة من المخاطب. أن يقال لأي امرأة (امرأتي) بشكل التعميم هو ضرب من ضروب التعدي على الأعراض، الأمر الذي قد يثير الحمية والنزاع.

الفصل الثالث

العائلة قبل الزواج، والأم قبل الزوجة

والآن نطرح على أنفسنا السؤال الآتي: لماذا يفضّل العرب الزواج من الأقرباء اللّزمْ؟ صحيح أن هذا النوع من الزواج يرتبط بالتصوّر اللاهرمي العام للمجتمع، ولكنه يرتبط أيضاً بتصور الإنسان لنفسه وبموقعه من غيره في المجتمع. يسود الاعتقاد أن الزواج من الأقارب اللزم يحافظ على (وجه) العائلة وشرفها، ولا ينال من منزلتها الاجتماعية، بمعنى آخر، يخفف هذا النمط من الزواج من تأثير فعل الزواج على العلاقات العائلية القائمة إن سلباً أو إيجاباً. فهو يُحْدِث الزواج وفي الوقت نفسه لا يؤثر في تركيبة العائلة والتوازنات القائمة ضمنها – يحدث الزواج وكأنه لم يكن. إن القرابات الجديدة التي يولدها الزواج الجديد، من مصاهرة وأرحام، تُلغى في حالة الزواج من ابنة العم وتبقى التوازنات العائلية التي سبقت الزواج هي إياها. الزواج من الأقارب اللزم يحدث الزواج بيولوجياً وينفيه اجتماعياً. هكذا – لأن العلاقات التي تسود بين أفراد العائلة قبل الزواج تتطابق في حال زواج أقرباء اللزم مع العلاقات التي تنشأ بعد الزواج. الأولية في التفاعل الاجتماعي للعائلة التي تلف الدنيا من حولنا بشكل معمم.

لا بد لأي زواج كان من أن يحدث بعض البلبلة في التوازنات التي يرتبط بها أفراد العائلة وذلك بإدخال عنصر جديد، الزوج – الصهر أو الزوجة – الكِنّة على الوضع العائلي. فالأب يصبح (عمّاً)، والأم تصبح (حماة) والإبن يصبح (زوجاً) والأخ يصبح (سِلفاً)، والعريس (صهراً). زواج الابن هو خطوة أولى لتأسيس عائلة منفصلة عن الأهل، الأمر الذي لا بد من أن يبدل التوازنات العائلية التي كانت تسود قبل الزواج. وبسبب هذا التبدل القلق ترى  العائلات تهتم كثيراً بزواج الابن والابنة.

الزواج عندنا ترتيب اجتماعي وليس رغبة شخصية. فالعائلة كلها، ولا سيما الأم والأخت، تساهم في اختيار العروس، ويقال إنه في بعض المجتمعات العربية التقليدية المحافظة تمنحن العروس من قبل الأم أو الأخت في عدة مجالات: مدى الجمال ومستواه، رائحة الفم، المزايا الجسدية الخاصة، الأطعمة المستحبة، وغيرها من الأمور الشخصية الخاصة. تنقل الأم أو الأخت هذه المزايا إلى العريس ليتم من بعدها القرار بالزواج سلباً أو إيجاباً. ولكثرة ما نحرص على كبت جماح العاطفة عند النساء وقت الزواج أو الوصال. هناك من الرجال من يأتي المرأة لغرض إنجاب الأطفال فقط. غراميات (ألف ليلة وليلة) عند بعض التقليديين المحافظين حكايات تروى وليست ممارسات تنفذ.

الزواج وسيلة لغاية أسمى، وهي العائلة، التي يتم تكوينها بالولادة، العائلة رابطة بين الوالدين (جمع والد) والمولودين، أياً يكن الوالد أو المولود. وبهذا المعنى يعتبر الترتيب العائلي أمراً طبيعياً، أي أنه يصح حدوثه في المخلوقات الحيوانية كما يصح في العالم الإنساني. فهناك كثير من الدراسات الموثقة وأفلام التلفزيون التي تتحدث عن الروابط العائلية في مملكة الحيوان الواسعة. فنحن، في تقديمنا العائلة على الزواج، أقرب إلى الطبيعة منا إلى الحضارة، فالعائلة شأن تطوري طبيعي، أما الزواج فشأن حضاري بحت يختلف ويتنوّع باختلاف الحضارات الإنسانية وتنوعها. فمن الناحية البيولوجية الصرف لاحاجة للإنسان إلى عقود أو طقوس دينية لتشريع الزواج في سبيل استمرار الجنس البشري جيلاً بعد جيل. إن تقديم العائلة على الزواج لهو في الواقع امتداد حتمي للسلطة الأبوية في العائلة، وما يترتب على هذه السلطة من أمور تتعلق بالشرف والكرامة والعرض. نحن شعب نعاني من عقدة الشرف والحب والعرض. نحارب لستر الأعراض وصيانة الشرف، نهرب من المعركة لصيانة الأعراض وحفظ الشرف، نثأر، نرحل، نبالغ، نكرّم، نُذِل ونُذَل، كله في سبيل صيانة الشرف وحفظ الأعراض. زواج الأقارب مفضل لأن ابنة العم أو العمة، أو ابنة الخال أو الخالة، (منّا وفينا)، شرفه شرفنا وعرضها عرضنا. تضع ابنة العم مصلحة العائلة الكبيرة فوق مصلحة الأسرة الصغيرة المكونة من زوجها وأولادها.

هذا بخلاف المرأة الغريبة التي تضع مصلحة أسرتها فوق مصلحة عائلة زوجها. وهذا أمر متوقع إذ إن شرفها وعرضها مصونان عند أبيها وأخيها وليس عند زوجها وحميها. ولذا يسود الاعتقاد عند البعض أن الزوجة الغريبة (قنبلة موقوتة) داخل الدار لا يعرف متى تنفجر. فإذا ما أساءت المسلك فعلى مربيها، أي أبيها وأمها وأخيها، أن يتدبروا أمرها، وعادة ترسل الزوجة التي تسيء المسلك إلى بيت أبيها، (بيت الطاعة) لتقويم الأعوجاج فيها.

ولشدّة تمسكنا بالشرف والعرض – وموضوعهما المرأة – تبقى المرأة العازبة مصدر قلق دائم لأهلها حتى تتزوج. ويكمن مصدر القلق في الاعتقاد السائد بأن المرأة عاطفية النزعة تحتاج إلى حماية، ودراية، وصيانة ووصاية، وكثيراً ما يقوم بدور الحماية والدراية فريق من النساء المتزوجات في العائلة من أم وأخت وحماة. الإصرار على السترة يجعل البعض، ولاسيما الرجال، يتمنى زواج الفتاة بأقرب وقت ممكن وذلك فور بلوغها الحيض حوالي الثانية عشرة من العمر. وهناك من يصر على زواج الفتاة قبل نضوجها الجسدي. يقولون للفتاة منذ صغرها (فرحتك) و(إنشاء الله نفرح بك) في كل مناسبة، ولا يقال الشيء نفسه للذكر إلا متى بلغ سن الرشد وأتخذ لنفسه عملاً منتجاً.

