تراجع دور المنظمات غير الحكومية في العراق

الإدارة...التنسيق... والدعم

جميل عودة*

   تراجع دور المنظمات غير الحكومية في العراق في الآونة الأخيرة، ذلك بعد فترة انتعاش دامت زهاء السنتين ونيف إبان سقوط النظام البائد، فلماذا أخذت نشاطات المنظمات غير الحكومية في العراق تتقلص في فترة كان ينبغي أن تأخذ دورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في بلد بدأ ينهض لتوه على عكازات الديمقراطية والحرية والمشاركة السياسية؟ وهل هناك حاجة إنسانية واجتماعية –حقيقية- لمؤسسات المجتمع المدني في العراق، أم كان وجودها مرتبطا –أساسا- بمقتضى طبيعة المرحلة السابقة؟.

1-نشأة المنظمات غير الحكومية:

   المنظمات غير الحكومية هي جزء من مؤسسات المجتمع المدني التي ظهرت في الثمانينات من القرن المنصرم في أمريكا وأوربا الغربية والشرقية لتؤدي دورا من الأدوار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، وذلك بحسب طبيعة نشأة هذه المنظمات وفلسفتها وعلاقاتها مع السلطة.

   ففي أمريكا وأوربا الشرقية اهتمت المنظمات غير الحكومية بالشؤون السياسية اهتماما بالغ النظر، أي أن انطلاقتها كانت ذات طابع سياسي معارض للسلطة، ومن خلال هذا العنوان تقدم خدماتها الاجتماعية لتثبت أنها اقدر من الحكومة في تقديم الخدمة الاجتماعية والإنسانية، وأن باستطاعتها أن تقدم خدمة افضل فيما لو تبوءت قياداتها دفة الحكم في البلاد. فكانت المنظمات غير الحكومية في هذه البلاد بمثابة حكومة الظل، وهي تعمل بشكل دائم على تقديم قياداتها وإبرازها سياسيا لتحل محل قيادات السلطة الحاكمة غير الاجتماعية.

  بينما تختلف نشأة وتطور المنظمات غير الحكومية في دول أخرى مثل اليابان؛ فبالرغم من تأثر منظمات المجتمع المدني في اليابان بالمنظمات غير الحكومية الأمريكية، وتشجيع الأخيرة على إنشاء المزيد من المنظمات اليابانية إلا أنها كانت تنأى بنفسها عن الشؤون السياسية والدينية دائما، وهي من الشروط الأساسية لعمل أي منظمة غير حكومية تريد أن تحصل على دعم حكومي، وبالتالي فان النشاطات الاقتصادية والإنسانية هي الصفة الغالبة على نشاطات المنظمات غير الحكومية في اليابان، وقادتها لا يتدخلون في السياسية والدين لا من بعيد ولا من قريب، لان ممارسة السياسية من خلال نشاطات المنظمات غير الحكومية يعني مخالفة صريحة لقانون المنظمات غير الحكومية يستوجب تعرض المنظمة للمسائلة قانونية.

2-التفريق بين مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية:

   في العراق علينا أن نميز بين مصطلح "مؤسسات المجتمع المدني" وبين مصطلح "المنظمات غير الحكومية" حيث أن هناك خلط كبير بين هذين المصطلحين على مستوى التنظير حتى عند المعنيين بشؤون المجتمع المدني؛ فالمصطلح الأول"مؤسسات المجتمع المدني" هو أعم من المصطلح الثاني"المنظمات غير الحكومية" لأنه يشمل جميع المؤسسات الخيرية والمنظمات الشعبية والنقابات والاتحادات... كما أنه يشمل المنظمات غير الحكومية، وهي التي تعني –غالبا- تلك المنظمات الاهلية التي تأسست بعد سقوط النظام البائد... وتم تسجيلها في مكتب مساعدة المنظمات غير الحكومية، وبالتالي لابد أن نفرق بين المصطلحات الآتية:

أ-المؤسسات الخيرية الفردية:

