وفق كل التحليلات المنطقية فان أي اعتداء عسكري على ايران يعتبر
خطوة غير ذكية يمكن أن تؤدي الى زعزعة استقرار المنطقة بصورة غير
مسبوقة. وعلى النقيض من أهداف الضربة الأمريكية فسيكون ذلك بمثابة
الضوء الأخضر لانطلاق الفوضى الشاملة في منطقة تعاني أساسا من التوتر
منذ سنوات طويلة.
ايرانيا، فان تعرض منشآت الجمهورية وقواعدها العسكرية لهجوم أمريكي
مكثف يمتد في حال تبادل الضربات العسكرية الى اضرار البنية التحتية،
سيضع ايران في وضع كارثي اقتصاديا، وفي ذات الوقت يتوقع أن تكون للضربة
العسكرية تداعيات على المستويين الثقافي والاجتماعي ومن أبرزها تجذر
حالة العداء ضد الولايات المتحدة، وضد الثقافة الأمريكية، التي ستبدو
في نظرهم ملازمة لانتهاك حقوق الدول والشعوب في خوض غمار التنمية
والتطور.
ستتمكن طهران بالضرورة من الالتحاق من جديد بالمصانع لتعود بروحية
لا تخلو من تطرف وتحدّ الى تخصيب اليورانيوم، ولا اعلم حينها الى أي
مدى يمكن لطهران أن تكون لبقة وقادرة على ارسال برقيات سلام الى
المجتمع الدولي، والى أي مدى يمكن لجناح الاعتدال في السلطة أن يكون
نافذا وجريئا في أطروحاته ومتبنياته؟
لا يساورني شك أن موقف المجتمع الدولي المتصف بالسلبية ضد طهران،
واستمرار الشد والجذب مع ايران ابان رئاسة الاصلاحي السيد خاتمي، لعب
دورا هاما في تراجع التيار الاصلاحي وعودة المحافظين للحكم، لقد كان
متوقعا أن يقرن المجتمع الدولي ترحيبه بالتيار الاصلاحي في ايران
بتقديم تسهيلات ملائمة ومبادرات عادلة لحلحلة القضايا محل النزاع، غير
أن الولايات المتحدة ساقت القاطرة في اتجاه التأزم والتشنج السياسي،
وهو ما أدى، اضافة لأسباب أخرى لا تقل أهمية، الى تغير مزاج الشارع
الايراني من دعم فريق الى آخر، بعد أن ثبت بالدليل القاطع وخلال مساع
خاتمية عمرها ثماني سنوات أن التنظيرات الثقافية والركون الى الاصلاح
الداخلي لا يصلحان مع مجتمع دولي تسوقه الولايات المتحدة باملائات
المحافظين الجدد.
ان مسار التغيير والاصلاح والحراك السياسي والثقافي، يسير بصورة
نشطة في ايران، ويطال هذا الحراك جزءا من التيار المحافظ الذي بدأ
يبلور طريقة تفكيره الخاصة، وبالاتكاء على ذات عوامل القوة التي يعتمد
عليها التيار المحافظ التقليدي. ومن شأن هذا الحراك اذا استمر على
وتيرته الحالية أن ينتهي الى فتوحات فكرية جديدة في مجال الادارة
والحكم، تجمع بين أحدث ما توصلت اليه نظريات السلطة في الديموقراطيات
المعاصرة وبين نظرية السلطة في الاسلام، والتي بدأت مدلولاتها بالتبلور
مع ظهور ما يعرف بجدل الديموقراطية الدينية في ايران، وظني أن الساحة
الايرانية تفوق الساحات العربية الاسلامية في استبطان عناصر التجدد من
الداخل، وما يعيقها هو ممانعة المتشددين المتخوفين من الحداثة
ومتوالياتها، وهو الجناح الذي سيترسخ نفوذه كلما ازدادت حدة المواجهات
مع الخارج، واستحكمت حلقات الضغط الاقتصادي والسياسي.
أمريكيا، فان مراهنة الولايات المتحدة على فتح جبهة جديدة ضد ايران
في ظل تعثرها داخل العراق، يعني أنها تلج مغامرة من النوع الثقيل، فهل
ستوفر لها الظروف عوامل النجاح أم سيكون مصيرها الفشل؟ هذا تحدده عدة
اعتبارات:
الأول: أن اعلان الحرب ضد ايران من شأنه مد ساحة المقاومة العراقية
ضد الوجود الغربي بعوامل قوة اضافية ستلتقي طائفيا تحت مسمى الجبهة
الوطنية لمقاومة الوجود الأمريكي وطرد المحتل من العراق، بما يعني أن
الجبهة العراقية ستكون مفتوحة على خيارات جديدة وواسعة.