الزواج الداخلي من ابناء العم والعمة أو الخال والخالة ضمن العشيرة الواحدة لا يستر الأعراض فحسب إنما يقيم التكافؤ الاجتماعي بين الناس. ففي ممارسة الزواج يحرص العرب على التكافؤ الاجتماعي بقدر حرصهم على الشرف والأعراض. ومن الممكن هنا التمييز بين الشرف والعرض على أساس أن الأول، أي الشرف، من خصائص المجموعة بالنسبة إلى سمعتها ومنزلتها الاجتماعية بين الناس كالثأر والضيافة والكرم وغيرها. أما العرض فهو تلك السمعة التي تمس مكانة العائلة بالنسبة إلى مسلك النساء فيها. بمعنى آخر العرض هو الشرف الذي يتعلق بتصرّف النساء الجنسي. غير أن التكافؤ في الزواج، أو ما يعرف في الشرع الديني بزواج الكفاءة، لا يقاس بالضرورة بالنساء اللواتي يتزوجهن الرجل، إنما يقاس بالرجال الذين يتزوجهم النساء. الرجل صاحب الجاه والنفوذ والمنزلة العليا في المجتمع قد يتزوج ممن هي أوضع منه اجتماعياً، كالأصولي، مثلاً، يتزوج مدينية أو امرأة لا نسَب لها ولا حسَب، وهذا أمر لا يمس بالضرورة من سمعة العائلة أو ينال من منزلتها، وقد جرت العادة في التنظيمات القبلية أن يحصل هذا النوع من الزواج لاكتساب ودّ القبائل الضعيفة والاستئثار بتأييدها السياسي. فالمصاهرة، مصاهرة القوي للضعيف، تُكسب القوي ودّ الضعيف وتأييده. أن يتزوج صاحب النفوذ فتاة أوضع منه منزلة امر مقبول، وإن يكن غير مستحب. أما أن تتزوج صاحبة الأصل من هو أوضع منها منزلة، فهذا أمر مرفوض عرفاً وتقليداً وشرعاً. ويعتبر بعض الفقهاء الزواج غير المتكافئ سبباً ظرفياً للطلاق.

هذه الازدواجية في المعايير بين الذكور والإناث تؤثر بشكل واضح على انتماءات المولودين من أزواج غير متكافئين في المنزلة الاجتماعية. فالمولود من أب أصولي وأم غير أصولية يبقى أصولياً. أما المولود من أم أصولية وأب غير أصولي فهو عامي من طينة شعبية. أما المولود من أب وأم أصوليين فهو ذو حسَِب ونسَب، (جمع المجد من أطرافه) مؤصَّل الجدّين، وهذه أرفع المنازل، الأب قبل الأم، والأم قبل الزوجة.

إن تقديم العائلة على الزواج يؤدي بالضرورة إلى تجمع الأسر القريبة بعضها من البعض وتكاثرها في أمكنة سكنية خاصة. وما تقديم العائلة على الزواج في هذا المجال سوى باب آخر لبناء الخانات الاجتماعية والعصبيات بقصد الحماية والدفاع والكرّ والفرّ؛ أو العكس، لغرض التحرك الحرّ والمناورة.

الفصل الرابع

فخ القرابة: فنون المساومة في السوق

ليست المساومة، من الناحية الاقتصادية الصرف، نزعة حضارية معينة، إنما ترتبط بأوضاع السوق التجارية العامة. يمارس الناس المساومة لغرض تحديد الأسعار. ولذلك نرى أن هذا الفن، أي المساومة، يكثر في أوضاع تجارية لا تتبع سياسة ثابتة في التسعير، أو تطبيق مقاييس وموازين معيرة، كما أنها لا تتمتع بوسائل إعلام فعالة تفيد الشاري والبائع عن أوضاع العرض والطلب. والعكس صحيح، إذ أن وجود البضاعة والموازين المعيرة، والفصل بين المنتج والمسوِّق، والتحكم في الإنتاج وتوزيعه عن طريق التخزين، بالإضافة إلى وسائل إعلام ناشطة تفيد المستهلك عن الأسعار – هذه العوامل كلها تقلل من أهمية المساومة في السوق. غير أن هذه العوامل لا تلغي كلياً اللجوء إلى المساومة كوسيلة من وسائل تحديد الاسعار، ففي الأسواق المتقدمة كأوروبا الغربية وشمال أمريكا واليابان، ما زال الناس يلجأون إلى المساومة بهدف تحديد أسعار الخدمات والبضاعة غير المعيرة أو التي يصعب تعييرها تماماً كالسيارات المستعملة، والعقارات، والأجور اليومية، ومعاشات الخبراء، أو في المفاوضات التي تجريها النقابات العمالية حول الأجور.

وقد يحدث في بعض الأحيان أن تتوفر الشروط التجارية المشجعة على المساومة، كما هي الحال في أسواق العالم العربي، مثلاً، ولكن بعض الناس لا يلجأ إلى هذا الأسلوب في التعامل لارتباطه ارتباطاً مباشراً بالمنزلة الاجتماعية، فالمعروف أن أصحاب الجاه والنفوذ، أصحاب البيوتات المعروفة، الأعيان وأهل الصدارة، لا يساومون حتى وإن تيقنوا من ارتفاع الأسعار المعطاة لهم. فالجاه يفترض أن يظهر الإنسان بمظهر الغني المستغني الذي لا يهمه القرش – مظهر القادر على العطاء والدفع. ويرتبط هذا المظهر بالعزة والكرامة الشخصية ولا فرق في ذلك إن عبر عن هذه العزة بالكرم تجاه الغرباء، أو في الاستعداد لدفع الفاتورة قبل الآخرين في المطعم – الأول بين متساويين – أو في شراء بضاعة غالية ومرتفعة السعر. هناك من يغالي في سعر البضاعة التي ابتاعها سعياً منه وراء الجاه والمنزلة الرفيعة. فكلنا يحاول أن يظهر بمظهر المستغني عن طريق المبالغة بأسعار البضاعة التي ابتاعها من السوق.

في دراسة ميدانية قمت بها عن هذا الموضوع تبين لي أن المساومة ليست نزعة فردية تحدث هكذا عفوياً، بل هي تكتيك فعال للمفاوضة يتبع خطة معيرة ومميزة، ويكثر في هذه الخطة استعمال ألفاظ النسَب بشكل واضح.