وهي المؤسسات المدنية التي لا تخضع لقانون معين ينظم عملها ونشاطها وهي تابعة لشخص أو أكثر يقومون بتقديم خدمات ومساعدات إنسانية بصورة علنية أو سرية مراعاة لكرامة المستحقين، وهي لا تحمل سجلات معقدة؛ وإنما سجل واحد يكتب به اسماء المستحقين للمساعدات المالية أو العينية والتي تعتبر مساعدات بسيطة جدا لا تسد إلا حاجات قليلة للمشمولين بها، وربما تنقطع هذه المساعدات المالية لسبب وآخر؛ لأنها تعتمد على ايرادات المتبرع أو المتبرعين وتظل ادارتها بيد المتبرع أو احد مساعديه، وعادة ما يتجمع المشمولون بالخدمة في محل المتبرع أو في بيته في بداية كل شهر. وأكثر دوافع تأسيس المنظمات الخيرية الفردية هي دوافع إنسانية ودينية محضة.

ب-المؤسسات الخيرية الدينية:

وهناك مؤسسات خيرية دينية، وهي تلك المؤسسات والجمعيات التي يشرف عليها علماء الدين او من يمثلهم، حيث يمكن أن يكون لمراجع الدين في العراق أكثر من مؤسسة خيرية تقدم اكثر من خدمة في اماكن محددة، وتدار من قبل اتباع رجل الدين نفسه، وتمتاز هذه المؤسسات الخيرية –عادة- بوجود سجلات ثابتة ووجود أكثر من شخص يديرها، كما أنها أكثر ثبات من المؤسسات الخيرية الفردية، ومساعداتها تعتمد على اموال الزكاة والخمس والتبرعات التي تصل إلى المرجع الديني الذي يقوم بدوره بتفريقها على المستحقين وهم الفقراء والمساكين، وابناء السبيل وحالات الطوارئ والطبة وغيرهم، وقد توزع في مكتب رجل الدين أو في بيوت المحتاجين عن طريق ارسال مديرين لذلك. وهذا النوع من المنظمات الخيرية أكثر المنظمات خدمة واستمرارها وقدما.

ج-النقابات والاتحادات:

 أما بالنسبة للنقابات والاتحادات والجمعيات المهنية فهي تختلف عن المنظمات غير الحكومية كما تختلف عن المؤسسات الخيرية الفردية والدينية، حيث أن لها قانون خاص بها ينظم عملها وادارتها واموالها ونشاطها ونظامها الداخلي، وهي تلك المؤسسات الاجتماعية التي تأسست قبل سقوط النظام البائد واستمرت في العمل ويحكمها الان الامر رقم (3 ) ويدير عملها اللجنة الوزارية الخاصة بتنفيذ الأمر رقم (3 ).

   والنقابات والاتحادات التي لها قوانين خاصة بها هي مؤسسات شبه حكومية وكانت تدار في النظام السابق من قبل الحكومة أو وباشرافها المباشر، وهي التي تصرف عليها وعلى إدارتها... كما أنها تقدم التقارير الدورية لها، وللحكومة حق تنصيب وعزل الادارة أو مراقبتها وتوجيها كما تريد، رغم أن ذلك يخالف الأنظمة الداخلية لتلك النقابات والاتحادات، وتمتلك هذه النقابات المئات من العقارات والملاك التي تدر عليها بفوائد كثيرة والتي غالبا ما كانت تستغل لمصلحة الادارة دون مصلحة المنتمين لها، ورغم تنظيم عملها بقرار رقم (3 ) إلا أن مشاكل أكثرها لم تحل ومازالت الكثير منها مصدر من مصادر الفساد المالي في العراق.

4- المنظمات غير الحكومية:

أما بالنسبة للمنظمات غير الحكومية في العراق فهي تلك المنظمات التي تاسست بعد سقوط النظام البائد، والتي تأسس لها مكتب حكومي يسمى "مكتب مساعدة المنظمات غير الحكومية" ومهمته تسجيل ومساعدة تلك المنظمات للنهوض بدورها. إلا أن الزوبعة التي أثيرت حول حجم المساعدات التي قدمها مكتب مساعدة المنظمات غير الحكومية عندما كان تابعا لوزارة التخطيط، ورغبة القيادات المدنية بالعمل وفق القانون دفع العديد من المؤسسات الخيرية الفردية والمؤسسات الخيرية الدينية فضلا عن بعض النقابات والاتحادات لتسجيل نفسها في سجلات المكتب واعتبرت وفقا لذلك منظمات غير حكومية!. وحديثا في هذا المقال سوف يصب على اوضاع المنظمات غير الحكومية المحلية التي تعمل في العراق وأسباب تراجعها.