الثاني: أن المصالح الأمريكية في المنطقة ستكون عرضة للأذى المباشر
والمتواصل من قبل جبهتين الأولى ما يعرف بحزب الله أو التيار الموالي
لايران، والثاني القاعدة التي ستعيدها الأحداث الى الحياة من جديد.
الثالث: أن الهجوم سيؤدي الى عكس النتائج التي ترجوها الولايات
المتحدة، وسيدعم استخدام أمريكا للعنف التشدد في ايران والمنطقة،
وستتضاءل حدة أصوات التيارات الاصلاحية والمعتدلة، والتي ستجد نفسها في
أحد موقفين اما الدفاع عن التيار المتشدد أو الانزواء جانبا حتى مرور
العاصفة.
الرابع: أنها ستقوض المساعي الأمريكية المعلنة في نشر الديموقراطية،
وتدفعها لدعم حكومات التسلط ممن ستقدم عروضها المغرية لمقاومة التشدد
الديني في مقابل الحصول على دعم أمريكي كامل يغض النظر عن سياساتها
مهما بدت متناقضة مع رياح الديموقراطية.
عراقيا، فان الدولة لن تنعم بالاستقرار كما هو متوقع، بل على النقيض
من ذلك تماما، سوف تستدعي الحرب ضد ايران المزيد من الجماعات العنفية
الى الساحة العراقية، والتي ستجد فيها حاضنا للمواجهة القادمة ضد
القوات الأمريكية وحلفائها، وستدخل بعض الفصائل الشيعية المنتمية
أيديولوجيا لايران الى خط المقاومة المسلحة، وعلى الرغم من مراهنة
البعض على التداعيات الطائفية على غرار الحرب الايرانية العراقية، الا
أن التقاء بعض الفصائل الشيعية المقاومة مع الفصائل السنية المسلحة
داخل العراق من شأنه أن يخلق بادرة تلاحم غير مسبوقة ضد الوجود
الأمريكي في المنطقة، فوحدة الهدف ووحدة العدو كفيلان بتشكيل مقاومة
شرسة ونوعية.
خليجيا، فان الدول الست وعلى رأسها العربية السعودية والكويت
ستكونان في وضع استثنائي، فمن فاتورة الحرب باهضة التكاليف، الى موقع
جغرافي يقع في مرمى النيران الطائشة والمتعمدة، ستدخل دول الخليج في
دوامة من اللاستقرار عانت منه قبل سنوات ولاتزال تدفع ثمنه، على أن
المسألة التي تتطلب نوعا من التأمل : هو مقدار وحجم المفارقات التي سوف
تعيشها دول الخليج اذا تصادمت القوة العالمية مع القوة الاقليمية
الصاعدة؟ فمن سيغير الجغرافيا؟؟
ربما أكثر ما يثير الدهشة أن دول الخليج ورغم كل المخاطر التي
تعترضها نتيجة هذا التصعيد غير المبرر، لا تزال تلتزم موقفا غائما غير
واضح المعالم. وثمة تصريحات من بعض المسؤولين الخليجيين تميل الى تقريع
ايران واثارة مخاوف من مقاصدها ونواياها في المنطقة، بينما لم تتخذ أي
خطوة في تثبيط احتمالات الهجوم الأمريكي على ايران، وانتقلت دول الخليج
من دور الدبلوماسية الذكية القادرة على احتواء الأزمات قبل استفحالها
الى دور رصد التقارير والتطورات وكأنها مؤسسات اعلامية فقيرة في موادها
وليست دولا رئيسية لها مصالح وأولويات وصاحبة قرارات نافذة في مستقبل
المنطقة. ومع هذا فمن المتوقع أن تنشط الدبلوماسية الخليجية في ربع
الساعة الأخيرة وستكون مدفوعة بالشعور بالخطر الذي يحاصرها من كل جانب،
ولكنها وكالعادة ستكون مقرونة بالخيبة.
تقتضي مصلحة جميع الأطراف في المنطقة التفكير والسعي نحو بناء
علاقات تفاهم تنتهي الى استقرار المنطقة، فالاعتدال لا يتحقق عبر القوة
والعنف، ولا تدعم الديموقراطية بالقنابل والقذائف الحربية، ولا تتكامل
مشاريع ومبادرات الاصلاح بتدمير المنجزات الحضارية للشعوب، ان رائحة
الموت لا تصنع الحضارات الحرة، بل تقضي عليها ليتقدم العنف ويتمدد
التشدد وتُذبح النوايا الحسنة على دقات طبول الحرب الصاخبة. |