(أهلاً بالأخ) و(ولو يا عم) و(ولكن يا أخ)، (والله يا أخ) هذه الألفاظ يستعملها الشاري أو البائع لخلق جو من الثقة المتبادلة والمساواة، إذ إن مصلحة الشاري تتضارب مع مصلحة البائع. اللجوء إلى استعمال ألفاظ النسَب (كأخ) و(أخت)، (عم) و(عمة)، وأهل وقربى، وغيرها يمكن الفريقين من الوصول إلى تسعيرة معقولة عن طريق خلق الأجواء المريحة. فالشاري لا يعرف الأسعار، ولذلك يلتجئ إلى استعمال أسلوب اجتماعي يقربه من البائع بشكل يضمن له سعراً معقولاً في التبادل التجاري. فيحاول بناء روابط (عائلية) بينه وبين البائع عن طريق استعمال ألفاظ النسَب المعممة، هذا الأسلوب في التخاطب يؤدي غرضه فقط إذا أدرك البائع أن الشاري من مستوى اجتماعي عادي أو مستور، أما إذا أدرك البائع أن الشاري من الوجهاء والأعيان من الذين يعتبرون المساومة أمراً مرذولاً يحط من منزلتهم الاجتماعية. عندها يخاطب البائع الشاري (ببيك) أو (افندي) أو (آغا) أو (شيخ) وكأنه يدفعه إلى منزلة عليا لأجل رفع مستواه وبالتالي لزيادة التسعيرة. فإذا ما أدرك الشاري هذا الأمر يرفض بشكل لبق مخاطبة البائع له بهذه الألقاب فيناديه (بعم) طلباً للمساومة.

غير أن فن المفاوضة في (المساومة) لا يأتي من طرف واحد، يمارسه البائع كما يمارسه الشاري، فالشاري من جهته يحاول التجاوب مع البائع بالطريقة عينها التي يستعملها البائع. وتأتي هذه المحاولة عن طريق المبالغة بمصداقية البائع، وبإصرار الشاري على ان العلاقة التي يسعى إلى تأسيسها مع البائع ليست علاقة مؤقتة زائلة، بل هي علاقة دائمة مستديمة، وللتأكيد على هذا الأمر يبدأ الشاري بسرد أسماء بعض الأصدقاء والأقرباء الذين يعرفهم البائع والذين كانوا قد شجعوا الشاري على التعامل معه. الغرض من هذه المحاولة بالنسبة للشاري هي أن يستحصل على سعر نهائي معقول من دون أن يثير حمية البائع، إذ إن إثارة البائع قد تضع حداً (للمساومة).

ومن فنون (المساومة) ما هو أشد وأدهى تعقيداً من هذا، إذ أنه يتطلب أدواراً متنوعة يؤديها الزوج والزوجة، كما هي الحال بالنسبة إلى الجالية اللبنانية في إفريقيا، أو الأخ والأخت أو الأب والابن، كما هي الحال في الأسواق العربية، ففي إفريقيا يتعاون الزوج والزوجة في إدارة المتجر وتلعب الزوجة دوراً هاماً في (المساومة) مع الزبائن، يأتي الأفريقي ليشتري بضاعة ما، فيعرض الزوج عليه سعراً مرتفعاً. وبعد فترة من الأخذ والرد تقترح الزوجة، وبانفعال حرصاً على التأكيد، سعراً أقل بكثير من السعر الذي تقدم به الزوج، الأمر الذي يدعو الزوج إلى توبيخ امرأته مستعملاً بعض الكلمات النابية. وعندما يسمع الإفريقي هذه المماحكة بين الزوج والزوجة يقتنع عندها أن السعر الذي تقدمت به المرأة ضربة رابحة، فيقبل فوراً بتسعيرتها رافضاً تسعيرة الزوج، يعترض الزوج مرة أخرى، يصرّ الشاري على السعر، تصرّ الزوجة على السعر الذي اقترحته، وتتم الصفقة التجارية... والكل مسرور.

وهنا أريد أن أشير إلى فارق حضاري مهم، وهو أن استعمال الزوج اللبناني الكلمات النابية، وفي بعض الأحيان البذيئة، موجهاً إياها إلى الزوجة تعني الشيء الكثير بالنسبة للأفارقة، فالأفارقة يعتبرون الكلام البذيء لعنة واللعنة ضرب من ضروب السحر تستدعي المحاكمة أمام القضاء الشرعي. فالكلام البذيء ليس مزحة أو نكتة، بل هو مسلك جدي جدير بالاهتمام، الأمر الذي يؤكد للأفريقي أن السعر الذي اقترحته المرأة سعر مربح له ولا شك. الدور المتكامل الذي يؤديه الزوج والزوجة في (المساومة) في إفريقيا يتم بمهارة فائقة إلى درجة أني كنت شخصياً أوخذ بهذه التمثيلية. الأمر يختلف في لبنان. فما من تاجر ذي مكانة في لبنان يسمح لامرأته أن تعمل في المتجر، وإن عملت، فلا يسمح لنفسه أن يتصرّف معها هكذا أمام الناس. وهنا نرى عودة أخرى إلى القاعدة الأساسية التي تحدثنا عنها في الفصل السابق وهي أن المرأة عرض الرجل وشرفه. فالدور الذي تؤديه الزوجة في إفريقيا يؤديه الأخ أو الابن في بيروت. غير أن الزبائن عندنا يعرفون هذه (الفنون) ولذلك تراهم يفضلون التسوق برفقة أهلهم وأصحابهم، الأمر الذي يعزز موقعهم في (المساومة) بالنسبة إلى التجار.

المهم في هذا الأمر هو أن (المساومة) والمفاوضة تتطلب تكتيكاً خاصاً يزرع الثقة المتبادلة بين الشاري والبائع، وإلا فرط عقد التعامل، وما اللجوء إلى استعمال ألفاظ النسَب والالقاب، والتعابير اللطيفة سوى محاولة لزرع هذه الثقة، ويصح هذا القول في فن التفاوض في الأسواق كما يصح في عالم السياسة والتصالح. ففي الأسواق التي لا تحدد فيها الأسعار، تأتي الثقة المتبادلة بين البائع والشاري كشرط أساسي لعقد الصفقة التجارية. هي محاولة (لكسر الجليد)، وحوار يهدف إلى إقامة القرابة والتعاطف مقام البعد والجفاء. والقصد منه إتمام الصفقة التجارية بنجاح. وهنا يكمن فخ القرابة، تتقرب من الآخر لتنال مطلبك، لتبلغ غايتك، لتؤدي مصلحتك، ليتم التعامل، لذلك هو فن وتكتيك يستدعيان التحرك بحذق ومهارة – والأولية للتكتيك.