أولا-علاقة المنظمات غير الحكومية بالسياسة:

   الحقيقة أن منظمات غير الحكومية في العراق لم تتخذ قرارا حاسما من أجل تحديد منطلقاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية.

  فهل تمارس المنظمات غير الحكومية في العراق السياسة، بمعنى أن تكون حكومة الظل وتمثل الرافد أو البديل الناجح فيما لو فشل رجال الأحزاب السياسية في إدارة شؤون العراق السياسية، أم أنها تبتعد عن العمل السياسي وتقصر نشاطها على المسائل الخدمية والمساعدات الإنسانية قربة لوجه الله تعالى أو خدمة مجانية للمواطن؟.

   وإذا ما قرر زعماء المنظمات غير الحكومية التدخل في السياسة، فهل تعمل المنظمات على التدخل السياسي الإيجابي فقط، بمعنى دعم النظام السياسي الجديد وتوفير عناصر القوة له ومساندته من أجل الوصول إلى الديمقراطية، أم أنها تعمل بالاتجاهين؛ فتكون هي حكومة الظل وهي الساند في الآن الواحد.

    بدأت المنظمات غير الحكومية تقدم خدمات ومساعدات واعانات في ظل غياب النظام والقانون بُعيد سقوط النظام السابق، وربما كان هدف قادتها المحليين هو الحصول على هذه المساعدات وتقديمها إلى أفراد مجتمعاتهم المحلية، فكل مجموعة تحدد الحاجات السكانية في المنطقة المحلية وتقوم بالبحث عن مصادر تمويل لها.  

   ولكن لم يكن حسن نية القيادات المحلية يقابله حسن نية لدى المانحين، فالمساعدات التي تحصل عليها هذه المنظمات كانت مساعدات هادفة ليس فقط لتغطية حاجات المستحقين.. ولكن هادفة للتاثير عليهم سياسيا ودفهم باتجاهات اتخاذ مواقف سياسية معينة.

  ربما كان هدف المانحين في البداية هو دعم العملية السياسية، ولكنه فيما بعد تحول إلى دعم توجهات سياسية محددة، أو إبراز شخصيات سياسية معينة تريد الاطراف الداعمة وجودها على راس هرم السلطة، لان المنظمات الدولية الغربية منها والأمريكية بالخصوص كان لها اهداف سياسية، وهذه الأهداف تتعلق برؤيتها لطبيعة نشاطات المنظمات غير الحكومية التي يجب أن تعنى بالسياسة وتؤثر فيها.

  ولم تكن المنظمات الدولية المانحة في بداية عملها في العراق تفرق كثيرا بين تلك المنظمات المحلية على أسس سياسية أو دينية فكانت تمنح المنظمات الدينية بعض المنح الصغيرة من أجل دفعها للاشتراك في العملية السياسية... ولكن مع تطور العمل الخيري واشتراك المنظمات غير الحكومية في دعم العملية السياسية برمتها، بدا التميز في العطاء من أجل تقديم الشخصيات المرغوب بها لدى هذه المنظمات الدولية التي غالبها منظمات حكومية أو شبه حكومية. وهو الأمر الذي دفع الاحزاب السياسية في العراق إلى تشكيل منظمات مجتمع المدني للوصول إلى أهدافها وإظهار شخصياتها.. ورغم ذلك فان القيادات المحلية للمنظمات غير الحكومية لم تعن  كثيرا بهذه الرؤية بقدر ما كانت تهتم بالحصول على الدعم المالي لتغطية نشاطاتها وحاجاتها.