من خلال المساومة يحاول البائع والشاري، كل لمصلحته الخاصة، أن يكتسب ثقة الآخر عن طريق استعمال الرموز الحضارية والقيم والقربى والصداقات والمعارف، وإلى ما هنالك من أساليب تزرع الثقة في نفوس الناس. صحيح أن هناك بعض الحيل التي يستعملها التاجر كرفع سعر البضاعة أو خفضها، أو البيع بالدَين، ولكن هذه كلها تفترض، لإتمام الصفقة، نوعاً من الثقة المتبادلة بين الطرفين. هذه الثقة التي لا تكتسب إلا عن طريق ألفاظ النسب والقربى، وقواعد الأدب والتهذيب. فالثقة قبل الربح، تسبقه وتتقدمه في الزمن، ومن دونها يفشل التعامل التجاري بين الشاري والبائع، الربح، وإن كان مقصد الجميع، يتطلب إنجازه اللجوء إلى تكتيك مغلف بخطابات الثقة والمحبة، والأدب والتهذيب – الخطابات التي لا يمكن إنجازها إلا عن طريق استعمال ألفاظ النسب والقربى.

الفصل الخامس

استغلال القربى: الروابط العائلية

في التصور اللاهرمي للمجتمع الذي يفترض بالضرورة غياب السلطة المتدرجة الصلاحيات، يتقرّب الناس بعضهم من بعض كأحجار (الداما) أو (طاولة الزهر) أو كلاعبي (البيل) و(الأسير) وكأنهم متساوون في الأصل. عالم المساواة هو عالم القربى، عالم الأهل، البيت الواحد والعائلة الواحدة. وهكذا يصبح العالم كله، عن طريق التعميم، عائلة واحدة وأمة واحدة. فإذا كان العالم هكذا، فلا تستمد القوة والسلطة إلا عن طريق السيطرة على المتساوين، والسعي إلى المركز الأول بينهم. المركز الأول، إذاً، يفترض من الساعي إليه السيطرة على المتساوين – على أهله وبيته، يجمعهم في خانات وعصبيات متماسكة لحماية نفسه وبالتالية السيطرة عليهم.

الفصل السادس

في حضرة الأمير

عن (عقدة السيطرة) عندنا سمة اجتماعية مميزة، هي مقياس الجاه والصدارة، ولذا ترى أن أول ما يسعى إليه الغني في بلادنا هو أن يحاول ترجمة ماله إلى نفوذ اجتماعي، إلى مركز مرموق في الدولة، ولعل سوء استعمال السلطة والصلاحيات في التركيبات البيروقراطية هما من أسوأ مظاهر التمسك بعقدة السيطرة والهيمنة وممارسة النفوذ. فكم من موظف عادي في الدولة أو القطاع الخاص يسلك وكأنه زعيم سياسي صاحب نفوذ وقوة وود وولاء. فبدلاً من أن يؤدي المواطن حقه بالسرعة المتوخاة، يسعى الموظف إلى عرقلة المعاملات الإدارية، وهو في مسعاه هذا إنما يحاول السيطرة والهيمنة وفرض نفسه على المواطنين، والمواطن بدوره يتقبل هذا الوضع، بصفته محمياً لا صاحب حق، فيلجأ إلى أساليب (الوساطة) ملتمساً النجدة من الحامين، أهل النفوذ، أو قد يلجأ إلى فعل (التكريم) أي الرشوة.

ومن أوجه (عقدة السيطرة) أيضاً تغني البعض منا بمواقفهم الديكتاتورية وقراراتهم الهمايونية القيصرية. (أنا دكتاتور) يقولها البعض عفوياً للمفاخرة بالطرق التي يتخذ القرارات فيها، إنه صاحب قرار، وقد يستشير الآخرين إنما بالنتيجة يعمل بما تمليه عليه نزواته .. يتغنى البعض عندنا بقراراتهم الدكتاتورية وكأنها مسلك صحيح لائق، وقد يحدث هذا التغني على صعيد الحاكمين والمحكومين على حد سواء، فالمحكوم في دولته، حاكم في بيته وبالطريقة ذاتها – مطلق الصلاحيات لا يحاسب.

وتتجلى (عقدة السيطرة) أيضاً في مفاهيمنا للمنازل والطبقات الاجتماعية، فمن الناحية الاقتصادية البحت يمكن التمييز بين ثلاث منازل أو مراتب اجتماعية: منزلة المحتاج، والمستور، والميسور، ما يميز هذه المنازل الثلاث بعضها عن البعض في المجتمع العربي أسلوب الحياة الذي يعيشه المرء والذي يتاثر كثيراً بالقدرة الاقتصادية والمالية حتى أن الألفاظ التي تعرف بها هذه المنازل إنما تعكس المضمون الاقتصادي: (محتاج) إلى الآخرين لسد لقمة العيش؛ (مستور) من السترة، أي يكفي نفسه مادياً ومعنوياً وأخلاقياً، فهو ليس بحاجة إلى أحد؛ و(ميسور) من اليُسر واليسرة، أي البحبوحة الاقتصادية.

ومن الممكن أن يرتقي المرء من منزلة اقتصادية إلى أخرى خلال حياته هو، فقد يولد محتاجاً ويموت ميسوراً، غير أن الانتقال من منزلة إلى منزلة الزعامة السياسية يتطلب، إضافة إلى المال، اكتساب السيطرة والنفوذ، اكتساب الشعبية التي قد تتطلب أجيالاً عديدة لتحقيقها في المجتمع. عامل الزمن مهم في ترجمة المال والغنى إلى القوة الاجتماعية. خذ، مثلاً، تعبير حديث النعمة، الذي كثيراً ما يستعمل للذم لا للمدح، والذي يعني أن رجلاً فقيراً أو مستوراً قد أصبح غنياً، وبدأ تبعاً لذلك يظهر بمظهر الصدارة والوجاهة ويمارس الزعامة السياسية، أما أبناء الزعماء وأحفادهم فقلما يطلق عليهم هذا اللفظ (حديثي النعمة) فهم قد ورثوا الجاه وبالتالي تقاليد النفوذ. من هنا الضغط الاجتماعي على أصحاب المال لكي يسعوا دائماً لممارسة السلطة والنفوذ واحتلال المراكز والمناصب حتى ولو كان هذا المسعى باهظ الثمن مادياً واجتماعياً. فكم من ميسور في لبنان اشترى النيابة بالمال عن طريق الانضمام إلى اللوائح الانتخابية التي يؤلفها الزعماء الأقطاب.

وبالمنطق نفسه ترى أن قبائل الأصول التي تتمتع بمنزلة اجتماعية عليا في بلدان الخليج، مثلاً، هي قبائل قوية مسيطرة – (أنت أصولي لأنك مسيطر) أنت صاحب قوة وسلطة ونفوذ، فأنت أمير (تأمر) وإذا فقدت السلطة فأنت ضعيف مستضعف. يستضعفك الأمير نفسه. الأمير يأمر ولا يؤمر، يعطي التعليمات ولا يتلقاها. هو يفعل ذلك حتى ولو كان ذلك الشأن يتعلق بموعد إقلاع الطائرة أو انطلاق القطار.

ففي غباب التنظيم الهرمي المتدرج الصلاحيات والمناصب والسلطات تمارس السيطرة والهيمنة عن طريق التقاليد والأعراف والتناقل الرتيب بين (الأمير) وربعه. استعمل لفظة (أمير) هنا للدلالة على مركز القيادة. فكلما علت منزلة (الأمير)، اتسعت الهوة الاجتماعية والمسافة التي تفصله عن المحيطين به أو المتفاعلين معه.

الأمير في مجلسه لا يضحك، وقلما يبتسم. لا يمزج ولا يمازح. جدّي في حديثه، رصين ورزين في مسلكه – ذلك لأن المزاح والضحك يقيمان الإلفة بين الناس ويضيّقان الهوّة والمسافة بينهم. التقرب من الناس بواسطة الإلفة يحدّ من سلطة الأمير وهيمنته. هو يعتني بهم، يرعاهم، يدافع عنهم، يساندهم، يعيلهم ويحميهم؛ وهم بدورهم يمحضونه الودّ والولاء. كل ذلك يجري بتحفظ وحذر وفقاً للأعراف والتقاليد المتبعة. الأمير يريك الاهتمام والرأفة والرحمة دون أن يظهر لك المحبة والحنان. فهذه سمات الضعف في شخص الأمير ..يستمع إليك ويتجاوب مع مطلبك وهو بعيد عنك. يتجاوب معك حتى لو لم يكن في موضع يمكنه من مساندتك ومساعدتك. ولذلك تكثر عنده الألفاظ والتعابير التي تريحك وترضيك ولا تضرب لك موعداً (كإنشاء الله) و(بإذن الله)، و(توكّل على الله).

للأمير حضرة مميزة في مجلسه، وجود شبه كلي. يفرض على الناس الاستماع، والإصغاء والموافقة سلفاً على ما يقوله. هو صاحب الأمر. هو الآمر والناهي. والمرء في مجلسه يستمع ولا يتكلم إلا متى طلب منه ذلك. وإن حدث أن تكلم فليختصر وليقتضب، (خير الكلام ما قل ودلّ). فالنطق خاصة الأمير هو (ذو المنطق)، ومجلسه له دون غيره.

لا يخاطب الأمير بما يوحي بأن بينه وبين المخاطب العادي ثقة متبادلة، أو بأنه موضع أسرار المخاطب، ما يقال للأمير من خبر أو معلومات تصبح له، ملكه، خاصته، يستعمله كيفما وأينما ومتى شاء. على مخاطب الأمير أن يتجنب التعابير التي توحي بالمساواة أو التبادل المتكافئ في الولاء كأن يقال للأمير، على سبيل المثال: (بيني وبينك...) أو (هذه الخبرية تبقى بيننا). فهذه التعابير توحي بالمساواة في ا لمنزلة الاجتماعية، وفي حضرة الأمير لا يتساوى معه أحد. هو صاحب الحضرة والسلطان.

إذا كان مجلس الأمير للأمير دون غيره فهذا يعني أن أميرين لا يمكن أن يلتقيا في مجلس واحد، كما يعني أنه لا يمكن للأمير أن يؤدي دوره إلا عن طريق الحاشية، وقد تضم الحاشية بعض الأقرباء، أو الفتوة و(الفدوة) والخويّان، أو الخدم والحشم والأمهات والزوجات والأولاد. كما تضم المرافقين وأمناء السر وكل من يؤدي للأمير خدمات خاصة. فلا يقوم دور الأمير إلا بالحاشية. ولكل أمير حاشيته، فإن رحل يرتحلون معه، وإن سافر يسافرون معه، إن وقف يقفون، وإن جلس يجلسون، يسافرون معه في الطائرة عينها ويركبون القاطرة ذاتها، وكثيراً ما ينزلون في الفندق الواحد نفسه.

الأمير وحاشيته مجموعة شبه متكاملة – حبة مسبحة، خيمة في الصحراء معادلة جبرية، قوس هندسي في بناء ضخم تتكرر بنيته مع كل أمير. التنظيم خيمي لا هرمي، كمحور دولاب دون إطار يربط الأفراد بعضهم مع البعض الآخر. هذه التركيبة تؤثر في تبادل الزيارات، فقلما يزور أمير أميراً آخر بالعلن. يزوره بالسر – لقاء الأخوة والأنداد. الزعماء والأمراء يتزايرون ولا يزورون، ذلك لأن فعل الزيارة يرفع من شأن المزار ويحط من شأن الزائر، فكم من مصالحة عند العرب اشترطت على المتصالحين الاتفاق على من يقوم بالزيارة الأولى قبل أن يبادله الآخر الزيارة، وجرت الأعراف أن طالب الصلحة الضعيف يقوم بزيارة خصمه القوي أولاً، لأن في هذا العمل اعترافاً ضمنياً بمكانة الزائر الثانوية، فالإصرار على التساوي في تبادل العزائم والزيارات، إصرار على الكفاءة والمساواة في المنزلة الاجتماعية. يقول البعض أن أمراء الخليج كثيراً ما يذهبون إلى أوروبا ليشعروا براحة في تبادل الزيارات. فهم خارج بلادهم لا يشعرون بضغط الاعراف والتقاليد التي تحد من تحركهم أو تصرفهم تجاه بعضهم البعض. وفي السياق نفسه، نرى أن كثيراً من الزعماء السياسيين في لبنان ينتظرون حدوث المناسبات الخاصة، كالموت أو المرض، ليقوموا بزيارة خصمهم سعياً وراء المصلحة والتصالح، ففي حالة الموت والمرض تعلّق الخصومات السياسية وتنسى الحزازات ولو إلى حين.

وتتجلى سطوة الأمير وحضرته في ترتيب الجلوس من حوله في ديوانه الخاص. فكلما اقترب مجلس الزائر من مقعد (الأمير) ارتفعت منزلة الزائر الاجتماعية – على أن يكون الجلوس إلى يمين الأمير لا إلى يساره. فاليسرى نجسة، وكثيراً ما يترك المقعد الواقع مباشرة إلى يسار الأمير خالياً، وعادة يُملأ بالتلفونات المتنوعة الأشكال والألوان.

يخطئ من يعتقد أن مجلس الأمير مفتوح ليلاً ونهاراً لكل من أراد زيارته من عامة الشعب. فباستثناء أفراد الحاشية، لا يدخل مجلس الأمير إلا من كان له مطلب خاص كان قد تقدم به مسبقاً، وكان قد وافق الأمير سلفاً على تلبيته. لا يتم الوصول إلى مجلس الأمير والتماس مساعدته وتأييده إلا عن طريق أحد أفراد الحاشية الموثوق بهم، وهؤلاء قليلو العدد. فالاعتقاد السائد بأن الأمير أو الزعيم لا يرد طلباً لأحد يعود إلى أنه ما من أحد يدخل مجلس الأمير إلا متى كان طلبه مقبولاً سلفاً. والقول بأن مجلس الأمير مفتوح أمام كل أفراد العامة، أسطورة لا تقوم إلا في الخيال. قد يحدث هذا الأمر بالنسبة إلى الأمراء الذين يعيشون حياة البداوة في الصحراء والذين نادراً ما يحتكون بالغرباء من غير الأقارب والأنساب، أما الأمراء الحكام الذين يعيشون في المدن، والذين يسيطرون على الدولة المستقلة فشأنهم بذلك شأن جميع الحكام في العالم – الوصول إليهم أمر صعب يتطلب مراجعات رسمية معقدة. إن القيام بزيارة الأمير حدث منظم يخضع لقواعد عرفية معقدة. اسم الزائر وموعد الزيارة وهدفها – هذه تحدد سلفاً قبل القيام بالزيارة.