   ولكن هناك قناعة شعبية ترى أن المنظمات غير الحكومية لايجب أن تتدخل في الشؤون السياسية أو تعمل في السياسة أو تقدم رجالا للسياسية، لان طبيعة عملها يجب أن تقتصر على الخدمات والمساعدات والمعونات الانسانية والفنية.. وكل عمل من هذ الاعمال ينبغي أن يكون بعيدا عن السياسية. فالناس لا يريدون خدمة مجانة فقط، بل يريدون أن تصدر هذه الخدمة بحسن نية وان تكون قربة لله تعالى، ولا يجب أن يستغلها القائمون للترويج لمؤسساتهم وأحزابهم أو أشخاصهم، لان الترويج لهذه الخدمة قد يمس ويخدش الفئة المستهدفة بالخدمة، وبالتالي، يجد القائمون على  المنظمات غير الحكومية المدعومة من الحركات السياسية حرجا كبيرا في الترويج لمن يقف وراءها.  

   إن فكرة أن تكون المنظمات غير الحكومية منظمات غير سياسية، هي أيضا فكرة تؤمن بها المؤسسات الحكومية التي تباشر أو تشرف أو تراقب عمل المنظمات غير الحكومية، حيث تحاول الحكومة تحاول أن تبعد المنظمات المدنية عن التوجهات السياسية خوفا من استغلال الأحزاب السياسية لهذه المنظمات، ويؤيد ذلك وجود نصوص في الأمر (45) الصادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة وهو القانون الذي يحكم نشاطات المنظمات غير الحكومية في الوقت الحاضر حيث أشار القسم الثاني من متطلبات التسجيل الفقرة "و" (3- أن المنظمة المعنية هي منظمة غير سياسية وغير حكومية لا تسعى لتحقيق الربح...) إلا أن الكثير من المسؤولين الحكوميين يسعون ويقومون بأنفسهم بتأسيس المنظمات غير الحكومية بقصد التأثير والترويج لهم، أو بقصد الحصول على منح دولية لها!.

   الحقيقة أن الحكومات العراقية المتعاقبة لما رأت هذا الكم الهائل من المنظمات غير الحكومية ولمست تأثير بعضها اجتماعيا واقتصاديا، حاولت إشراكها لتشجيع ودعم العملية السياسية عن طريق استغلال الامكانيات المادية والبشرية التي تمتلكها هذه المنظمات، كما است وزارة خاصة لهذا الغرض ومكتب ومديريات أخرى في أكثر من وزارة (سوف نتحدث عن هذا الموضوع في الصفحات الآتية) ولكنها لم تقدم لها من الدعم المادي ما يرتقي بمستواها... كما أن المنظمات الحكومية وخاصة المدعومة من الخارج اضحت تمارس ضغوطا على مصادر القرار من اجل تحقيق اهدافها في الاستقلال والتمويل والعلاقة مع السلطة. وبالتالي، كانت أكثر المنظمات غير الحكومية تحاول أن تدعم العملية السياسية في العراق ولكنها ظلت تطالب بتقديم دعم افضل.

ثانيا-علاقة المنظمات غير الحكومية بالدين:

   هل المنظمات غير الحكومية في العراق هي منظمات دينية أو ذات منطلقات دينية، أم أنها منظمات مدنية لا تدخل الدين في نشاطها على قاعدة فصل المدني عن الديني مقتدية آثار بعض النظم الغربية أو اليابانية في إدارتها؟.  