في حضرة الأمير، لا أمير غيره، هو الآمر والمسيطر، وكثيراً ما تتجلى هذه السيطرة في طرق التسليم عليه. فمنهم من ينحني أمامه، يركع، ويطلب غرضه، ومنهم من يقبله على أنفه أو جبينه، ومنهم من يحك أنفه بأنفه، أو كتفه بكتفه،ولكل من هذه الحركات معنى خاص. فالانحناء والركوع يرمزان إلى الاستجداء – الدور الذي لا يقوم به إلا المستضعفون في المجتمع. أما تقبيل الأنف أو الكتف فيشير إلى منزلة الزائر الثانوية. غير أن حك الأنف بالأنف والكتف بالكتف فيدل على موضع الولاء والودّ المتكافئ – أي المشروط. جعل العرب العزّة والكرامة الشخصية في الأنف: (شاب أنوف) (من أنف) أي أنه ذو كرامة، و(مرّغ أنفه بالتراب) أي أذله.

وهناك حركات ومؤشرات أخرى ترمز كلها إلى (أولية) الأمير أو القائد في التفاعل مع الآخرين، منها طريقة الجلوس، والنظر، واستعمال الألقاب. أن يجلس المرء في حضرة الأمير واضعاً رجلاً فوق رجل أو مادّاً قدميه أو رجليه إلى الأمام أمر غير مستحب – لا بل مكروه. من هنا المقعد أو المتكأ العربي الذي لا يشجع إلا على جلوس القرفصاء.

أما النظر ففيه معانٍ كثيرة. ينظر الأمير إلى الناس، وخاصة الذين يلقاهم للمرة الأولى نظرة حادة، وهذا من باب امتحان مزاج المتفاعلين معه. وتتطلب آداب التفاعل ألا يعامل الأمير هنا بالمثل. فإذا ما نظر الأمير إلى امرئ ما نظرة حادة، على الأخير أن يخفض نظره ويطأطئ رأسه، وذلك يعني الطاعة والولاء. أن يبادل المرء الأمير نظرته الحادة تحدٍ سافر لشخص الأمير ومكانته الاجتماعية – هو موقف الثائر.

وفي السياق نفسه تلعب الألقاب دوراً هاماً في التعامل مع الأمراء والبكوات والزعماء، فمن الأمراء من يلقب (بالشيخ) أو (بالشيوخ) (بصفة الجمع) كما جرت العادة في البحرين في مخاطبة حاكم البلاد، ومن الأمراء لاسيما المنتسبين إلى العوائل الحاكمة في الخليج، من يحمل لقب (سمو الأمير) ويميز أبناء الملوك من غيرهم من أصحاب السمو بلقب (صاحب السمو الملكي) هذه ألقاب ثابتة لا تتغير بالنسبة إلى منزلة المخاطب الاجتماعية. فالأمراء أنفسهم يخاطبون بعضهم البعض باستعمالهم هذه الألقاب، مما يشير إلى أن لآداب التخاطب قواعد معيرة يمارسها الجميع. ويخاطب صغار الأمراء كبارهم باستعمال لقب (سيدي)، وهذا يدل على الطاعة والاحترام.

وقد يقال للأمير في التفاعل المباشر بينه وبين الأمراء أو بينه وبين عامة الناس (يا طويل العمر) أو (طال عمرك)، وهذا يدل على نوع من الإلفة والمعرفة بين المتخاطبين. وقد تستعمل (طال عمرك) للتقرب من شخص المخاطب، فهي تعبر عن وضع نفسي مريح. إن الغرض من استعمال الألقاب في التفاعلات اليومية هو الحفاظ على (مسافة اجتماعية) بين الأمراء والزعماء والأقطاب القادة من جهة، وعامة الناس من الجهة الأخرى. ففي غياب المناصب المتدرجة السلطة والصلاحيات، يفرض (الأول) أي الأمير أو الزعيم أو القطب، هيمنته على الآخرين عن طريق التفاعل غير المتكافئ – أي التفاعل الذي يسير في اتجاه واحد، أي الذي لا يخضع لقواعد التبادل بالمثل. العامة تتساءل عن صحة الأمير كشخص، والأمير يتساءل عن أحوال عوائل العامة، فهو القادر على أن يعيل.

وتندرج في هذه الأطروحة، أطروحة التعامل غير المتكافئ، أمور أخرى كحفظ المواعيد أو تأخيرها. إن استعمال الوقت بشكل فضفاض من قبل الزعيم أو الأمير – فهو قلما يحافظ على المواعيد بدقة – يشير إلى أنه هو المسيطر والآخرون مسيطر عليهم. لا يردّ على مكالمة هاتفية، يتجاهل المواعيد، يؤخرها، يدع الآخرين ينتظرونه ساعات طويلة أو أياماً قبل أن يضرب لهم موعداً أو يلقاهم في الموعد المتفق عليه. كل هذه الأساليب، سواء نفذت بشكل شعوري أو لا شعوري، تستعمل لوضع الناس في منازلها، أي لرفع شأن القوي المسيطر وإذلال شأن المسيطر عليه، المستضعف في الدنيا. أن يجلس المرء القرفصاء، أن يحني الرأس والجسد، أن يقبّل الأنف والكتف، أن يخفض النظر، أن يمارس الصمت، أن تؤجل مواعيده، كل هذه المسالك إنما هي رموز تشير إلى منزلة المرء الضعيف المسيطر عليه.

السيطرة والقوة عندنا لا تترجمان إلى أسلوب للتعامل غير المتكافئ بين الناس وحسب، بل تترجمان أيضاً إلى معجم في المعرفة وخبرة في الأمور. فإن تحدث المسيطر القوي في الاقتصاد أو الفلسفة، في الدين أو التقاليد، في الأدب أو التاريخ، في السياسة العالمية أو في أسعار النفط أو الأسهم، أو إن تحدث عن الصيد والبيزرة، أو عن الخيول والنوق، أو المراكب والسفر، فهو العالم العلامة – صاحب المعرفة الذي لا يضاهيه أحد. القوي لا يخطئ، وإن أخطأ فقلما يعترف بخطئه في العلن. والضعيف في حمى الأمير يرضى بما يقال، كل ما يقال – يمجده، يطريه، ويثني عليه – ففي حضرته الضعيف مسيطر عليه.