   من المسائل الخلافية الحادة في أفكار ونظريات بعض زعامات المجتمع المدني في العراق هي مسائلة علاقة المنظمات غير الحكومية بالدين. فحيث أن العراق مازال غير محكم بقانون يحدد الاجابة الدقيقة على هذا السؤال، نجد أن البعض لا يؤيد أن تكون المنظمات غير الحكومية منظمات دينية، أي لا يجب أن تدخل دائرة المنظمات غير الحكومية أي مؤسسة دينية، لأنها سوف تقصر خدماتها على طائفة معينة دون غيرها، وأنها سوف تميز بين المستحقين، وانها سوف تبث في الأوساط الاجتماعية أفكارها التي ربما تكون متطرفة، كذلك يرى دعاة هذه التوجه أن المنظمات غير الحكومية هي منظمات مدنية وليس منظمات دينية وذلك على أساس التفريق بين ما هو مدني وبين ما هو ديني؛ وقد ذكرنا في مقال "ما يقابل المجتمع المدني" ما نصه "هناك من يطلق مصطلح المجتمع المدني في مقابل المجتمع الديني، وبالتالي، فان كان المقصود من المجتمع الديني هو المجتمع المتدين، فهذا يعني أن كل أفراد المجتمع المتدينين هم غير مدنيين، وإن كان المقصود من المجتمع الديني هو المجتمع الذي تحكمه قوى سياسية تحكم باسم الله وتكتسب الشرعية منه تعالى، فان تلك القوى السياسية المتدينة ليس من المجتمع المدني.

   ويرد على هذا التوجه أن الصراع بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية في الظروف الأوربية الوسطى لا يعني أن هذا الصراع ما زال باقيا، ولا يعني أن هذا الصراع موجود في كل مكان هذا من جهة، وأن التسامح والمحبة واحترام الإنسان وحقوقه أركان أساسية من الأديان السماوية، لاسيما الإسلام. والمسلمون لديهم العديد من المؤسسات والمراكز والهيئات التي تقوم بأروع ما يُعرف اليوم بالمجتمع المدني من جهة أخرى"

   ومن هنا فان الكثير من المنظرين الاجتماعيين يرى انه لا مانع من أن تكون المنظمات غير الحكومية منظمات دينية وتعمل على هذا الاساس حيث أن هذه المنظمات رغم بساطة عملها إلا انها اقدم من تلك المنظمات غير الحكومية، وقد نجحت في تغطية العديد من الحاجات المجتمعية، كما أنها تميزت بالاستمرار، كذلك  أن المجتمع العراقي ليس مجتمعا أمريكا أو فرنسيا او يابانيا، بل هو مجتمع الأديان والمذاهب والأفكار والتعددية، ولا ضير أن تقدم منظمة ذات طابع ديني خدمات محددة للمنتسبين لها، فلو قامت كل مجموعة بتقديم خدمات للمحتاجين من دينها أو مذهبها، أو من محلتها لتمكنا من القضاء على الفقر والحرمان والمرض والجهل والأمية.

  ثم إن المنظمات غير الحكومية وان كانت لا تدين بدين معين إلا أنها مضطرة لتحديد خدماتها في فئة ما ولا تستطيع أن تغطي جميع احتياجات المواطنين، ناهيك أن المنظمات غير الحكومية سواء كانت دينية أو غير دينية سوف تتقيد بالنظام والقانون الذي يحكم عمل المنظمات غير الحكومية وسوف تحاسب مثل غيرها فلا داع للقلق.

ثالثا-علاقة إدارات المنظمات غير الحكومية:

  من بين أهم المشاكل الكبيرة التي تعاني منها المنظمات غير الحكومية في العراق هي مشكلة الزعامات التي تديرها، وطبيعة فهمها لنشاطات وفعاليات المنظمات غير الحكومية. فقد شهدت هذه المنظمات رغم حداثة تكوينها صراعات قل نظيرها حتى في الأحزاب السياسية؛ وكثيرا ما تبدأ الصراعات الداخلية مع حصول المنظمات غير الحكومية على منحة مالية أو احتمال حصولها وذلك لضعف الثقة المتبادلة بين أعضائها.

  فمن خلال الدراسات الميدانية التي أجريناها مع الكثير من المنظمات غير الحكومية والتي كانت عبارة عن لقاءات وندوات ومؤتمرات وزيارات واتصالات لاحظنا أن غالبية المنظمات غير الحكومية تتألف من شخص واحد أو شخصين أما أعضاء المجالس الإدارية الآخرين فهم ليس أكثر من أسماء وعناوين تتطلبها أوراق التسجيل الرسمي للمنظمة.

   وفي هذا الخصوص يروي بعضهم أنه لم يعرف أنه عضو في منظمة من منظمات المجتمع المدني إلا قبل أيام رغم مرور أكثر من سنتين على تأسيسها لان شقيقه المشرف على المنظمة قد سجل اسمه دون علمه!.  وهكذا تتكرر هذه الظاهرة في أكثر من منظمة غير حكومية وسببها رغبة القائم على المنظمة بان تكون المنظمة تحت سيطرته وإشرافه وخاصة من الناحية المالية.

   ولما كانت غالبية المنظمات غير الحكومية في العراق تفتقد إلى المعايير العملية والقانونية والإدارية والمالية فان النزاعات والصراعات على النفوذ والزعامة والمال بين أعضائها تصل حد التشهير والقذف والسباب، ناهيك عن المهاترات والاتهامات.

رابعا-مصادر تمويل المنظمات غير الحكومية في العراق:

   لاشك أن مشكلة مصادر تمويل المنظمات غير الحكومية، تعد من أهم المشكلات التي تواجه منظمات المجتمع المدني في العراق، فلم تحسم المنظمات غير الحكومية في العراق مسائلة الدعم المادي ومصادر تمويلها، فهل تعتمد على تبرعات أعضائها القلائل بحسب أنظمتها الداخلية أم تلجأ إلى تبرعات القطاع الخاص، أو تعمل لتوفير الدعم الحكومي أو الدعم الدولي؟.

1-تبرعات الأعضاء: غالبية المنظمات غير الحكومية تذكر في نظامها الداخلي أنها تعتمد في دعمها المالي وتغطية نفقات نشاطاتها على تبرعات أعضائها كما أنها تقبل من حيث المبدأ بدعم غير الأعضاء إذا كان دعما غير مشروط، إلا أن الحقيقة غير ذلك؛ فاكثر الأعضاء المؤسسين للمنظمة هم يتقوتون على وارداتها وليس لديهم مصادر معيشة أخرى، إلا القليل منهم إذا كانوا من التجار أو الميسورين الذين يغطون نفقاتهم من أعمالهم التجارية. وإذا ما كانت هناك تبرعات تصرف من أعضاء المنظمة المدنية فأنها تظل محدودة لفترة معينة. وهذا يعني أن المنظمات غير الحكومية التي اعتمدت في نشاطاتها على تبرعات أعضائها كانت منظمات غير فاعلة والكثير منها أغلقت أبوابها بعد أن سجلت عجزا واضحا في ميزانيتها.

2-تبرعات القطاع الخاص: يُعد القطاع الخاص في كل بلد من بلدان العالم مصدرا أساسيا من مصادر تمويل المشروعات الوطنية، وذلك من خلال المشاريع الخاصة التي يقيمها التجار وأصحاب رؤوس الأموال ، أو من خلال تعاونه مع الحكومات الوطنية. وكان القطاع الخاص ممولا رئيسيا للمنظمات غير الحكومية في بلدان أوربا وأمريكا من خلال تأسيس المنظمات المدنية ودعمها أو من خلال سن قوانين خاص تمكن القطاع الخاص من تمويل المنظمات غير الحكومية مقابل إعفاءات ضريبية خاصة.

   في تصوري أن المنظمات غير الحكومية في العراق لم تول موضوع العلاقات مع القطاع الخاص عناية خاصة بما يساعدها على أداء دورها الاجتماعي والاقتصادي، ولم تضع برنامجا خاصا لتوثيق العلاقات مع التجار العراقيين، كما أن هناك شكوك معقولة لدى أصحاب رؤوس الأموال إزاء قيادات المنظمات غير الحكومية؛ وبالتالي، تكاد أن تكون الثقة بين الطرفين شبه معدومة، إلا تلك المنظمات المدنية التي يحظى قياداتها بالاحترام، كأن يكونوا من شخصيات اجتماعية أو من أسر معروفة، أو معروفين بالنزاهة والإخلاص وخدمة الفقراء ، بينما ترتفع الثقة إلى أعلى مستوياتها بين القطاع الخاص والمؤسسات الخيرية الدينية لثقة رجال الأعمال برجال وعلماء الدين المشرفين على تلك المؤسسات.