السيطرة والهيمنة على الغير، كيفما ظهرتا، أسلوب تفاعل وطريقة عيش. فالمسيطر يحاول دائماً أن يحتفظ بمكانته ومنزلته وبذلك لا يكثر من رفقة من هم أرفع وأعلى منه منزلة. وإن فعل فذلك في مناسبات خاصة تلفها الرسميات والتفاعل المتكافئ. إن كثيراً من أصحاب القوة والنفوذ يحاولون قطع العلاقة بمعارفهم وأعوانهم إذا ما تبوأ هؤلاء مناصب عليا في الدولة. ففي مجلس الأمير لا أمير سواه، لا (معالي) ولا (فخامة) في مجلسه، يسيطر الأمراء والزعماء على مجالسهم الخاصة بشكل مطلق. مجلسهم لهم يلتئم بحضورهم ويزول بغيابهم. عندما يأكل الأمير يأكل الآخرون وعندما يشرب يشربون وعندما يرحل يرحلون – تماماً كعاصفة الصحراء تهب وتخبو في لحظات.

الفصل السابع

الأصولية: وصفة الحكم الأتوقراطي

الحضارة العربية حضارة أصولية (Endogamous Culture). وأعني بهذا القول أن الممارسات والمسالك الاجتماعية تتوجه إلى الداخل بدلاً من الخارج: الزواج المفضل هو الذي يعقد ضمن العشيرة، والتزاور المفضل هو الذي يجري ضمن العائلة، والصداقات الشخصية الفضلى هي التي تحدث ضمن العصبية الواحدة، والتوظيف المريح للبال والأعصاب هو الذي يقوم على أساس الانتماءات العائلية والإقليمية. هذه الممارسات والمسالك التي يمكن وصفها بالممارسات الأصولية (من تأصيل) إنما يعتبرها العرب ضرباً من ضروب الارتقاء الاجتماعي ومحاولة لاحتلال المنازل العليا والوجاهة والصدارة في المجتمع. فإذا ما ارتقت منزلة المرء الاجتماعية توجه في مسلكه الاجتماعي إلى الداخل – داخل قومه وأهله – لا إلى الخارج. الأمر الذي يدل على أن الأصولية والتمسك بها أسلوب حياة مميز – يميز الخاصة عن العامة، والقوي عن الضعيف، والغني عن الفقير.

وفي هذا المجال نرى أن الدراسات الميدانية المتنوعة والمتعددة التي قامت عن المجتمعات العربية تشير كلها إلى أن المسلك الأصولي، أي التوجه الداخلي نحو العصبية الواحدة، عملية عامة وشاملة. يمارس في الزواج والجيرة والصداقات، كما يمارس في العمل والتنظيمات الخيرية، وحتى في القضاء. ويصح هذا القول في المجتمعات العربية كافة: يصح في بلاد الخليج كما يصح في القاهرة وفي بيروت. تميل العوائل البارزة، أصحاب الحكم والمنزلة الرفيعة في المجتمع، أينما كانت، لأن تتزاور بعضها مع البعض بحيث أن الأقل مرتبة يزور الأرفع مرتبة. وهم يميلون إلى التمركز في مكان سكني واحد في المدينة. كما يحاولون توظيف بعضهم البعض في العمل، وقلما يفتشون عن وظيفة خارج عوائلهم. يبنون النوادي الرياضية الخاصة بهم، ولا يدعون أحداً من العامة أو من العوائل الاخرى إلى الانتساب إليها. وفي دول الخليج يحاكم أفراد العائلة الحاكمة أمام قضاء خاص يرأسه أمير البلاد وحاكمها – فالمحاكم العامة للعامة والمحاكم الخاصة للخاصة.

وعن طريق هذه الممارسات الأصولية ذات التوجه الداخلي تبنى العصبيات – أي المجموعات التي تفعل في المجتمع وكأنها جبهة واحدة موحدة. فالأصل القديم للعائلة إنما يرمز إلى القوة والسلطان، (التاريخ) سمة القوي لا الضعيف. ومتى عمق الأصل – وهو ميزة القوي – كثرت الإنجازات الاجتماعية والتاريخية. إن عمق الأصل العائلي زمنياً يعني اتساع الأقرباء والأنساب في الحاضر. إنه من مصلحة القائد البطل، الزعيم أو الأمير، ان يبني له أصلاً تاريخياً قديماً، لأن في ذلك اتساع دائرة مؤيديه ومريديه من أقرباء ومقرّبين، ومن خلال هذا الاتساع الممزوج بالممارسات الأصولية تتكون العصبية الواحدة والتماسك الداخلي للمجموعات البشرية. بتعبير آخر، تولّد الممارسات الأصولية أشكالاً متنوعة من العصبيات والتماسك الداخلي. فعن طريق توجيه الزواج والزيارات والتجاور والتصادق وإنشاء النوادي والعمل نحو العصبية نفسها – عن طريق هذه الممارسات الداخلية يتمسك صاحب السلطان بمجموعته ويهيمن عليها.

ومتى اكتمل تكوين (العصبية) (الخانة) – ولا يكتمل تركيبها إلا عن طريق بروز قائد أو زعيم أو أمير ينظمها ويضبطها، ويكون محور التفاعل بين أعضائها – تبدأ مرحلة التحالف والتكتل بين الأمراء والزعماء هذا يعني أن هنالك نوعين من العمل الجماعي: نوعاً يستند إلى الولاء الداخلي ضمن العصبية الواحدة يدور في فلك الأمير أو الزعيم، ونوعاً يستند إلى التحالف والتكتل بين الزعماء والأمراء، أي بين العصبيات والمجموعات الأصولية. ويتميز كل نوع عن الآخر بطبيعة ولاءاته وكيفية استمراره. الولاء ضمن العصبية الواحدة قد يستمر لزمن طويل، ذلك لأنه يقوم إما على رابطة الدم والمساواة، أو التزلم والاستخدام، أو التوظيف، وكلها أمور لا تتغير أو تتبدل بسهولة، اما النوع الثاني القائم على أساس التحالف، فيتغير ويتبدل بتبدل المصالح وتغيرها. وعلى هذا الأساس نرى أن المجتمعات التي يسودها نظام اقتصادي ثابت ورتيب، وقد يكون مستقراً أو لا يكون، كالمجتمع الفلاحي – الزراعي، مثلاً، تستمر بها التحالفات لفترة زمنية طويلة. أما المجتمعات الصناعية التي يتغير نظامها الاقتصادي بسرعة، بفعل تطور التكنولوجيا، فإنها تشهد تغيراً مماثلاً في التحالفات المصلحية المنبثقة عنها، وبالتالي ينفرط عقد العصبيات.

تتمحور (الأصوليات) حول مجموعات متنوعة من الأنساب تجمعهم روابط الدم والمصاهرة ووحدة الحال. هم (جبهة) اجتماعية موحدة، (عصبية) بتعبير ابن خلدون، يقفون معاً في الأفراح والأتراح وفي الدفاع عن الشرف والأعراض، أو عن الأرض والممتلكات. هذه المجموعة من الأنساب هي وحدها مسؤولة عن تنشئة الفرد وتربيته، عن سمعته ومنزلته، عن تصرفاته ومسلكه العام. وهي في هذا العمل ليس لها منازع أو منافس. ليس في المجتمع العربي كله ما يضاهي العائلة، وهي لب المجموعات الأصولية، في مدى تأثيرها على الإنسان الفرد واستيعابه. هي كذلك بفعل غياب المؤسسات الثانوية، كالنوادي والجمعيات، التي تعتني بشؤون التربية والتنشئة، لا أقصد بالتربية هنا فعل التدريس المتخصص، إنما أقصد عملية اكتساب الفرد قيمة الإنسانية وقولبة شخصيته الاجتماعية. بهذا المعنى تبقى العائلة المؤسسة الوحيدة المخوّلة تربية وتدريب الناشئة والأجيال المتلاحقة. فلا عجب، والحالة هذه، أن يكون من الممكن أن يؤلف إخوان متزوجان، عن طريق زواج ابنة العم، مجتمعاً كاملاً متكاملاً، يستطيع الفرد أن ينمو ويشب ويتزوج وينجب ويموت ضمن هذه المجموعة الأخوية الصغيرة.

حياة الفرد عندنا استمرار لا ينقطع، (حبل) متناسق قد يطول عمره أو يقصر، ولكنه لا يتوقف عند مرحلة معينة، من مراحل النمو البيولوجي كالمراهقة والصبا والشباب، أو الشيخوخة والكهولة، النمو سلسلة متلاحقة لا يجزأ مداها إلى مراحل متنوعة يتسم كل منها بمسالك وممارسات خاصة. فكل ما هو بين سِنيَّ السادسة والستين (شاب). من هنا، من خلال هذه النظرة إلى حياة الفرد، تشهد مجتمعاتنا غياب الأدب الطفولي، أو الألعاب والمتنزهات الطفولية، أو الاهتمام بالطفل لكونه طفلاً فقط، له قيمه ومسالكه وحاجاته الاجتماعية الخاصة. نعامل الطفل وكأنه شاب في مرحلة الكينونة. تغيب عن مدننا التقليدية ملاهي وحدائق الأطفال، ما عدا المستورد منها لأسباب تجارية، فالطفل في تصورنا (شاب) قادر على حمل البندقية والقتال، قادر على تأدية الشهادة، والشاهد على ذلك كثرة التنظيمات التي تعد (الأشبال) لمعارك الصمود والتحرير وكأنهم بلغوا من العمر أشده، ولكثرة ما نصرّ على الطفل أن يتقولب على نمط الرجال ترانا أقل تمسكاً بالجديد، وبالتالي أقل قدرة على الخلق والإبداع، وأشد تعلقاً بالنسخ والتقليد. الجديد أو التجديد ضرب من ضروب البدع المكروهة. قوالبنا (صناديق) رجالية خالصة، معدّة سلفاً للاستعمال.

هذا التصور لحياة الفرد يؤثر في مفهومنا للحرية. ليس الحرّ عندنا من مارس حرية التفكير والإبداع والتعبير عن الذات الخلاقة، إنما هو من استطاع حماية النفس من الآخرين تجنباً للسيطرة. الحر هو غير المسيطر عليه، تماماً (كالغني) المستغني عن الآخرين. ففي كثير من المجتمعات العربية، كاليمن وعُمان ولبنان، يحمل الشاب السلاح كرمز من رموز حريته، يعبّر عن عدم التزامه بولاءات مشينة، نحن لا نفهم الحرية بمعناها الفلسفي، أي القدرة على التفكير والمسلك الخلاق الجديد، إنما نفهمها كوضع اجتماعي يشدّد على (التحرر) من السيطرة والهيمنة – حتى ولو جاءت السيطرة من قبل الدولة، السلطة المركزية.

إن التمسك بالممارسات الأصولية الذي يؤدي إلى انغلاق المجموعات على ذاتها، لا بد من أن يؤثر في مسالك الناس بالنسبة إلى الشأن العام، وبروز الجماهير الشعبية كقوة فعالة في تقويم الأوضاع السياسية والاقتصادية. فإذا كان (الخاص) والممارسات الأصولية مطلب الناس للارتقاء الاجتماعي، فالعام، أي الشأن العام، يصبح سلفاً ذا قيمة ثانوية وضيعة. وهذا بالفعل ما هو حاصل. ما يهم في مسلكنا الاجتماعي هو (الخاص) أي العائلة والنساء، وما دون ذلك من شوارع وبيئة وسير وسير ومواقف سيارات وجمع نفايات وحدائق عامة ومدارس ودولة ودساتير وقوانين – فهذه كلها أمور ثانوية.

إن السهولة التي تسيطر بها الناس، من أصوليات وغير أصوليات، على الأملاك العامة عندنا بدون معارضة الآخرين أمر محير. الأملاك العامة، ومنها أملاك الدولة، سائبة، قلما يدافع عنها أحد. التعدي على الأملاك العامة، خطوط الكهرباء والهاتف والمياه، واقتسام جزء من الشارع العام لمواقف السيارات الخاصة أو لباعة الفاكهة والخضار والثياب وغيرها، وفرض الخوّات على الناس، والكره الغريزي لدفع الضرائب – هذه الممارسات كلها يراها الشعب فيتأوه ولا يعترض. وكثير منا يعتبرون هذه الممارسات مصدر مفاخرة ومقياساً للنفوذ والقوة – (حاميها حراميها) إنه لضرب من ضروب القوة والنفوذ في المجتمع أن يتخطى المرء حدود القوانين والدساتير دون عقاب.

سيطرة الأصوليات على الحكم لا تقتصر على دول الخليج، إنما هي مبدأ عام متبع في جميع البلدان العربية، ولا فرق في ذلك بين (مملكة) و(سلطنة) أو (إمارة) و (جمهورية). الأصوليات تسيطر على الحكم بشكل مطلق بغض النظر على الخلفية العقائدية لسياسة الحاكم. وإذا ما سيطرت الأصوليات على الحكم، فهي تفعل ذلك، وهذا بفعل تركيبتها بالذات، باللجوء إلى أساليب متنوعة من أساليب العنف والقسر والزجر – يصبح العنف سيد الموقف. هي تفعل ذلك لكونها عصبية صغيرة، أقلية تتحكم بكامل مصادر الوطن بما فيه من رأسمال وبشر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 25 حزيران/2007 -9/جماد الاخرى/1428