3-تبرعات الحكومة العراقية: رغم أن الحكومات العراقية المتعاقبة بعد سقوط النظام عملت على تشجيع المنظمات غير الحكومية من خلال المؤتمرات والندوات والورش والتصريحات الصحفية، كما أنها عدت المنظمات غير الحكومية ركيزة أساسية من بين الركائز الأربعة التي يقوم عليها المجتمع العراقي في ظل النظام السياسي الجديد، وأيضا عملت على فتح مؤسسات حكومية تقوم على مساعدة المنظمات غير الحكومية، إلا أنها لم تقدم دعما ماديا ملحوظا أو مبرمجا إلا الشيء القليل، ومن خلال قنوات غير رسمية. فوزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني وهي المؤسسة الحكومية الأساسية التي تعنى بشؤون المنظمات غير الحكومية لم تقدم-بحسب علمي- أية معونة مادية إلى المنظمات المدنية، ورغم مساعيها لتأسيس صندوق دعم ممول من الحكومة إلا أنها تواجه دائما بمقولة "إن المنظمات المدنية منظمات غير الحكومية ولا يجب أن تدعم من الحكومة!" مما دفع المنظمات غير الحكومية أن تعتمد في تمويلها ودعم نشاطاتها على المنظمات الدولية المانحة ولو كان في ذلك حيف عليها أو على انتمائها الوطني!.

4-تبرعات المنظمات الدولية المانحة: لقد كان للمنظمات الدولية المانحة دور كبير في تأسيس المنظمات المدنية العراقية بعد سقوط النظام السابق، فقد عملت سلطة الائتلاف المؤقتة على إيجاد تشريع تتحرك به المنظمات المدنية المحلية أو الدولية في العراق وهو الأمر (45) الساري المفعول، كما أن الحكومات الراعية للمنظمات الدولية خصصت أموالا كثيرة لدعم الديمقراطية والمدنية في العراق، وكان بإمكان أي شخص يؤسس منظمة مجتمع مدني ويقدم مشروعا أن يحصل على آلاف الدولارات دون رقيب أو حسيب.

كما أن الوسطاء بين المنظمات الدولية المانحة وبين المنظمات غير الحكومية المحلية كانوا يرتبون الأمور مع معارفهم وأصدقائهم أو من يثقون بهم وكان الذي يقم ندوة مصورة تكلفه "100" دولار يحصل على "1500" دولا على سبيل المثال!.

   وكانت المنظمات المدنية العراقية تفضل التعامل مع المنظمات الدولية المانحة لأنها تقدم دعما ماديا كبيرا بإجراءات مبسطة، كما أن مشاريعها لا تخضع لرقابة معتبرة.

-الحلول المقترحة-

   إذا كانت المنظمات غير الحكومية مؤسسات اجتماعية معاصرة أوجدتها الرغبة في تقديم خدمات إنسانية عن طريق غير المؤسسات الحكومية، وإذ ما كانت تعبر عن حاجة ضرورية من ضروريات الحياة في العراق، فينبغي أن نعمل بصدق على إعادة صياغة الأسس الثقافية والقانونية والإدارية والمالية للمنظمات غير الحكومية، وأن نعمل على تحديد الأطر التي تتحرك فيها المنظمات غير الحكومية، وأن نعمل على دعمها ومساعدتها للنهوض بنفسها دعما حقيقيا ملموسا ومنظما، وأن نفك القيود التي كُبلت بها بقصد أو من غير قصد، وأن لا نوسع من سلطة الأشراف والرقابة بقدر الركون إلى حاكمية القانون والنظام العام فهما كفيلان بضبط السلوك المنحرف لبعض زعامات المنظمات المدنية. 

  وأخيرا، تظل مشكلة ثقافة حقوق الإنسان في العراق والثقافات الاجتماعية المدنية هي أم المشكلات وأساسها وما لم نلتفت إلى حلها لا نستطيع أن ننشأ مجتمعا عراقيا مدنيا ولو بعد مائة عام من الآن.

*مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://www.shrsc.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الجمعة 22 حزيران/2007 -6/جماد الاخرى/1428